|
عفريت الحداثة
طارق حجي
(Tarek Heggy)
الحوار المتمدن-العدد: 2679 - 2009 / 6 / 16 - 09:19
المحور:
المجتمع المدني
فوبيا الرعب من المعاصرة أو عفريت الحداثة (الإنسانية أُفق ، والإنسان بالطبع متحرك إلى أُفقه) أبو حيان التوحيدي (عن المعلم الأول "أرسطو").
يحاول هذا المقال المطوّل أن يطرح موضوعاً أعتقدُ أنه مرشحٌ أكثر من أي موضوعٍ آخرٍ ليكون "محوراً" يلتقي حوله مثقفون كثيرون في مصرَ اليوم ، وقد يختلفون في تفاصيِله ولكنه يبقى مؤهلاً لكي يكون محلَ مساحةٍ من الإتفاقِ تتجاوز مساحاتِ الإختلافِ . وينطلق كلُ فكرٍ يحتويه هذا المقال من إيمانٍ بأن هناك ثلاثة مستوياتٍ لثلاثةِ كياناتٍ: "الإنسانية" .. و"الحضارات" .. و"الثقافات". ويقومُ هذا الفكرُ على أن "الحضارات" أُفقٌ أعلى من أفق "الثقافات" .. وأن "الإنسانية" أفقٌ أعلى من أُفق "الحضارات" .. وأن "قيمَ التقدمِ" هي من مكوناتِ الأفقِ الأعلى أي أُفق "الإنسانية" وهو ما يجعلها فوق خلافاتِ "الحضاراتِ" وخلافاتِ "الثقافاتِ" . ورغم أن كلَ أفكارِ هذا المقال المطوّل تتعلق بأُفقِ الإنسانيةِ ، إلاِّ أنها قد تصلح – في نفسِ الوقتِ – لتوجيه العلاقة بين "الحضاراتِ" لدرب "الحوار" عوضاً عن تركِها تسقط الآن بقوةِ الفوضى الناجمةِ عن غيابِ التحاورِ (الديالوج) لتصبح "مُسيّرةًَ" على "دربِ الصراعِ" أو "دربِ الصدام" والمستقبل ، أي مستقبلٍ ، كما يقول "سارتر" هو (ما يُصنع في "مطبخ الآن") .. وبالتالي فإن السؤالَ حول طبيعةِ العلاقةِ المستقبليةِ بين الحضاراتِ وهل تكون "حواراً" أم "صداماً" هو سؤال توجد أجابتان محتملتان عنه : فمستقبل العلاقة بين الحضارات يمكن أن يكون في صيغةِ الحوارِ كليةً إذا كانت جهودُ الفكرِ اليوم تهدف لذلك ، كما أن مستقبل العلاقة بين الحضارات يمكن أَن يصبح في إطار الصدام إذا كانت جهودُ الفكرِ اليوم ستترك "العربةَ" تسير بقوةِ الدفعِ الذاتي لجريمةِ عدمِ تأصيلِ الحوارِ .
أولاً حول موضوع "قيم التقدم"
في أواخر سنة 2000 دعتني الجامعةُ الأمريكية بالقاهرة للحديثِ عن طبيعةِ الإصلاح الذي أنشده للتعليم في مصرَ. وفي محاضرتي بمبنى "المعسكر اليوناني" بالجامعةِ تحدثت بإستفاضةٍ عن الفارقِ بين "التغيير الكميّ" في نظامِ تعليمٍ معينٍ وبين "التغيير الكيفي أو النوعي" . وقلت أننا أولينا "التغيير الكيفي أو النوعي" القليلَ من العناية والإهتمام نظراً لبقاءِ فلسفتنا التعليمية قائمةً على "التلقين" و"إختبارات الذاكرة" مع قليلٍ جداً من الإهتمامِ بالإبداعِ "والحوار" ("الديالوج" في مواجهة "المونولوج") وبقاء التعليم قائماً على فكرةِ أن المدرسَ "جهازُ إرسالٍ للمعرفةِ" وأن التلميذَ أو الطالبَ "جهازُ تلقي واستقبالٍ لما يرسله المدرسُ". وعندما دعتني جامعتا برنستون (Princeton ) وكولومبيا (Colombia) في شرق الولايات المتحدة وجامعة كاليفورنيا بيركلي (California Berkeley) في غرب الولايات المتحدة في الربع الأول من سنه 2001 لإلقاء محاضراتٍ على طلبةِ أقسامِ الدكتوراة بمراكزِ دراساتِ الشرق الأوسط بها عدت في هذه المحاضرات إلى ضرورةِ حدوثِ ثورةٍ تعليميةٍ في منطقة الشرق الأوسط إذا كان المرادُ هو غلبة سيناريو السلام (السلام الحقيقي القائم على الشرعية ومبادئ القانون الدولي) والتنمية الشاملة (إقتصادياً وثقافياً وإجتماعياً) ...وأن هذه الثورة التعليميةِ على تعقِدها وتركيبيتها تقوم في الأساسِ على فلسفةٍ تتوخى بذر قيمٍ معينة سميتها "قيم التقدم".
ثم عدت منذ شهر أغسطس 2001 للإهتمام الفكري المكثف بهذه القيم كردِ فعلٍ لقنوطي الشديد من وجودِ موضوعٍ عامٍ كبيرٍ لا تتشرذم في مواجهته الآراءُ في مجتمعنا. فنحن إن تحدثنا عن (محمد على) أو (طه حسين) أو (جمال عبد الناصر) أو (أنور السادات) أو (العلمانية) أو (التنوير) أو (الحداثة) أو (العولمة) أو (السلام في الشرق الأوسط) سوف نختلف كمجموعاتٍ فكريةٍ من البداية إختلافات لا سقف لها وسيصل بنا التشرذمُ إلى أبعد مدى كما أن حبلَ الحوارِ المتحضر القائم على العقلانيةِ والموضوعيةِ سينقطع من البدايةِ ويدخل العديدون منا في "مواويلِ تراشقٍ بأقذعِ النعوتِ والتهمِ".
ولا يخفي كاتبُ هذه السطور أنه عندما بحث عن موضوعٍ "قد" لا يحدث حوله هذا الإنقسام والتشرذم (أو على الأقل يحدث حوله إنقسام بدرجات أخف) لم يجد إلاَّ هذا الموضوع الذي كان قد "زاره" فكرياً عدة مراتٍ في محاضراتٍ وكتاباتٍ متفرقةٍ وهو موضوع "قيم التقدم". وهكذا، بدا لي الموضوعُ وكأنه أكثر المواضيع قابلية للبعدِ عن التناولِ من زوايا أيدولوجية: فليس في موضوعِ قيمِ التقدمِ بالشكلِ الذي أتناوله ما يدعو لتقسيمِ الناسِ لإسلاميين وغير إسلاميين أو لاشتراكيين ورأسماليين أو لناصريين وساداتيين... فقد بدا لي الموضوعُ (بالكيفية التي تناولته بها في المحاضراتِ التي أشرت إليها في مستهلِ هذا الحديث) "غير مذهبي" أي "غير أيديولوجي" إلى حدٍ بعيدٍ –هو ما سوَّل لي أن النظرةَ إليه والحوارَ بشأنه "قد" تكون أدنى للموضوعيةِ والحيادِ وعدمِ التشرذمِ والتمذهبِ كما يحدث عادةً في معظمِ حواراتنا العامةِ المعاصرةِ.
وقد أكون بهذا التصور مُغرقاً في الخيالِ أو عدمِ الواقعيةِ –ولكن منذ متى كان "كسر الجمود" يأتي إلاَّ من أفكارِ أولئك الذي يملكون القدرةَ على الحلمِ والخيالِ؟ .. أن بعضَ مدارسِ الإدارةِ الحديثةِ تتطلب في تفكيرِ رجالِ الإدارةِ العليا توفر صفتين قد يظهرا متناقضتين في البدايةِ– إلاَّ أن حقيقة الواقعِ غير ذلك ، فهناك أفراد عديدون (هم الذي ينجحون في أعمال الإدارة العليا) تتوفر فيه الصفتان وهما: القدرة على الخيال (Power of Imagination) والشعور بالواقع (Sense of Reality) فعسى أن يكون تصوري عن إمكانيةِ تعاملِ المثقفين والرأي العام في واقعنا اليوم مع موضوعِ قيمِ التقدمِ تعاملاً خالياً من التمذهب والتشرذم – عسى أن يكون تصوري هذا متسماً بالتوازنِ ما بين "القدرةِ على الخيالِ" و"الشعورِ بالواقعِ" وألاَّ أكون قد "فررت" لهذا الموضوع تحت شعورٍ طاغٍ باليأس من إمكانيةِ تناولِ موضوعٍ عامٍ هامٍ في واقعنا بالعقلِ والحكمةِ والموضوعيةِ وليس بمسكِ الحجارة في اليدِ لرجمِ الموضوعِ (أو صاحبه) لإعتياد البعض منّا على "مسكِ حجارةِ الرجم" أكثر من إعتياده على "الحوار"– فالأول "أسهل" عقلياً ويمكنّ صاحبَه (إذا أراد) أن يلصق بنفِسه "أشرفَ النعوتِ" وبخصومِه "نقيضَ كل ذلك" .
ولا أَتصور أن أكون في مستهل فصل بعنوان "قيم التقدم" دون أن أُشير لإشكاليةٍ فكريةٍ يصعب على أي مثقفٍ أَلاَّ يتوقف أَمامها وهو ينظر في فصلٍ بعنوان "قيم التقدم" وأعنى إشكالية (هل تؤدي الديموقراطية لشيوعِ وذيوعِ قيمِ التقدم هذه التي أُسلط الضوءَ على أهمها في هذا الكتيب أم أن هذه القيم قادرةٌ – حتى في بيئاتٍ ذات حظٍ متواضعٍ من الديموقراطية – أن تخلق مناخاً عاماً يعجل من تعاظم الهامش الديموقراطي وتحوله إلى ديموقراطية رحبـةٍ؟ …بل أن هذا البعد جعلني أتساءل عن مدى معقوليةِ تقديم كتيب بعنوان "قيم التقدم" إذا كان من المنطقي أَن يقطع البعضُ الطريقَ على عربة هذا الكتيب بلافتة تقول: وهل من سبيلٍ لتأصيل ونشر هذه القيم في ظلِ هامشٍ ديموقراطي قد يكون متنامياً إلاَّ أنه بالقطع صغير! … أقول : كاد هذا الهاجس الفكري يحملني على إلحاق مادة هذا الكتيب برمتها إلي "ملف الكتابات المرجأ نشرها": وهو الأغزر مادة ، رغم أن "ملفَ الكتاباتِ المنشورة" يضم آلاف الصفحات…كاد هذا الهاجس أن يحمل هذا المقال (عن "قيم التقدم") إلى "الملف المؤجل" لولا مصادفة مطالعتي لعددٍ من الدراساتِ عن تجارب عشر دول في جنوبِ شرق آسيا وأمريكا اللاتينية كانت منذ عشرين سنة (بدون طفرةٍ إقتصادية) و(بدون ديموقراطية) و(بدون قيمِ التقدم التي يتحدث هذا الكتيبُ عنها) ثم أَضحت غنيةً (نسبياً) بالعناصرِ الثلاثةِ. ورغم علمي (وعلم الكثيرين في واقعِنا) بهذه التجارب وتسلسل فقرات نهضتها، إلاَّ أنني كنت بحاجةٍ لمواجهةِ فحواها في هذا الوقتِ بالتحديد… وفحوى هذه الدراسات أن البشريةَ كما عرفت تجارباً كانت فيها "الديموقراطية الرحبةُ" هي الأطارَ العام الذي في ظله حدثت النهضةُ الإقتصاديةُ والعلميةُ والتعليميةُ والثقافيةُ والإجتماعيةُ وبمحاذاة ذلك رسخت قيم التقدم في مجتمعاتِها؛ فإن هناك تجارباً أُخرى (مثل الدول التي تقدمت بطفراتٍ واضحةٍ في جنوبِ شرق آسيا وأمريكا اللاتينية) كان النهج فيها مختلفاً : فعِوضاً عن عمليةِ "الطبخ الهادئة والطويلة" للتطور كما حدث في أوربا على مدى قرونٍ ؛ فإن تجاربَ هذه الدول / الطفرات في آسيا وأمريكا اللاتينية قامت فيها قاطرتان بجذبِ المجتمعِ لعمليةِ التنميةِ والتطوير: أما القاطرةُ الأولى فتمثلت في كادرٍ بشريٍّ من القياداتِ التنفيذية كان من جهةٍ يجسّد قيم التقدم وكان من جهةٍ ثانية يفرضها فرضاً على المناخ العام ... أَما القاطرةُ الثانية فتمثلت في إصلاحٍ جوهريٍّ وجذريٍّ للنظامِ التعليمي وإقامةِ النظامِ الجديد على أساسٍ من "قيم التقدم" بحيث تخدم "القاطرةُ الأولى" المدى القصير والمتوسط ... بينما تخدم "القاطرةُ الثانية" المدى المتوسط والطويل ... ومن خلال عمل القاطرتين - وبالقيادةِ والقدوةِ والتعليمِ الخلاقِ- تنتشر "قيمُ التقدمِ" وتخلق مناخاً عاماً يسمح بالحراكِ الإجتماعي الفعّال والمثمر وتخلق طبقةً وسطى عريضةً وذات ركائزٍ ثقافية وإقتصادية في آنٍ واحدٍ ويواكب ذلك "إصرارٌ حتمي" (مع "إستعداد موازي") على توسعةِ الهامشِ الديموقراطي وهو ما حدث بحذافيرِه في تجاربِ بلدان الطفرة في آسيا وأمريكا اللاتينية – وهو الرد الوحيد المعقول على دعوةِ البعضِ بأن بعضَ الشعوب عليها أن تنتظر طويلاً قبل حلول الديموقراطية الرحبة بزعم أنها شعوبٌ غير مستعدةٍ لمثل هذه الديموقراطية الرحبة. فإنتظار الديموقراطية بعد قرنٍ دعوى لا يقبلها إلاَّ أنصارُ الإستبداد (وأنصار فوائده) أَما أنصار الديموقراطية( بصفتها أعظم إنجازات البشرية منذ وجدت) فإنهم لن يتوقفوا عن البحث عن صيغٍ تحقق الديموقراطية الرحبة وخلال عقودٍ معدودةٍ من الزمنِ مع خلقِ أُطر وآلياتِ الديمقراطية في نفسِ الوقتِ حتى لا تكون الديمقراطيةُ (بغير تنميةٍ شاملةٍ) الجسرَ الذي يعبر عليه أعداءُ الديمقراطية مـن ضفـةِ (اللا-سلطة) إلى ضفةِ (السلطة المطلقة إلى أبد الآبدين).
وهكذا، فإنني أعتقدُ أننا لا ينبغي أن ننشغل عن "قيمِ التقدمِ" بأية أُطروحاتٍ تقول أنها غيرُ قابلةٍ للغرسِ بتربتنا.
وأخيراً ، فإنني أُقدم هذا المقال المطوّل وأنا أًعلمُ أنني قدمت "معظم قيم التقدم" ولم أُقدم "كل قيم التقدم" - بمعنى أن ما أُسلط عليه الضوء في هذا الكتيب ليس إيراداً على سبيلِ الحصرِ لقيمِ التقدم وإنما هي مجرد أمثلة لما أعتقد أنه "من أهم هذه القيم" ... ويبقى من حقِ الآخرين الإضافة والحذف – للقائمة المعروضة في هذا المقال - فالغرضُ هو الحديث عن "قيم تصنع التقدم" وليس الزعم بحصرِ هذه القيم.
ثانياً أهم قيم التقدم
١ الوقت ما أَكثر الذين يتحدثون في واقعِنا عن الفارقِ بين (قيمةِ الوقتِ) عند أفرادِ المجتمعاتِ الأكثر تقدماً وبين قيمته ومعناه لدينا. ويتفاوت المعنى المقصود من فردٍ لآخرٍ: فبينما تدل العباراتُ عند البعضِ على نظرةٍ خارجيةٍ (وربما سطحيةٍ) للظاهرة عندما يظنون أن الشعوبَ الأكثر تقدماً في تعاملها مع الوقت هي مجردُ شعوبٍ منظمة ودقيقة ، فإن البعضَ الآخر يملكُ نظرةً أكثرَ عمقاً تدرك أن الأمرَ أكبرُ وأعمقُ وأوسعُ وأخطرُ بكثيرٍ من مجرد فارقٍ بين (شعوبٍ دقيقةٍ في مسألةِ الوقتِ) و(شعوبٍ أقل دقة في التعاملِ مع الوقتِ). فجوهرُ الأمرِ أعمقُ بكثيرٍ من كلماتٍ مثل (الإنتظام) و(الدقة) و(الإنضباط) فكلُ هذه العباراتِ وعشرات غيرها هي مجرد المظاهر النهائية لاختلافٍ عميقٍ في فهمِ وتقديرِ وتقييمِ (بل وتقديسِ أو عدم تقديسِ) الوقت . ففي المجتمعاتِ الأكثرَ تقدماً فإن الوقتَ هو الإطارُ الذي من خلالِه تتم الخططُ وتُنفذ وتعد المشروعات وتُحوّل من فكرةٍ إلى واقعٍ ؛ فالوقتُ هو إطار كل شئ: إطار كل فكرةٍ… وإطار كل مشروعٍ… وإطار كل خطةٍ… وإطار كل برنامج… وإطار كل إصلاحٍ… بل وإطار كلِ التطوراتِ الإقتصاديةِ والعلميةِ والتعليميةِ والثقافيةِ والإجتماعيةِ . وبالتالي فإن من لا يعرف قيمةَ الإطارِ لا يعرف بالضرورةِ قيمةَ أي شئ يمكن أن يحتويه هذا الإطارُ .
ومن أكثرِ الأمورِ غرابةً أن الكثيرين في مجتمعِنا يظنون أن تقديسَ الوقتِ واحترامَه والإلتزامَ بالمواعيدِ إلتزاماً شبة عسكري هو مجرد (طبع) يتسم به البعضُ ولا يتسم به آخرون: وهذه زلةٌ فكريةٌ متكاملةُ الأركان … فتقديسُ الوقتِ والإيمانُ العميقُ بحتميةِ احترامِه واحترامِ المواعيد … ولزومية أن تكون كلُ الأفكارِ والمشروعاتِ والخططِ والبرامج في ظل أُطرٍ زمنيةٍ… وأن عدمَ إحترامِ الوقتِ والمواعيد هو شرخٌ في المصداقيةِ والكفاءةِ لا علاقةَ له بالطباع : فالناسُ لا يولدون بطبعٍ يقدس الوقت ويحترمه وينظر للمواعيدِ وكأنها مواقيتٌ سمائيةٌ وآخرون على خلاف ذلك … وإنما نحن بصدد مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ من فرطِ فقرِه في تقديسِ الوقت والمواعيد والأُطر الزمنية أصبح يفرز تلك الفكرة الخاطئة وجوهرها أن الذين يتشددون في المواعيد والوقت هم أصحابُ طبعٍ معين جُبلوا عليه بينما الآخرون مختلفون (وكأننا بصدد مجرد إختلاف وتنوع لا ينُمّان عن رقيٍّ في حالةٍ وتدهورٍ في الأُخرى) .
إن التقدمَ والتحضرَ والتمدنَ مسائلٌ لا تحققها الأموالُ ولا تبلغها الثرواتُ الطبيعيةُ وإنما تحققها منظومةُ القيمِ الذائعة والشائعة في المجتمع من قاعدتِه إلى قمتِه وأهم تلك القيم هي : تقديس الوقت… والإيمان بفعالياتِ العملِ الجماعي … والاهتمام البالغ بالبشر (الموارد البشرية) … والتعليم القائم على الإبداع (وليس التلقين) … وإشاعة روح توخي الكمال والتميّز والسعي الدؤوب للإتقان … ورسوخ فكرة عالميةِ المعرفة والعلم في العقول منذ سني التعليم الأولى … وقيام التعليم بخلق شخصياتٍ إنسانيةٍ تنافسيةٍ - فعن طريق توفر هذه المنظومة من القيمِ يتقدم الذين يتقدمون … وعن طريق إنتفاءِ هذه القيم (وأَحياناً وجود نقيضها) يتأخر الذين يتأخرون ثم يغرقون في خداعِ أنفسِهم بأنهم متأخرون إما لأن الظروف غير مواتيةٍ أو لأن الإمكانياتِ ناقصةٌ أو لأن العالمَ الخارجي يتآمر عليهم ولا يريد لهم خيـراً - وكلها أوهامٌ في روؤس الفاشلين لا أساس لها على الإطلاقِ في الواقعِ ولا مبرر لوجودِها إلاِّ لتعزيةِ الفاشلين عن فشلهم لأن البديلَ (وهو الحق والمنطق والصواب والحكمة) أن يقولوا لأنفسهم أننا متأخرون لأننا متقاعسون ولأننا نفتقر لآلياتِ التقدمِ وكلها آليات توجد داخلِ الإنسان وليس خارجِه.
