ميسون البياتي
الحوار المتمدن-العدد: 2685 - 2009 / 6 / 22 - 05:02
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
بعض حيوات الناس .. ورغم أنها حيوات حقيقية , من لحم ودم , وعاشت بالفعل على الأرض .. إلا أنها من فرط غرائبيتها المفجعة , وإحتدام عوامل الصراع فيها , تكاد تبدو عروضا درامية , حين تنظر إليها فإنك لا تكاد تصدق أن قد عاشها أشخاص حقيقيون .. ولكنها ربما تكون مجرد .. مسرحيات أو أفلام أو قصص خيالية .
اليوم .. إخترت عرض كتاب ( حدائق الملك ) لفاطمة أوفقير , زوجة الجنرال محمد أوفقير , الرجل الثاني في المملكة المغربية بعد جلالة الملك أثناء فترة محددة من حكم الملك محمد الخامس ومن بعده إبنه الملك الحسن الثاني .
عنوان الكتاب كاملا هو : (( حدائق الملك , الجنرال أوفقير والحسن الثاني ونحن )) . تم تأليف الكتاب باللغة الفرنسية , ترجمه الى العربية ميشيل خوري , وهو من القطع المتوسط يحتوي على 239 صفحة إضافة الى الإهداء والفهارس , مادة الكتاب مقسمة الى 12 فصل .
وهذا الكتاب الذي هو سيرة ذاتية لأم وأبنائها الستة تعرضوا الى ( الإخفاء ) مدة 19 عاما في السجن بعد قتل رب العائلة الجنرال محمد أوفقير إثر قيامه بإنقلاب فاشل عن طريق محاولة إسقاط طائرة الملك الحسن الثاني .
قرأت الكتاب بموضوعية شديدة لا بإعتباره شهادة من فاطمة أوفقير على ما وقع لها وأولادها في هذا السجن , ولكني عاملته معاملة نص درامي أو ( مسرحية مونودراما ) بممثل واحد هي فاطمة أوفقير التي تحكي ( مأساة ) أو تراجيديا متكاملة الأطراف وقعت على هذه العائلة .
قبل الدخول الى عالم الكتاب نأخذ لمحة تاريخية سريعة , لمعرفة تاريخ العائلة العلوية التي تحكم المغرب . حيث يرجع أصلها العلوي الى سيدنا الحسن عليه السلام من إبنه محمد الذي كان يعرف ب ( محمد النفس الزكية ) .
حين تمت البيعة لبني العباس ، إختفى محمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم طيلة مدة خلافة أبو العباس السفاح ، وحين وصلت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور , خافا منه خوفا شديدا , لأنه كان يعتقد أنهما منشقان عليه , لذلك هربا من سطوته الى اليمن ثم الهند ثم عادا الى المدينة المنورة . حين بحث عنهما الخليفة , رحل إبراهيم الى البصرة , ثم قتل في قرية قرب الكوفة . محمد النفس الزكية بقي في المدينة المنورة وكان الإمامان أبوحنيفة ومالك من أنصاره , لكن الكثيرين تخلوا عنه وبقى معه القليل لذلك قتل سنة 145 هجرية ودفن في البقيع . أنجب محمد النفس الزكية ثمانية أولاد وخمس بنات . ومن نسل إبنه البكر ( القاسم ) جاء ملوك المغرب : السعديون ثم العلويون ( الفيلاليون ) .
نزح أجداد السعديين من الحجاز الى المغرب عند مطلع القرن الرابع عشر وبدأوا بنشر دعوتهم عن طريق الفرق الصوفية , وحاربوا حكام المغرب الوطاسيين ثم قادوا حركة المقاومة ضد الوجود البرتغالي في البلاد ، واستولوا على مراكش 1525 ثم أغادير 1441 بعد طرد البرتغاليين منها , ودخلوا فاس 1549 .
قام ( محمد الشيخ ) بالقضاء على الوطاسيين 1554 ثم وطد دعائم ملكه ، ثم استولى على تلمسان . قاوم ابنه مولاي عبد الله نفوذ العثمانيين ومحاولاتهم السيطرة على المغرب مابين 1557-1574 حيث كان حكم المغرب محل نزاع من عدة أطراف . طرد السعديون البرتغاليين من البلاد 1578 في ( معركة القصر الكبير ) .
بلغت الدولة أوجها السياسي في عهد أحمد منصور حتى عام 1603 حيث ضعفت المملكة وبدأت بالتراجع . حكم السعديون فاس منذ 1610 وحتى 1626 وقتل آخر السلاطين السعديين في مراكش سنة 1659 ليتحول حكم المغرب الى أيدي الأسرة العلوية ( الفيلالية ) .
أما العلويون فقد جاؤوا الى المغرب في القرن الثالث عشر وسكنوا جنوب جبال الأطلس في واحة تافيلالت قرب سجلماسة , قاموا وبمساعدة الفرق الصوفية التي كانت قوية وفاعلة في المنطقة بالوصول الى السلطة .
حكم العلويون المغرب منذ عام 1666 وكانت عواصمهم على التتابع هي : فاس ثم مكناس ثم إستقروا في الرباط منذ عام 1912 .
أصبح ( مولاي الرشيد ) سيداً على منطقة تافيلالت والواحات وإستولى عام 1666 على فاس وأخرج السعديين منها ثم فرض حكمه على باقي المملكة . أكمل ابنه ( مولاي إسماعيل ) إعادة تنظيم المملكة وإقتصادها ، ووسع مدينة مكناس و جعلها من أهم مدن المغرب , وحارب الإسبان والبرتغاليين وأخرجهم من طنجة عام 1684 ثم من أرزيلة عام 1691 .
دخلت المغرب في فوضى بعد وفاة ( مولاي إسماعيل ) لمدة 60 عاما بسبب تنافس أولاده على الحكم . لكن النظام عاد إليها مع تولى حفيده ( سيدي محمد ) الحكم حيث أعاد تنظيم الإقتصاد وأبرم معاهدات تجارية مع الخارج .
منذ مطلع القرن التاسع عشر بدأ المغرب يمنى بهزائم عسكرية عديدة أمام الفرنسيين والإسبان , وبسببها وقّع المغرب عام 1863 إتفاقية مع فرنسا تعرف بإسم ( اتفاقية بيكلار ) لتتولى فرنسا حفظ الأمن في المغرب . وحاول السلطان الحسن الأول الذي حكم خلال الأعوام 1873-1894 أن يقوم بتحديث المغرب على الطريقة الأوروبية .
بعد أن هاجم الفرنسيون والإسبان ( جمهورية الريف ) بزعامة عبد الكريم الخطابي ثم أسقطوها , فرضوا نظام الحماية على المغرب منذ عام 1927 حيث تسلم السلطان محمد بن يوسف الحكم في مراكش ولكن تحت السيادة الفرنسية . فيما بقيت أجزاء أخرى من المغرب تحت السيادة الإسبانية أو غير الإسبانية وكما شرحنا في مقدمة هذا الموضوع .
تولى السلطان محمد بن يوسف الحكم في المغرب يوم 18 آب 1927 وهو الذي سيعرف فيما بعد بإسم الملك ( محمد الخامس ) ومنذ عهده دخلت المغرب تاريخها المعاصر .
عند وصولنا عهد محمد الخامس أصبح كتاب فاطمة أوفقير ( حدائق الملك ) والذي إتفقنا على قراءته كمسرحية مونودراما ذات ممثل واحد .. جاهزا للعرض .
على غرار تراجيديات شكسبير الكبرى ( عطيل ومكبث وهملت ولير وريتشارد الثالث ) حيث كانت كل واحدة تحمل ( ثيمتها ) أي ( فكرتها الأساسية ) .. حيث عطيل هي تراجيديا الغيرة ومكبث هي تراجيديا الغدر وهملت هي تراجيديا الكينونة وريتشارد الثالث هي تراجيديا المصير ... فإن تراجيديا ( حدائق الملك ) التي كتبتها فاطمة أوفقير هي : تراجيديا ( تقاسم عرش ) .
