أخبار الشرق - 16 حزيران 2002
ترتبط نشأة المعارضة في المعنى الفضفاض للكلمة بنشأة السلطة في المجتمعات الإنسانية، منذ أن انقسم الناس إلى حكّامٍ ومحكومين، إلا أن المعارضة السياسية بمعناها الحديث ترتبط على نحوٍ محدّد بتطور النظام الحزبي التنافسي الليبيرالي (البرلماني)، الذي تحولّت فيه الكتل والأجنحة التمثيلية إلى أحزاب. ولقد تشكّل هذا النظام من ناحية تاريخية صرفة أولّ ما تشكّل في المجتمعات المدنية الأوروبية الغربية، أي في المجتمعات البورجوازية حسب فهم الفلسفة السياسية الحديثة للمجتمع المدني بوصفه المجتمع البورجوازي.
إن المجتمع المدني وفق هذا الفهم ليس إلا المجتمع البورجوازي الذي يقوم على اقتصاد السوق الذي تنظم يده الخفية نفسها بنفسها علاقاته، على أساس قوانين التنافس والحرية والفردية والتوافق والربحية، بشكلٍ يستطيع فيه أن ينتج ذاته بمعزلٍ عن تحكم البنى السلطوية للدولة.
إن المنهجيات السوسيولوجية التاريخانية تؤمْثل المجتمع المدني في شكلٍ مفهوميٍ مجرد أو نقيٍ، يقوم على العلاقات الأفقية الطبقية غير الشخصانية لفرد/ المواطن، مقابل العلاقات العمودية الشخصانية العصبوية التي يقوم عليها المجتمع العصبوي أو المجتمعات ما قبل المدنية البورجوازية الحديثة، التي كان النظام الامبراطوري الكلاسيكي شكلها السياسي، وتمثّل الجماعة العصبوية العضوانية السلالية أو القبلية أو الطائفية أو الوراثية المغلقة وحدته الأساسية، من هنا لا ترى بعض الاتجاهات المتصلّبة في تلك المنهجيات، في المجتمع العصبوي مجتمعاً بل فسيفساء جماعات تتجاور دون أن تتلاقى، ولا تنظر إليه في ضوء العقيدة التاريخانية التي يشكّل التطور الغربي معيارها كمجتمع إلا جدلاً، أو بحسب الصيغة الهيغلية مجتمعاً دون مجتمعٍ مدنيٍ.
ما يعنيه ذلك على مستوى مفهوم المعارضة السياسية، هو أن التحول من المجتمع العصبوي القروسطي أو التقليدي إلى المجتمع المدني الحديث في أوروبا الغربية، قد أفرز على مدى يزيد عن ثلاثة قرون، مجالاً سياسياً عمومياً مستقلاً نسبياً عن الدولة، يتوسط ما بينها وبين المجتمع. ولم تكن مؤسسات هذا المجال إلا مؤسسات المجتمع المدني الطوعية والإرادية التي يشكّلها الأفراد/ المواطنون الأحرار فيما بينهم، والتي مثّلت بديلاً عن المؤسسات والهيئات " الفيودالية" (الإقطاعية حرفياً) الوراثية والتراتبية المغلقة. ولقد شكّل النظام الحزبي التنافسي الإطار الإجرائي التنظيمي للتنافس في هذا المجال السياسي العمومي ما بين المصالح المتضاربة في المجتمع المدني (البورجوازي)، بشكلٍ يحول دون الاضطرابات، ومن هنا فإن أصغر تعريفٍ مشترك عليه للحزب في نظرية النظم الحزبية التنافسية، هو مجموعة الأفراد المنظمّة في حزب يسعى للوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات التشريعية، وتطور الأحزاب تبعاً لذلك يرتبط بالانتخابات البرلمانية.
إن النظام الحزبي تبعاً لذلك تنافسي بالضرورة، وهو ما يفسّر أن نظرية النظم الحزبية أي التنافسية بالضرورة قد ظلت تربط ما بين نشأة هذا النظام وتطوره، وما بين نشأة النظام الاقتصادي - السياسي البرلماني الليبيرالي وتطوره. إلى درجة أن تلك النظرية تستبعد النظم الحزبية الأحادية كلياً من مجال تعريف الحزب، باعتبار أن الحزب هو جزء من كل في منظومة حزبية تعددية تنافسية، تشكّل المعارضة جزءاً لا يتجزأ منها.