وهكذا يتضح جلياً أن تقديسَ الوقتِ وتقديرَه واحترامَه وتأسيسَ كل أَنشطةِ الإنسان والمؤسساتِ والمجتمعِ بأسرِه على أساسِ أُطرٍ زمنيةٍ تحترم الوقت كأحترامِ المؤمنين للعقائدِ هو ليس مجرد (صفة من صفات البعض) أو (طبع لدى البعض) أو (إحدى السجايا أو حتى المزايا الشخصية) وإنما هي علامة فارقة بين منظومتين من القيم: منظومة قديمة تنتمي إما للثقافةِ الزراعيةِ في شكلهِا البدائي أو للثقافةِ البدويةِ وأنها واحدةٌ من معالمِ مُنَاخٍ ثقافيٍّ عامٍ وليست مجرد طبع أو خصلة أو سجية. إن الدارسَ لتطورِ القيم يعرف أن الوقتَ لم يصبح تلك القيمة العليا المحورية والعلامة الفارقة بين المتأخرين والمتقدمين إلاِّ منذ زمن الثورةِ الصناعيةِ : فالثورةُ الصناعيةُ هي التي فرضت ذلك الإهتمام المتصاعد بالوقتِ ودقته وقيمته وحتميةِ الإلتزام به حتى وصلنا إلى نموذج فريد يتمثل في القطاراتِ السويسرية التي تبدأ وتنهي رحلاتِها ليس بالساعةِ ولا بالدقيقةِ وإنما بالثانيةِ فيما يمثلُ ترجمةً عليا لقيمِ الصناعةِ ولقيمِ المجتمعاتِ الخدميةِ ، ثم هبت رياحُ ثورةِ الإتصالاتِ وحقائق عصر التكنولوجيا فإذا بالتمسكِ بقيمةِ الوقت وتقديسها يبلغُ حداً يشبه العقيدةَ الدينية في نفوسِ كبارِ المؤمنين.
وكما هي الحال في العديدِ من قيمِ التقدمِ فإن هذه القيم يسهل شيوعها وذيوعها إذا جاءت من الرقائق الأعلى في الهرمَ المجتمعي أي في شكلِ أمثلةٍ وقدوةٍ ممن يُفترض أنهم المثلُ الذي يُحتذى –أما إذا داس هؤلاء الذين يشكلون الرقائق العليا للهرم المجتمعي قيمَ التقدمِ ومن بينها قيمة الوقت فإن إنتشارَ هذه القيم في المجتمع يكون ما بين (المستحيل) أو (شبه المستحيل): فليست هناك مقولات أسلم ولا أحكم من الأقوال المأثورة (الناس على دين ملوكهم) و(السمك يفسد من رأسه) و(إذا كان رب البيت على الدف ضارباً… إلخ) . ومعنى كل ذلك أن الرقائقَ العليا في المجتمع من كبارِ المسؤولين في الإدارات الحكومية وقيادات الحياة الإقتصادية العامة والخاصة والوزراء وشاغلي المواقع المرموقة في المجتمع … إذا لم يكن هؤلاء قدوةً في قيمِ التقدم بوجهٍ عامٍ وفي قيمة تقديس واحترام وإجلال قيمة الوقت وإعطائها كل ما تعنيه من أبعادٍ هامةٍ وخطيرةٍ وذات صلةٍ وثيقةٍ بعمليةِ التقدم - إذا لم يكن الأمرُ كذلك فقل على المجتمعِ السلام - لأن بثَ تلك القيم عن طريق الرقائقِ الأدنى من الهرم المجتمعي مسألةٌ في غايةِ الصعوبةِ إذ أن أفرادَها لا يملكون عضلاتِ فرض نموذجهم ومُكنة أن يكونوا مثلاً يحتذى وقدوةً تُقتفى.
إن كاتبَ هذه السطور بوسعه أن يجزم أنه يستطيع أن يرى أمام ناظريه علاقةً شبه مؤكدة بين تقديسِ الوقتِ واحترامِه والالتزامِ به التزاماً يشبه التزام أشد المتمسكين بقواعدِ الدين والإيمان بأن التأخرَ في المواعيد والإخلال بالإلتزامات الموعدية وإنجاز الأعمال خارج الإطارِ الزمني المتفق عليه وبين درجةِ الكفاءةِ - فمن بين عشرات الآلاف من كبارِ الشخصياتِ الإقتصاديةِ والسياسيةِ التي تعاملت معها وأنا في موقع يسمحُ بالتعامل مع زبدةِ المجتمعات ، كنت أرى بوضوحٍ كاملٍ أنه لا يمكن وجود شخص لا يقدس الوقت ويتأخر في المواعيد ولا يقدس الإلتزام بالأداءِ في الإطار الزمني المتفق عليه إلاِّ وهو في الوقتِ ذاته على غيرِ درجةٍ عاليةٍ من الكفاءة : فكلُ الأكفاء الذين قابلتهم في الحياةِ في عشراتِ المجتمعاتِ كانوا ممن لا يتأخرون ثانيةً واحدةً عن مواعيدِهم ويلتزمون بالوفاءِ بإكمالِ مهامِ عملهم على أعلى درجاتِ الإتقانِ في ظلِ زمن محددٍ وينظرون في نفسِ الوقتِ لمن لا يتسمون بهذه السمة بنظرةٍ يشوبها قدرٌ غير قليل من عدمِ التقديرِ - وكانت طبيعةُ عملي التي تقتضي التعامل مع خلفياتٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ متباينةٍ تُظهر لي بوضوحٍ إختلافَ ردودِ الفعلِ حول مسألة الوقت والمواعيد والإلتزام بالأُطر الزمنية : فعندما كنت أقومُ بإلغاء تعاقدٍ بمئاتِ الملايين مع شركة لا تفي بتعهداتها في الأُطر الزمنية المُتفقِ عليها في دولةٍ من دولِ العالمِ الثالثِ كان ردُ الفعلِ الغالب هو إستهجان قرار من هذا النوع بينما كان نفسُ القرار إذا إتخذ في بيئةٍ غربيةٍ أو في جنوب شرق أسيا يحظى بعظيم الإستحسان بل والإكبار والإجلال : والفارقُ أن جانباً كان يرى في القرار ردَ فعلٍ مبالغ فيه تجاه مسألة غير ذاتِ أهمية بينما كان الجانبُ الآخرُ يرى أن القرارَ جاء متفقاً مع قيمِ التقدمِ والتي لا تعرف تجاه الوقت إلاِّ الإجلال والإكبار والتقديس والإحترام بل وتأسيس الحياة كلها على أساسٍ من الأُطر الزمنية التي لا يحق لأحدٍ أن يتجاهلها أو يتجاوزها – بل كانت الأغلبيةُ في معظمِ المجتمعاتِ من دولِ العالمِ الثالثِ تنظر لقرارٍ مثل الذي ضربتُ به مثلاً وكأنه من قبيل الأطوار الغريبة: فلماذا المبالغة في ردِ فعلٍ تجاه شخصٍ تأخر عن موعدِه أو مقاولٍ تجاوز الحدودَ الزمنية المتفق عليها - وهي مجتمعات وصل فيها التدهور القيمّي لحد أن أصبح التأخرُ رمزاً للقيمةِ العالية للشخص ، فالأشخاصُ الكبارُ والمهمون وأصحاب القوة والمكانة من حقِهم أن يكونوا متأخرين كيفما بدا لهم وعلى الناسِ أن ينتظروهم (!!) ، فهم مهمون وأصحاب مسؤوليات واسعة وعلى الآخرين أن يقبلوا ذلك (!!!) … وفي المقابلِ فقد كنت أرى في المجتمعاتِ الأكثرَ تقدماً رجالاً يقومون بإدارةِ مشاريع بحجمٍ يفوق مجمل حجم إقتصاد كل الدول العربية ولا يمكن أن يكونوا متأخرين دقيقةً واحدةً عن موعدٍ بل ويفتخرون بأنهم يسبقون المواعيد وأن مؤسساتهم في سباقٍ مع الزمن بهدفِ أن يكونوا في أطار المواعيد المتفق عليها بل ويكون هدفهم في كثيرٍ من الأحيان لا أن يقابلوا الحدودَ الزمنية المتفق عليها بل أن يسبقوها. وقد أصبح يقيني راسخاً أن كلَ من لا يعرف كيف يضبط مواعيده ومواعيد عمله ومواعيد تنفيذ مشروعاته إنسان أو شركة أو مؤسسة مدموغة بالفشل الإداري (بل ولدي إعتقاد راسخ أنهم بنفس القدر لا يتقنون كل الأشياء الأخرى التي يقومون بها في الحياةِ) - وأي استثناءٍ من ذلك أو أية محاولةٍ لقبول إستثناءات من ذلك هي ضد العلم والتمدن والتحضر وحركة التاريخ في المجتمعات المتقدمة. وهناك فارق كبير بين الإلتزامِ بالمواعيد وإحترام الوقت بدافع الخوف وهو موجود في بعض الأحيان (في دول العالم الثالث) وبين أن يكون تقديسُ الوقتِ واحترامه والإلتزام بالأُطر الزمنية المحددة هو ديدنَ الذين يحترمون أنفسهم وينتمون للعصر ويسايرون قيم التقدم: ففي كل مجتمعاتِ العالم الثالث يذهب النوابُ للمجالسِ النيابيةِ (البرلمانات) متأخرين ويظلون في إجتماعاتهم في حالاتِ فوضى عارمةٍ ما بين متحدثٍ مع زميلٍ وآخر يُجري حواراً على الهاتف المحمول وثالث يكتب في أوراقٍ ورابع يُجري حواراً مع أحد المسئولين - ثم نجدهم جميعاً في الجلساتِ التي يحضرها رئيسُ الدولة في كل دولِ العالمِ الثالث : ملتزمين بالحضورِ في الموعدِ .. ملتزمين بآدابِ حضورِ الإجتماعاتِ العامة : وهم هنا لا يفعلون هذا من بابِ تقديسِ الوقتِ واحترامِ المواعيدِ وإجلالِ الأُطر الزمنية وإنما بدافعٍ آخر لا يخفى عن فطنةِ القارئ . وهذا الدافع لا يخلق التقدم المنشود، لأن التقدمَ والتنميةَ يصنعها (المؤمنون) لا (الخائفون). ومما أساء لقيمةِ الوقت وحُرمتها وأهميتها وكونها واحدةً من أُسسِ الرقي وقيمِ التقدمِ وجود طبقة من الأثرياءِ الجددِ في عددٍ من دولِ العالمِ الثالث كانوا في معظمهم بسطاء التعليمِ والثقافةِ وتكونت ثرواتُهم بفعلِ وفضلِ علاقاتهم السياسية والعامة وليس لكونهم عبقريات إدارية أو إقتصادية أو علمية - ولما شاع نموذجُهم في عددٍ من المجتمعاتِ وصاروا في صدارةِ الواجهة الإجتماعية أصبحوا مصدراً جديداً لبثِ القيمِ السلبيةِ ومنها منهجهم في التعامل مع الوقت ، فهم أبعد ما يكونون عن فهمِ وإحترامِ قيمة الوقت كأساسٍ حضاريٍّ وقيمة من قيم التقدم ، إذ أنهم في حد ذاتهم طبقة طفيلية إنهمرت عليها الأموالُ دون ثقافةٍ ناهيك عما يعتري مصادر ثرواتهم من شكوكٍ تدعم إستحالةِ أن يكونوا قدوة أو نموذج يُحتذى: فكيف يمكن لنا أن نقول للشبابِ في مجتمعِنا أن يحتذوا بقياداتِ الحياةِ الإقتصادية التي نسميها "رجال الأعمال" وهم تجسيد حي لعشراتِ القيمِ السلبية بوجهٍ عامٍ ولقيمة إزدراء الوقت والمواعيد بوجهٍ خاصٍ ! ... إن طبقةَ رجال الأعمال والأثرياء الجدد (معظمهم وليس كلهم) في عددٍ من دول العالم الثالث هم طبقة منقّحة من رجال المافيا - فكيف يتسنى لنا أن ننتظر أن يكونوا قدوةً تُتبع ومثالاً يُحتذى في إحترام الوقت أو في أية قيمةٍ إيجابيةٍ أخرى من قيم التقدم . ويحزنني لأبعدِ الحدود أن أكتب بقلمي أنني رأيتُ عن قربٍ عشرات من هؤلاء الذين يسمون بكبار رجال الأعمال فوجدتهم بالمقارنةِ بالشخصيات الإقتصادية العالمية الكبرى التي تعاملتُ معها خلطةً من أربعةِ عناصر: إنعدام الموهبةِ الإدارية … وفقرٍ ثقافيٍّ مذهلٍ… وإنتهازية سياسية بلا حدود … وبُعدٍ مطلق عن قيم ومبادئ كبار الرجال - ووجدتُ أن معظمهم قد كوّن مؤسساته وأعماله على أرضيةٍ من العلاقات وليس على أساسٍ من الكفاءة والعبقرية الإدارية والإستعمال الإقتصادي النموذجي لتكنولوجيا العصر أو القدرة على إدارة الخدمات - ومرةً أخرى يفرضُ السؤالُ نفسَه: كيف لمثل هؤلاء أن يكونوا قدوةً ، إلاِّ إذا كان رؤساءُ المافيا يصلحون لأن يكونوا قدوةً لأجيالٍ جديدةٍ من الشباب ؟!
ولا أجدُ من بين كل ما ذكرت في هذه الجزئية من هذا المقال ما أرى فائدةَ تكرارِه أكثر من قولي: أنه لا يمكن وجود قائد إداري فعّال ومُنجز وعلى درجة عالية من الكفاءة إذا لم يكن تقديس الوقت مكون أساسي من مكوناته ... ولا يعني ذلك أن تقديس الوقت هو العنصر الوحيد للكفاءة ... فللكفاءة عناصر أُخرى عديدة (تقديس الوقت من أهمها) وإن كانت الكفاءة لا تنهض كاملةً بدون باقي العناصر والتي بدونها لا يوجد تقدم .. ولا يوجد كادر بشري من المديرين التنفيذيين القادرين على إنجاز المهمة التي تبدو للبعض مستحيلة بينما أعتقدُ أنا أنها سهلة وميسورة إلى أبعد الحدود ، وأعني بلوغ درجة من التقدم الإقتصادي والتعليمي تجعلنا على مقربةٍ من دول جنوب أوروبا وفي نفس الوقت تسيرُ بمحاذاة حياة ثقافية وإعلامية وسلام إجتماعي يكفلون لنا معاً المجتمع الذي ننشده: مصر المزدهرة والمستقرة والآمنة والتي يعودُ فيها المصريون لسجاياهم التي عُرفوا بها عبر التاريخ وكلها سجايا إنسانية نبيلة تقومُ على الخُلق السمح والمودة والترابط وإحترام الآخرين والبعد عن بؤرات العنف والتشاحن والصدام اليومي بين الأفراد والطبقات وسائر وحدات وكيانات المجتمع.
************ ٢ ثقافة "النظم" كنتُ أُطالع مؤخراً مقالاً لأحدِ الكتابِ المعروفين عندما أوقفتني كلماتُه عن سفير مصرَ بواحدةٍ من الدولِ الكبرى، إذ بعد أن كالَ له المديح (وأغلب الظن عن حقٍ) روى عن لسانِ شخصيةٍ مرموقة قوله في حقِ نفسِ السفير (لو كان الأمر بيدي لأبقيت على هذا الرجل سفيراً لمصرَ في ... دون إعتبارٍ للقواعدِ التي تطبقها وزارةُ الخارجية، لأنه خسارةٌ أن يترك كلَ هذه العلاقاتِ ويأتي بعده من يبني من جديد)… وإذا كان كاتبُ هذه السطور خلطةً من (رجلِ الإدارةِ) و(رجلِ الثقافةِ) فإن هذه العبارةَ (والتي كثيراً جداً ما كررها آخرون في حق آخرين) هي أكثرُ عبارةٍ تستنفر تفكيرَ الرجلين : رجل الإدارة ورجل الثقافة ؛ لا لأنها (خطأ) فربما تكون صحيحةً وسليمةً من زاويةِ الواقع الآني، ولكن لأنها تستدعي موضوعاً من أهمِ وأخطرِ المواضيع المتعلقة بالعقلِ المصري وظروفِ وملابساتِ تكوينه التاريخية والثقافية وتجربته مع الأيام والرجال. إن هذه العبارة (والتي نسمعها من كثيرين عن كثيرين من المتميزين في مواقعهم) تكشف بوضوحٍ تامٍ عن إيماننا المتأصل عبر التاريخ بدورِ الفردِ أكثر من إيمانِنا بفاعليةِ النظام (System) الذي يكون الفردُ مجردَ أداةٍ من أدواته؛ مع بقاءِ الغلبةِ والأهميةِ والفاعليةِ للنظامِ وليس للأفرادِ المتميزين في النظام.
وكإنسانٍ مصريٍّ تكوِّن خلال ربع القرن الأول من حياته في مُناخٍ مصريٍّ صرفٍ فإنني لم أفطن إلاَّ بعد سنواتٍ للفارق الشاسع في هذا المجالِ بيننا وبين مجتمعاتٍ أُخرى لعل أهمها المجتمعات الأوربية الشمالية حيث يوجد النقيض: الإهتمام الشديد بتكوين الفرد تكويناً ثرياً ومتميزاً مع بقاءِ الغلبة والإهتمام الأكبر والفاعلية الأعظم للنظام (The System) مما يجعل الإنسانَ في هذه المجتمعات يرى تداعياتِ وإنعكاساتِ ونتائجَ العبارةِ التي إقتطفتُها من مقالِ أحدِ كبارِ الكتابِ ... (دون أن يكون هدفي أَن أُناقش كاتبَ المقالِ في صحةِ أو عدمِ صحةِ ما كتبه، فالأمرُ يقتصر على أن ما كتبه قد جذبني للكتابةِ عن روحِ الملاحظةِ وليس عن الملاحظةِ في حدِ ذاتِها). ففي مجتمعِنا الذي يربط بين الإنجازِ والكفاءةِ وتحقيق النتائج من جهةٍ وبين (صدفةِ وجودِ شخصٍ ممتازٍ في موقعٍ معينٍ) من جهةٍ أُخرى يكون من العسيرِ على معظمِ الناسِ أن يدركوا النتائج الوخيمة لهذا الواقع: فإنتظارُ الصدفة أمرٌ لا يخضع لأيةِ قوانين معروفة وعقلانية ... والإيمان بأن الشخصَ الممتاز يجب أن يبقى في موقعِه لأن التغييرَ سيأتي بمن يبدأ من جديدٍ هو تسليم بالمشكلة أكثر من أن يكون حلاً لها ... وصيغتنا في هذا الأمر هي التفسيرُ الواضح لإنقطاعِ تواصلِ البناءِ (والتوجهات والجهود) فـي حيـاتنا ... وصيغتنا في هذا الشأن تعمل ضد الحراك الاجتماعي الذي هو أساس تقدمِ الطبقةِ الوسطى والمجتمعات ... وصيغتُنا في هذا الشأن تحمل في طياتها جذورَ مشكلاتٍ كبرى إذ أننا لا نقبل فقط أن نتحمل الثمن المرتفع للتعامل مع قوانين الصدفةُ وإنما نقبل في نفس الوقت النتائج التي قد تكون "رائعةً" وقد تكون "مروعةً" حسبما تأتي به الصدفةُ ... وصيغتنا في هذا الشأن تتنافى مع حركةِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ والتي مع إيمانِها بالقدراتِ الخاصةِ والمواهبِ فإنها تؤمن بشكلٍ أَكبر وأوسع وأعمق بالنظمِ (وليس بالأشخاصِ).