ما يعزز رأيي في أن هذه المونودراما هي تراجيديا تقاسم عرش , ما ذكرته فاطمة أوفقير في الصفحة 219 من كتابها حيث تقول : (( في العام 1993 وفي محاورات مع إيريك لوران _ ذاكرة ملك _ يتعالى الملك بنظرة فوقية الى الجنرال المتوفي , فهو _ تقصد الملك _ وفقا لرؤيته المزيفة والناقصة للتاريخ يكاد لا يعرف الرجل الذي أولاه مع ذلك ثقته , وغدا زوجي فجأة أداة قذفها القدر من مكان تافه .. فقد جاء على لسان الملك : عندما عدنا الى المغرب بعد المنفى كان أوفقير الذي يعمل آنذاك في المندوبية الفرنسية , عند سلم الطائرة , حيّانا وإستقر الى جانب السائق بصفة مرافق عسكري . في اليوم التالي وجدناه مجددا في الحرس الملكي , وهكذا , أنا ورثت هذا الرجل ولم تكن لي أية علاقة شخصية معه )) .
ولا تدري لماذا يزعجها الى هذا الحد ذكر الملك الحسن الثاني للحقيقة ؟ الحقيقة التي هي بنفسها ذكرتها في الصفحة 52 من نفس كتابها حين تصف اللحظة التي إلتقى فيها أوفقير بالملك محمد الخامس عند سلم الطائرة بالقول : (( يوم 12 أيلول 1955 لحظة وصول السلطان قادما من مدغشقر ... حرص على إستقبال أولئك الذين كافحوا خلال سنتين من أجل عودته الى العرش وأعتقد انه ألح على حضور زوجي , غير أنه لم يكن يعرف أوفقير إلا بالإسم ....... وفي هذه المواجهة الأولى على مدرج المطار .... رأى السلطان في أوفقير رجلا شديد الفعالية سيجعل منه قريبا مرافقه العسكري )) .
إذن فالملك الحسن الثاني لم يكن يكذب في تفاصيل ما أورده عن لقائه الأول مع الجنرال أوفقير , وإذا كانت فاطمة أوفقير مأخوذة بمشاعر الملك محمد الخامس وهو ملك مخلوع , إتجاه الذين ( باشروا ترتيبات عودته الى الحكم ) و لا نقول ( الذين أعادوه الى الحكم ) لأن لا محمد أوفقير ولا كل الدماء المغربية التي سالت وقتها هي التي أعادت السلطان الى عرشه .. لكن الذي أعاده للعرش هو إجبار الولايات المتحدة الأمريكية لفرنسا على الإنسحاب من المغرب لتصبح المغرب بعد ذلك مسيرة من قبل الأمريكان , ومحمد أوفقير في تلك اللحظة لم يكن بالفعل أكثر من رجل مغربي يعمل في المندوبية الفرنسية وتربطه علاقات وطيدة مع الأمريكان الذين إختاروه ليقوم ( نيابة عنهم ) بترتيب ( عودة الملك الذي إختاروه هم ) الى عرش البلد الذين فرضوا عليه سلطتهم مؤخرا .
ليس على الملك الحسن الثاني أن يواصل مشاعر العرفان بالجميل التي كان والده يقدمها للجنرال أوفقير .. فمقابل تلك الخدمات البسيطة , كان أوفقير قد تحول وفي وقت قصير الى مرافق عسكري ثم مدير أمن ومخابرات ثم جنرال ثم وزير داخلية .. وهذا أقصى ما يمكن أن يناله مقابل خدماته , إذ لا يمكن للملك أن يقاسم أحدا في عرشه .. ذلك لو حصل فالملك ليس بملك .
لكن فاطمة أوفقير تعلن أكثر عن مكنونات النفس حين تقول ص 64 (( الأمير مولاي الحسن يتصف بتلك العجرفة الرهيبة في فرض أوامره بشكل متعال يقف حاجزا بينه وبين الآخرين , ولكونه من الأسرة العلوية الشريفة , وزعيما روحيا , فإنه يريد سلطة مطلقة , وأوفقير ينتمي الى عائلة كبيرة جدا . وإذا كان مولاي الحسن من الجيل 35 في الذرية النبوية الشريفة فإن عائلة أوفقير من الجيل 28 أو الجيل 30 في تلك الذرية , فهي عائلة نبيلة جدا , لكنها عائلة من الصحراء ولا تبحث عن الترف )) .
مادام أوفقير يسبق الملك بخمسة أو سبعة أجيال الى ظهر النبي محمد , فهو بالتأكيد أحق من الملك بالجلوس على العرش , وسيكون هذا هو الدافع المحرك لفاطمة أوفقير طيلة فترة وقوع هذه المأساة . لأن الملك الحسن الثاني وكما سنرى .. لم يكن يريد قتل هذه العائلة أو إذلالها .. لكنه ببساطة شديدة كان يريد منها أن تتصرف كأي عائلة مغربية غيرها , فتحافظ للملك على مكانته .. وهذا ما لم تتعلمه فاطمة أوفقير حتى اليوم رغم كل العذاب الذي تلقاه أبناؤها وهم أطفال تعرضوا الى السجن 19 عاما .
ملاحظة مهمة : كل المعلومات التي أوردتها السيدة فاطمة أوفقير في مذكرتها هي معلومات صحيحة من وجهة نظرها ونحن لا نتهمها بالكذب إلا في موضع واحد سأشير له في حينه , عدا عن أنها أوردت معلومات غير صحيحة تاريخيا سأشير إليها إذا تطلب التنويه عنها , إضافة الى معلومات متناقضة , لم تعط هي تبريرا لنقضها ببعضها وتركتنا في حيرة من أمرنا أي النقيضين نصدق !؟ وسأشير الى كل ذلك حين يأتي دوره .
ولدت فاطمة أوفقير يوم 4 شباط 1936 في مكناس , وكان والدها ( أحمد عبد القادر شنا ) ضابطا في الجيش الفرنسي , ولم تمض غير فترة قصيرة على ولادتها حين أتى الأمر بنقل والدها كضابط فرنسي الى الحامية الفرنسية في دمشق حيث إنتقلت معه العائلة برمتها .. وفي دمشق ولد أخوها فؤاد .
تقول في ص 6 (( إستعر أوار الحرب في أوربا عام 1940 وشعر الفرنسيون أنهم سيغادرون سوريا وبدأ التحضير للجلاء الفرنسي عن سوريا سرا )) .
في الحقيقة .. عند سقوط باريس تحت السيطرة النازية , فإن الحلفاء وهم يحررون باريس من تلك السيطرة .. قاموا ب ( تسليب ) فرنسا كل ما أمكن من مستعمراتها حول العالم .. لا يوجد تحرير بدون ثمن ... وهكذ كان على الفرنسيين مغادرة الكثير من مستعمراتهم حول العالم ثمنا لتحرير بلادهم من النازية , ولهذا فإن إجبار الفرنسيين على مغادرة سوريا ولبنان سيجعل الولايات المتحدة الأمريكية تحل في سوريا ولبنان منذ ذلك الحين .
أعطيت الأوامر لضباط الحامية الفرنسية بترحيل عائلاتهم .. فركبت عائلة الضابط أحمد عبد القادر شنا الباخرة متجهة الى المغرب , تمرضت الأم على ظهر المركب وماتت بعد الوصول الى المغرب مباشرة عند ولادة طفلها الثالث .
ترك الأب فاطمة وأخاها فؤاد عند ( دادا فضيلة ) وهي أمة مملوكة للعائلة ثم سافر الى الحرب في أوربا على نهر الراين ولم يعد الى أولاده إلا بعد تحرير باريس من الألمان .