لعلّ مأزق المعارضة السياسية العربية بما هي معارضة حزبية بالضرورة، يرتد عمقياً إلى إشكالية نشوء الحزب في الوطن العربي، إذ نشأ هذا المفهوم - إذا ما انطلقنا هنا من نظرية النظم الحزبية التنافسية - في مجتمعٍ دون مجتمع مدنيٍ، أي في مجتمعٍ تحكم الانقسامات العمودية مجمل انقساماته السياسية، ولا ريب في إطار وعينا التام لإشكالية ووظائف تصور المجتمعات ما قبل البورجوازية كمجتمعات دون مجتمعات مدنية، أن الاجتماع العربي - الإسلامي قد تميّز بموحّداته الثقافية اللغوية الكبرى التكاملية إلا أنه كان بحكم ضعف التطور البورجوازي يعاني من ضعف التكامل أو الاندماج الاجتماعي الذي يشكّل أساس الدولة - الأمة.
من هنا لم تتشكل المؤسسات التمثيلية الليبيرالية العربية بوصفها تختلف عن المجالس الاستشارية أو الشورية المساعدة، كثمرة تطور ذاتي بقدر ما زرعت زرعاً في شروط السيطرة الاستعمارية الغربية، أو تلبيةً لحاجات النخب الوطنية (القومية) أو الإدارة الاستعمارية نفسها لتكوين هيئة وطنية تمثيلية تتوسط ما بين المستعمر و"الأهالي". فقد انتخب المؤتمر السوري (البرلمان) في عام 1919، بغية تشكيل هيئة وطنية (قومية) تمثل البلاد في مؤتمر الصلح بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، كما تم انتخاب المجلس التأسيسي السوري في عام 1928 لوضع قانون أساسي أو دستور، بالتوافق ما بين السلطة الانتدابية الفرنسية والكتلة الوطنية السورية. ولقد تشكلت في المجالس التشريعية السورية (البرلمان) في الفترة الليبيرالية السورية، عدة أجنحة أوكتل برلمانية، كان أقواها سياسياً الكتلة الوطنية التي اقتدت بمفهم حزب الوفد المصري عن نفسه، ولم تعتبر نفسها حزباً بل وكيلاً عن الأمة حتى تحقيق الاستقلال. ولم ينشأ نظام حزبي تنافسي على عضوية الهيئة التشريعية وبالتالي على السلطة إلا بعد جلاء الفرنسيين عن سورية في 17 نيسان 1946، حيث تلاشت الكتلة الوطنية كوكيلٍ عن الأمة إلى حزبين متنافسين هما حزب الشعب والحزب الوطني، اللذين ينطبق عليهما إلى حدٍ كبيرٍ مفهوم دوفرجيه للأحزاب الداخلية المنشأ، أي الأحزاب التي ترتبط بانتخابات الهيئة التشريعية والوصول إلى عضويتها عبر الاقتراع الذي بات عاماً منذ عام 1947.
لقد تشكلت هنا معارضة ليبيرالية داخلية المنشأ، إلا أن التحدي الأكبر الذي واجه النسق الليبيرالي التنافسي قد صدر عن الأحزاب العقائدية القومية واليسارية والإسلامية الخارجية المنشأ، التي تعود جذور تشكلها الحقيقي برمتها في منطقة المشرق العربي إلى فترة الثلاثينات، التي تميّزت بالانحسار العالمي للرقعة الجغرافية الديمقراطية (الليبيرالية)، وصعود النظم التوتاليتارية في أوروبا، وانتشار نوعٍ مميّز من طبعاتها في المنطقة العربية في شكل أحزاب عقائدية راديكالية تطرح التغيير الثوري للمجتمع بواسطة ماكينة الدولة، أي السلطة.
ومن هنا مثّل الوصول إلى السلطة الإشكالية الأساسية لهذه الأحزاب، التي وضعت نفسها في مواجهة ما سمّته "الأحزاب التقليدية"، أي الأحزاب الداخلية المنشأ بوصفها، ولقد استندت جميع هذه الأحزاب إلى الفئات الوسطى المدينية والفلاحية الصاعدة والمتسعة يومئذ، وانخرطت في مجملها في انتخابات الهيئة التشريعية، ووصلت إلى عضويتها، وحتى إلى المشاركة في الحكومة كما في سورية والأردن بشكلٍ خاص، لكن عبر فهمٍ أداتي للبرلمان لا يعتبره الأداة الدستورية الأساسية في التغيير الاجتماعي، بل يسعى للوثوب عليه ثورياً أي انقلابياً كما كان هو واقع الأمر. ولا يعود ذلك في تقديرنا إلى مجرد طبيعة النشأة الخارجية الثورية لهذه الأحزاب، بقدر ما يعود أيضاً إلى عجز النظام الليبيرالي التنافسي المتعدد الأحزاب، عن حلّ المشكلة الاجتماعية - الاقتصادية الأخطر يومئذٍ، وهي مشكلة الأرض، ولقد تمّ هذا الإخفاق بشكلٍ مدرسيٍ في كلٍ من سورية ومصر، حين قاوم الملاكون الكبار الذين يسيطرون عل الأحزاب البرلمانية إصدار إي تشريعٍ بتخفيض سقف الملكية، وتوزيع الأرض على الفلاحين.