أما أول نتائج هذا الربط بين الإنجاز و"صدفة وجود شخص ممتاز في موقعٍ معينٍ" فهو أننا نقبل أن نترك أعنةَ الحياةِ والمستقبل لقوانين الصدفةَ والتي لا تخضع لقواعدٍ معروفةٍ أو حتى عقلانية. وهكذا، نكون أبعدَ ما يمكن عن أُولئك الذين يساهمون في صنعِ وصياغةِ المستقبلِ وكأنهم تلاميذ الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي كان لا يؤمن بأن هناك شيئاً إسمه المستقبل وأَن المستقبلَ هو ما نصنعه الآن (سلباً أو إيجاباً أو تقاعساً) في مطبخِ الزمن الآني. فالمستقبلُ يبدأ من لحظتنا الراهنةِ أو بالتحديد مما نقوم به "الآن" لصياغة "معالم الزمن الآتي". وعليه، فإننا نكون أبعدَ ما يمكن عن التخطيطِ الذي يحاول أن يرسم ملامحَ الغدِ وتفاصيِله، فكيف نفعل ذلك ونحن نترك لقوانين الصدفةِ أن تأتي لنا ببعض المتميزين -أحياناً- في بعض المواقع. إن هذا القانون هو النقيض الكامل لفكرتي "النظام" (System ) و"التخطيط" (Planning).
كذلك فإن الولعَ بأن يبقى الأشخاصُ المتميزون في مواقعهم لأن عدم بقائهم سيأتي بمن يبدأ من "الصفر" هو سببُ واحدٍ من أكبرِ عيوبنا وهو خواء حياتنا (بدرجةٍ كبيرةٍ وليس بشكلٍ مطلقٍ) من التواصلِ الموضوعي في جهودِ وخطواتِ البناء والتنمية – فالحقيقةُ أن التقدمَ لا يتحقق إلاَّ إذا كنا نملك آلياتِ التواصلِ والاستمرار مع تبدل الأسماء والوجوه . بل أن إيماننا بضرورةِ بقاءِ المتميزين في مواقعِهم حتى لا يبدأ آخرون من الصفر هو إعترافٌ مؤلمٌ بواقع صعوبةِ التواصلِ بين أجيالٍ من الأفراد كما أن هذه السمة من سماتِ تفكيرنا هي مرجع خلو (أو شبه خلو) حياتنا ممن يشغلون مواقعاً عامة بارزة ويمدحون أسلافهم . وذلك نقيض الحال في معظمِ المؤسساتِ السياسيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ والتعليميةِ والإعلاميةِ في المجتمعاتِ ذات النصيب الوافر من التقدم. كذلك فإن القولَ بأن الخيرَ كل الخير في بقاءِ كل متميّزٍ في موقعِه هو مدخل لعالم يخلو من الحراكِ الإجتماعي والذي هو من أسس التفاعلِ الإيجابي وتقدم المجتمعات ومن لزومياتِ بناءِ طبقةٍ وسطى واسعة وقوية وصلبة تقود المجتمعَ. كذلك، فإن الإيمانَ بالأشخاصِ وليس بالنظام يجعلنا عرضةً لأمرٍ في غايةِ الخطورةِ : فبينما تقود "ثقافةُ النظامِ" لاستئصالِ أو إستبعادِ العناصرِ الهدامةِ التي قد تصل لمواقعٍ متميزة فإن "ثقافةَ الأشخاصِ" قد تأتي بالمتميزين كما أنها قد تأتي بالذين تأتي كبارُ المشكلاتِ والأخطارِ والمضارِ مع مجيئهم ولا تكون هناك آليات فعّالة لإستبعادهم في الوقت المناسب (الوقت هنا عنصر أساسي للفاعلية).
ويُضاف لكل ذلك أن صيغتنا في الإفتتان بثقافةِ الأشخاصِ لا بثقافةِ النظامِ تحمل في طياتها تنافراً وتناقضاً كاملين مع معظمٍ معطياتِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ التي تحاول أن تأخذ من الأشخاص أعظم مزاياهم مع بقاء الغلبة لأُطر النظام وآلياته وتقنياته: فالنظام في هذه الثقافات هو أساس التقدم والنجاح وليس بعض الأفراد (وإن عظمت مواهبهم) في بعضِ المواقعِ .
٢.1 نحن إذاًًً أمام ثقافتين متباينتين إلى حدٍ بعيدٍ: "ثقافة الأشخاص" والتي يسهل التعرف على ملامحها في واقعنِا وتاريخنا منذ عشرات القرون ... و"ثقافة النظم" (Culture of Systems) وهي الثقافة التي نمت وتعاظمت أُسسُها ومعالمُها في دولِ الحضارةِ الغربيةِ ثم إنتقلت إلى العديدِ من المجتمعاتِ الأخرى التي لا تنتمي للحضارةِ الغربية مثل المجتمع الياباني والعديد من مجتمعاتِ جنوبِ شرق آسيا بل وعددٍ من مجتمعاتِ أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية. ومن غيرِ المفيدِ الحديث عن "الأفضل" و "الأسوأ" والإنطلاق من زوايا إتهامية ، فالذي حدث لدينا وأنتج "ثقافة الأشخاص" ضفيرةٌ من الظروفِ التاريخيةِ والثقافيةِ ما كان لها أن تنتج غير ما أنتجت . والهدف من هذا الحديث كله أن نتسأل : هل يمكن لمجتمعات "ثقافة الأشخاص" أن تتحول تدريجياً لمجتمعاتِ نظـامٍ أو نـظمٍ؟ والإجـابـة : نـعم … بل : قطعاً نعم… فقد حدث ذلك في أكثرِ من حالةٍ… وكانت آلياتُ حدوثِ ذلك آلياتٍ تعمل على إحداث تحول على المدى القصير وتمثلت في كلمةٍ واحدةٍ هي "القدوة" التي حاولت (ونجحت) في تحقيق قدرٍ غيرِ قليلٍ من فرضِ ثقافةِ النظامِ، وأَما الإنجاز الأكبر فمرهونٌ بآليةٍ أخرى هي نظام التعليم الذي يضع نصب عينيه أنه وحده القادر على إنجازِ التحولِ الأكبرِ في هذا المجال عندما تُصمم برامج التعليم وهي تهدف لخفضِ الأبعادِ الشخصانيةِ في التفكيرِ وتعظيمِ الأبعادِ الموضوعيةِ التي هي أساس أي نظامٍ أو أيِّ نظمٍ .
٢.2 وعندما يحدث ذلك فإن بقاءَ بعض المتميزين في مواقعهم لا يتحول إلى "شبه معركة حربية" يمارسون من خلالها معركةَ :أن يكونوا أو لا يكونوا" ، ولا يكون من أكبر مشاغلِ الكثير من المسئولين القضاء على من يصلحون للحلول محلهم وتبوأ مواقعهم؛ ولا تكون العلاقة بين (الخلف) و (السلف) على ما هي عليه في واقعنا : مترعة بالبغض والمشاحنة وعامرة بالنقدِ الذي يصل إلى عرضٍ مستمرٍ للمثالبِ (الخلف يعرض مثالب السلف والسلف يتندر بمثالب الخلف) بل ونصل إلى "مُناخٍ ثقافيٍّ عامٍ" يبحث فيه كلُ مسئولٍ عمن يصلح للحلول – ذات يوم- محله … فتدور عجلةُ الحراكِ الإجتماعي ويحدث ما يسميه البعضُ بدوران النخبِ وهي أمور تكون في حالة كمونٍ إستاتيكي كلي في ظلِ "ثقافةِ الأشخاص" … حيث تضمر فكرةُ التغييرِ وتصبح عند البعض مرادفاً للتدمير!
************
٣ الإتقان تحولت فكرةُ الإتقانِ إلى علمٍ قائمٍ بذاته هو (علم إدارة الجودة ) والذي إنضم خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ لمنظومةِ العلومِ الإجتماعيةِ بل وأصبحت هناك معاهدٌ لا تقوم بتدريس إلاَّ علم الجودة (Quality Management/ QM). ورغم أن هناك أدبيات كثيرة في علم الجودة أشهرها كتابات البروفيسور Deming الذي جرى العرف على إعتباره أب أو أحد آباء "علم إدارة الجودة" إلاَّ أنني لا أُريدُ هنا أن أدخل في تفصيلاتِ وتفريعاتِ علمِ إدارةِ الجودةِ والمواضيع الأساسية لهذا العلم وهي الجودة أو الإتقان في مرحلة التخطيط ثم الجودة أو الإتقان في مرحلة التنفيذ ثم المراجعة بعين تنظر للجودة والإتقان، ولكنني أُريد أن أقول أن تواجدَ وتطبيقاتِ علومِ إدارةِ الجودةِ وتفشي ثقافة الإتقان ما هي إلاَّ إنعكاس لحقيقة أكبر وهي وجود حراك إجتماعي فعّال في المجتمع. فالإتقانُ ملمحٌ من ملامحِ المتميزين ... والمتميزون هم الذين يفرزون مكوناتِ ثقافةِ الإتقانِ ومفرداتِ علومِ إدارةِ الجودةِ ... وإذا لم يكن المجتمعُ يسمح بحراكٍ إجتماعي يبرز المتميزين من أبناءِ وبناتِ المجتمع فإن ثقافةَ الإتقانِ لا توجد وتحل محلها ثقافةُ العشوائيةِ وتعم في المجتمع كلُ بدائلِ صور ومشاهد الإتقان.
وكما ذكرت في فصلٍ من فصول كتابي "التحول المصيري" (1991) فإن الحراك الإجتماعي الحر وتفاعلاته هما اللذان يجعلان أصحاب القدرات الأعلى من أبناءِ وبناتِ أي مجتمعٍ يشغلون المواقع القيادية في كل مجالاتِ الحياة في المجتمع وهو ما يفرز هرماً إجتماعياً صحيحاً وسليماً قد يطلق البعضُ عليه أنه الهرم الذي أنتجته الداروينية الإجتماعية بينما يغضب البعضُ (ولاسيما إذا كان هؤلاء ينتمون لعلماءِ الإجتماع الإشتراكيين) ويفضلون أن نقول (ولا مانع لدينا) أن هذا الهرم لا يبنى بالداروينية الإجتماعية وإنما يبنى بالحراكِ الإجتماعي الحر والفعال والذي يتيح الفرصة لكل متميّزٍ ومتميّزةٍ من أبناءِ وبنات المجتمع لتقدم الصفوف والمشاركة بفاعليةٍ في صنعِ الواقعِ والمستقبلِ: وهذه هي الخلفية الوحيدة التي تسمح بذيوعِ ثقافةِ الإتقان.
وعلى النقيض فإن المجتمعاتِ التي لا تسمح تركيبتُها بالحراكِ الإجتماعي الحر تفتح المجال على مصراعِيه أمام غير المتميزين وغير الموهوبين وأصحاب القاماتِ المتوسطة لكي يحتلوا مواقعاً عديدة على رؤوس الكثير من المؤسساتِ والتنظيماتِ والهيئاتِ في المجتمع وهو ما يوجه ضربةً قاضيةً لثقافةِ الإتقانِ ويشيع مناخاً ثقافياً مختلفاً تماماً أُسميه بثقافةِ القاماتِ المتوسطةِ وفيه يختفي الإتقانُ وتشن الحروب بلا هوادةٍ على المتميزين والمتميزات من أبناء وبنات المجتمع لأن أصحابَ القاماتِ المتوسطة هم المصدر الأول لهذا المناخ العام : فبدونه تتبدل قواعدُ اللعبة ويهبطون من مواقعِهم العالية إلى مواقعٍ أدنى تتناسب مع قدراتهم ومحدوديةِ مواهبهم.
وموضوعُ الثقافة التي ينشرها "متوسطو القامة" بل والمناخ العام الذي يخلقونه هو موضوع يستحق الكثيرَ من العناية من المفكرين والدارسين : لأن المثقفَ المستنير بوسعه أن يتصور كلَ ملامح الحياةِ والمجتمعِ والعلاقاتِ التي تنشأ عن سيادةِ وشيوعِ "متوسطي القامة" وما يخلقونه من آلياتٍ لبقائهم وبقاء نوعياتهم في مواقعٍ مؤثرةٍ وكذلك الدمار الذي يحدثونه في "القيم" و "المثل" و"الأخلاق العامة" وكذلك إنعكاسات شيوعهم على الحياةِ السياسيةِ والإقتصاديةِ والثقافيةِ والتعليميةِ والإعلاميةِ، وما يجرون المجتمعَ إليه من "إنخفاضٍ مروعٍ" في "كلِ المستوياتِ".
ومن النقاط التي يجدر توضيحها عند الحديث عن "الإتقانِ" و"إدارةِ الجودةِ" أن الإتقان ليس أمراً مرتبطاً بالتقدمِ التكنولوجي وإنما هو فكرةٌ في رؤوسِ بعض الناسِ. ويذكر كاتبُ هذه السطور أنه عندما كان يحاضر ذات يومٍ بمعهد جوران (Juran) لإدارةِ الجودةِ بالولايات المتحدة الأمريكية أنه أسهب في شرح فكرته أن "الإتقانَ" فكرةٌ في رؤوس المتميزين وليس ثمرة التكنولوجيا (فالتكنولوجيا نفسها ثمرة أُخرى من ثمارِ تفكير المتميزين) ... أَذكر أنني عندما أسهبت في شرحِ هذه الفكرة وتطرقتُ للحديثِ عن "الإتقان" في مصرَ القديمةِ وكيف أن بناءَ هرمِ خوفو بالذات يُعد مثالاً بلا نظير لكون الإتقان "فكرة في الرؤوس" قبل أن يكون أي شئ آخر، إن عميد المعهد الذي كنت أُحاضرُ به علّق على هذه الجزئية بقوله أَنني لست بحاجةٍ لمزيدٍ من الأدلةِ على صحةِ هذا الزعم لأن شعار معهد جوران نفسه ليس إلاَّ عاملاً فرعونياً ينقش على جدار !! ويعني ذلك أن أكبرَ معهدٍ في العالمِ لعلومِ إدارةِ الجودةِ لم يربط بين الإتقان وبين التقدم التكنولوجي إذ أنه وجد أن العاملَ المصري القديم كان تشخيصاً لفكرةِ الإتقانِ ... وتحفل مصر القديمة بأدلةٍ كثيرةٍ على أن الإتقان "فكرةٌ" قبل أن يكون أي شئٍ آخر: فإذا قمنا بمقارنةٍ بسيطةٍ بين درجات الإتقان في هرمِ الملك خوفو ودرجات الإتقان في الهرمين الذين بناهما والدُ الملك خوفو وهو الملك سنفرو لأدركنا كيف يمكن أن تحدث طفرةٌ هائلةٌ في مستوياتِ ومعدلاتِ الإتقان خلال سنواتٍ قليلةٍ وهو ما لا يمكن أن يكون له تفسير إلاَّ وجود كادرٍ بشريٍّ يجسد بدرجةٍ أعلى دقائق فكرةِ الإتقانِ .
ولا أكاد أتصور وجود خلاف حول ما شهدته حياتُنا المعاصرة من تدهورٍ مذهلٍ في مستوياتِ ودرجاتِ الإتقانِ في مصرَ خلال نصف القرن الأخير وهو أمر لا يفسر إلاَّ بإنقلابِ الهرمِ المجتمعي وتلاشي التميّز وما أدى إليه ذلك من شيوع ثقافةِ متوسطي القامة والذين لا يمكن أن يكون الإتقان وشيوع روحه هدفاً لهم إذ أن فاقدَ الشيء لا يُعطيه . إن شيوع قّيم وثقافة ومستويات "متوسطى القامة" يجعلنا نكاد نرى كلمات الفقرة الأخيرة من المزمور 12 تتجسد كل لحظة أمام عيوننا :
(الأَشرار يتمشون في كلِ ناحيةٍ عند إرتفاع "الأرذال" بين الناس) .
************
٤ التعددية إذا كانت "الديمقراطية" هي أعظم إنجازاتِ الجنسِ البشري منذ بدايةِ مسيرةِ تمدنه وحتى هذه اللحظة فإن "التعددية" هي أحدُ منابع الديمقراطية . فلما كان الإنسانُ قد أصبح على يقينٍ من أن "التعددية" في المذاهب والآراءِ ووجهاتِ النظرِ والذوقِ هي من أهم معالم "الإنسانية" فقد كان من الطبيعي أن تقوم النظم السياسية على أساسِ إحتواءِ وإحترامِ التوجهات المختلفة مع عدم السماح لأيٍّ منها (ولو كان يحظى بأغلبيةٍ قويةٍ أو حتى مطلقةٍ) من إستئصال حق الآخرين في الإختلافِ ورؤيةِ الأمورِ بشكلٍ مختلفٍ والإعتقاد في برامج وأفكار ونظم ونظرياتٍ أخرى.
بل إن الإنسانيةَ تحولت مع تطورِ مسيرةِ تمدنها من "التسليم بأن التعددية من معالمِ الإنسانيةِ الأساسيةِ" إلى "الإعتقادِ بأن التعدديةَ من مصادر ثراءِ الإنسانيةِ" .. وأن التعددية هي من أهم منابعِ الإبداعِ والإبتكارِ والتجديدِ والتجويدِ . ورغم ذلك الإيمان بالتعددية على سطح الحياةِ المعاصرةِ فإن الغوص تحت جلدِ معظمِ البشرِ في هذا العصر يثبتُ أننا لا نزال في مرحلةٍ بدائيةٍ للغاية من تمثل قيمةِ الإيمانِ بمعنى ومزايا التعددية – وينطبق ذلك على أكثر المجتمعات تقدماً (وفي طليعتها المجتمع الأمريكي) كما ينطبق على كثير من الدول الأقل تقدماً بما في ذلك دول العالم الثالث . فلا يزال هناك زخمٌ من نقص الفهمِ وسوءِ الظنِ المتبادلِ بين الحضاراتِ المختلفةِ يجعل فوائدَ وعوائدَ التعددية أقل بكثيرٍ من أن يمكن أن يكون كما يؤدي كل ذلك في غيرِ كثيرٍ من الأحيان إلى محاولةِ البعضِ "تنميط العالم" وهو هدف مستحيل من جهةٍ ويعارض التعددية من جهةٍ أخرى ويبذر بذور الصراعِ والصدامِ الذين يمكن للإنسانية أن تعيش وتنمو وتزدهر بشكلٍ أفضل بدونهما .
ومن الأدلةِ الواضحةِ على التراثِ المهولِ من سوءِ الفهمِ وسوءِ الظنِ والأفكارِ المشوهةِ بشكلٍ متبادلٍ بين الحضاراتِ فكرة الحضارةِ الغربيةِ على معظم الحضارات الشرقية والتي تقوم في بعضِ الأحيانِ على تصوراتٍ وهميةٍ لا أساس لها من الصحةِ وكذلك فهم أبناء الحضارات القديمة للحضارة الغربية وهو فهم مشوب بتشوهات هائلة ويركز على المثالب ويتجاهل المناقب رغم تمتع معظم البشر في العالم بالعديد من إنجازات الحضارة الغربية .
وإذا كان البعضُ اليوم في الغربِ بوجهٍ عامٍ وفي الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ بوجهٍ خاصٍ يميلُ إلى أن العلاقة بين الحضارات ستكون في المستقبل صراعاً وصداماً ولا سيما العلاقة بين الحضارة الغربية والإسلام ، فإن أدبيات هذا الإتجاه تدلُ على فقرٍ معرفيٍّ مذهلٍ : فكتاب (صدام الحضارات) لصموئيل هنتنجتون وغيره من الكتابات المماثلة لإشخاصٍ مثل بول كنيدي وفوكا ياما هي خلطة من الكتابات الصحفية/ السياسية أكثر من كونها كتابات رصينة تقوم على معرفةٍ واسعةٍ بالحضاراتِ ودون أن تتوفر لدى أصحابها الرؤية التي تسمح لهم بان يروا آلية صنع سيناريو الحوار وعدم الإقتصار على سيناريو الصدام – ولا يعني ذلك أن سيناريو الصدام مستبعدٌ وإنما يعني أن سيناريو الحوار ممكنٌ إذا كانت الرؤيةُ في هذا الإتجاه وبُذلت الجهود الفكرية والثقافية لتدعيمه .
إن عالمَ اليومِ الذي يرفع شعارات مثل (الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) و(الحريات العامة) و(التعددية) ينبغي أن يدرك أن نبلَ هذه القيم لا ينفي أن تعاملَ الإنسانِ معها على أرض الواقع لا يزال في مرحلةٍ أُولى وهو ما يجعل الممارسات العملية تتسمُ أحياناً بنقيض تلك القيم وينطبق ذلك بوضوحٍ على قيمة التعددية إذ ترفعُ الحضارة الغربية لواءَ قيمةِ التعدديةِ بيدٍ ويرفع بعضُ أبناءِها لواءَ تنميطِ العالمِ بيدٍ أخرى ، وهي حالة إرتباك تعكسُ كون البشرية في مرحلةٍ أولى من مراحل نمو بعض هذه القيم .