بحكم كون هؤلاء أطفالا صغارا جدا , وتحت رعاية ( أمة ) فقد إستقبلتهم عائلة محسنة هي عائلة بن زيدان . شقيقة الملك محمد الخامس ( للا زينب ) كانت متزوجة من الإبن البكر لهذه العائلة , وفي إحدى زياراتها لأخيها السلطان وقبل أن يصبح ملكا .. إصطحبت معها ( فاطمة ) التي تبلغ الثامنة من العمر الى قصر مكناس لعل السلطان يتلطف ويضم فاطمة الى ( محضيات ) قصره , لكن ذلك المسعى لم ينجح , تعلل فاطمة الأمر بأنها كانت : صغيرة ونحيفة وشاحبة اللون .
حين بلغت فاطمة الحادية عشرة من العمر .. جاء السلطان الى منزل بن زيدان لرؤية أصهاره وأخته , فإلتقى للمرة الثانية بفاطمة .. لكنها لم ترقه أيضا , وتعلل هي ذلك بكونها كانت مريضة تلك الأيام علاوة على إرتدائها جورب أبيض قصير .
أرسلها كفلاؤها لتعلم الطهي والتطريز , لكنها أبت أن تتعلم وفضلت الذهاب الى مدرسة للراهبات فيها قسم داخلي بقيت فيه حتى عاد والدها من الحرب ليجد أن ولده الصغير فؤاد قد مات بسبب سرطان الغدد اللمفاوية . تزوج الأب من جديد وضم فاطمة الى رعايته وأدخلها المدرسة .. لكن فاطمة وكعادتها في التمرد على التعليم .. تعاركت مع طالب في المدرسة فضربها ضربا موجعا تمرضت بسببه وتركت المدرسة في أول سنة للدراسة .
تركها للدراسة سيؤثر على كل ما تبقى من حياتها , فالمدرسة ليست معلم وكتاب وإمتحان وشهادة فقط .. لكنها الحياة بين مئات من الأقران من نفس الفئة العمرية , حيث النظام والإنضباط وتعلم تحمل المسؤولية ومعرفة معنى وحدود الأدوار الإنسانية في الحياة . في داخل المدرسة وهي نموذج مصغر لمجتمع كامل , مدير المدرسة له مكانة مختلفة عن جميع طلاب المدرسة حتى لو كان أحد الطلاب أخا للمدير أو إبنا له . فقط عند اللحظة التي يسمح بها المدير لذلك الطالب الذي هو إبنه أو أخوه بخرق النظام , فذلك الطالب يتمكن من فعل ما يحلو له .. أما إذا لم يسمح المدير .. فهذا الطالب ليس أكثر من ( واحد ) من ( مئات ) غيره يأتون يوميا الى المدرسة .
من لم يذهب الى المدرسة ومهما كانت طبقته الإجتماعية سيعاني مستقبلا من مشاكل تكيف مع المجتمع , ولذلك فجميع دول العالم وحتى الفقيرة منها جعلت التعليم الإبتدائي مجانيا وإلزاميا .. ورفعته بعض الدول الى الدراسة الثانوية , بينما دول أخرى جعلته حتى نهاية التعليم الجامعي , القصد من ذلك ليس لمنح المتعلم الشهادة , ولكن لتعليمه مبادىء ولياقات الحياة الإجتماعية .. ومع الأسف .. ففي حالة فاطمة أوفقير .. فهي إضافة الى اليتم وترك المدرسة وطموحها الشديد .. وضعها قدرها على علاقة بملكين هما محمد الخامس وإبنه الحسن الثاني , لذلك فلا عجب .. إن لم تحسن التصرف .
خلال الأربعينات من القرن الماضي كان العالم يشتعل تحت شعارات التحرر القومي التي نشرتها الولايات المتحدة الأمريكية حول العالم لدعوة الشعوب للتمرد على مستعمريها البريطانيين والفرنسيين والهولنديين وغيرهم من المستعمرين .. مثلما تفعل شعارات الديموكرسي التي تسوقها السياسة الأمريكية اليوم حول العالم .
بإجبار الأمريكان للفرنسيين على الخروج من سوريا ولبنان , وبمحاربتهم لهم في فيتنام , وبطردهم الهولنديين من أندونيسيا , وزعم أن فصل الباكستان وبنغلاديش عن الهند ( ثورة تقرير مصير ) إسلامية في شبه القارة الهندية , وما هي في الحقيقة غير تقاسم للهند بين البريطانيين والأمريكان , لذلك تأسس حزب الإستقلال المغربي عام 1943 لينادي بإستقلال المغرب عن السلطة الفرنسية , وقد لاقى ذلك هوى في قلب السلطان محمد بن يوسف الذي كان يحكم مراكش دون صلاحيات منذ عام 1927 فتبنى السلطان شعارات هذا الحزب هو أيضا وبدأ يطالب بالإستقلال عن فرنسا , وبدأ يميل الى الولايات المتحدة الأمريكية .
حين كان عمر فاطمة 14 سنة تعاركت مع زوجة أبيها وتركت منزل والدها الى بيت أقاربها وأصرت على والدها أن لا تعود الى البيت إلا بوعد أن يزوجها ممن يراه مناسبا , وقد أذعن الوالد لطلب إبنته الحمقاء , فزوجها من زميله الضابط في الجيش الفرنسي محمد أوفقير .
تحدثنا هي عن ( الأمازيغي ) محمد أوفقير في الصفحة 33 من كتابها فتقول إنه من مواليد 1920 إلتحق ضابطا في الجيش الفرنسي عام 1939 وعمل في الحامية الفرنسية في الجزائر , ثم شارك في الحملة على إيطاليا عام 1944 وأنه قام هناك بعمل بطولي خسر فيه نصف أفراد كتيبته من أجل أن يفتح الطريق للأمريكان للدخول الى ( مونت كاسينو ) ثم دخل روما تحت العلم الفرنسي في حزيران نفس العام .
في النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد تحالفت مع ( هوشي منه ) في باريس , وأمدته بالدعم المطلوب ليعود الى فيتنام وينظم الفيتناميين في حرب شعبية ( نيابة عن الأمريكان - ضد الفرنسيين ) لإخراجهم من فيتنام . عندها أرسلت فرنسا ( محمد أوفقير ) الى حاميتها في فيتنام لمحاربة الشيوعيين الفيتناميين وإخماد تمردهم .
تقول فاطمة أوفقير في الصفحة 34 من كتابها (( كان أنذاك في الثلاثين من العمر وقد خبر الحياة وعرف الى جانب الحرب الكازينوهات والملاهي والنساء والمغامرات وعاشر نخبة مجتمع آسيا الجنوبية الشرقية وغدا من رواد قصر الإمبراطور باوداي وصادق إبنة الإمبراطور الذي هزت الحرب عرشه , بل وضعت مشاريع للزواج منها )) إنتهى .
