|
نتنياهو، كيف حصلنا عليه؟ وأي سلم يتحصل منه؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2685 - 2009 / 6 / 22 - 05:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليست رؤية سياسية متطرفة أو بعيدة عن العدالة تلك التي تضمنها خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخرا بصدد مستقبل الفلسطينيين. هي قبل كل شيء رؤية عادمة للسياسة. شرط السياسة، ولو متطرفة، مساواة من نوع ما في المرتبة الوجودية، قبول بأن الخصم مكافئ مبدئيا في الجدارة الإنسانية والسياسية. لا شيء من ذلك في خطاب نتنياهو. كان يمكن النظر إلى كلام الرجل على دولة فلسطينية منزوعة السلاح كموقف إسرائيلي جائر، لو لم يكن منغرسا في بنية ذهنية متجذرة تضع اليهودي فوق الفلسطيني جوهريا. عن هذه البنية تصدر المطالبة باعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة الشعب اليهودي، الأمر الذي يعني الإقرار به تسليما بالعقيدة الصهيونية، أي الإيديولوجية الوطنية الإسرائيلية، وإدانة ذاتية للوطنية الفلسطينية واعتذارا عنها. التصور الإسرائيلي لتسوية مع الفلسطينيين يقايض "تنازلا" إسرائيل للقبول بكيان مكشوف ومبدد للفلسطينيين مقابل استقالة وجودية ذاتية من قبلهم، ينسلخون بموجبها عن كيانهم ويضوون ما بقي لهم من وجود شحيح تحت كنف الكيان الذي أقيم على حسابهم. في عين الإيديولوجية الصهيونية، ليست إسرائيل يهودية لأن أكثريتها من اليهود، بل هي كذلك جوهريا، ولقد كانت كذلك منذ 3500 عام على قول نتنياهو نفسه، حتى حين كان اليهود أقلية ضئيلة فيها. لا مكان في إسرائيل الجوهرية هذه للفلسطينيين. فإن وجدوا كان وجودهم عارضا ومن مرتبة أدنى، وليس وجودا أصيلا من صنف الوجود اليهودي. وعودة اللاجئين ليست مرفوضة سياسيا بل جوهريا، أعني استنادا إلى مفهوم إسرائيل ذاته كما هو متمثل في الإيديولوجية الصهيونية. إسرائيل الجوهرية هذه ليست دولة مثل غيرها، ولا هي تعويض عن الهولوكوست، بقدر ما هي تحقيق لوعد إلهي متعال السياسة والتاريخ. القدس عاصمة "أبدية" لإسرائيل الجوهرية الثابتة بحكم تعريفها ذاتها. لقد كانت كذلك دوما ولا تستطيع إلا أن تكون كذلك. إسرائيليتها ووحدتها مسألة تعريف وماهية. وفي عالم الجواهر والماهيات هذا تستحيل التسوية لأن السياسة ذاتها غير ممكنة. التظاهر بها ممكن ومرغوب. هيا إلى السلام، يخاطب نتنياهو نظراءه العرب بنبرة تنز خيرية وطيبة. لكن السلام هنا أيضا تعريف لأي شيء تفعله إسرائيل. إنه وصية أنبيائها وتحية أبنائها وختام صلوات مواطنيها كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه. السلام اسم لإسرائيل وليس فعلا سياسيا تشارك فيه مع غيرها. ولعلها لم تخض ست حروب أو سبعة، فضلا عن حريبات لا تتوقف، إلا لأنها السلام مجسدا. السلام ممكن بين دول مصنوعة من الحرب، أما مع دولة يشكل السلام ماهيتها فالسلام الممكن الوحيد هو السلام الأورويلي.