فالتعدديةُ إذا كانت تعني (والأرجح أنها بالفعل كذلك) أن تعددَ المشارب والمذاهب والثقافات والأذواق والآراء وأساليب الحياة هي معلمٌ أساسيٌّ من معالمِ الحياةِ البشريةِ على الأرض بل ومن مصادر ثراء هذه الحياة فإن النتيجة يجب أن تكون (الخلاف في ظل الوحدة) والخلاف هنا ينطبق على ما ذكرته من مشارب ومذاهب وتوجهات أما الوحدة فتعني (الإنسانية) .. كما أن ذلك لا يمكن إلاِّ وأن يعني توسيع ثقافة إحترام الغيرية (Otherness) على أن يحدث ذلك بين كل الأطراف وبشكلٍ متكافئ في وقتٍ واحدٍ – وإحترام الغيرية يتناقض بداهةً مع أي محاولة لتنميط العالم . وجديرٌ بالتنويه هنا أن تنميط العالم ليس توجهاً عاماً للحضارة الغربية إذ لا تشارك فيه أوروبا الغربية وإنما هو توجه أمريكي في المقام الأول وليس له من مرجعٍ إلاِّ الفقر الأمريكي المذهل ثقافياً .
************
٥ نقد الذات آمنتُ منذ سنواتٍ طويلة وفي مرحلةٍ كان الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" وأعماله الفكرية العظيمة مركز إهتماماتي الفكرية أن عبارة هذا الفيلسوف الشهيرة : (إن النقدَ هو أهمُ أداةِ بناءٍ طوّرها العقلُ الإنساني) . إن هذه العبارة هي من أحجارِ الزاويةِ لنجاح وإزدهار أي مناخٍ تعليميٍّ وثقافيٍّ . ويقابل عبارة كانط في أدبياتنا الشرقية مقولة عمر بن الخطاب (رحم اللهُ من أهدى إلينا عيوبنا) بمعنى أنه يطلب الجزاء الطيب من الله لمن يفتح عيونَنا على عيوبنِا ووسيلة ذلك (النقد).
بعد أن ترسخ في تفكيري أن الجو الثقافي العام الذي يحفل بالعقل الناقد هو الجو الثقافي الذي يسمح بالتطورِ والتقدمِ والإزدهارِ - بعد أن ترسّخ ذلك الإعتقاد في بنية تفكيري ، جاءت تجربةُ عشرين سنةٍ من العملِ بمؤسسةٍ إقتصاديةٍ من أكبر عشر مؤسسات في العالم لتحول هذا "الإعتقاد الفكري" لواقعٍ معاش في كل لحظةٍ . فهذه المؤسسة التي تشبه كبريات المؤسسات الإقتصادية العالمية ولا سيما التي يرجع تاريخها لأكثر من قرنٍ ، هي مؤسسات لها ثقافتها الداخلية الخاصة . وقد أذهلني في كل يومٍ من أيام السنوات العشرين المذكورة أن أرى في كل لحظةٍ ومناقشةٍ وإجتماعٍ وحلقةِ عملٍ تشخيصاً كاملاً لأن (النقد هو أحد أكبر أدوات البناء) : فنقد الأفكار .. ونقد الخطط .. ونقد البرامج .. ونقد المشروعات قبل وأثناء وبعد تنفيذها هي عمليات لا تتوقف من أَجل (تقليل السلبيات) و(تعظيم الإيجابيات) . والتناول النقدي لكل شئٍّ ليس حقاً من حقوق "الكبار" أو "الرؤساء" فقط وإنما هو حق لكلِ ذي عقلٍ ، فمن مجموع العقول الناقدة يتشكل النجاحُ والتميّزُ .
ولا شك عندي أن "النقدَ" الذي هو بمثابةِ آلةٍ لا تتوقف عن البحثِ عن السلبياتِ وتقليلها ورصد الإيجابيات وتعظيمها يحتاج لمُناخٍ عامٍ يُعلّم أبناءَ وبناتِ المجتمع "النقد الموضوعي" أي الذي يهدف للتجويدِ المستمرِ وهو يختلف في روحِه ونسيجه ومنطلقاته وأهدافه عن النقد في بعض الثقافات التي تغلب عليها "الشخصانيةُ" وتقل فيها "الموضوعيةُ" ، إذ يكون "النقد" في هذه البيئات أداة هجوم وإنتقام وإنتقاص وتجريح. والمعوّل هنا على المناخ الثقافي والتعليمي العام وكيفية تقديمه للنقد - منذ الصغر - كأداةٍ عقليةٍ موضوعيةٍ تهدف لمصلحةٍ عامةٍ لا لمصلحةٍ شخصيةٍ .
وغيرُ مستغربٍ أن يكون المُناخ الثقافي العام الذي رسّخ قبولَ وإحترام "التعددية" أكثر إستعداداً لإفراز النقد الموضوعي كأداةِ تعاملٍ عقليٍّ مع كلِ الأشياءِ على خلاف "مجتمعاتِ الرأيِ الواحدِ" و"النموذج الواحد للحق والصواب" فإنها غالباً ما تفتقر لروح النقد البناءةِ والمتسمةِ بالموضوعيةِ أي توجيه النقد "للمواضيع" وليس "للأشخاص" .. وبهدف "التجويد" لا "كسب الحروب الشخصية بين الأفراد" . كذلك ليس بمستغرب أن تكون البيئاتُ الثقافية التي سميتها في فصلٍ سابقٍ بثقافاتِ النظمِ (لا الأشخاص) أكثر قابلية أيضاً لأفراز عملياتِ نقدٍ موضوعيةٍ تهدف للتحسينِ والتجويدِ .
وليس بجديدٍ أن أَقول أَن هناك علاقة وثيقة بين "ثقافاتِ النقدِ البناء" و"ثقافةِ الحراك الإجتماعي" : ففي المجتمعاتِ التي ينشط فيها هذا الحراكُ وينشط فيها تبادلُ المواقع بوجهٍ عامٍ وبين النخبِ بوجهٍ خاصٍ توجد مساحة أفسح لبذرِ ثقافةِ النقدِ البناء على خلاف المجتمعات المغلقة حيث يصعب على الإنسان أن يفرق بين "الموضوعي" و"الذاتي" لأنه مشغولٌ بالذاتي إنشغالاً يدخل تحت باب "أكون-أو-لا-أكون" ؛ وهو ما يجعل الموضوعية في النقدِ كالحلمِ المستحيلِ .
كذلك فإنني أربطُ بشدةٍ بين "قيم المتوسطين" والتي أشرت إليها من قبل فيما كتبته عن "الإتقان" وبين صعوبةِ إنتشارِ ثقافةِ النقدِ البناء : فالمتوسطون لا يستطيعون البقاء في ظلِ مناخٍ عامٍ يقوم على النقدِ البناءِ ، لأن إكتشاف حقيقة قدراتهم ومُكنهم ومواهبهم ستكون أول نتائج شيوع ثقافة النقد البناء - حيث ستعم معايير لا يقبلونها في التقييم .
وخلاصةُ القول هنا ، أن "النقدَ البناء" وإشاعة مناخ ثقافي عام يرحب بالنقد ويشجع عليه ويرسّخ (من خلال القدوةِ والتعليمِ) الدورَ الفعّال للعقليةِ الناقدةِ وما يعود على المجتمع ككلٍ من عظيمِ الفوائدِ من وجودها هو من أهم قيم التقدم – وككل قيم التقدم فإن ذيوعها يكون دائماً في حاجهٍ ماسةٍ للقدوةِ والمثل (في البداية) ولبرامجٍ تعليميةٍ تغرسها في العقول (لعموم ذيوعها مكانياً وزمانياً) .
************
٦ عالمية المعرفة (اطلبـوا العلـم ولو في الصـين)
حتى بالنسبة للذين يرفضون بعض جوانب ظاهرة العولمة فإن واقعَ الحياةِ في عالمنا المعاصر يؤكد ان العلم بكل معانيه ليست له حدود. فإنفتاح القنوات بين كل الجهات المتصلة بالعلم والبحث العلمي أصبح حقيقةً لا يمكن أن تنكر وإذا كنا نتكلم عن العلم بمعنى العلوم التطبيقية فلا يكاد يوجد معارضٌ واحدٌ للقول بعالمية المعرفة إزاء البحث العلمي في كل دوائر العلوم التطبيقية وفي مجالاتِ تطبيقاتها (التكنولوجيا). وكان العاملُ الأكثر حسماً في الوصول بعالمية المعرفة في مجالات البحث العلمي في العلوم التطبيقية لهذه الدرجة الرحبة تلك الصلة الوثيقة في المجتمعات المتقدمة بين البحث العلمي والحياة بوجهٍ عامٍ والحياة الإقتصادية بوجهٍ خاصٍ وهو ما جعل دائرة "البحث والتنمية" Research and Development تتسع حتى تصبح أوسع من دائرة البحث العلمي Scientific Research بمعناه القديم والذي يكون فيه البحث العلمي منبتَ الصلةِ بشكلٍ ما بالتوظيفات الحياتية للعلم وهي الغاية الرئيسية لما يعرف الآن بالبحث والتنمية (R&D) . فنظراً لأن المجتمعات المتقدمة قد أخرجت (بدرجةٍ كبيرةٍ) من الجدران المغلق للجامعات ومراكز البحث وجعلت العديد من مجالاته تدور وجوداً وعدماً مع التوظيف الحياتي/الإقتصادي/ الإجتماعي للعلم فقد أصبحت عالمية المعرفة في دنيا العلوم التطبيقية هي الحقيقة الكبرى . وهكذا أصبحنا نجد أن ميزانيات البحث العلمي المندرج تحت تسمية Research and Development) “R&D” ) من جهة تفوق ميزانيات البحث العلمي المجرد بكثير ومن جهة ثانية فإنها تنفق ليس عن طريق الدول وإنما المؤسسات الإقتصادية. وهكذا أصبح كل من يعمل في أي مجالٍ من مجالاتِ الصناعة أو التجارة أو الخدمات يبحث عن احدث تكنولوجيا العصر لتوظيفها في عملية تطوير وتوسيع أنشطته وتعظيم العوائد منها وهو ما يضاعف من إتساع معنى "عالمية المعرفة".
ولعلي لا أكون مبالغاً إذ أقول أن النهضةَ اليابانية في طورِها الذي أعقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية كانت من أكبر أصحاب الفضل على مفهومِ عالميةِ المعرفة إذ سعت اليابان إلى العلم والتكنولوجيا في كل موضع في الأرض لتحصل عليه وتهضمه وتوظفه بأشكالٍ مذهلةٍ - وهو ما كان عصب التقدمِ الياباني في السنوات التي تلت 1945. وفي مجالِ العلوم الإجتماعية فإن الأمرَ يبدو مختلفاً بعض الشيء إذ تدخل الإعتبارات الحضارية والثقافية في النظرة للعلوم الإجتماعية - ورغم صحة ذلك بشكلٍ نسبي إلاَّ أن دوائراً جديدةً نمت داخل عوالم العلوم الإجتماعية حققت ما حققته العلوم التطبيقية في عالمية المعرفة: فعلومُ الإدارةِ الحديثةِ وعلوُم الموارد البشرية والتسويق والكثير من الأفكار الإقتصادية تمكنت أن تعبر الحدود وتحقق لهذه الفروع من العلوم الإجتماعية قدراً هائلاً من "عالمية المعرفة" نظراً لإتسامها بقدر كبير من عدم الصبغة الثقافية "Culture Free" ولعظيم مردوداتها الحياتية - ولا ينفي ذلك أن بعض فروع العلوم الإجتماعية قد ظلت "بين بين" لشدة إتصالها بالأبعاد الثقافية والحضارية وإن كان ذلك لا ينفي ان تغلغلاً غير يسير للبعد العالمي في هذه العلوم قد تحقق. ومقاومة "عالمية المعرفة" قد تبدو للبعض لاسيما في الواقع العربي سمة طبيعية من سمات المجتمعات القديمة - ولكن من الأرجح أنها ليست كذلك: فالصين مجتمع قديم ولكن الواقع يؤكد أن الجاليات الصينية في جنوب شرق آسيا كانت هي طليعة الطفرات التي قامت على قيم من أهمها عالمية المعرفة… واليابان مجتمع قديم ولكنه المجتمع الرائد في عدد من قيم التقدم وفي مقدمتها عالمية المعرفة … وكذلك الهند التي رغم كونها مجتمعاً قديماً وذاخراً بالمشكلات الإجتماعية فقد كانت المؤسسات العلمية فيها نموذج نادراً للمؤسسات العلمية التي لم تتدهور في العالم الثالث وكانت جسورُ البحوث العلمية والتكنولوجية ممتدة بينها وبين العالم وهو ما أدى إلى الكثير من الإنجازات لعل أهمها الإنجاز الهندي في صناعة السلاح ثم التألق الهندي الفذ في عالم الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات. وتفسيري الخاص أن المجتمعات العربية بقت بعيدة إلى حد بعيد عن مزايا عالمية المعرفة بسبب التدهور الكبير في مؤسساتها التعليمية ومراكز البحث العلمي كنتيجة لخضوع هذه المؤسسات والمراكز للحياة السياسية في هذه المجتمعات وهو ما جعل هذه المؤسسات والمراكز منبتة الصلة بحركة العلوم في العالم كما استأصلت روح الإبداع منها وحولتها إلى كيانات راكدة تفرز تعليماً لا علاقة له بالعصر والحياة ومنبت الصلة بحركة البحث العلمي في كل مجالات العلوم التطبيقية والإجتماعية وكانت الترجمة النهائية لذلك هو الغياب العربي المطلق في دوائر الإنجازات العلمية والبحوث المتألقة في كل مجالات العلوم التطبيقية ودوائر بحوث العلوم الإجتماعية على السواء.
************
٧ التقدم الإداري كما أن القيم التي حاولت إلقاء بعض الضوء على ما أظنه من أهمها هي من "قيم التقدم" بوجهٍ عامٍ ، أي من القيم التي ينبغي أن تغرس في المناخ الثقافي والتعليمي العام حتى تكون البيئة مهيأة لحركة المجتمع إلى التقدم المنشود ، فإن ذات القيم الست هي أيضاً من ركائز قيم العمل الحديث أو من قيم التقدم الإداري . وعليه ، فإن القيم الخمس التي أُسلط بعض الضوء عليها في هذه الجزئية تحت عنوان "قيم العمل الحديث" يجب أن تسبقها "القيم الست الأخرى" بحيث يكونون معاً "قيم العمل الحديث" الإحدى عشر .
٧.1 عمل الفريق : خلال سنوات عديدة من العمل في بيئة دولية بكل ما تعنيه الكلمة من معان حيث يعمل معاً آلاف الأشخاص الذين ينتمون لدول عديدة ولثقافات بالغة التباين تكشف أمام عيني بوضوح ضعفنا الشديد (كمصريين) فيما يتعلق بالعمل الجماعي أو عمل الفريق. فبينما تسهل هذه العملية بشكل هائل عند معظم الأفراد القادمين من آسيا (ولاسيما من خلفية يابانية أو صينية) وبينما يسهل ذلك أيضاً على شعوبٍ أخرى كالأوروبيين وغيرهم، فإن تجربة العمل اليومي لسنواتٍ عديدة في هذه البيئة متعددة الجنسيات كانت تجسد أمام ناظري الصعوبة البالغة لدى معظم المصريين للانخراط في عمل جماعي وكأعضاءٍ في فريق عمل. فمنذ اللحظات الأولى، تظهر على السطح "صدامات الأنا" بشكل بارز للغاية ...كما تظهر على السطح رغبة كل فرد في أن يتأكد من أنه في حالات النجاح سيكون صاحب هذا النجاح أما في حالات الفشل فإن غيره سيتحمل التبعة!.. كذلك كانت الأمور تدل بوضوحٍ أن أحداً لا يقبل أن يكون عمله (أو تكون مساهمته) مجرد أمر مكمل لأداء الآخرين. وفي مئات الحالات، كانت الأمور تصل إلى حالة من التأزم يطلب فيها البعضُ إما خروجهم من الفريق أو خروج شخص أو أشخاص آخرين وإلاَّ !! فإن الفشل النهائي مؤكدٌ (!!). وكان عدم حدوث ذلك من أفراد ينتمون لخلفيات أخري مثل البريطانيين والآسيويين والألمان وغيرهم عاملاً يزيد من ظهور ملامح الصورة : وهي صعوبة انخراط معظم المصريين في عمل جماعي وصعوبة أن يقبل أحدُ أن "الشكر" على الإنجاز (في حالة النجاح) سيكون من نصيب (فريق عمل) وليس (شخصاً محدداً)! (هو المتحدث في كل حالة).
ولما كانت علومُ الإدارةِ الحديثةِ تقوم على مجموعةٍ أساسيةٍ من الركائز من أهمها (العمل الجماعي) أو (عمل الفريق) ... فإن تطبيق تقنيات علوم الإدارة الحديثة على أعدادٍ كبيرةٍ من المصريين يبقى أمراً صعباً بإستثناءِ حالات وجودهم بالخارج إذ لا يكون أمامهم إلا (الاستسلام المطلق) لمفردات نظم العمل في تلك البيئات الخارجية وإلاَّ لفقدوا عملهم على الفور. وفي هذه الحالات، فإن بعضهم ينجح ويتألق وتعاوده "جرثومةُ الفردية" التي عرفها لمدد طويلة... فينسب نجاحه لنفسه فقط ، متناسياً أنه لم ينجح بتلك الكيفية إلا في تلك "البيئات الصحية" التي فرضت عليه قيم العمل الحديث وتمكنت من استخراج أفضل ما فيه من مكنٍ وقدرات. ولا تزال كلمة أستاذ يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ترن في أذني عندما قال لي (في أواخر 1999): (أن أحمد زويل بكل المعايير عقل علمي فذ ، ولكن على كل إنسان أن يتذكّر أن هناك 17 إنساناً في نفس المعهد الذي فيه أحمد زويل قد حصلوا على جائزة نوبل في مجالات علمية - وهو ما يعني أن "معجزة النظام" لا تماثل فقط بل وتتفوق على "معجزة الفرد" - وان كانتا مطلوبتين في نفس الوقت وإلاَّ ما تحققت النتيجة). كذلك فإن أحمد زويل نفسه لم يكف عن الحديث عن "فريق العمل" الذي بدونه ما كان له أن يبلغ ما بلغ، كما أنه كان يضيف دائماً (وهو رأي بالغ القيمة) أن "بيئة العمل والبحث العلمي في معهده" هي صاحبة فضل لا ينكر وراء حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1999. ولكننا أبناء (ثقافة الأشخاص) لذلك فإننا ننسى كل جوانب القصة ونركز على "الفرد" لإننا منذ أكثر من خمسين قرناً نفهم (ونقدس) الفراعين في كل مجال ولا نولي أي اهتمامٍ بالنظمِ التي هي المنتج الأول للنجاح والتقدم والإنجازات العظمى ولا توجد آليات لعلاج هذا العيب الكبير في مكوناتنا إلا ما ذكرته في أكثر من فصل من فصول كتبي: "القدوة" (كأداة تطوير على المدى القصير) و "التعليم العصري" (كأداة تطوير على المدى المتوسط âالقدوة" فهي ليست والطويل).
أما #جرد كلمة عامة مُبهمة ومجردة وإنما هي ترجمة كلية لمديرٍ عصريٍّ تكّون وفق معطيات وثقافة علوم الإدارة الحديثة والتي تجعل كل رئيسِ عملٍ في موقعه مسئولاً عن إدارة العمل بشكلٍ "يجمّع" العاملين في مجموعات أو فرق عمل تربط بينها روابط التآلف والتكامل في مقابل رؤساء عملٍ آخرين يعملون على تعظيمِ الفردية والتشرذم وخلق ولاءات فردية مباشرة بين كل إنسان في التنظيم ورئيس العمل . إن المدير العصري الذي تكّون وتدّرب وفق روح وثقافة ومعطيات وتقنيات علوم الإدارة الحديثة تكون من أهم مهامه خلق هذه الروح أي روح الفريق بينما ينخرط معظم رؤساء العمل لدينا في خلق روحٍ مغايرة يكون العاملون فيها جزراً مستقلة ومنعزلة عن بعضهم ويكون إتصالهم الوحيد برئيس العمل فيما يمثل له بصفةٍ شخصيةٍ مصدرَ قوة وعزوة ويُعظم من مكانته الخاصة على حسابِ إهدارٍ كلي لروح العمل الجماعي وثقافة الفريق .