لا أدري كيف تسوق لنا فاطمة أوفقير في كتابها هذه الحكاية الخالية من المصداقية التاريخية تماما . فأوفقير بقي في فيتنام ما بين عامي 1947 حتى 1950 . وأكبر بنات الإمبراطور باوداي وهي ( الأميرة ماي ) مولودة يوم 1 آب 1937 وكانت قد غادرت فيتنام برفقة والدتها الإمبراطورة الى باريس عام 1947 ولم تعد الى فيتنام مطلقا بعد ذلك .. متى إلتقى بها أوفقير ؟ وبناءا على ماذا وضعت بينه وبين الأميرة مشاريع للزواج وهي طفلة في العاشرة من العمر ؟ وكم لقاء كان قد إلتقى بها في قصر والدها منذ وصول أوفقير الى فيتنام حتى مغادرة الأميرة الى باريس ؟؟
المهم عاد أوفقير الى المغرب عام 1950 وهو يحمل الأوسمة التالية :
– وسام جوقة الشرف في ميادين القتال
– صليب الحرب ذي الأنجم الأربعة والسعفات الثلاث
– وسام النجم الفضي الأمريكي
– وسام القلادة الإستعمارية
– وسام دولة فرسان مالطة
– وسام الإستحقاق العسكري الشريفي المغربي
هنا أحب أن أضيف هذه الملاحظة التي نعرفها نحن الذين نعيش في منطقة المحيط الهادي الممتدة من أندونسيا وحتى جزر المارتينيز مرورا بأستراليا ونيوزيلندا وجزر فيجي وساموا , حيث نختلط يوميا بأعداد كبيرة من الكوريين والفيتناميين والأندنوسيين وغيرهم من أقوام ( الهند الصينية ) فهؤلاء الأقوام جميعا وبحكم تربيتهم الشرقية الموغلة في المحافظة , إضافة الى دياناتهم الهندوسية والبوذية واللاوتسية والكونفشيوسية , قد أصبحوا أقواما يصعب عليك تصديق طريقة ( عبادتهم ) للنظام . ولهذا فالطاعة لديهم شيء مقدس , وطاعة الحاكم حتى لو كان محتلا فرنسيا تعتبر بمثابة ( أمر إلهي ) ولهذا إحتاجت الولايات المتحدة الأمريكية حين خططت للوصول الى هذه المنطقة النائية من العالم الى ضخ شحنات مركزة وعالية المفعول من مشاعر ( القومية ) و ( حرية الشعوب ) و ( السيادة الوطنية ) من أجل حث هذه الشعوب على التحرك لطرد الفرنسيين والهولنديين والبريطانيين والألمان من أراضيها .. ليفسحوا المجال للأمريكان للحلول محلهم .. بالضبط كما سوقت شعارات الوحدة والحرية والعروبة وتقرير المصير في الشرق العربي . ومن المؤكد أن الضابط محمد أوفقير كان قد تأثر بهذه المفاهيم وهو في فيتنام , لذلك ما أن عاد الى المغرب عام 1950 ليجد أن هذه المفاهيم قد بدأت تغزو الشرق العربي أيضا , حتى قرر البقاء في المغرب وعدم العودة الى فيتنام . لهذا توجه الى بيت صديقه ( أحمد عبد القادر شنا ) الذي كان مثله قد فقد الأمل بالإمبراطورية الفرنسية . فأقنعه شنا بالبقاء في الحامية الفرنسية في المغرب .. وعدم التطوع في مهمات قتالية من أجل فرنسا في الخارج . خطب أوفقير ( فاطمة شنا ) التي عمرها 14 سنة ليتزوجها لتصبح هي السيدة ( فاطمة أوفقير ) .
عن حياتها في تلك الفترة كتبت فاطمة ص 39 تقول (( كنت من هواة السينما المولعات بل المدمنات , أحضر أحيانا 3 أفلام في يوم واحد حتى لا يفوتني فلم يعرض في صالات الرباط بما فيها الأفلام العربية والوثائقية وعندما أستنفذ جميع برامج الأسبوع في العاصمة أذهب الى الدار البيضاء )) ثم تقول (( وأنتقل من قاعات السينما الى المراقص لتكتمل أفراحي , ولو لم تتخلل حياتي تلك الظروف الطارئة المتكررة الناتجة عن الحمل .. لكانت سعادتي كاملة )) .
سرعان ما أنجبت إبنتها البكر مليكة .. وكانت لها فرصة ثالثة للقاء السلطان محمد بن يوسف حين أعد حفل إستقبال لضباط الحامية الفرنسية وعوائلهم , كانت ترتدي تايور أسود وقبعة صغيرة , وتأكل قطعة حلوى تناثر منها السكر على ملابسها الأنيقة .. وقفت لتنفض السكر , عندها إلتقت عيناها بعيني السلطان الذي أشار لها من بعيد أنه يريد محادثتها .
وبدون تعليق أورد هنا ما ذكرته عن لقائها بالسلطان بعد ذلك بشهر , ص 41 (( رأيت محمد الخامس بعد ذلك بشهر لدى إحدى الصديقات التي قالت لي : أحضري لي إبنتك . وعندما تطلب إحدى العائلات الكبيرة رؤية طفل فهذا يعني في التقاليد المغربية إكرامه وتقديم الهدايا له وبالفعل قدمت السيدة لمليكة أساور صغيرة وزنار من ذهب وبعض الملبوسات .... وفجاة رأيت السلطان قادما من إحدى الغرف , أخذ طفلتي البالغة 5 أشهر من العمر بين ذراعيه وأجلسها على ركبتيه , وأخذ يبتسم لها , ثم وضع على بطنها كيسا من مخمل أخضر ربط بشريط مذهب في داخله 25 لويسية ذهبية , وغادر المكان ولم نشاهده بعد ذلك إلا قبل الإستقلال بوقت قصير )) .
يوم 20 آب 1953 إتجهت الدبابات الفرنسية الى القصر السلطاني , وتم خلع محمد بن يوسف وإرساله الى المنفى , وتعيين إبن عمه ( محمد بن عرفة ) سلطانا على مراكش بدلا عنه . وهذا بالتأكيد لا يتناسب مع المصالح الأمريكية في المغرب ولا يتناسب مع توجهات ( الجامعة العربية ) التي بدأت تحمي مصالح الأمريكان في المنطقة العربية منذ تحولت مصر الى جمهورية , عندها تم إستعمال إذاعة ( صوت العرب ) لبث رسائل صوتية الى المغاربة ينظمها ( علال الفاسي ) من أجل تثوير المغاربة على محمد بن عرفة ومن ورائه الفرنسيين , كما قامت ( لجنة تحرير المغرب ) التي أسستها الجامعة العربية في مصر بقيادة الزعيم المغربي عبد الكريم الخطابي بتنظيم حركات ( مقاومة مسلحة ) داخل المغرب كان أبرزها محاولة إغتيال السلطان الجديد محمد بن عرفة على يد الفدائي ( علال بن عبد الله ) عام 1954 حيث وثب على السلطان والسكين في يده أثناء مرور الموكب السلطاني .
تم إجبار فرنسا على الإنسحاب من مراكش مثلما أجبرت من قبل على مغادرة سوريا ولبنان , عندها ولحفظ ماء الوجه .. إستدعى الفرنسيون ضابطا مغربيا من حاميتهم في مراكش تربطه علاقة جيدة مع الأمريكان منذ الحرب العالمية الثانية هو محمد أوفقير لينفذ ترتيبات إخراج السلطان ( بن عرفة ) من مراكش لإعادة ( بن يوسف ) الى العرش كما إشترط الأمريكيون . بعدها عاد أوفقير الى مراكش ووضع محمد بن عرفة في طائرة حملته منفيا الى المدينة الدولية ( طنجة ) ثم وصل السلطان محمد بن يوسف الى مراكش يوم 16 تشرين الثاني 1955 .
بعدها مباشرة إستقال محمد أوفقير من الجيش الفرنسي وتم تعيينه مرافقا عسكريا للسلطان الذي كان يقدر لمرافقه علاقته بكل من الحكومتين الأمريكية والمصرية اللتين أعادتا السلطان الى عرشه .
يوم 2 آذار 1956 تم إعلان إستقلال مراكش والصحراء الغربية من السلطتين الفرنسية والإسبانية , وإعلانهما مملكة موحدة إسمها : ( المملكة المغربية ) تحت حكم السلطان محمد بن يوسف الذي تحول لقبه منذ ذلك اليوم الى : ( الملك محمد الخامس ) .
خلال 5 سنوات من حكم الملك محمد الخامس تقول فاطمة أوفقير ص 59 (( كانت علاقتي وطيدة بمحمد الخامس ...... وهو يجد دائما الكلمة اللطيفة والمناسبة للترويح عني وينوه برقة بجمالي وشبابي فيقول لي : لو أنك كنت زوجتي لما سمحت لشعاع الشمس أن يراك ... لم تكن لي حياة خاصة , أنطلق منذ الثامنة صباحا لتناول طعام الإفطار مع الملك وأحيانا لا أعود إلا بعد منتصف الليل , بل قد أقضي الليل في القصر , خلال 5 سنوات كنت مدللة , غنجة بشكل فائق , فمحمد الخامس ينعم علي ويقدم لي وسائل الزينة والحلي والملابس على مثال ما يقدمه لزوجاته وبناته ..... وكنت لا أرى أولادي في صغرهم إلا عندما أعود مساءا الى المنزل )) .