النتائج الواقعية على كل حال تؤكد أن التسوية المقبولة إسرائيليا هي التي تضمن مزيدا من تآكل الوجود الفلسطيني. نحو 16 عاما بعد أوسلو، يبدو الفلسطينيون أخف وجودا مما كانوا قبل أوسلو. ويبدو وجودهم مرشحا لمزيد من التبدد والتآكل. ليست إسرائيل وسندها الأميركي هي السبب الوحيد، لكن إسرائيل وسندها ليست سببا يقارن بغيره. من في رصيده سبب كهذا يستطيع أن يرتكب كل الأخطاء في العالم، ومن يناهضه سبب كهذا لا يكاد ينفعه عقله. وليست ثانوية الوجود الفلسطيني مسألة استدلال أو تخمين. بعد حرب 1967 أمكن لموشيه دايان أن يقول إن الفلسطينيين الذين يبقون في أرضهم سوف يتحوّلون إلى "غبار بشر، وحثالة مجتمع". وحتى حرب أكتوبر 1973 كانت في وسع غولدا مائير أن تقول: "أين هم الفلسطينيون؟ إني لا أراهم!". ثم أن ما يستخلص من خطاب نتنياهو هو ذاته ما كان يمكن استخلاصه من الفتك الرهيب بغزة قبل أشهر. دلت عملية "الرصاص المسكوب" تلك على أن الفلسطينيين غير مرئيين من قبل الإسرائيليين. أولئك بالكاد حائزون على ضرب من الوجود شبحي، أدنى نوعيا من وجود الإسرائيليين، يعيشون في عالم مواز غير العالم الذي يعيش هؤلاء فيه، وغير مساو له. كيان الفلسطينيين ثانوي، قابل للتقليص والحذف والقص والمحو والطمس والإزالة والتبديد. وجودهم عارض، هامشي، هش، مؤذ، وشرير جوهريا، إن لم يكن إعدامه أمرا مرغوبا، فإنه بعد كل حساب ليس بالشيء المهم. هم لا ينكرون وجود الفلسطينيين والحق يقال، لكنهم يخصونهم بوجود بخس، يتساوى مع العدم أو يكاد. وجود الإسرائيليين بالمقابل أول، أصيل، حقيقي، متين، راسخ، متفوق وخيّر، غير قابل للحذف إلا بدمار العالم. لكن بعد قول ذلك كله، ليس لنا أن نبالغ في استثنائية الوعي الذاتي الإسرائيلي وخروج كيان إسرائيل على السياسة. الدول عموما كائنات نصف عاقلة، مسوخ نصفها إنسان ونصفها حيوان. وجانبها غير العاقل يطل على بعد الهوية والقومية والماضي فيها (الوعد الإلهي والشعب المختار في حالة إسرائيل)، فيما يطل جانبها العاقل على البعد القانوني والمؤسسي والراهن (دولة القانون..). وهي لا تتأنسن، لا تسلك عقلانيا في المجال الدولي ولا في المجال الداخلي إلا مضطرة. في هذا إسرائيل مثل غيرها. إلا أنها تنفرد عن غيرها بقلة اضطرارها، بتمتعها برعاية وحرية لا نظير لهما على مستوى العالم. لذلك أصول معروفة في الماضي الحديث، وله أصول ثقافية أقدم، تحيل إلى المناهل الثقافية وأصول "الحضارات". لكن له أسس معاصرة تتمثل في تطوير الإسرائيليين نظاما عاقلا إلى أقصى حد لتعاملاتهم فيما بينهم. يتعزز هذا بواقع أن خصوم إسرائيل، الفلسطينيين والعرب، قلما تبينوا هذه المعادلات العالمية، وقلما عملوا على زحزحتها، ولطالما كانت معاملاتهم فيما بينهم مثالا لغير المعقول. فإذا التقى وعي ذاتي متأصل ومسكون بالتفوق مع قلة الاضطرارات ووفرة الرعاية ومع خصوم مثلنا لم يشتهروا بحسن التدبير والسياسة، حصلنا على.. نتنياهو. على أن ارتفاع الاضطرار عن إسرائيل مضر بها على المدى الأطول. الاضطرارات تربي، تروض على التواضع وقبول العادية. هذا شيء مقصى من الخبرة الإسرائيلية. وهو ما يجعلها دولة قليلة التربية، وقحة بإفراط، مغرورة جدا، وصلفة إلى أقصى حد. فإذا التقت يوما قلة التربية هذه مع قدر من الحكمة من طرفنا وشيء من التحفظ حيالها من جهة الغرب، أمكن احتواء إسرائيل وضبطها، لتغدو دولة مثل غيرها.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما معنى البقاء في السلطة إلى الأبد؟
-
الكثير الذي فات خطابك يا أخ أوباما!
-
هذه أو هذه وإلا فتلك: عقائد الحتمية في السياسة السورية
-
نظرات في اللوحة الإيديولوجية العربية السائدة
-
العلمانية والقومية والامبريالية.. أسئلة مفتوحة
-
نظريتان في الطائفية.. بلا نظر
-
الكتابة العمومية كسياسة كتابة
-
نظرية الحتمية الثقافية في الثقافة السورية مقالة ضد العناد
-
الفكرة القومية العربية (والإسلامية) كإيديولوجيتي حرب أهلية
-
مسار حرج لتطور الوضع الكردي السوري
-
في ذهنية المنفعة ونقد الثقافة
-
العلم والفتوى و..الفوضى
-
كيف نتقدم؟ أبالثقافة أولا؟
-
مفهوم سيادة الدولة كأساس لحرية الاعتقاد الديني
-
عولمة التقدم وانبعاث التخلف
-
في عالم -الخطيئة الأصلية-
-
أي رصيد للقوة بحوزة حركات المعارضة -العلمانية- العربية؟
-
من يصغر مصر الكبيرة؟
-
الصعود الإسلامي وأزمة التقدم العربي
-
في السياسة والثقافة وأزمة العام الوطني
المزيد.....
-
وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
-
مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
-
-تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3
...
-
ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
-
السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|