وتستمد هذه الثقافة السلبية منابعها من فقر وضعف التعليم الإداري الحديث لدينا وكون معظم القيادات (مجرد رؤساء في العمل) وليسوا (مديرين تنفيذيين عصريين) ، كما تستمد وقودها من ثقافةِ القريةِ المصرية حيث كان "العمدةُ" لعقودٍ طويلةٍ يعمل بنفس الطريقة وهي إيجاد قنوات إتصال بين الآخرين وبينه فقط مع إعتبار أي نمط آخر بمثابة مخالفة للولاء اللازم وإضعاف لهيمنته الوحيدة . إن علوم الإدارة الحديثة قد وصلت في المجتمعات الأكثر تقدماً إلى إكتشاف و تكوين (مدير تنفيذي عصري) يصعب على كثير من الناس في واقعنا أن يتفهموا ما الذي يقومُ به إذ أنه في الحقيقة لا يبدو على السطح وكأنه يقوم بالكثير من الأعمال وإن كان بمثابة المايسترو لفريقٍ تتوافر فيه صفتان هامتان : الكفاءة العالية لكل فرد على حدة .. والعمل المشترك كفريقٍ واحد .
وكاتب هذه السطور و بحكم كونه أحد أولئك المديرين التنفيذيين الذين قيضت لهم فرصة العمل والتدريب و التكوين في قلب مؤسسة من تلك المؤسسات التي أعاود الإشارة إليها، كان (و لسنوات عديدة) مسئولاً عن أعمال ومشروعات بمليارات الدولارات وكان وقتي أبعد ما يكون عن الإزدحام بالمواعيد والإجتماعات وكان مكتبي خالياً من الأوراق رغم مسئوليتي عن حجم أعمالٍ يومي بأكثر من مائة مليون دولار بينما كنت أرقبُ مسئولين في مواقعٍ أخرى يديرون أعمالاً ومشروعات بكم لا يبلغ واحد في المائة من هذا الحجم والقيمة وكنت أجدهم غارقين في الإجتماعات والأوراق والملفات وكنت ولا أزال أقول أنهم منشغلون بالقيام بأعمال غيرهم .. وأنهم مع نسفهم لثقافة العمل الجماعي والفريق من جهة وعدم إيمانهم بالتفويض من جهة ثانية فقد أصبح من المُحتم أن يجلسوا ثلاثة أرباع النهار كل يوم وسط جبالٍ من الملفات والأوراق .. ومع ذلك فإن نتائجهم النهائية هي في بعض الأحوال "متواضعة" وفي معظمها "مخجلة" .
إن زرعَ وبثَ ونشرَ روح وثقافة العمل الجماعي وأسلوب عمل الفريق يبدأ من تكوين كادرٍ بشريٍّ من المديرين التنفيذيين العصريين الذين يفهمون فكرةَ (الرئيس في العمل) حسب مفهومها العصري الحديث وليس حسب مفهومها الفرعوني أو القرون أوسطي حيث يكون الرئيس في العمل هو (كل شئ) ويكون مساعدوه ومساعدو مساعديه (محض لا شئ) . وبدون هذه الثورة الإدارية في هذا المجال فإن كل محاولات تطوير بيئة العمل لدينا في إتجاه العمل الجماعي وروح الفريق سوف تفشل لأن الذين على رؤوس التنظيمات الإدارية لا يريدون لها إلاِّ أن تفشل لتبقى الحبال (كل الحبال) في أيديهم ويكونوا هم فقط (آباء النجاح) أما الباقون فمجرد تروسٍ صغيرةٍ معاونةٍ .
وكما أن القدوة عن طريق كادرٍ بشريٍّ متميّزٍ من المديرين التنفيذيين العصريين هو أمرٌ لازمٌ فإن ثورة تعليمية تبثُ في الأجيال الجديدة تقديس العمل الجماعي وتؤسس المسألة التعليمية برمتها على أسلوب فرق العمل هو الأمر اللازم الثاني لإنتقالنا من ثقافة العمل الفرعوني الفردي إلى دنيا العملِ الحديثةِ القائمةِ على عملِ الفريق وتعظيمِ الفوائدِ من تفاعلِ العقولِ والخبراتِ والقدراتِ .
منذ أكثر من عقدين من الزمان ذهبتُ لأولِ مرة لدراسة أحدث تقنيات علوم الإدارة الحديثة بأكبر معهد متخصص (The International Management Institute of Geneva University) في هذا المجال في أُوروبا ومن اليوم الأول أنتابتني فكرةُ أن هذا المكان لا يمكن أن يكون ممتازاً كما يُشاع عنه لأنه كان على نقيض طرق وأساليب التعليم التي عشت معها في مرحلتي الشهادة الجامعية الأولى والماجستير في واحدةٍ من الجامعاتِ المصرية : فقد كنتُ أنا الآتي من بيئة الدراسة الأكاديمية المصرية أتوقع أن يكون الأستاذ (جهة إرسال) .. وأن يكون الدارسون (جهة إستقبال) لاسيما وأن مصاريف هذا البرنامج الدراسي كانت بمئات الآلاف من الدولارات. إلاِّ أنني وجدت النقيض من اللحظة الأولى: فلم يكون الأساتذة (مرسلين) .. ولم يكون الدارسون (مستقبلين) .. وإنما كانت كل جلسات الدراسة تبدأ بتسليط الضوء على مجموعة من المفاهيم والمواضيع والإشكاليات ثم يتم تقسيم الدارسين إلى مجموعات عملٍ تذهب كل مجموعة منها إلى غرفة مستقلة ويكون أمامها قدر من الوقت لدراسة الإشكاليات المطروحة وإستعمال المكتبة وتكوين ورقة تمثل مجموعة الدارسين معاً يشتركون على قدم المساواة في إعدادها ثم يختارون أحدهم لتقديمها وعرضها نيابةً عنهم.
وكان إنطباعي الأول مزيجاً من الدهشة : فكيف تُنفق مئات الألوف من الدولارات على تعليم بسيط وهزلي مثل هذا !! .. إلاِّ أن الأسابيع والشهور التالية جعلتني أرى أن هذا الأسلوب في التعليم هو الذي يُفرز النماذج البشرية التي تقود العالم في كل المجالات لأنه الأسلوب الذي يُفرز (المبدعين) و(المؤمنين) و(المتعاونين) على نقيض الأسلوب الذي يُفرز ا|لإنسان الذي يُجيد التلقي والتبعية ويكبت في نفسه قدرات الخلق والإبداع كما يحفز في شخصه عوامل الفردية الهدامة لكي يكون الفائز بتقديرات النجاح بينما يترك عار التأخر لزملائه . هذه البيئة العلمية هي التي تُفرز أفضل عناصر البيئة العملية .. فما العمل إلاِّ إستمرار لمراحل التعليم الأولى : إذ أن وحدات العمل هي الجهة التي تتلقى المنتج النهائي للمؤسسة التعليمية (الإنسان) بعد أن تمت صياغته وتشكيله إما بشكل إيجابي أو بشكل سلبي . وهكذا يتضح أن العمل الجماعي أو عمل الفريق هو ظاهرةٌ ترتبط بنسيج ثقافةِ المجتمع من جهةٍ (فقد لاحظ علماءُ الإدارةِ الحديثة بوجهٍ عامٍ وعلماء إدارة الجودة بوجهٍ خاصٍ أن الشعوب الصينية واليابانية لديها إستعداد كبير جداً للعمل الجماعي - ولكنها صفة مُكتسبة (من تراكمات بناء الثقافة العامة لمجتمعاتهم) وليست صفة طبيعية . كذلك يمكن النظر للعمل الجماعي أو عمل الفريق من وجهة نظر أساليب الإدارة المُتبعة في المؤسسات الحكومية والمؤسسات الإقتصادية أيٍّ كانت طبيعتها . وثالثاً فإن هناك زاوية أخرى لتناول موضوع العمل الجماعي أو عمل الفريق وهو فلسفة التعليم وتقنياتها . ومن ناحية رابعة فإن "القدوة" التي تمثلها القيادات التنفيذية في المجتمع هي عامل حاسم من عوامل بقاء الأمور على ما هي عليه أو تطورها تجاه ثقافة العمل الجماعي .. وخامساً وأخيراً فإن هناك صلة بين موضوع العمل الجماعي ودرجة نمو الديمقراطية في المجتمع ، فكلما زاد الهامش الديمقراطي كان بوسع الذين يريدون تأصيل العمل الجماعي كمعّلم من معالم المجتمع أن يحققوا ذلك لأن المجتمعات غير الديمقراطية تكون مجالات العمل فيها مغلقة من أعلى بمعنى أن الحركة في كل التنظيمات من أسفل إلى أعلى إما أن تكون بطيئة أو شبه معدومة وهو ما يفرضُ مُناخاً معارضاً للمناخ الأمثل للعمل الجماعي – وهكذا نكون أمام حالة جديدة من المشكلات التي ليس لها سبب واحد وليس لها علاج واحد وكأننا بذلك نردد مع الفيلسوف الأمريكي/ الألماني هيربرت ماركوز ما كتبه وأعلنه مراراً منذ ثلاثين سنة عندما قال : أن نظرية السبب الواحد قد سقطت نهائياً في مجالات الفكر الإنساني برمتها .
٧.2 الإهتمام الفائق بالموارد البشرية : إذا كانت "الإدارة" هي عصب النجاح في كل مؤسسات المجتمعات المتقدمة، فإن "التوظيف الأمثل للبشر" هو الأَداة التي تكون وراء "نجاح" أو "فشل" الإدارة. وقد تشعبت "علوم الموارد البشرية" وصارت تغطي مواضيعاً عديدة مثل (إختيار العاملين) و(التدريب) و(تقييم الأداء) و(الموارد البشرية والتنظيم) و(إكتشاف القدرات القيادية) وعشرات المجالات الفرعية لواحدٍ من أهم مجالات الإدارة الحديثة وهو مجال الموارد البشرية.
وتقوم علوم الموارد البشرية الحديثة على ركائز أساسية مثل الإيمان بأن كل إنسان في العالم توجد مسافة واسعة بين "أدائه الآني" و"قدراته غير المكتشفة"، وأن من أهم مهام الإدارة إكتشاف تلك "المسافة" والعمل على تنميتها عن طريق الموائمة بين الإنسان وأنسب المجالات له من جهةٍ وعن طريق التدريب المستمر من جهةٍ أخرى.
كذلك تقوم علومُ الموارد البشرية الحديثة على الإعتقاد بأَن أي فردٍ من الناس هو في النهاية واحد من أفراد مجموعة من مجموعتين أساسيتين هما "مجموعة المتخصصين" (The Specialists) و"مجموعة العموميين" (The Generalists) – مع التسليم بأهمية كل منهما وضرورة تواجد أفراد ينتمون للمجموعتين لوجود تنظيماتٍ ناجحةٍ ومزدهرةٍ وفعّالةٍ ومتطورةٍ.
كذلك تقوم علوُم الموارد البشرية الحديثة على الإعتقاد بأن هناك تفرقة أساسية بين "القدرة" (Potential) و "الأداء" (Performance) – وبينما يمكن الرقي بمستويات ومعدلات "الأداء"، فإن أقصى ما يمكن عمله مع "القدرة" هو إكتشاف وجودها أو عدم وجودها. ويكون من أهم مهام الإدارة العليا في المؤسسات العصرية إكتشاف أصحاب القدرات العالية في زمن مبكر لتوجيههم للمناصب القيادية وإعداد برامج التدريب المطلوبة لصقل امكاناتهم وإضفاء ثراء الحرفية (Professionalism) عليها .
ومن مجالات علوم الموارد البشرية المهمة موضوع التحفيز أو التحميس (Motivation) بجوانبه المادية والأدبية المختلفة.
ويختلف دور "الرئيس" أو "القائد في العمل" في المؤسسات الحديثة عن دوره في البيروقراطيات التقليدية – ففي هذه الأخيرة يقوم الرئيس في العمل بتركيز أكبر قدر من السلطة المركزية في يده ويقوم عبر السنين بتحويل العاملين معه إلى جيش من "الأتباع" (Followers) بينما يكون دوره في المؤسسات التي تعمل بتقنيات علوم الإدارة الحديثة قائماً على التفويض والقيام بأقل قدر من العمل المباشر والتركيز على التفكير الإستراتيجي وكذلك العمل بأسلوب "المايسترو" أكثر من أسلوب "القائد العسكري".
وإذا كانت البيروقراطيات التقليدية تخلق أتباعاً (Followers) فان الإدارة الحديثة تهدف لخلق كيان من الموارد البشرية ويكون أفراده بمثابة "مؤمنين حقيقيين" (Believers) برسالة وأهداف مؤسستهم كما أن كل منهم يتولد لديه شعور بأن عمله ليس مجرد أداء واجب وإنما هو "أمر يملكه" ويملك آفاق نجاحه عندما ينجح، ويسمى هذا الشعور بملكية الإنسان للعائد الأدبي لنجاحه في العمل في مصطلحات علوم الإدارة الحديثة (Ownership) وغير خاف أنها "استعارة مكنية" ذات دلالة واضحة للغاية.
وبإختصار شديد، فان "الإدارة الحديثة" لا تنظر للموارد البشرية كآلات وإنما تنظر إليهم بصفتهم "العامل الأكبر" للنجاح أو الفشل وانهم كما يصنعون النجاح ( أو نقيضه) فإن من حقهم التمتع بمزايا وصيت هذا النجاح. وعن طريق هذه النظرة للبشر، لا يكون هناك إعتقاد أن للتقدم والنجاح والإزدهار سبل آخرى أهم من "البشر". فالمجتمع الفقير المتخلف يكون كذلك لأنه لم يخلق مناخاً مثالياً لأبنائه - للعمل والعطاء ، والعكس صحيح تماماً. فليس ثراء الأمم منوط بثروات طبيعية وأموال مكدسة من الماضي – وإنما ثراء الأمم بثراء مواردها البشرية، وثراء الموارد البشرية "عملية" تتم بالتخطيط والتنفيذ الدقيق لنظم تكتشف أفضل ما في الناس من قدراتٍ وتطورهم وترتقي بمكنهم وتعمل على تحفيزهم.
٧.3 التفويض : تحاول كل قيم علوم الإدارة الحديثة أن توظف الإنسان (كل إنسان) بأفضل شكل متصور لذلك فإنها توجه إهتماماً كبيراً للتدريب ومحاولة إكتشاف القدرات الكامنة في كل إنسان والتحفيز (Motivation) وذلك إيماناً منها بأن الثراء الحقيقي هو في جعل كل إنسان قادراً على إخراج أفضل ما لديه من قدرات ومواهب وكذلك إيماناً بأن تلاقح الأفكار هو أمر بالغ الإثراء للعمل والحياة وكل ذلك يهدمه بالكلية النموذج المركزي في الإدارة والذي عاشت معه عقوداً طويلة مؤسسات العمل في كثير من المجتمعات ويميل البعض لأن تكون هذه المؤسسات قد أستوردته بشكل ما من المؤسسات العسكرية . لذلك أصبح التفويض (Delegation) هو عصب من أهم أعصاب الإدارة العصرية الناجحة، فالتفويض هو الذي يعكس كل القيم التي ذكرتها آنفاً والتي تؤدي إلى تحول مجموعات العمل من جيوش من الأتباع (Followers) إلى فرقٍ من المؤمنين (Believers) - والإبداع يكون مع الثقافةِ الثانية ويتعذر مع الأولى.
وفي النظمِ الإداريةِ الحديثةِ حيث يقوم رؤساءُ العمل بتفويض سلطاتهم للآخرين يختلف دور رئيس العمل كليةً إذ يصبح بمثابة"مايسترو" لا "عازف على كل الآلات" . ويصل التفويض في المؤسسات العصرية إلى درجةٍ يبدو معها رئيس العمل وكأن لا عمل له، وهو إستنتاج خاطئ لأن له عمل هام هو قيادة التفكير الإستراتيجي وليس القيام بأعمالٍ يستطيع الآخرون القيام بها وفي أغلبِ الأحوالِ بشكلٍ أفضل.
ولا أعتقد أنني أبالغ إذ أقول أننا إذا إفترضنا توفر كل قيم الإدارة الحديثة دون التفويض فإن المعبد سينهار لا محالة إذ أن التفويض هو الذي يترجم معظم قيم الإدارة الحديثة.
ولكن الواقع يؤكد أيضاً أن التفويض صنو التدريبِ : فتفويضٌ بدون تدريب لا مآل له إلاَّ الإخفاق.
٧.4
جلوس علم التسويق على مقعد القيادة : تختلف الدول التي أحرزت تقدماً هائلاً في المجال الإقتصادي (عن طريق إنتاج "مُنتجٍ" أو تقديم "خدمةٍ" .. ثم في مراحل تالية عن طريق "تكنولوجيا المعلومات") عن الدول التي أنفقت المليارات على "ترسانات صناعية" لم يكن لها من مآل إلاِّ الفشل في أن الأولى كانت تمارس أنشطتها وعقلها مركز على نهاية العملية أي "التسويق" أَما الآخرون الذين أخفقوا فقد كانوا يمارسون أنشطتهم وهم مشغولون ومنشغلون ببداية العملية أي "الإنتاج" . ويمكن تلخيص الفارق بين إقتصاديات دول ما كان يعرف بأوروبا الشرقية (قبل سقوط الكتلة الشرقية في أواخر ثمانينات القرن الماضي) ودول أوروبا الغربية (وكذلك اليابان ودول جنوب شرق آسيا) في كون الأولى "مُسيّرة إنتاجياً" (Production Driven) بينما كانت الثانية "مُسيّرة تسويقياً" (Marketing Driven) ولا يشك أي عالم من علماءِ الإدارة الحديثة في أن مآل كل الذين يُسّيرون إنتاجياً (لا تسويقياً) هو الفشل والإفلاس وأن مآل الذين يسّيرون تسويقياً هو النجاح والنمو والتوسع .
وإذا كانت "الإدارةُ" هي سر نجاح (أو فشل) المجتمعات بوجهٍ عامٍ والإقتصاد بوجهٍ خاصٍ فإن "التسويق" هو "مخُ الإدارة" بمعنى أن الإدارة الناجحة هي التي تكون من الناحية الإستراتيجية ومن ناحيةِ القدراتِ والمُكنِ "مُسيّرة تسويقياً" .
وتستلزم هذه القيمة من قيم التقدم الإداري توفر زميلات لها من نفس مجموعة القيم فالتسويق الناجح مهمة مستحيلة لمن يكونون محليون وغير منفتحين على العالم ولا يحوّلون قيمة أُخرى من قيم التقدم هي الإيمان بعالمية المعرفةِ إلى واقعٍ يعيشونه ، فكيف ينجح في التسويق على نطاقٍ واسعٍ من لا يعرف الكثير عن الآخرين : عن منافسيه وعن أسواق الدنيا ومتطلبات تلك الأسواق وعلاقة ذلك بثقافات هؤلاء الآخرين الذين نذهب إليهم بمنتجاتنا أو خدماتنا ؟ .. وكيف يكون عندنا نموذج واحد لكل شئٍ من الأشياءِ (وهذا نقيض التعددية") وننجح في التسويق الذي يقوم على الهدف الأسمى لعلم إدارة الجودة وهو (التلاقي مع توقعات ورغبات متلقي المنتج أو الخدمة) ؟
٧.5 الإيمان المطلق بفاعلية الإدارة : ما أكثر العبارات الصحيحة التي يكررها الناسُ دون أن يكونوا مدركين للمعنى والجوهر الحقيقيين لما يرددونه . ومن أشهر هذه العبارات في واقعنا أن مشكلةَ المشكلاتِ في حياتنا هي "الإدارة ". فرغم أن ذلك صحيحٌ بنسبةِ مائة في المائة إلا أن أبسطَ حوارٍ تفصيلي مع معظم مرددي هذه العبارة يوضح أن العبارة السليمة تعني في تفاصيلها أشياء أخرى عند مردديها .
والحقيقة أن العبارة كما أسلفت صائبةٌ تماماً : فمشكلةُ المشكلاتِ في حياتنا بوجهٍ عام وفي حياتنا الإقتصادية بوجه خاص أن أساليبَ وتقنياتِ علومِ الإدارةِ الحديثةِ وعلومِ التسويقِ العصريةِ غائبةٌ بشكلٍ كبيرٍ: غائبة في الإدارات الحكومية …وغائبةٌ في القطاع العام … وغائبةٌ في القطاع الخاص … وغائبةٌ في كل المجالاتِ الخدمية .