بعد زلزال أغادير عام 1960 سلم محمد الخامس قيادة الأمن الى محمد أوفقير , وفي نفس اليوم تمت مغادرة 450 فرنسي كانوا يشغلون هذا الموقع , بمعنى آخر : إنه إستلام وتسليم بين الفرنسيين والأمريكان بمباركة ملكية .
هاجت الأحزاب الشيوعية واليسارية خلال هذه الفترة مطالبة بالحد من السلطة الملكية .. ففرنسا التي كانت مجبرة على الإنسحاب من المغرب لن تترك المغرب لقمة سائغة لأحد . ووصل قتال الأحزاب الشيوعية المغربية مع بعضها الى حد العمل المسلح وإختطاف الناس والقتل العشوائي .
في مايس 1960 أقال الملك الحكومة وكلف إبنه ولي العهد ( الأمير مولاي الحسن ) بتسيير أمور البلاد .
يوم 26 شباط 1961 أجرى الملك محمد الخامس عملية جراحية مات على أثرها .
بالعودة الى فاطمة أوفقير نجدها تقول عن تلك الفترة في ص 65 (( تلاشيت وفقدت الرشد . لم أتصور إنقضاء عهد الملك بهذا الشكل المفاجيء ‘ وكنت الوحيدة التي إرتدت ثياب الحداد عليه مدة سنة كاملة , بينما لا تلزمني الأعراف والتقاليد إلا بأربعين يوم , كان موته بالنسبة لي صدمة رهيبة , كيف يمكن أن يغادرنا رجل مايزال شابا ويتجه سائرا على قدميه الى المشفى ويختفي بهذا الشكل المفاجيء؟ )) .
لم أفهم بوضوح ما الذي كانت تعنيه السيدة أوفقيرعند كلامها عن الحسن الثاني في ص 73 – 74 حيث تقول : (( غير أن علاقتي معه _ تقصد الحسن الثاني _ لم تكن سيئة أبدا , لكنها لم تكن بمثل جودتها مع محمد الخامس , وذلك يعود الى أنني لم أرد لها أن تكون كذلك . فصداقتي مع الإبن ترددت في نفسي وكأنها خيانة لذكرى الأب ... وأخيرا أقتنعت بسخف تصرفي , فالحقيقة تفرض في كل مكان المنطق نفسه : " مات الملك .. يحيا الملك " وقد بقيت أكثر من ستة أشهر أناديه _ سميّة سيدي _ وهو لقب يطلق على ولي العهد , بدلا من مناداته _ سيدي _ اللقب المخصص للملك . لم أستطع الإنتقال من الواحد الى الآخر , وهذا الموقف طبع العلاقة بينه وبيني بالبرود لكنه فهم الوضع فيما بعد ... ربما كرهت الحسن الثاني في الوقت الذي أذاقني فيه مر العذاب لكن رابطة عميقة جدا تواصلت على الدوام بيننا , عاطفة حتى المحن والألم والظلم وقسوة قدرنا لم تتوصل الى خنقها . إذ أن الحياة التي عرفناها والمودة التي وحدت بيننا , والعاطفة الحميمة التي إستحوذت علينا لايمكن أن تنحل )) .
بسبب إتساع حجم التحول السياسي في حكم الحسن الثاني عن حكم أبيه بدأت شائعات كثيرة تدور عن أن للملك الإبن دور في ( قتل ) الملك الأب , وحيث أن سياسته الجديدة لم تكن مرضية للولايات المتحدة الأمريكية فقد أعلن عبد الناصر من القاهرة أن من المُشَرِّف خلع هذا الملك الشاب القليل الأهمية عن العرش وتمت تعبئة الجهود لزعزعة الأمن الداخلي في المغرب علاوة على ما كان يقوم به الإعلام والصحافة المصرية .
سرت شائعات كثيرة عن علاقة خاصة ربطت فاطمة أوفقير بالملك الحسن الثاني , فقد كانت هناك شائعة أن بيتها في ( زنقة الأميرات ) يوجد به نفق سري يؤدي الى غرفة نوم الحسن الثاني , وكان ذلك في الفترة التي عين فيها الملك زوجها محمد أوفقير وزيرا للداخلية .. بل أكثر من ذلك فقد ذهب ( جيل بيرو ) في كتابه ( صديقنا الملك ) الى الزعم بأن ثمرة تلك العلاقة كانت ( سكينة محمد أوفقير ) إبنة فاطمة .
بالنسبة لفاطمة التي ربما تمنَّت في قرارة نفسها ذات يوم أن تكون ( محضية ) عند السلطان , فإن هذه الإشاعة كانت ( شرفا لا تدَّعِيه ) و ( تهمة لا تتمنى البراءة منها ) , لذلك فهي ورغم كونها زوجة للرجل الثاني في البلاد وأما لخمسة أطفال .. إلا أنها إستمرت بنفس نهجها في الحياة .. وليقل الناس ما يحلوا لهم . وهكذا ...... حتى تم الطلاق بينها وبين زوجها .
فاطمة أوفقير .. ومن أجل ضرب عصفورين بحجر , لتنفي علاقتها بالملك , وتبرر طلاقها من محمد أوفقير تلك الفترة , فقد إدعت _ وأجزم أنها كاذبة في إدعائها _ أنها كانت على علاقة مع واحد من الضباط الصغار الذين بمعية زوجها إسمه ( حسنيتو ) .
لم تخبرنا عن حسنيتو أي معلومة تؤكد أنه شخصية حقيقية , فحتى إسمه الذي ذكرته لنا هو إسم دلع , لكنها أسهبت في صراحة لا تحسد عليها بالحديث عن تلك العلاقة التي إستمرت 4 سنوات تقول في ص 82 (( في المغرب مارسنا الحب في كل مكان حتى في _ أنابيب _ المجاري قيد الإنشاء التي وجدنا فيها ملجأ موقتا نأوي إليه بعد أن نتجهز ببطانيتين وبعض الزاد ونبقى مختبئين 24 ساعة )) .
ماذا كان يفعل زوجها السيد أوفقير ( وحسب وصفها ) ليدلل لها على غيرته الزوجية ؟
السيدة فاطمة أوفقير وحسب ما تقول : (( أحيانا )) تجد مساحتي زجاج سيارتها (( ملويتين )) يلويهما زوجها .. وزير الداخلية الغيور .
ليس كحفيد للنبي محمد من الذرية 28 أو 30 .... ولا كأمازيغي مسلم .. ولكن لو سألنا جميع رفاقه الضباط في الجيش الفرنسي الذين أصبحوا وزراءا بعد ذلك .. هل يكتفون ب ( لَّي ) مساحات الزجاج في سيارات زوجاتهم حين يكتشفون خيانتهن العلاقة الزوجية وأمومة 5 أطفال ؟ إنهم فعلا عائلة غريبة الأطوار حين تتصرف الزوجة بهذا الشكل .. ويكون هذا هو رد فعل الزوج . ورغم كل هذه ( الأريحية ) من قبل الزوج , تدعي السيدة فاطمة أنها طلبت الطلاق من زوج وخمسة أطفال : من أجل حسنيتو , فكان لها ما أرادت ووقع الطلاق يوم 16 تموز 1964 . ولهذا أجزم أن فاطمة أوفقير كاذبة في هذه الحكاية , ومضطرة إليها لتغطي حقيقة ما حصل .