لقد تميّز النظام الحزبي التافسي الليبيرالي العربي الذي تشكل في معظم البلدان العربية بعد الاستقلال، بالهشاشة والمحدودية في التعبير التمثيلي عن المصالح الاجتماعية المختلفة، ومن هنا ساد الاضطراب في المجال السياسي العمومي الذي أنشأه، وأخذت الاضطرابات الاجتماعية والسياسية تكتسب سمات العنف السياسي المختلفة والمتعددة الدرجات، من الاغتيال إلى الانقلابات العسكرية، فلقد كان الغالب حقاً على البنى السياسية العربية هو ما يشخّصه عبد الإله بلقزيز في غياب المجال الوسيط بين الدولة والمجتمع بالمعنى الحقيقي لمفهوم المجال أو الحقل السياسي الذي ينتمي إلى الحق العام، ويقوم على إدارة الصراع في إطار قواعده. فلم يتجذّر النظام التنافسي قط في وعي النخب السياسية العربية بما فيها معظم النخب الموصوفة بـ "الليبيرالية"، التي كان وعيها الليبيرالي نفسه هشّاً. إذ أصرّ حزب الأحرار الدستوريين في مصر، والذي يعتبر أحد أكثر الأحزاب الليبيرالية نضجاً، على ألا تضع جمعية تأسيسية منتخبة الدستور، بل صفوة منه خارج البرلمان، لأن ذلك كان يعني سيطرة حزب الأغلبية الشعبية وهو حزب الوفد على الجمعية، بل وصلت هشاشة الليبيرالية العربية إلى درجة أن الأحزاب الليبيرالية المصرية والسورية قد شكّلت نوعاً من منظمات شبابية شبه ميليشياتية لها تتولى وظيفة ردع المعارضين لها، من نوع "القمصان الزرقاء" في حزب الوفد، و"القمصان الحديدية" في شبيبة الكتلة الوطنية السورية في الثلاثينات. غير أن علينا ألا نفصل ذلك عن صعود النظم التوتاليتارية وإشعاع إيديولوجياتها يومئذ في العالم، والانحسار العالمي للنظم الليبيرالية.
لقد كان النصف الثاني من القرن العشرين بشكلٍ خاصٍ هو قرن الإطاحة الثورية (الانقلابية) بالنظم التعددية التنافسية العربية، الذي تصدرته الأحزاب الراديكالية العربية عبر وسيلة الجيش، غيرأن علينا أن نتريث بوصف النظم الحزبية الأحادية التي نتجت عن هذه الانقلابات بـ "النظم السياسية الشمولية أو الكلاّنية" كما يصفها بلقزيز، ولعلّ الأدق وصفها بالنظم الشعبوية، التي تنطلق إيديولوجياتها وإجراءاتها عموماً حين سيطرت على السلطة، من تجاوز مرحلة التطور البورجوازي الليبيرالي باتجاه "الاشتراكية" عبر سلوك طريقٍ تطوريٍ لم يخطئ المنظّرون السوفيات حين وصفوه بـ "طريق التطور اللارأسمالي"، ومن هنا قامت هذه النظم على نظام التخطيط المركزي الأوامري الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الشامل بهدف تحقيق أعلى معدلٍ ممكنٍ من التعبئة الاجتماعية والتنمية "الانفجارية"، في ظل قيادة كاريزماتية عامة، وحزب عقائديٍ تعبوي يؤطر مختلف الفئات والطبقات "الكادحة" في منظماته الشعبية، وهو البديل الشعبوي لما نسميه اليوم بمؤسسات المجتمع المدني.