ولا شك عندي أن دولَ الكتلة الشرقية بقيادةِ الإتحاد السوفييتي ومن وراءه فيلق أتباعه قد إنهار في أواخرِ ثمانينات القرن العشرين بسببٍ محددٍ هو غياب الإدارة الفعّالة في كلِ مرافقِ العالم الإشتراكي وبالتحديد في المؤسساتِ الإقتصاديةِ التي أدى غيابُ الإدارة الفعّالة فيها إلى حالةِ إفلاسٍ أخذت المعبد بكل أركانه وعواميده وسقطت سقوطاً مدوياً في مستهل العقد الأخير من القرن العشرين.
وفي المقابل فإن العالمَ الغربي المتقدم ومعه تجارب آسيا المتألقة قد بلغت ما بلغت من آفاقِ التقدم والإزدهار الإقتصادي وما نتج عن ذلك من وجودِ طبقةٍ وسطى قوية وراسخة – لا شك أن مرجع ذلك إنما هو في المقام الأول لتوفر نظم إدارة وتسويق عصرية فعالة قادرة على خلقِ النجاح والثروة . و من الجدير بالذكر هنا أن الإدارةَ العصرية الفعّالة ليست فقط قادرة على تحقيق التقدم والإزدهار الإقتصاديين وما ينتج عنهما من نتائج إجتماعية إيجابية وإنما هي أيضاً قادرة على التعامل مع الأزمات والكبوات ، فبالإدارة فقط تجاوزت دول جنوب شرق آسيا كبوتها الإقتصادية في فترةٍ زمنيةٍ قياسية ومن قبلها تجاوزت المكسيك أزمتها في وقتٍ كان البعضُ لدينا يردد آيات التفاخر بأننا نسير بخطواتٍ محسوبة على خلاف المكسيك ودول جنوب شرق آسيا – وقد أثبتت تجربة المكسيك ودول جنوب شرق آسيا أن الذي سار في طريقٍ معينةٍ بمنهج علمي واضح يستطيع إن تعرض للأزمات أن يعود ليسير في نفسِ الطريق لأنه وإن كان قد عاد للوراء بعضَ الشيء إلا أنه لم يفقد المنهج.
ولكن ما معنى النجاح ؟
لابد ابتداءً من لفت الانتباه إلى أن اللغة العربية تترجم مصطلحين إنجليزيين هما (Management) و (Administration) بكلمةٍ واحـدةٍ هـي (الإدارة). من هنا ينبع سـوءُ الفهم. فبينما تعني كلمـة (Administration) مجموعة القواعد التي تحكم سير العمل مثل لوائح ومواعيد العمل ودرجة الإنتظام وغيره من سيل الخدمات الإدارية التي تحيط بالعمل فإن كلمة (Management) تعني شيئاً مختلفاً كليةً إذ أن معناها الحقيقي هو تحقيق النتائج المرجوة والتي هي بالتحديد في شكل عائدٍ إقتصاديٍّ محددٍ مع عملية نمو موازية عن طريق أدوات علوم التسويق العصرية .
وبالتالي فإننا إذا نظرنا إلى كلِ المؤسساتِ الإقتصاديةِ التي أنشئت في دول التخطيط المركزي (الإقتصاد الموجه) وأثار إعجابنا حجم المنشآت والآلات والمعدات وعدد العاملين كنا كمن ينظر إلى المسألةِ في أفضلِ الأحوالِ من زاوية الـ (Administration) لأن كل ذلك لا معنى له من منظورِ علومِ الإدارةِ الحديثة (Management) ما لم نسمع معلومة محددة وهي أن تلك المنشآت والمعدات والآلات تحقق سنوياً عائداً لا يقل عن عوائدِ المصارف على الإيداعات .
ومن المهم للغاية أن نعرف أن أي مشروعٍ لا يحقق عائداً على الإستثمار يفوق عوائد إيداعات المصارف سوف يصل حتماً إلى مرحلة الإفلاس ويصبح عاجزاً عن أداء مهمته الإقتصادية ومهامه الأخرى وفي مقدمتها القدرة على التشغيل وخلق فرص عمل جديدة.
وإذا كان البعضُ يفتخر بحجم المنشآت الإقتصادية التي تمت في ظروفٍ معينةٍ ولم تتمكن (بسبب غياب الإدارة الفعّالة) من تحقيق عوائد إقتصادية تفوق عوائد إيداعات المصارف فإننا نقول له أن موقفك هذا غريبٌ وعجيبٌ لأنك تفتخر بالإنفاق وكان الأجدر بك ان تفتخر بالنتائج والعوائد والتي كانت في معظمِ الأحوالِ متواضعةً بشكلٍ كبيرٍ هو الذي أدى لفشل التجربة برمتها.
وبديهي أن المجتمعاتِ التي تخلط بين مفهوم الإدارة بمعناه هذا الذي وضحناه وبين الضبط والربط والإنتظام هي في حاجة لأن تعلم أن الضبط والربط والإنتظام رغم أهميتها لا تخلق ثروةً إقتصاديةً إذ أن السبيلَ الوحيد لخلقِ الثروةِ الإقتصادية هو العمل وفق أساليب وتقنيات علوم الإدارة والتسويق الحديثة.
إن المدير العصري مثله مثل الطبيب والمهندس والمعماري إنسانٌ يتكون وفق معطيات الإستعداد الشخصي مع زخم من التعلم والتدريب وبذلك فإن مجردَ الترقية لوظيفةٍ عليا لا يعني أننا بصدد مديرٍ تنفيذي عصريٍّ قادرٍ على قيادةِ العملِ والتخطيطِ لتحقيق الأهداف المنشودة على مستوى الربحيةِ والنمو مع ما يوازي ذلك من إهتمامٍ فائقٍ بتنميةِ أهم عناصر النجاح وأعني الموارد البشرية.
ومن الملاحظ أن غيابَ الإدارة العصرية الفعالة في واقعنا لا يقتصر على الإداراتِ الحكوميةِ التي تسوم المواطنين شتى صنوف العذاب عند تعاملهم معها وإنما تغيب الإدارةُ الفعّالة أيضاً عن الوحدات الإقتصادية المسماة بالقطاع العام والأفدح إنها تغيب بنفس القدر عن الدكاكين الإقتصادية التي يسميها البعض بالقطاع الخاص بينما هي أبعد ما تكون عن روح ونظم وآليات المؤسسات الإقتصادية الخاصة التي تعمل وفق آليات علوم الإدارة والموارد البشرية والتسويق الحديثة (فمعلومٌ لكلِ خبراءِ الإدارةِ العصريةِ والموارد البشرية وتقنيات التسويق الحديثة أن السواد الأعظم من المؤسساتِ الإقتصادية الخاصة في مصر اليوم تعتمد إعتماداً شبهَ كلي على العلاقات العامة وليس على الإدارة بمعناها العلمي الحديث – فهذه المؤسسات وجدت أن المناخ العام المحيط بها يعملُ بآليات العلاقات العامة فوفرت على نفسها مشقة الطريق الصعبة والمتمثلة في بناءِ تنظيمٍ مؤسسيٍ عصريٍ يضم عناصر بشرية قادرة وفعّالـة - فهذه الطريق الصعبة هي من جهةٍ مكلفة ومن جهةٍ أخرى لا تستطيع العقول البسيطة إستيعاب جدواها لا سيما في ظل الأضواء الباهرة لثقافة العلاقات العامة في مجتمعٍ يقدسُ ما تعكسه تلك العلاقات العامة من معانِ القوةِ وأبهةِ السلطة وأبهةِ القرب من السلطة) .
وما لم نخلق المناخ العام الذي يسمح بنهضةٍ إداريةٍ عصريةٍ في الإداراتِ الحكوميةِ ووحداتِ القطاع العام والمؤسسات الإقتصادية الإنتاجية والخدمية الخاصة فسوف يبقى إنتظارُنا طويلاً لمجيء الإستثمارات العالمية المباشرة والتي يصعب تصور وجودها بدون مناخٍ عامٍ يسمح لها بالعمل وفق آليات وتقنيات علوم الإدارة والموارد البشرية والتسويق الحديثة وليس وفق معطيات كانت هي السبب الأول والأخير وراء الأوضاع الإقتصادية المتدهورة في واقعنا والتي لم نبدأ في التعامل الجاد معها إلا منذ سنوات قليلة ولكنه تعامل لا يزال يحتاج لمزيدٍ من الجرأة في إستئصال جذور العديد من المشكلات والتي تجعل من توفر الإدارة العصرية في سائر جوانب حياتنا أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
وهكذا يتضح أن ترديد مقولة (أن المشكلة هي الإدارة) إنما هو مثال واضح لعبارة صحيحة لا تنطلق بالضرورة من فهم سليم لمعانيها ومراميها.
ثالثاً المنبع و الهوية
إن نظرةً فاحصةً للنماذج التي عرضته من قبل في هذا الكتاب لقيم التقدم كفيلةٌ بأن توضح أنه وإن إختلفت ملامح الحضارات الإنسانية (القديمة منها والحديثة) فإن القيم التي أشرت إليها تنتمي للإنسانية أو لمسيرةِ تمدنِ الإنسان على الأرض أكثر من إنتمائها لأية حضارةٍ معينةٍ. فالإنسانُ بجانبِ مسيرات الحضارات له مسيرة تقدم أعلى من تفاصيل الحضارات وهذه المسيرة هي التي شكّلت قيم التقدم وجعلتها أكبر من أن تكون "وليدة حضارة معينة". وبدون الإيمان بأن (الإنسانية) أعلى وأسمى من (أية حضارة) فإننا نكون من جهة مخطئين ومن جهة سائرين على دربِ التعصبِ والعرقيةِ. فمما لا شك فيه أن في كل حضارةٍ إنسانيةٍ تراكماتٍ جاءت من حضاراتٍ أخرى إما معاصرة أو سابقة. وإذا كان بغيرِ وسعِ أحدٍ أن ينفي ذلك "المحصول التراكمي" في مجالات مثل "الرياضيات" وعددٍ آخر من فروع العلوم التطبيقية فعلى أي أساس يمكن رصد هذا المحصول التراكمي على مستوى العقل الإنساني الذي هو مخزن القيم؟ فإذا كنا نسلم بأن في الرياضيات الحديثة أشياء جاءت لنا من اليونان القديمة … وإذا كنا نسلم بأن في الموسيقى الحديثة آثار من أرسطو …وإذا كنا نسلم بأن عائلةً قانونيةً بأكملها هي العائلة اللاتينية - الجيرمانية قد أقامت نظمها على أساس من مدونة جوستينيان الرومانية … وإذا كان عالمُ مصرياتٍ عظيم مثل جيمس هنري بريستيد يرى وجود صلة لا يمكن إنكارها بين أرقى النظم الأخلاقية المعاصرة ومصر القديمة التي سماها بفجر الضمير : فكيف يمكن ألاَّ يرى الإنسان أنه كما أن الثقافات أدنى من الحضارات فإن الحضارات أدني من الإنسانية ؟
ويمكن لدارس الحضارات القديمة والحديثة أن يرى أنها قامت على أُسسٍ من القيم المشار لبعضها آنفا وإن كان أيضاً بوسعه أن يرى أن هذه القيم كانت عندما تنتقل من حضارةٍ لأخرى تمر بمراحلٍ من التطوير والرقي تكون من جهةٍ بمثابة مساهمة تلك الحضارةِ في الإنسانية كما تكون أيضاً محطاتٍ رئيسية لتطوير تلك القيم لمداراتٍ أعلى وآفاقٍ أرحب. ولا يتناقض ذلك مع كون مساهمة بعض الحضارات في رقي بعض هذه القيم أكبر من غيرها: فلا شك أن مساهمة الحضارة الغربية في الإرتقاء بقيم العمل هي الأبرز والأوفر نصيباً لاسيما وأَن الثورة الصناعية وما أعقبها من مراحلِ رقي العمل والإنتاج كان هو المناخ الأمثل لتطور ورقي "قيم العمل" - ولكن ذلك لا ينفي أن قيم التقدم بوجه عام وقيم العمل (أو قيم التقدم الإداري بوجهٍ خاص) هي من جهة "إنسانية" ومن جهة أخرى قيمُ أتيح لها في ظل التطورات الكبيرة للحضارة الغربية أن تشهد من درجات الرقي ما قد يُظهرها وكأنها غربيةٌ رغم أنها إنسانيةٌ في المقامِ الأول .
وليس هناك ما يدل على أن هذه القيم "إنسانيةٌ" قبل أن تكون منتمية لحضارةٍ معينةٍ أكثر من كونها وخلال قرنٍ واحدٍ من الزمان هو القرن الأخير قد إنتقلت من مُناخاتٍ غربيةٍ بحتةٍ إلى مناخاتٍ غير غربيةٍ على الإطلاق (مثل اليابان وعشرات الدول في آسيا وأمريكا اللاتينية) وأستقرت وترسّخت ونمت وأعطت ثماراً هائلة لأنها ببساطةٍ شديدة "قيمٌ إنسانيةٌ" وإن كانت في مرحلةٍ معينةٍ قد أخذت دفعةً كبيرةً من الحضارةِ الغربيةِ .
رابعاً بناء مجتمع قوي
لكل معنيٍّ بالشأن العام قائمةً من الأولوياتِ الرئيسيةِ التي تخدم كتاباته إياها . والأولوية العليا عندي هي "بناء داخلٍ مصريٍّ قويٍّ" بمعنى بناء مجتمعٍ صحيٍّ توجد فيه طبقةٌ وسطى واسعة وذات إستقرار إقتصادي وتعليم عصري ومناخ ثقافي عام يواكب الزمن الآني مع معرفةٍ وإعتزازٍ بتاريخنا دون أن يتحول ذلك إلى حالةٍ مرضيةٍ من عشقِ الماضي . وحتى الذين تأتى أولوياتٌ أخرى غير ذلك على قائمة أولوياتهم سواءً كانت هذه الأولويات العليا قومية أو غير ذلك فإنني أقول لهم أنه لا فرصة لأيٍّ منهم لتحقيق وإنجاح أولوياته العليا إلاِّ عن طريق "داخلٍ مصريٍّ قويٍّ مستقرٍ ومزدهرٍ" . فالذين يحلمون بمشروعٍ قوميٍّ عربيٍّ ناجح عليهم أيضاً أن يؤمنوا أن ذلك لا يتحقق إلاِّ بداخلٍ مصري قوي ، وأصحاب الحلم بأن تلعب مصرُ دوراً إقليمياً أو عالمياً بارزاً عليهم أيضاً أن يعلموا أن ذلك مستحيلٌ بدون داخلٍ مصري قوي مستقر ومزدهر . إن كل الطموحاتِ المصريةِ بشتى أشكالِها وألوانِها وأياً كانت درجة الموافقة عليها أو المخالفة لها لا يمكن إلاِّ أن تمر ببوابةٍ حتميةٍ هي بناء داخل مصري قوي .
ورغم إعجاب كاتب هذه السطور الذي لا حد له بشخصية (محمد علي) الذي جرى العرف على أن يسميه الباحثون والدارسون والكتاب "مؤسس مصر الحديثة" فإن المؤكد أن إنشغال محمد علي في مرحلة ما بأشياءٍ خارج مشروعه الأول وهو بناء داخلٍ مصريٍّ قويٍّ قد أدى إلى نكسةٍ كبرى إستمرت حتى مراحلٍ بعيدة في التدهور . فلو أن (محمد علي) قصر جهوده على إستكمالِ مشروع بناء الداخل لأصبحت مصرُ مؤهلةً (بدون أنشطة خارجية قبل الأوان) أن تلعب الدورَ المحوري الذي تؤهله لها عواملُ الجغرافيا والتاريخ والثقافة . وبالعكس فإن الإصرار على لعب دور آخر غير بناء داخلٍ قويٍّ قد يؤدي إلى تآكل الجهودِ التي تُبذل في الداخل - وما أكثر ما تكرر ذلك في تاريخِ مصر الحديثة .
إن مشكلةَ المشاكلِ بالنسبة لمصرَ هي أن عواملاً عديدةً تغريها دائماً بلعب دورٍ خارج الحدود وليست المشكلة في أنها تقوم بلعب هذا الدور ، ولكن المشكلة أنها تقوم به قبل إستكمال المهمة المقدسة الأولى وهي بناء داخلٍ قوي مستقر ومزدهر ، وهذا التعجل هو ما يؤدي حتماً إلى نتيجتين وخيمتين : الأولى هي فشل جزء كبير من المهمات الخارجية .. وثانياً تأخر كبير في عمليات بناء الداخل .
وديدن كاتب هذه السطور هو أن أهم المهمات وأقوى الرسائل يتمثلا في تركيز كل الجهود لبناء داخل قوي وعصري وناجح وفعّال ومزدهر ومستقر وفي صلحٍ مع الماضي والحاضر في آنٍ واحدٍ : ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بحملةٍ تتضافر فيها الجهودُ من أجل بناء الداخل عن طريق غرس ونشر وإذاعة وإشاعة قيم التقدم على مستوى القدوة والمثل الأعلى للقيادات في كل موقع وبمحاذاة ذلك عن طريق مؤسسة تعليمية تكون رسالتُها الأولى هي زرع قيم التقدم في عقول وضمائر أبناء وبنات مصرَ كما أن هذه المهمة مستحيلة دون إحداث تغيير جذري في الخطاب الديني (إسلامي كان أو مسيحي) لأن الخطابَ الديني مع الإعلام سيبقيا من أهمِ عواملِ صياغةِ الرأي العام في مصرَ .
إن البعض لدينا يحلم بمصر المثالية في صورة مصر ما قبل 1952 .. والبعض يحلم بها في صورة مصر الناصرية .. والبعض يحلم بها في صورة مصر الساداتية .. والمفكر الذي يلجم عواطفه ولا يشغّل إلا عقلاً صافياً لا يملك إلا أن يقول أننا نريد مما قبل 1952 نوعية الطبقة الوسطى ولكن لا يمكن أن نريد من حقبة ما قبل 1952 ضآلة حجم الطبقة الوسطى وإتساع حجم الطبقات الدنيا (وما كانت تعيش فيه من بؤس مهين لنا جميعاً) .. ونريد من مصر الخمسينات والستينات "الحلم الكبير بتوسعة الطبقة الوسطى" على أن تكون طبقة وسطى تقف على دعاماتٍ إقتصاديةٍ وثقافيةٍ رصينةٍ .. ونريد من الحقبة الساداتية تغليب العقل والحوار في بعض الأمور (وأُكرر: في بعض الأمور) .. وأنا أكتب ذلك من منطلق إيمان ثابت بأن الإنشغال بإدانة الآخرين "مهمة سلبية للغاية" ، فإننا نريد تأثيث صلح بين أصحاب الإتجاهات المختلفة ولا نرى وسيلة لتحقيقه إلا بمشروعٍ متكامل لنشر قيم التقدم ، فهذا هو السبيل الوحيد لأن ننظر بموضوعيةٍ لفترة مثل حقبة محمد علي ونرى المزايا والعيوب دون مبالغة .. وكذلك ننظر للحقبات التالية وننظر للمزايا والعيوب دون المبالغة في المزايا ودون المبالغة في العيوب. وسوف لا يمكنَّا من ذلك إلا جوٌ ثقافيٌّ وتعليميٌّ عام ينجح في غرس قيم التقدم .
إن أكبرَ التحدياتِ التي تواجه مصر الآن تتعلق كلها بالطبقة الوسطى وما حدث وما يحدث لها على مستوى الإقتصاد والتعليم والثقافة حتى أن المفكر يكاد يجزم أنه لا يعرف كيف يُعرّف الطبقة الوسطى اليوم في مصرَ . إن تقدم أي مجتمعٍ من المجتمعات غير مرهونٍ بوجود طبقة عليا على درجةٍ عاليةٍ من الجودة وإنما بنوع وحجم وكيفية مستويات الطبقة الوسطى : وهذا موضوع يتوقف بالكامل على مدى توفر قيم التقدم في الطبقة الوسطى .
وبإختصار ، فإن حل مشكلات مصر الإقتصادية والإجتماعية هو أمر لا يحققه إلا "مناخٌ عامٌ" مشّرب بقيم التقدم - وعندئذ فإن "دور مصر عبر الحدود" يصبح "حتمية لا يقدر أحدٌ على تجاوزها" لأن كل معطيات التاريخ والجغرافيا والثقافة تقول أن مصر هي الدولةُ العربيةُ والشرقُ أوسطية الوحيدة المؤهلة لدور (الدولة الأكبر) ولكنه دورٌ يحتاج - كما ذكرت - لداخلٍ أكثر تقدماً .