في الفصل الذي عنوانه ( إنعكاسات قضية بن بركة ) تأخذنا فاطمة أوفقير الى هذه القضية الشائكة التي وقعت عام 1965 , لتحاول إثبات أن مسؤولية الجريمة تقع على الملك الحسن الثاني و ( أحمد الدليمي ) مساعد زوجها , وأن الجنرال أوفقير لا علاقة له بهذه الحادثة رغم أنه كان على الأراضي الفرنسية ساعة وقوعها .
دعونا نبحث .. معارض شيوعي مغربي يتم إغتياله فوق الأراضي الفرنسية في فترة إنتخابات رئاسية للرئيس ديغول , من هو المستفيد الأكبر من وقوع هذه الجريمة ؟ هل هو ملك المغرب الذي كان بإمكانه إجتذاب بن بركة بأية طريقة كانت وقتله في المغرب من دون أن يعلم أحد ؟ أم جهة أخرى تحارب الشيوعية حول العالم وبوقوع هذه الجريمة ضربت عدة عصافير بحجر واحد ؟ فهي وبضربة واحدة :
# تخلصت من قيادي مغربي شيوعي .
# قضية مقتله ستسيء الى الجنرال ديغول شخصيا الذي كانت وكالة المخابرات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي قد خططا ونفذا ضده أكثر من 40 محاولة إغتيال , وإستهداف شخصي لقتله , ومحاولة إطاحة به عن الحكم .
# وأن تداعيات هذه القضية على كل من الحكومتين الفرنسية والمغربية , ستؤدي على الأقل الى ( برود في العلاقات ) بعد فترة تحسن كبيرة كانت قد طرأت على هذه العلاقة منذ مجيء الحسن الثاني الى الحكم .
ماذا كان رد الحكومة الفرنسية على هذه الحادثة ؟ أدانت محمد أوفقير مدير أمن ومخابرات ووزير داخلية المغرب بتلك الجريمة وحكمت عليه محاكمها بالسجن مدى الحياة .
من واقع عملي فهذا الحكم لم ينفذ بسبب كون أوفقير خارج فرنسا وقتها , لكنه يعني أن العلاقة بين الجمهورية الفرنسية , وضابطها السابق محمد أوفقير قد إنتهت تماما , والمعنى الضمني لهذا الحكم أن فرنسا قالت به لأوفقير : إذا تخليت عن علاقتك معنا وبدأت تلعب لمصلحة الأمريكان , فيمكنك أن تلعب لهم أدوارهم في المغرب فقط .. وليس داخل فرنسا .
خلال الفترة المقبلة سيبقى أوفقير في المغرب .. حيث تحايلت عليه طليقته فاطمة الى أن تمكنت من إقناعه بردها إليه رغم أنه كان قد تزوج من إمراة أخرى منذ طلاقه منها .
يوم 10 تموز 1971 كان الملك الحسن الثاني يحتفل بعيد ميلاده 42 في قصر الصخيرات , تمت دعوة محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وشادية لإحياء حفلة عيد ميلاده إضافة الى وديع الصافي وصباح وسعاد محمد وهدى سلطان وعفاف راضي ومحمد الموجي . بدأت الحفلة منذ الصباح في داخل القصر . غادر عبد الحليم حافظ الحفلة بحجة التوجه الى دار الإذاعة لتسجيل أنشودة عيد ميلاد الملك .. وهذا تصرف غريب جدا .. لأن تقنيات التسجيل الإذاعي والتلفزيوني قد دخل عليها تطور كبير منذ منتصف الستينات من القرن الماضي عند دخول نظام ( الفيديو تيب ) الى جميع أقطار الوطن العربي . ولذلك فقد كان بإمكان عبد الحليم حافظ تسجيل هذه الإنشودة في مصر وجلبها معه جاهزة يتم عرضها في الوقت المطلوب , وحتى في حالة إذا لم تكن الإذاعة المغربية تعمل ذلك الوقت بنظام الفيديو تيب , فقد كان من الواجب تسجيل الأغنية على شريط سينمائي في مصر وإحضارها جاهزة الى المغرب .. لكن تأخر تسجيلها الى يوم عيد الميلاد نفسه , كان لغرض محدد سنتعرف عليه الآن .
قبيل موعد الغداء تحجج محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش بأية حجة لمغادرة الحفل أيضا , وبعد مغادرتهما بلحظات .. بدأ إطلاق النار ... فقد وقع إنقلاب عسكري هدفه الإطاحة بالملك .
ربما في وقت الإنقلاب كان من الصعب على البعض فهم ماهية الأمور ولكن الآن , وبعد مضي كل هذا الزمن والحصول على كل هذه الإعترافات , فخطة الإنقلاب أصبحت واضحة ومفهومة جدا . شخص مقرب جدا من الملك ( سنعرف فيما بعد أنه محمد أوفقير ) كان قد إتفق مع عدد من القادة العسكريين , وكل على حدة حيث لا يعلم أحدهم بوجود الآخر في نفس الإنقلاب و ( أخبر كل منهم على حدة انه إذا نجح الإنقلاب فهو معهم _ وإذا فشل فسيقتلهم ) كان بمعية هؤلاء القادة أعداد كبيرة من طلاب الكلية العسكرية الذين تم إيهامهم أنهم ذاهبون للقيام ب ( تمرين حي ) وعليهم إطلاق النار على أي هدف يصادفهم , ثم وضعوا في لوريات عسكرية وتم إيصالهم الى قصر الصخيرات ( موقع التمرين ) وكان عددهم 1400 طالب .
عند بدأ إطلاق النار فر الملك ومعه محمد أوفقير الى مكان سري في القصر يحميهما الحرس الملكي .. لذلك فشل الأنقلاب , عندها بقي محمد أوفقير الى جوار الملك ساكتا وقد أسقط في يده . أما خطة الإنقلاب فقد سارت حتى النهاية المرسومة لها في حالة فشلها , وهو أن يقوم قادة الإنقلاب بتصفية بعضهم البعض وبذلك يضيع الخيط الموصل الى الرأس المدبر لهذا الإنقلاب , ولذلك نشاهد أن القتال كان مستمرا في قصر الصخيرات حين سيتأتي العقيد ( محمد أعبابو ) ولسبب مجهول وبشكل مباغت سيقتل الجنرال ( محمد المذبوح ) ثم ينسحب من قصر الصخيرات ذاهبا الى القيادة العامة للجيش .
السفارة المصرية في المغرب ولضلوعها المؤكد في هذا المخطط سعت الى خطة جانبية لتحتل كامل مشهد الصدارة فيما لو نجح الإنقلاب .. فقد قام السفير المصري حسن فهمي عبد المجيد , وهو عميد السلك الدبلوماسي المغربي وقتها .. بإصطحاب شادية ومحمد الموجي .. والذهاب الى دار الإذاعة المغربية . أما محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش فقد بقيا خائفين في الفندق .
عند قتل الجنرال المذبوح ومغادرة العقيد أعبابو قصر الصخيرات , خرج الملك ومن معه من مخبأهم ولبس محمد أوفقير بدلة عسكرية وذهب لتصفية بقايا الإنقلاب . بأمر من محمد أوفقير وصل ( الجنرال البوهلي ) وهو القائد العام للقوات المسلحة الى موقع القيادة العامة للجيش وفي مواجهة تشبه أفلام ( الكاوبوي ) الأمريكية , قتل أعبابو والبوهلي أحدهما الآخر كل بإطلاق النار على الآخر في نفس اللحظة , وهكذا تخلص أوفقير من آخر شاهد على أن له هو شخصيا علاقة بهذا الإنقلاب .
بعد ثلاثة أيام نفذت أحكام الإعدام بعدد كبير من المشاركين في هذه المحاولة الإنقلابية بعد محاكمة سريعة جدا , أما السفير المصري وشادية ومحمد الموجي فقد إدعوا أنهم قدموا الى الإذاعة لتخليص عبد الحليم حافظ عند وقوع الإنقلاب .. أما عبد الحليم حافظ فقد إدعى أن الإنقلابيين كانوا قد أعطوه البيان الأول للإنقلاب لقراءته بصوته لكنه رفض قائلا لهم : (( أنا ماليش في السياسة )) .