ما يجب ألا نغفله هو أن هذه النظم في مجملها قد انطلقت إيديولوجياً من مفهومٍ جبهويٍ للمجال السياسي، يقصره على القوى "الوطنية والتقدمية"، ويتميّز هذا المفهوم من ناحيته الشكلية بالتعددية الحزبية في الإطار الإيديولوجي "الثوري" المشترك، إلا أن مثاله الأعلى يتمثل بالوصول إلى بناء الحركة العربية الواحدة أو "التنظيم السياسي الموحّد"، أي إلى نظام الحزب الواحد في نهاية المطاف. ولقد حكم ذلك تصورات هذه النظم طيلة الفترة الممتدة من الستينات إلى انحلال المنظومة السوفياتية، وجرت تطبيقاته في كل من سورية والعراق واليمن الجنوبي السابق اقتداءً بالتجربة السوفياتية في أوروبا الشرقية، في شكل جبهات سياسية متحالفة فيما بينها وتقتسم وفق نسب محددة حصص المشاركة في الإدارة والمجالس التمثيلية والمنظمات الشعبية والمهنية، بينما انفرد اليمن الجنوبي السابق بتحويل الجبهة ما بين فصائله الثلاث إلى الحزب الاشتراكي اليمني، أي نظام الحزب الواحد.
إن المجال السياسي التنافسي يتوارى هنا أو ينعدم، لصالح المجال التضامني المحكوم برمته من قبل السلطة، والذي يتميز بالخلاف على الفروع وليس على الأصول، ولا مكان هنا بطبيعة الحال لما يسمى بالمعارضة، إذ أن هذه "المعارضة" في مفهوم تلك النظم هي أقرب إلى النمط "الخارجي" الإسلامي، أي نمط "المروق" و"العصيان". والحق أنه لا يمكن أن نقيم فاصلاً حدياً ما بين انعدام المجال السياسي في مثل هذه النظم وما بين المجالات التقليدية وفق توصيف بلقزيز لها، إذ تعيد البنيات البيروقراطية والحزبية السياسية السائدة إنتاج الروابط "العضوانية" العصبوية بشكلٍ محسوب، يأخذ بالاعتبار تمثيلها لتكويناتها الاجتماعية العضوانية ونفوذها فيها، بما لا يخل بنفوذ العصبية الأساسية المسيطرة.
إن النظم الحزبية الأحادية أو الجبهوية المستقطبة حول حزب يقودها، لا تعترف أصلاً بمجالٍ سياسي عموميٍ يتوسط ما بينها وبين المجتمع بما في ذلك القطاع الجمعياتي الخيري المستوعب في آليات السيطرة والرقابة المحكمة. في حين أن ما يميّز دول المجال التقليدي وفق توصيف بلقزيز لها، هو أنها لا تعترف بأطر مؤسسية حزبية تعددية أو أحادية لكنها تعوّض عن ذلك بمأسسة القطاع الجمعياتي الأهلي، وغض النظر عن تحول بعض هيئاته إلى منابر لبعض الأطراف المعارضة، والسماح بمطبوعات مستقلة عن الدولة.
أما المجال الحديث الصوري، الذي لا تتعدى وظيفته حدود تأثيث المشهد الساسي الشمولي بديكور "ديمقراطيٍ" حديث، فلعلّ من الأدق وصفه بتعبير صموئيل هنتينغتون بـ "الانفتاح الليبيرالي من دون الديمقراطية"، إذ تصدر الإصلاحات السياسية هنا من الأعلى بدرجة عالية من السيطرة، وهو ما يبقي مضمونها صورياً، بل من الممكن لنا أن نلاحظ أن معظم النظم السياسية العربية بغض النظر عن مستوى تطور المجال السياسي العمومي فيها بالنسبة للمجال التعددي التنافسي، تطبق برامج اقتصادية ليبيرالية جديدة من دون الديمقراطية التنافسية بالمعنى الليبيرالي، وهو ما يشير إلى أن العلاقة ليست ضروريةً أو لازبة ما بين الانفتاح الليبيرالي الاقتصادي والانفتاح الليبيرالي السياسي.