خامساً قيمة التعليم
١
لا يرى كثيرون في واقعنا بوضوح الصلة الوثيقة بين (التعليم) و (الإدارة) ، رغم أن هذه الصلة واضحةُُ بجلاءٍ تامٍ في المجتمعاتِ التي سبقتنا على دربِ التقدمِ والازدهار والاستقرار. فالإدارةُ هي قاطرةُ قيادةِ العملِ في سائرِ الوحدات الاقتصادية (الإنتاجية والخدمية) ووحدات الخدمة الإدارية الحكومية في سائرٍ المرافقِ والمؤسساتِ التي تبقى تحت المظلة الحكومية. وما أريد توضيحه هو أننا لو تصورنا أن حياةَ الإنسانِ تتكون من ثلاثِ مراحلٍ زمنيةٍ (شبة متساوية المدد) فإن المرحلةَ الأولى تكون تحت مظلةِ التعليمِ والمرحلة الثانية تكون تحت مظلة الإدارةِ والمرحلة الثالثة تكون مرحلة التقاعد أو العمل الخاص. ولا شك أن المرحلةَ الأولى تسلم "الإنسان" (كمُنْتِجِ – بضم الميم وتسكين النون وكسر التاء وكسر الجيم بالتنوين) للمرحلة الثانية حيث يكون الإنسان هو أساس أي نشاطٍ عمليٍّ (اقتصادي أو حكومي) . ويعني هذا أن المرحلةَ الأولى تقوم بتشكيلِ الإنسانِ لحسابِ المرحلة الثانية. ويعني ذلك أن المرحلةَ الثانيةِ تتسلم الإنسانَ بعد أن يكون قد تم تشكيله وتكوينه خلال المرحلة الأولى بناءً على معطياتٍ كثيرةٍ ومكوناتٍ عديدةٍ وعديدٍ من المفرداتِ . وهكذا تتضح الصلةُ الوثيقةُ بين الإدارةِ (أي قياداتِ العملِ) وبين التعليم، فالإنسانُ الذي يصل لمؤسساتِ العمل خلال النصف الأول من العقد الثاني من عمره يكون مثل بناءٍ قد تشكل بكيفيةٍ معينةٍ خلال عددٍ كبيرٍ من السنواتِ السابقة. فإذا كان ذلك كذلك، فإن التعليمَ تكون له انعكاسات على الإنسان خلال حقبة العمل في حياته لا يمكن إنكارها أو التقليل من أهميتها.
والرسالة هنا أن (التعليم) ما هو إلاِّ أهمُ أداةٍ من أدواتِ تكوينِ الإنسان لخوضِ غمار المراحلِ التاليةِ من عمرِه – وعليه فإن ما يغرز ( ويغرس) في الإنسان من قيمٍ ومهاراتٍ وإمكاناتٍ وقدراتٍ وتوجهاتٍ وطرقٍ للعملِ والتفكيرِ والابتكارِ والخلقِ والتعاونِ خلال المرحلة الأولى هو ما يترجم خلال المرحلة الثانية أما في شكلِ مواطنٍ إيجابيٍّ وخلاقٍ ومُنتجٍ ومُنافسٍ وبناءٍ وفي حالةِ تمثيلٍ واضحةٍ لدرجةِ التحضرِ والتمدنِ والتقدمِ العلمي والتعليمي والثقافي وإما نقيض كل ذلك بدرجاتٍ ونسبٍ مختلفةٍ.
وهكذا يتضح، أن التعليمَ هو حجرُ الزاويةِ في صنعِ وتكوينِ الإنسان أي في صنعِ وتكوينِ مستقبلٍ أي شعبٍ أو مجتمعٍ. ولا شك أن هناك علاقة رئيسية بين (فلسفة الحياة والمجتمعات) في كل مرحلة من مراحل الزمان و(فلسفة التعليم) إبان تلك المرحلة. فإذا كان غرضُ المجتمعِ في مرحلةٍ معينةٍ يتمثل في تكوينِ موظفين عموميين يصلحون لمتطلباتِ ومواصفاتِ الوظيفةِ العامةِ (كما كان الشأن خلال النصف الأول من القرن العشرين) فإن التعليمَ يهدف لخدمةِ نفسِ الغرضِ. أما إذا كان المجتمعُ يتمحورُ حول العمل الاقتصادي بأشكالِه الحديثة والقائمة على المنافسة والجودة والإتقان وتعظيم القيمة المضافة للعمل (أي للإنسانِ) والتسويق بغير حدود – فإن التعليمَ يكون هو الحضانة التي تُكون إنساناً يصلح لتلك المعطيات والملامح الجديدة للحياة والتحديات المصاحبة لكل ذلك . ويعني ذلك أن "أغراض التعليم " تصبح هي " أغراض المجتمع" : فإذا كان المجتمعُ يسعى لتعظيم مزاياه وقدراته وإمكاناته في مجالاتٍ محددةٍ ، فإن التعليمَ هو الأداةُ الأولى لخدمةِ هذا الغرض أو هذه الأغراض .
وهكذا ، فإننا نجد أن مجموعةَ القيمِ الأساسيةِ المطلوبةِ لوجودِ قياداتٍ إداريةٍ تنفيذيةٍ عصريةٍ خلاقةٍ وفعالةٍ في المجتمعاتِ الأكثر تقدماً هي نفس مجموعة القيم الأساسية التي تشكل فلسفة التعليم بل والتوجهات الإعلامية والثقافية والفكرية والاجتماعية للمجتمع . وهذه القيم الأساسية في المجتمعات الأكثر تقدماً لا تخرج عن كونها مجموعة لا تزيد عن عشر قيم من أهمها قيمة الوقت وقيمة الجودة وقيمة الإتقان وقيمة العمل الجماعي وقيمة المنافسة وقيمة الإيمان الواسع والعميق بالقدرات التي لا حد لها للإنسان (الموارد البشرية) وقيمة الإيمان بعالمية العلم والمعرفة وعلوم الإدارة الحديثة وعلوم الموارد البشرية وعلوم التسويق . فهذه المجموعة من القيم الأساسية هي التي توجد نظام تعليمي عصري وخلاقّ وفعّال وإيجابي وهي أيضاً نفسها التي تخلق مواطناً عصرياً إيجابياً وفاعلاً ومشاركاً في نفسٍ الوقتٍ وهي أيضاً التي تخلق حياة إقتصادية ( إنتاجية وخدمية) بل وحياة عامة ومجتمع تتسم كلُها بنفسِ الصفاتِ . ويجعلنا هذا نتسأل: هل تعمل برامجنا التعليمية بوضوحٍ وجلاءٍ تامٍ على خدمةِ هذه الأغراض أم أنها لازالت تخدم أهدافاً كانت في الماضي هي أهداف المجتمعات ولكنها لم تعد اليوم كذلك ( على الأقل في المجتمعات الأكثر تقدماً) ؟ إِن نظرةً متأنيةً لبرامجنا التعليمية سواء قبل الجامعية أو الجامعية أو خلال مراحل الدراسات العليا تظهرُ بجلاءٍ ظاهرتين أو سمتين واضحتين لبرامجنا التعليمية : فمن جهةٍ أولى فإن هذه البرامج لا تخدم بشكلٍ واضح مجموعة القيم الأساسية التي ذكرت آنفاً أنها أساس التعليم أو التقدم الاقتصادي والتقدم المجتمعي في العصر الحالي وفي المجتمعات الأكثر تقدماً . ومن جهة ثانية فإن برامجنا التعليمية ( وهي تنأى بنفسها عن خدمة هذه القيم الأساسية ) تتسم بطابع أُسميه (التعليم الكمي) أي التعليم الذي يظن واضعوا فلسفته أن حجم المعلومات وتكديس المعارف وازدحام البرامج التعليمية بعشراتِ المقرراتِ والمواد هو أداةُُ ناجحةُُ لتعليمٍ عصريٍّ ناجحٍ - والحقيقةُ عكس ذلك تماماً .
فمن المؤكد أن البرامج التعليمية الحالية على كثرة إحتشادها بالموادِ والمقرراتِ واتسامها بالتخمةِ الكميةِ لا تفرز لنا في النهايةِ المواطن المنشود سياسياً واقتصادياً وتنافسياً وثقافياً. ومن المؤكد أنها تفرز لنا مواطن متسم بالسلبية السياسية وبضعف القدرات اللازمة للعمل العصري في معظم مجالاتِ الإنتاج والخدماتِ ناهيك عن إفرازها لمواطنٍ أقل ليبرالية وأقرب لروح التزمت من روحِ قبولِ أقوى ملامح الحياة الإنسانية المعاصرة وأَعني الاختلاف والتعددية .
وقد يعتقد البعضُ أن هناك أدوات عديدة لاصلاح الواقع والمستقبل مثل الأدوات الاقتصادية والإعلامية والسياسية – وأَنا أُوافقُ على جدوى كل هذه الأدوات ولكنني أبقيها تحت مسمى (الأدوات الثانية) حيث يبقى التعليم بمثابة ( الأداة الأولى) لإصلاح الواقع والمستقبل من خلال قدرته على إنتاجِ مواطنٍ يتحلى بصفاتٍ وقدراتٍ تؤهله لتحقيق الغاية المرجوة للمجتمع وهي غاية ذات طبيعة خاصة تتمثل في الإزدهار والاستقرار.
٢ تنقسم المؤسسات التعليمية في العالم اليوم إلى مجموعتين . مجموعة أولى تتبع نظم القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين في التعليم (بأشكالٍ ودرجاتٍ ونسبٍ متفاوتة) . وتتسم فلسفة التعليم الخاصة بهذه المجموعة بصفتين أساسيتين : (1) التلقين و(2) إختبارات الذاكرة . أما المجموعة الثانية فهي التي طورَّت نظماً تعليمية محورها فلسفة مختلفة عن التلقين وإختبارات الذاكرة , إذ تقوم على بث مجموعة من القيم مثل الإبداع وحرية البحث والإيمان بتعددية الحياة والمعرفة والإيمان بعالمية العلم والعمل الجماعي والقدرات الخلاقة للموارد البشرية . وتهتم هذه المجموعة بالإبداع عوضاً عن إهتمامها بالتلقين . ورغم أن نظم التعليم في أوروبا قد شهدت إنتقالاً لا يُنكر من فلسفة تعليمٍ تشبه فلسفة التعليم التي تتوخى التلقين وإختبارات الذاكرة إلى فلسفة تعليم محورها الإبداع , إلا أن دولاً مثل اليابان وعدد من دول شمال أوروبا (أبرزها فنلندا) ودول أخرى مثل سنغافورة قد سبقت الجميع في الإنتقال الواسع من فلسفة التعليم المرتبطة بالتلقين وإختبارات الذاكرة إلى فلسفة التعليم المعنية بالإبداع وبث قيم التقدم التي أشرت إليها آنفاً ( وقد قامت إسرائيل منذ سنوات بتبني عدد كبير من برامج التعليـم في سنغافورة) .
بينما كان التعليم في الدول المتقدمة خلال عقودٍ عديدة حتى منتصف القرن العشرين لا يفصل بين (العلم للعلم) و(العلم لخدمة الحياة) . فإن هذه المجتمعات المتقدمة أخذت تؤسس لتلك التفرقة وتجلياتها في مجال التعليم التقني البحت حيث أصبحت هناك رؤية واضحة للفارق بين "البحث العلمي" و "التكنولوﭽيا" : فبينما يخدم البحث العلمي الإنسانية على المدى الطويل والبعيد وربما لا تكون له مردودات على المدى القصير والمتوسط , فإن بحوث التكنولوﭽيا تهدف لخدمة الحاضر والمستقبل القريب وللحياة الآنية وخدماتها وإحتياجاتها قبل أي غرض أخر . ورغم أن هذا الملمح يبدو متصلاً بالعلوم التقنية أكثر من إتصاله بالعلوم الإجتماعية والإنسانيات , إلا أن ذلك ليس كذلك بشكلٍ مطلق . فحتى العلوم الإجتماعية والإنسانيات تشربت وتلونت وتأثرت بالإنتقال من فلسفة التعليم التي تتوخى التلقين وإختبارات الذاكرة إلى فلسفة التعليم التي تتوخى بث قيم الإبداع والتقدم .
ويمكن إجمال أهم قيم الإبداع والتقدم التي تهتم المؤسسات التعليمية المعاصرة في الدول الأكثر تقدماً في تطوير التعليم مثل (فنلندا والسويد واليابان وسنغافورة في النقاط العشر التالية) : 1- زرع الإيمان بتعددية الإيمان والمعرفة والعلم في عقول ونفوس وضمائر أبناء وبنات المجتمع . 2- زرع الإيمان بعالمية الإيمان في عقول ونفوس وضمائر أبناء وبنات المجتمع . 3- زرع قيم السماحة الفكرية والدينية في عقول ونفوس وضمائر أبناء وبنات المجتمع . 4- زرع الرغبة في التعرف على (الآخر) في برامج التعليم . 5- تأسيس مفهوم "إنسانية التقدم والعلم والمعرفة" . 6- تفعيل الإيمان بالموارد البشرية كمصدر الثروة والقيمة الأولى في المجتمع مع ما يحتمه ذلك من النهوض بوضع ومكانة المرأة في أي مجتمع . 7- تأسيس ثقافة "التعايش المشترك" . 8- إستئصال ثقافة "الملكية المطلقة للحقيقة" من أذهان وضمائر أبناء وبنات المجتمع. 9- إستئصال شأفة التعصب والتذمت من البنية الفكرية لأبناء وبنات المجتمع . 10-إيجاد صلات وثيقة بين التعليم والأنشطة الإقتصادية في كل مجتمع من المجتمعات .
منذ قريب شاركت (بصفةٍ إستشارية) في أعمال مجلس تطوير التعليم في إمارة أبوظبي مع عددٍ من أبرز خبراء التعليم الدوليين من أوروبا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية . ورغم أن نتيجة المداولات والمناقشات المُكثفة قد ترجمت في شكل (رؤية) و (مهام) و (إستراتيچية) و (سياسات) للتعليم في أبو ظبي خلال العقود الثلاثة القادمة في أوراقٍ لا يسمح هذا المقال المطوّل لا بإيرادها ولا حتى بتلخيصها , إلا أن جوهر الرسالةِ كان كما يلي : أولاً : توفر إرادة سياسية لتبني أحدث منظومات التعليم على وجه الأرض . ثانياً : الإيمان المترجم إلى واقع وسياسات بأن تعليم الإبداع وقيم التقدم هو البديل الوحيد للتخلف وراء العصر , وبعيداً بعيداً عن الصفوف الأولى ومسيرة وركب التقدم الإنساني. وقد أذهلني في هذه الإجتماعات توفر درجة عالية للغاية لدى الجانب الإماراتي لقبول النقد سواءً كان نقداً لمنظومة التعليم الحالية أو لأجزاءٍ كبيرة من مكونات المناخ الثقافي السائد وما يعنيه ذلك من إعادة تصميم البرامج التعليمية بهدف إستئصال مجموعة من القيم السلبية السائدة في كل المجتمعات العربية مثل التمجيد المبالغ فيه للماضي ونغمات مدح الذات السائدة في التراث العربي وهزال الإستعداد لقبول النقد أو ممارسته والميل الجارف لإرجاع عيوبنا لعناصر خارجية والإيمان الواسع بالتآمر علينا مع ضئيل إيماننا بالتعددية والغيرية ونحيل إهتمامنا بحقوق الإنسان وحقوق المرأة ناهيك عن جرعاتٍ صاخبة من التزمت والتعصب وخلطٍ لا يتوقف بين الديني والدنيوي ناهيك عن مستوى مرتفع من الأدلجة في زمنٍ أصبح فيه الأيدولوچي هو الوجه الآخر لعملة الماضوية , فنحن في زمن تتخلى فيه البشرية المتقدمة عن الأيدولوچيات وتنحصر أدواتها في العلم والمعرفة وتقنيات الإدارة الحديثة لكل جوانب الحياة ومؤسسات المجتمع . إن إنغماسي خلال الأسابيع الماضية في مداولات مُطولة ومُعمقة ومُكثفة عن تطوير التعليم وتحديثه وترقيته جعلتني أتساءل : إذا كانت للتعليم خمسة أعمدة هي : 1- الفلسفة التعليمية . 2- المقررات والبرامج الدراسية . 3- المدرس . 4- التلميذ أو الطالب . 5- المكان الذي تتم فيه العملية التعليمية . فهل لدينا الإرادة السياسية والوعي الإداري لأهمية العمل على تلك الأعمدة أو المحاور الخمسة بنفس القدر من الإهتمام والعناية ؟ وهل ندرك أننا لسنا بحاجةِ لعمليات تجميل وتحسين صورة (فيما يخص الأعمدة الخمسة المذكورة) وإنما نحن بحاجة لعملية إحلالٍ شاملةٍ وكاملةٍ لشيء آخر جد مختلف عما هو لدينا ؟ .
ولا يسعني أن أختم هذه الفقرة دون أن ألفت الإنتباه إلى أن حقيقة التعليم في دولة مثل فنلندا والذي يعتبر اليوم أحد أهم وأفضل وأرقى ثلاثة نظمٍ للتعليم في العالم (فنلندا وسنغافورة واليابان) هو تعليمُ مجاني من بدايتهِ إلى نهايتهِ ليس بحكم قرارٍ سياسي وليس بموجب توجه حكومي وإنما بنص الدستور الفنلندي . أقول هذا لأقطع الطريق على من يظن أنني أود سحب التعليم في مصر من أرضيتة المجانية لأرضية التعليم ذي الكلفة العالية . فالإيمان أن عيب التعليم في مصر هو المجانية محض سطحية وعدم معرفة دقيقة بالكثير الذي ينبغي معرفته قبل الخلط في أي حديث عن تطوير التعليم .
وقد لاحظت من متابعتي لنظام التعليم في فنلندا و سنغافورة واليابان أن علاج التوسع الكمي في التعليم الجامعي عن طريق إلغاء المجانية لم يكن هو الحل في أية حالة من حالات التعليم الراقي في تلك البلدان . وإنما كان الحل هو إيجاد توازن (عملي ورقمي وكمي) بين أعداد من يتوجهون للتعليم الجامعي وأعداد من يتوجهون للتعليم المهني . فبهذا التوازن وحده نستطيع تجاوز أثر التوسع الكمي على نوعية التعليم الجامعي (وهو أثر سلبي يؤدي لإنهيار المستويات). ومن أهم الأمثلة في العالم على قدرة مجتمع على إقامة هذا التوازن هو المثال الألماني ، وفي ألمانيا فإن التعليم أيضاً مجاني (من بدايتهِ ولأعلى المستويات) .
وأختم هذه الفقرة بتسجيل إيماني بأن تناول تطوير التعليم في مجتمع مثل مجتمعنا المصري سيكون دائماً مآله الفشل إذا إنطلق من منطلقات أيديولوچية ، دينية كانت أو قومية . فنحن هنا بحاجة للإسترشاد – فقط – بنتائج ودروس وتجارب الآخرين الذين أنجزوا الرحلة نحو تعليم عصري متقدم ومبدع وخلاق , كما أننا بحاجة ألا نستعمل أولئك الذين أوجدوا الداء لكتابة روشتة الدواء ؟ سادساً تعليم عصري أو الطوفان
قبل الحديث عن إصلاح التعليم أي إصلاح الأضلاع الأربعة للتعليم (البرامج والمدرس والتلميذ و المدرسة ) فان الأهمَ هو صياغةُ الأهدافِ الاستراتيجيةِ للتعليم ثم وضع برامج تفصيلية تضمن ترجمة هذه الأهداف على مستوى البرامج التعليمية والمدرس والتلميذ والمدرسة. فخلال السنوات القليلة الأخيرة تشكّلت في ذهني معادلةُُ تربط بين أهدافِ التعليم الاستراتيجية وإيجادِ مواطنٍ عصريّ يتحلى بالقدراتِ المطلوبةِ في ظلِ تحدياتِ العصر وأيضاً إمكانية وجود كادرٍ بشري من القياداتِ الإداريةِ التنفيذيةِ العصريةِ التي بدونها لا تحقق المجتمعاتُ الطفراتِ المنشودة، فالتقدمُ الاقتصادي الكبير والمتسم بالعدالةِ الاجتماعيةِ وخلق فرصِ عملٍ جديدةٍ وإشاعةِ روحٍ إيجابيةٍ في المجتمع وتحقيق السلام الاجتماعي الذي يرافقه لحاقُُ بركبِ العصرِ والمدنيةِ هي مهمة تحتاج لكادر بشري من المديرين التنفيذيين العصريين الأكفاء ولا تحتاج لأكاديميين أو اقتصاديين ( وإن كانت لا تستغنى عن خبراتهِم في مجالاتها) . وقد اتضح لي من كثافةِ التعاملاتِ مع مئاتٍ من الأساتذة والطلاب في الجامعات الأمريكية وأوروبية التي أحاضر بها اننا نضيّع الكثيرَ عندما نبذل مجهوداتٍ كبيرةٍ في إصلاح الأبعاد الأربعة للعمليةِ التعليميةِ قبل أن نضع ورقةً استراتيجيةً تقول بوضوحٍ ما هو الهدف من العملية التعليمية ثم نضع الخطوات الإدارية التنفيذية التي تكفل تحقيق هذه الأهداف.