منذ هذه اللحظة ستصبح العلاقة بين أوفقير والملك علاقة تشوبها الريبة , وأصبح أوفقير يؤمن أن عليه التخلص من الملك في أسرع وقت . بعد أربعة أيام من إنقلاب الصخيرات الفاشل .. إتفق محمد أوفقير مع العقيد الطيار ( أموقران ) على إغتيال الملك بقصف طائرته في أول سفرة له الى الخارج . لكن أموقران كان مريضا فأرسله الملك الى فرنسا للعلاج .
في مايس 1972 كانت فاطمة أوفقير في باريس بحجة أن إبنتها مليكة الموجودة في باريس قد تعرضت مع صديقها الى حادث سيارة . لذلك فالأم ستبقى مع إبنتها لمدة شهرين .
في بداية تموز وقبل عودتها الى المغرب للمشاركة في إحتفالات عيد ميلاد الملك .. وبتكليف من زوجها .. قامت بزيارة أموقران في المستشفى حيث وكما تقول في ص 110 (( ... ضابط برتبة عقيد مصاب بالسرطان في الكلى أسمه أموقران ... حييته وقدمت له كتابا وبقيت نحو 5 دقائق الى جانب سريره ثم غادرت المستشفى )) .
زوجة أوفقير في فرنسا لابد أن تكون تحت متابعة المخابرات الفرنسية , ومؤكد أن زيارتها هذه لأموقران كانت قد رصدت .. ولا أحد يعرف ماذا كان يحتوي الكتاب الذي أعطته إياه . المهم عند مشاركة فاطمة في إحتفالات عيد ميلاد الملك دعتها زوجته ( للا لطيفة ) لمرافقتهم الى باريس بعد إنتهاء الإحتفالات . لكن أوفقير ذهب بنفسه الى الملك وأبلغه أن فاطمة لن تذهب معهم بطريقة أثارت إستياء القصر الملكي .
يوم السفر جاءت فاطمة تودع الملك وكانت تلك آخر مرة تراه فيها , وهو كان يعرف ما يحاك له .. قال لها آخر جملة سمعتها منه (( فاطمة .. إعتني بأطفالك .. أنت مسؤولة عنهم )) .
يوم 16 آب 1972 كانت طائرة الملك تقل العائلة المالكة 72 شخصا عائدين من فرنسا الى المغرب بعد توقف قصير في مدريد , كانت الطائرة في الجو حين تولتها 4 طائرات مقاتلة محاولين إقتياد طائرة الملك الى المدينة الدولية طنجة لعزله فيها , لكن الطيار تمكن من إنزالها في مطار القنيطرة قرب الرباط .. عندها قصفت المقاتلات ذلك المطار .. إضطر الملك للتمويه بجعل حمايته يذيعون خبرا عن موته عبر الإذاعة عندها توقف قصف المطار .. وحالما خرج الملك .. سأل عن أوفقير .. صباح اليوم التالي أعيدت جثة أوفقير الى البيت وبها خمس رصاصات : في القلب والكبد والذراع والكتف والرأس .
تقول فاطمة أوفقير ص 119 (( كتب محمد حسنين هيكل رئيس تحرير صحيفة الأهرام المصرية " كان أوفقير كلبا ومات مثل كلب " كلا لم يمت أوفقير مثل كلب بل مات مثل رجل ذهب الى مصيره وهو يعلم ما ينتظره , لكن هذا المحرر الحقود لا يمكنه إلا أن يعبر هكذا . فقد قابل أوفقير في شروط مخزية تقريبا بالنسبة له . في العام 1963 كان العقيد ناصر يحيك المؤامرات لزعزعة المغرب , وأوقف أوفقير المصريين الذين جاؤوا يزرعون القلاقل وكان يرافقهم صحافيون ومن هؤلاء هيكل الذي إنتابه الذعر عند مواجهة الجنرال وما فتيء منذ ذلك الحين يهاجم " الكلب " الذي رآه مذعورا خائر العزيمة , متهما إياه بالتعذيب والسادية )) .
لكن كان على السيدة أوفقير أن تنتظر قليلا لترى كيف سينكل هيكل بالحسن الثاني أيضا وبنفس طريقته المعهودة في البحث عن مصداقية لما يكتب بعبارات مثل : (( لما تعشيت في بيت نيكسون )) و (( لما هنري كيسنجر تغدى عندي في البيت )) وأقواهن (( لما دخلت التواليت في بيت فورد )) .
على العموم فإن أحمد رامي وهو ضابط سابق في الجيش المغربي وشارك في الإنقلابين العسكريين ضد الحسن الثاني وكان رفيقا لأموقران ومحمد أوفقير , وهو الناجي الوحيد من الإعدام في تلك المحاولة قال بالنص (( الوثائق الفكرية التي كانت الأرضية الإيديولوجية للضباط الأحرار في ذلك الوقت كانت أساسا فلسفة " الثورة " لجمال عبد الناصر و" الميثاق " لعبد الناصر و" معالم في الطريق " لسيد قطب . أي أن ثورة عبد الناصر كانت هي القدوة والنموذج لمشروع الإطاحة بالحكم في المغرب . وكانت كتابات سيد قطب أداة لمقاومة الغزو الفكري الماركسي اليهودي لمجتمعنا . عندما سيكشف في المستقبل عن الوثائق التي إستولى عليها النظام في بيت أفقير وفي بيتي ، سيكشف على أن كل الوثائق الفكرية والبيانات التي كانت ستذاع بعد نجاح الإنقلاب كانت كلها ناصرية وإسلامية . أمي وأبي - وأنا كطفل في الخمسينيات من القرن الماضي - لم نكن نتكلم أو نقرأ العربية ، ولكن صورة عبد الناصر هي التي كانت تزين بيتنا في تافروات بسوس . ثورة عبد الناصر ، التي أطاحت بالملكية في مصر ، هي التي أعطتنا الأمل في إمكانيات التغيير وهزيمة الاستعمار وعملائه في الداخل وحركت عندنا حافز الثورة )) . هذه الفقرة وحدها من كلام أحمد رامي تثبت مدى التلفيق في كتابات هيكل .
كيف ينبغي لعائلة أوفقير أن تتصرف الآن ؟ الحكمة تقول أن يتم دفن الميت , ثم على الأم الإنتظار لفترة تهدأ فيها الأمور , حيث تسعى بعد ذلك بكل وسيلة الى مقابلة الملك والإعتذار منه وطلب عفوه , حتى لو كان ذلك وبشكل مطلق ضد قناعة العائلة , لأن ما فات قد فات والآن عليها حماية أولادها , وبعد ذلك وحسب وضعهم الجديد .. أما البقاء في المغرب أو مغادرته الى أي مكان في العالم لبدأ حياة جديدة .
لكننا في الحقيقة سنجد أن فاطمة وبطريقة خالية من الحكمة .. ستغسل بدلة زوجها القتيل التي بها ثقوب الرصاص , وترسلها للحفظ في خزنة حديدية في أحد بنوك جبل طارق , إستعداد ربما لمقاضاة الملك مستقبلا لأنه قتل أوفقير , وكأن أوفقير لم يفعل شيئا أدى الى إعدامه !! ولا ندري أي محكمة ستنظر في قضية كهذه ؟
وبدلا من أن تسعى لمقابلة الملك .. خصوصا وهي صديقته وترتبط معه بعلاقة ود حميمة حسب تأكيدها هي .. نراها لم تفكر بذلك مطلقا , وتريد من الجميع التفكير بمشاعرها , ولم تعر مشاعر صديقها الملك الذي خانه وزيره ( زوجها ) أية أهمية .. لا بل تكاد تكون هي أيضا متورطة في تلك الخيانة .