إن أزمة المعارضة السياسية العربية في مختلف النظم السياسية العربية تتمثل في أن أصول معظمها لا ينحدر من الأحزاب البرلمانية الداخلية المنشأ التي دمّرت الانقلابات العسكرية تطورها، بقدر ما تنحدر من الأحزاب الراديكالية الخارجية المنشأ، التي مارست العمل السياسي بعقليةٍ ثوريةٍ "انقلابية". ومن هنا فإنها - لا سيما منها منظومتها القومية واليسارية - قد انحدرت من الشحم نفسه الذي يكسو النظم الحزبية الأحادية التسلطية العربية، وربما ينطبق ذلك بشكلٍ خاصٍ على المعارضة السورية الديمقراطية التي تمثل جميع أحزابها أحزاباً منشقةً عن أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية "الحاكمة" في سورية، لأسبابٍ إيديولوجية سياسية راديكالية وليس لأسباب "ديمقراطية". ولقد سبق لهذه المعارضة أن طرحت في أواخر السبعينات برنامجاً ديمقراطياً يقوم على الحريات السياسية الليبيرالية الأساسية لكن دون مضمونها الاقتصادي، وقد كان هذا الطرح يعبّر نسبياً عن تلمسها المبكّر لمسألة الديمقراطية، إلا أنه كان في إطار عدم التطابق ما بينه وبين البنيتين التنظيمية والسياسية يعبّر عن الحاجة إلى إدارة الصراع ضد السلطة على قاعدةٍ برنامجية مختلفة جذرياً عنها، أي أن الخطاب الليبيرالي السياسي دون الاقتصادي استخدم هنا تكتيكياً أو أداتياً.
غير أن شيوع ثقافة المجتمع المدني والديمقراطية منذ سقوط المنظومة السوفياتية، في أوساط النخب السياسية الراديكالية، والتي تتميّز بتكوينها "الانتلجنسوي" المعارض بطبيعته للسلطة، أدى إلى إعادة بناء وعيها السياسي وتركيزه على تكوين مجالٍ سياسيٍ تنافسيٍ وسيطٍ مابين الدولة والمجتمع. ودلالة ذلك تكمن في أن المطالبة بالتحول إلى الديمقراطية لم تصدر عن نخب ليبيرالية بقدر ما صدرت عن نخب راديكالية يسارية وقومية منشقة. وفي حين هاجرت الراديكالية السابقة لهذه الأحزاب إلى الحركات الجهادية أو الاعتراضية الإسلامية، فإن التيارات الإسلامية الوسطية السياسية المعارضة، والممثلة أساساً بمنظومة الإخوان المسلمين العالمية، قد أخذت تدرج مفاهيم الديمقراطية والمجتمع المدني في برامجها، مما يشير إلى أن مجمل الأحزاب الخارجية المنشأ قد أخذ يعتنق الخطاب الليبيرالي السياسي في الحريات الأساسية، لكن في طور ضعفها وإنهاكها الشديد، وهو ما يضعها في إطار "الموجة العالمية الثالثة للديمقراطية". غير أن مشكلة هذه الموجة تكمن في أنها تتم في إطار الإيديولوجيا الليبيرالية الجديدة المهيمنة على المؤسسات التي تقود عملية العولمة الجارية اليوم، في شكل ليبيرالية اقتصادية دون حدود، تضعف إلى حد كبير الدولة الوطنية العربية، أي أنها على قدرٍ كبيرٍ من التنميط في إطار استراتيجيات الطبقة الدولية المسيطرة.
وفي هذا الإطار المؤسسي ما فوق القومي لمؤسسات ما يُعرف بالمجتمع المدني العالمي، فإن بعض أطراف المعارضة قد اندرج في تحالفات ما فوق قومية لإسقاط النظام الذي يقارعه، إلا أن المسئول عن ذلك في الحالتين العراقية والسودانية ليس المعارضة نفسها بقدر ماهو البنية الإقصائية للنظم التسلطية العربية المفرطة في عنفها ضدّ معارضيها، وعلينا أن نلحظ هنا نوعاً جديداً من المعارضة، بمعنى بروزه اليوم وليس بمعنى حداثة تكونه، وقد غاب عن الورقة، وهو تعاظم المعارضات السياسية الاثنية في البلدان العربية التي تتميز بما يسمى اليوم بالتعددية الثقافية، وهو ما يفرض تحدياتٍ جديدة على الدولة الوطنية العربية، ومدى قدرتها على إيجاد إطارٍ مؤسسي مرن وفعّال واستيعابي، يحمي التشكيلة الوطنية من التمزق، ويوفّر ضمانات التوازن الذاتي في إطار الوحدة، وهو أمر من الصعب التفكير به خارج مدى قدرة النظم العربية في المجمل على دمقرطة ذاتها، وإرساء دعائم دولة الحق والقانون.
__________
* كاتب وباحث سوري، والمقالة في الأصل ورقة شارك بها الباحث في الحلقة النقاشية التي أقامها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت تحت عنوان "أزمة المعارضة في الوطن العربي"، والتي قدّم ورقتها الدكتور عبدالإله بلقزيز، وتُنشر هنا بإذن خاص من الباحث