وبدلا من إظهار الألم والأسف والندم ( ولو كذبا ) تعترف فاطمة في كتابها بسلوك لا يدل على الوعي مطلقا حين تقول ص 128 (( خضعنا لمراقبة الشرطة وتحقيقاتهم بإستمرار , ومنعنا من الخروج وإستقبال الزائرين , لكننا لحسن الحظ وجدنا بسرعة وسيلة لمراوغتهم : نخدّر حراسنا بحبوب ( موغادون ) المنوّمة نذيبها في الشاي , وهكذا يتمكن أصدقاؤنا من الدخول لزيارتنا , يدخلون الى المنزل خفية , وبشيء من اللامبالاة ننتهز فرصة قضاء بضع ساعات لطيفة )) .
في كل هذا الوقت العصيب كانت السيدة فاطمة تبحث عن ( ساعات لطيفة ) وأثناء ( شهور عدتها ) التي تسميها هي ( فترة الحداد ) التي ما أن ستنتهي حتى يأمر الملك بأخذها وأطفالها الى مساكن بعيدة عن الناس .. على أطراف الصحراء حيث لا يزورهم أحد .
التفكير بشكل منطقي يجعلنا نقرر أن الملك لم يسجن فاطمة وأولادها بسبب كونهم عائلة أوفقير .. لو كان هذا هو السبب , لكان سجنهم منذ اليوم الذي أعدم فيه رب العائلة , وفي السجن تستطيع فاطمة أوفقير قضاء عدتها التي إدعت أنها أبقيت في البيت لقضائها , لكن الملك أمر ببقائهم في البيت وتمهل مع ( صديقته الحميمة ) ريثما تدفن زوجها وتنهي مجلس عزائها , وتتمالك مشاعرها وأفكارها ثم تأتي بعد ذلك الى الملك ( صديقها الحميم ) لتطيب خاطره وتطمئن على سلامته وتقسم له أن لا علاقة لها بكل ما حصل .. أولا من موقعها كصديقة حميمة , وثانيا من موقعها كمواطنة خاضعة لحكم الملك .
بالمقابل لم يحصل شيء من هذا .. تم دفن الزوج , وإنفض مجلس العزاء .. وتمالكت فاطمة مشاعرها وأفكارها , ولكن لتخدر الحرس بالموغادون المذاب في الشاي لتدعو أصدقاءا ( لم تذكر أسماءهم ) كي يدخلوا الى بيتها خلسة .. لقضاء ساعات لطيفة . فهل يعتقد أحد أن الملك ليس إنسانا مثلنا يشعر بالألم والضغينة حين يغدر به أصدقاؤه ؟ أو يتجاهلون شعوره الحاد بالخوف والحيرة والغضب حين تتعرض طائرته الملكية التي تقل 72 شخص الى إطلاق نار بتدبير من ساعده الأيمن ؟؟ أو يستهترون في أداء واجب التضامن معه في محنته , مبدين تضامنهم مع خصومه الذين لاحقوه لقتله ؟
حين ثار غضب الملك إزاء كل هذا أمر بعزل فاطمة وأولادها عند حدود الصحراء .
قضت فاطمة أوفقير وأولادها 14 سنة في هذا المعزل , صفحات مطولة حدثتنا فيها عن إنقطاعهم عن العالم .. حيث كان حتى نور المصباح يطفأ عنهم بعد ساعتين من إضاءته .. لكنها فجأة تحدثنا عن مسلسل (( بيل وسباستيان )) ص 142 وهو مسلسل أنتج منتصف السبعينات من القرن الماضي ... أي بعد سجنهم بثلاث أو أربع سنوات , مما يدل على أنهم كانوا يشاهدون التلفزيون .
وحدثتنا طويلا عن الأمراض التي كانت تصيبهم في السجن دون علاج .. ثم تمنح تلك الأمراض أسماءا علمية لا يمكن أن يعرفها غير طبيب .
ثم حدثتنا عن كميات متناهية القلة من الطعام لا تكفي تسعة مساجين ( هي وأولادها وإبنة عمها ومربية أولادها ) ليوم واحد .. لكنها تقول إن عليهم تقنين إستهلاكها أسبوعا كاملا .. ثم فجأة تقول لك أنهم في حبسهم الإنفرادي ذاك .. كان لديهم طاهيتان !!! طاهيتان لسلق ما مجموعه الكلي ( 20 بيضة وعجن كيلو طحين وطبخ بعض الخضراوات التالفة ) على مدار أسبوع ؟
ثم حدثتنا عن إنقطاعهم عن العالم الخارجي .. لكنها تنسى .. حين تحدثنا عن الكتب والقراءة فتذكر أن مولاي عبد الله أخا الملك كان يبعث لهم صناديق من الكتب بين فترة واخرى , وأن والدها كان يبعث لهم بعض الأدوية عن طريق مكاتب حكومية تابعة للدولة , مما يدل أن هناك إتصال بينهم وبين العالم الخارجي وأن قطيعتهم عنه كانت جزئية وليست كلية .
ثم تحدثنا أنهم طيلة مدة سجنهم لم يلبسوا حذاءا بل كانت تحيك لهم الصنادل من بعض قطع القماش التي تصنع لها ( النعال ) من مطاط الإطارات , وأن ملابسهم التي جاؤا بها الى السجن كانت قد بليت عليهم ولا يملكون غيرها , وفجأة تحدثنا عن حرس السجن الذين كانوا يتعمدون إهانتها وكسر أنفتها بإجبارها على إرتداء ملابس إبنة عمها ( عاشورا ) أو مربية أولادها ( حليمة ) , وأمرهم لهاتين المرأتين بإرتداء ثيابها هي .
هل يوجد كسر أنفه أو إهانة توجه لأم .. أبلغ من إحتجاز أطفالها 19 سنة دون ذنب ؟ لتعتبر تلك الأم أن تبديل أسمالها بأسمال غيرها يعتبر إهانة لها بعد ذلك ؟
حقيقة فإن السجن سجن حتى لو كان في قصر من ذهب .. وكان الله في عون الأطفال وهم يدخلونه هذه المدة الطويلة دون ذنب .. والمهم أنهم بعد هرب بعضهم من السجن بعد 14 سنة , وعبر حكاية لا تصدق بحفر نفق تحت أرض السجن ( دون مساعدة واحدة من دوائر المخابرات الكثيرة التي كان والدهم يتعامل معها ) ليتمكن الأطفال من إيصال صوتهم الى العالم .. عندها تم نقل جميع العائلة الى بيت لائق وصاروا ينفقون بشكل جعل المسؤولين عنهم يطالبونهم بتقليل نفقاتهم التي تعترف السيدة فاطمة أنها كانت ... دون حساب . وبقيت العائلة في هذه الإقامة الجبرية الجديدة مدة 5 سنوات أخرى .
19 سنة في السجن , لم تفكر خلالها فاطمة أوفقير : ماذا فعلت هي شخصيا للملك لكي يحكم عليهم بهذا الحكم الفادح , وحتى حين كتبت كتابها ( حدائق الملك ) بعد سنوات من إطلاق سراحهم جميعا ... فإني لاحقت الصفحات وأنتظرت منها كلمة مباشرة أو غير مباشرة تدل على أنها فهمت الأمر لكن ذلك لم يحصل . حين أطلق سراحهم فهي لم تفرح بحريتها أو حرية أولادها العائدين من القبر .. قدر ما أبدت ألمها على ضياع الأملاك والسجاد والفضيات والكريستال , حال عجيب أن يتعلق الإنسان بالقشور الى هذا الحد وينسى جوهر الأشياء .
في مسرحية ماكبث يضع شكسبير عبارة على لسان مكبث بعد قتله للملك ( دنكان ) يقول فيها : (( حين أعرف ما فعلت .. أتمنى لو أني لا أعرف نفسي )) .
فهل عرفت فاطمة أوفقير ما فعلت ؟؟ ... لا أظن .
#ميسون_البياتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