وفي ظني أن هناك مجموعةً من القيم (أوردت أمثلة لها من قبل) هي احترام الوقت و تقديس العمل الجماعي والإتقان والإيمان بالإبداع وبأن الموارد البشرية هي أهم عوامل التقدم والإيمان بعالمية المعرفة ثم قيمة زرع الروح التنافسية مع قيمةِ احترامِ التعدديةِ وقبول الآخر. هذه باختصار هي قيم العصر والتقدم التي يجب ان تعمل المؤسسة التعليمية على زرِعها في عقولِ وضمائر التلاميذ بجانبِ قدرٍ معقولٍ من المحصولِ المعرفي على مستوى العلومِ التطبيقيةِ والاجتماعيةِ والانسانياتِ.
ووضع هذه الأهداف بشكلٍ محددٍ لا يحتاج لأكثرِ من بضع صفحات ثم تكون المهمةُ التالية هي وضع الإجراءات التنفيذية التي تكفل ان تكون المقررات الدراسية وبرامج تدريب المدرسيين في خدمة هذه القيم .
إن الهوةَ شاسعةُُ بين تلاميذنا وتلاميذ العالم المتقدم لا في الذكاء وانما في( القدرات المكتسبة) والتي هي عندهم ثمرة طبيعية لمؤسسات تعليمية تقوم على مجموعةِ القيم التي ذكرتها بينما يبقى التلميذُ لدينا أسيرَ جدرانٍ عاليةٍ لا قيمة لها من حشو الأذهان بالمعلومات والتلقين ناهيك عن مأساةٍ أخري هي كون الطالب لدينا يبقى طوال سني الدراسة في موضع المتلقي (المُستقبِل) بينما يبقى المدرسُ في وضعِ المُرسلِ (الباث) وهو وضع يؤدي لتكريسِ السلبيةِ وتحجيمِ القدرةِ على الإبداعِ وكتم أنفاسِ الحرية الفكرية وفي أحسن الاحوال فانه مناخُُ عام قادر على تخريج (موظفين عموميين تقليديين ) في زمنٍ لم تعد فيه هناك حاجة للموظف العام التقليدي كما كانت علية الأمورُ في السابق – فمجتمعاتُ العصر في حاجةٍ لمواطنٍ خلاقٍ وتنافسي ومبدعٍ ويعمل في اطارِ فريقِ عملٍ ويطلب المعرفةَ والمزايا التنافسية من أي مصدرٍ (عالمية المعرفة) ويتوخى أن يكون قادراً على المنافسة .
ولا اعتقد أَننى أُبالغ إذ أقول أَن وضع ورقةٍ استراتيجيةٍ لأهدافِ العمليةِ التعليميةِ لدينا ثم وضع برامج ترجمة هذه الأهداف لواقع حي على مستوى البرامج التعليمية والمدرس والتلميذ والمدرسة هي الضمانة الوحيدة ليس فقط لتخريج مواطنٍ عصري فعال ومشارك وكحلٍ وحيدٍ لسلسلةٍ طويلةٍ من المشكلات قد تبدو للبعض غير ذات صلة بالموضوع وان كانت في الواقع لصيقة به إلى ابعد الحدود مثل ما يلي: 1 - تكوين كادر إداري عصري يقود الحياة الاقتصادية في ظل عالمٍ جديدٍ يقوم على المنافسةِ. 2- تكوين مواطن أكثر حماساً للمشاركة في الحياة السياسية والحياة العامة. 3- تكوين مواطن يكون في سلامٍ مع نفسه ومع الآخر في مجتمعه ومع الآخر في المجتمعاتِ الأخرى عوضاً عن المواطن المستنفر الذي شاع في واقعنا والذي يمسك في يده بدون مبرر سيفَ جهاد لا طائل من ورائه بدلاً من أن يمسك في يده أدواتِ المنافسة العصرية والعمل والإبداع والتواصل مع مسيرة الحضارة الإنسانية .
وأكثر ما يزعجني أن نتحدث عن إصلاح التعليم دون ان تعكس أفكارنا أننا نعرف الصلة بين (التعليم) و (الحياة الاقتصادية) ، وهي صلة واضحةُُ بجلاءٍ في المجتمعاتِ المتقدمة. فلو تمثلنا أن حياةَ الإنسانِ تتكون من ثلاثِ مراحلٍ (شبة متساوية المدد) فإن المرحلةَ الأولى تكون تحت مظلةِ التعليمِ والمرحلة الثانية تكون تحت مظلة الإدارةِ والمرحلة الثالثة تكون مرحلة التقاعد أو العمل الخاص. ولا شك أن المرحلةَ الأولى تسلم "الإنسان" للمرحلة الثانية حيث يكون الإنسان هو أساس أي نشاطٍ عمليٍّ. ويعني هذا أن المرحلةَ الأولى تقوم بتشكيلِ الإنسانِ لحسابِ المرحلة الثانية. ويعني ذلك أن المرحلةَ الثانيةِ تتسلم الإنسانَ بعد أن يكون قد تم تكوينه خلال المرحلة الأولى بناءً على معطياتٍ كثيرةٍ. وهكذا تتضح الصلةُ بين الإدارةِ والتعليم: فالإنسانُ الذي يصل لمؤسساتِ العمل خلال النصف الأول من العقد الثاني من عمره يكون مثل بناءٍ قد تشكل بكيفيةٍ معينةٍ خلال السنواتِ السابقة. فإذا كان ذلك كذلك، فإن التعليمَ تكون له انعكاسات على الإنسان خلال حقبة العمل في حياته لا يمكن التقليل من أهميتها.
والرسالة هنا أن (التعليم) ما هو إلاِّ أهمُ أداةٍ لتكوينِ الإنسان لخوضِ غمار المراحلِ التاليةِ من عمرِه – وعليه فإن ما يغرس في الإنسان من قيمٍ وطرقٍ للعملِ والتفكيرِ خلال المرحلة الأولى هو ما يترجم خلال المرحلة الثانية أما في شكلِ مواطنٍ إيجابيٍّ ومُنتجٍ ومُنافسٍ وفي حالةِ تمثيلٍ واضحةٍ لدرجةِ التحضرِ والتمدنِ والتقدمِ العلمي والتعليمي والثقافي وإما نقيض كل ذلك بدرجاتٍ ونسبٍ مختلفةٍ .
وإذا كان من الممكن وضع إستراتيجية بأهداف التعليم كما نريده لمستقبل أفضل في زمن قصير للغاية فإن المراحل التالية والتي تتمثل في جعل عناصر العملية التعليمية (البرامج التعليمية والمدرس والتلميذ والمدرسة كبناء وإمكانيات) تجسد هذه الأهداف الإستراتيجية الجديدة والتي تكلمنا عنها في هذا المقال لا يمكن أن تكون بنفس السهولة فهي من جهة تطلب إستثمارات ضخمة كما أنها تستلزم إعادة تأهيل مليون مدرس وزرع تلك القيم في عقولهم وأساليب عملهم – وواضح أن ذلك أمر يحتاج لخطة مفصلة تقتضي التدرج كما تحتاج لعدد من السنوات قبل إكتمالها – ومن هنا تبرز قيمة الفكرة التي طرحتها مراراً وأعني فكرة مراكز التعليم المتميز التي هي في النهاية ترجمة عملية للقول المأثور أن ما لا يدرك كله لا يترك كله.
سابعاً التعليم و صناعة المستقبل
لا شك أن مصر قيادةً وحكومةً وشعباً (ولا سيما الطوائف ذات النصيب الأوفر من التعليم والثقافة) مشغولون (ومنشغلون) بالعمل على أن يكون مستقبلُ هذا الوطن أكثر رخاءً ورفاهيةً واستقراراً واتساماً بالسلام الاجتماعي . ومعنى ذلك أن مصر (قيادةً وحكومةً وشعباً) منشغلة بما يمكن أن نسميه "صناعة المستقبل" . ولا يساورني شك أن معظم أفراد القيادة والحكومة والشعب يعنيهم مستقبل هذا الوطن وأن يكون مستقبلاً متسماً بما ذكرناه من ملامحٍ وصفاتٍ ؛ حتى لو كان الاختلافُ بينهم بالغ الاتساع وعميق الهوة فيما يتعلق بسبل ومناهج وطرق بلوغ ذلك الهدف الذي لا نظن أن هناك خلاف بشأنه (ولا أستثني من ذلك إلاّ الطوائف التي قررت أن تتبنى طروحات تخاصم العصر والعلم وثمار التمدن الإنساني – وهي طوائف تزدهرُ في ظروف المعاناة والتأخر والفقر والظلم كما أنها تندثرُ في ظروف الازدهار والاستقرار والسلام الاجتماعي) . ولكنني رغم تسليمي بحسن نوايا معظم الأطراف المعنية ، أرى أن هناك ما يمكن أن يوصف بأنه خللٌ في الاهتمام والموازنة بين أدوات صنع المستقبل المنشود لهذا الوطن والذي تتضافر فيه عناصرُ الازدهار الاقتصادي والعدل الاجتماعي والاستقرار السياسي والسلام المجتمعي تضافراً ينتج عنه مجتمعٌ صحيٌ تسمح ظروفُه بنوعية حياةٍ أفضل للغالبية العظمى من أبنائه . ففي اعتقادي أن صنع مستقبلٍ أفضلٍ لوطننا يعتمدُ على ثلاثة محاورٍ رئيسيةٍ: محور اقتصادي ومحور سياسي ومحور فكري (تعليمي وثقافي) . أما المحورُ الاقتصادي فيعني أن نتمكن من حل المشكلات العويصة التي اتسمت بها الحياةُ الاقتصادية في مصر خلال السنوات القليلة الماضية كنتيجةٍ حتميةٍ لسياساتٍ اقتصاديةٍ خاطئةٍ وضعت وطبقت في الخمسينات والستينات ، وهي التي أوصلتنا لما بلغناه من ضعفٍ شديدٍ في الإنتاجية وانهيارٍ مروعٍ في نوعية الإدارة والعمالة معاً مع انهيارٍ آخرٍ كبيرٍ في العلاقة التوازنية الحتمية بين (الحقوق) و (الواجبات) . ومنذ سنة 1991 بدأت مرحلةُ مواجهةٍ كبيرةٍ مع أسباب ضعف الاقتصاد المصري . ولا شك أن الكثير قد أُنجز على مستوى الإصلاح المالي ، وأن قدراً غير قليل قد أُنجز أيضاً على مستوى الإصلاح الاقتصادي . ولا يزال الجهدُ متواصلاً (ويجب أن يتواصل) لاستكمال عملية الإصلاح الاقتصادي . ولا شك أيضاً أن الإصلاح الإداري سيكون أحد أكبر التحديات المستقبلية ، فليس من الممكن أن يحدث التطويرُ الاقتصادي المنشود تحت قيادة العناصر التي كُونت إدارياً في ظل عهودٍ سابقةٍ ، فمديرو الأمس لم يكونوا في الحقيقة "مديرين" وإنما كانوا (رؤساء عمل) فقط – وبديهي أن هناك فارق هائل بين (الرئيس في العمل) و(المدير) . ومن المحتم حالياً تقديم ثورة موازية في العناصر البشرية التي يُعهد إليها بالمواقع القيادية ، على أن يكون واضحاً للغاية أنه لا يوجد (مفهوم شرقي) للإدارة في مواجهة (مفهوم غربي) لها ، ولا يوجد (مفهوم عربي) للإدارة في مواجهة (مفهوم أوروبي أو أمريكي) آخر .. . إذ أن الإدارة الفعّالة والخلاّقة لا جنسية لها ، وكل ما هناك هو "إدارة فعّالة" و"إدارة غير فعّالة" . ومن الضروري أن نلمح هنا إلى احتياج المؤسسـات الخاصة لتطوير نفسها إدارياً بنفس القدر ، فالافتقارُ لنظم وهياكل وتقنيات ورجال الإدارة العصرية الفعّالة أمرٌ شائعٌ في مصر في القطاعين العام والخاص على السواء – وإن كان الإنصافُ يقتضي الإشارة لوجود عددٍ قليل من المؤسسات الخاصة بدأت منذ سنوات في التحول من مؤسساتٍ يديرها أصحابُها إلى هياكلٍ إداريةٍ عصريةٍ وراقيةٍ وتقوم على وجود نظمٍ وآلياتٍ وسياساتٍ وقواعدٍ هي من أسس النجاح الإداري والاقتصادي لأية مؤسسةٍ خاصةٍ تستهدفُ النمو والتفوق والجودة والمنافسة (لا سيما في مجالات التصدير) . وأما المحورُ السياسي ، فيعني التوسع في التجربة الديموقراطية مع ما يعنيه ويقتضيه ذلك من تعديلاتٍ وتغييراتٍ تساعد على توسعة وتعميق الحياة الديموقراطية والتي لا شك أنها كانت مفقودةً تماماً في الستينات وأنها كانت هزيلةً للغاية في أوائل الثمانينات وأنها الآن أكثر اتساعاً مما كانت عليه منذ عشرين سنة- وإن كانت المسافةُ بين (المتوفر) و(المأمول) لا تزال غير قليلةٍ . ورغم إيمان كاتب هذه السطور العميق بأنه لا مستقبل زاهر ومستقر لمصر بدون تواصل النمو في عملية الإصلاح الاقتصادي وعملية تعميق وتوسيع الهامش الديموقراطي – إلا أنني أعتقد أنهما (رغم أهميتهما القصوى) غيرُ قادرين وحدهما على صنع المستقبل الذي نبتغيه متسماً بالرخاء والرفاهية والاستقرار والسلام الاجتماعي (وأضيف أيضاً: والتواصل الإيجابي والبناء مع مسيرة التمدن الإنساني) . بل وأجزم أننا لو افترضنا حدوث نجاح اقتصادي هائل وتوسعة عظيمة في التجربة الديموقراطية، فإن ذلك المستقبل المنشود سيبقى غير متحقق لو لم تسر بمحاذاة (القاطرة الاقتصادية) و(القاطرة السياسية) قاطرةٌ ثالثةٌ هي قاطرة إصلاح وتحديث التعليم وفي نفس الوقت قاطرة النهوض بالمستويات الثقافية لشتى طبقات وفئات المجتمع . أما التعليـم ، فان أية عمليه تقييم لمؤسستنا التعليمية لا يمكن أن تكون علمية وموضوعية إلاُ إذا سبقتها إجابات عن الأسئلة التالية :- - ما هي الأهداف أو الوظائف الإستراتيجية للعملية التعليمية ؟ - ما هو وضع المؤسسة التعليمية المصرية الراهن من وجهة نظر الأهداف الإستراتيجية للعملية التعليمية ؟ - إذا كانت المؤسسة التعليمية المصرية بوضعها الراهن لا تحقق الأهداف الإستراتيجية لعملية التعليم - فما هي آلية حل هذه المعضلة الكبيرة ؟ أما الأهداف الإستراتيجية للعملية التعليمية ، فقد استقرت تجربة الدول العريقة في التعليم على أن لأية مؤسسة تعليمية في أية دولة عصرية هدفان أو وظيفتان إستراتيجيتان ، أولهما: (وظيفة تعليمية بحت) و ثانيهما: (وظيفة تربوية) . أما الوظيفة التعليميـة البحت فتعنى باختصار تقديم مفاتيح و أسـس العلوم التطبيقية والاجتماعيـة والإنسانية المعاصرة بشكل يسمح بالبناء القوى على تلك الأسس في المراحل العليا للعملية التعليمية . وأما الوظيفة التربوية فتعنى غرس و تأصيل و تنمية و تثبيت مجموعة من القيم يمكن القول بأنها تنقسم بدورها إلي مجموعتين أولهما مجموعة القيم العامة أو الحياتية والتي تستهدف تكوين مواطن صالح . أما المجموعة الثانية فيمكن تسميتها بمجموعة قيم العمل في المجتمعات العصرية ، وهي مجموعة كبيرة من القيم تأتى في مقدمتها قيمة العمل في فريق و قيمة تقديس الوقت وقيمة استهداف الإجادة و توخى الكمال و قيمة المنافسة بمعنى تخريج مواطن تنافسي يساهم في جعل المجتمع بأسره مجتمعاً تنافسياً ، و هذه المجموعة الثانية من القيم على أعلـى درجة من الأهمية لأنها بمثابة الجسر بين التعليم والحياة . فإذا كانت تلك هي القواعد التي على أساسٍ منها نقوم بتقييم المؤسسة التعليمية المصرية (بوضعها الراهن) واقتراح سبل تطويرها ، فإن نظرة متفحصة لأداء مؤسستنا التعليمية اليوم تقودنا لنتيجة مؤلمة فحواها أن التعليم السائد الآن لدينا غيرُ قادر على إفراز النوعية البشرية المطلوبة لمواجهة تحديات العصر المختلفة بشكلٍ إيجابّي وفعّال . وذلك لوجود خلل كبير في الوظيفتين الإستراتيجيتين للعملية التعليمية . فإذا نظرنا للوظيفة التعليمية البحت والتي تستهدف إعطاء مفاتيح العلوم التطبيقية والاجتماعية والإنسانية ، وجدنا أن كل ما قُدم من سبل للعلاج خلال السنوات القليلة الماضية كان ضعيف الأثر لأنة كان يهتم بالأعراض ويتجنب مواجهة أسس الأمراض . فالوظيفة التعليمية البحت تشوبها اليوم الكثير من العيوب ، لعل أهمها ما يلي : غلبة (الكم) بشكلٍ جارفٍ على (الكيف) . الإغراق في المحلية والضعف الشديد في الكونية أو العالمية التي تجعل الإنسان أكثر قدرة على معرفة العالم الخارجي ثم التعامل معه . فساد الذوق بشكلٍ عام في المسائل المتعلقة بالأدب والشعر والفن والرواية والقصة . قيام المؤسسة التعليمية على أساس (الحشو) و(حشر المعلومات والمعارف) في رؤوس التلاميذ – وهو أمر لا قيمة له على الإطلاق . وجود جوانب رجعية (محافظة) عديدة تشجع على أن يصير التلاميذ مادة خام لاستقبال الأفكار المخاصمة للعصر والحضارة والمدنية . أما الوظيفة التربوية والتي تستهدف غايتين على أعلى درجات الأهمية هما غرس مجموعة أساسية من القيم العامة أو الحياتية بهدف إفراز مواطن صالح وغرس مجموعة هامة من قيم العمل في المجتمعات العصرية بهدف إفراز مواطن فعّال وإيجابي وخلاق ومتقن للعمل وقادر على المنافسة . أما هذه الوظيفة ، فإن مؤسستنا التعليمية تقوم بالقليل جداً من شقها الأول (القيم العامة أو الحياتية) مع غياب ظاهر لمجموعة قيم عامة أو حياتية أساسية مثل قبول الآخر والقبول الموضوعي للنقد وعدم التعصب والاحترام العميق للخلافات العرقية والدينية والسياسية والفكرية والثقافية وكذلك ترسيخ ثقافة السلام (عوضاً عن ترسيخ ثقافة العدوان) . أما الشق الثاني من الوظيفة التربوية والذي يستهدف غرس قيم العمل في المجتمعات العصرية ، فإن برامجنا التعليمية خالية تماماً من أي برامج تستهدف بذر وتثبيت القيم التي تفرز إنساناً يصلح بشكل مناسب للعمل العصري . بل وأكاد أزعم أن معظم القائمين على أمور التعليم لا يعرفون أي شيء عن هذه المجموعة من القيم وبالتالي والمنطقي فإن اهتمامهم بها منعدم . ورغم أن أعداداً كبيرة من المصريين اليوم يميلون ميلاً جارفاً للتهوين من حجم المشكلات بوجه عام والمعضلة التعليمية بوجه خاص ويميلون بالتالي للحلول الترميمية ، فإن ذلك لم ولن يمنعنا من أن نكرر في العديد من المناسبات أن مؤسستنا التعليمية لا تحتاج للترميم وإنما لاعادة الصياغة من الألف إلى الياء – وأن كل ما يجري حالياً من عمليات ترميمٍ في المؤسسة التعليمية بوجهٍ عامٍ وفي البرامج الدراسية بوجهٍ خاصٍ لن يكون بوسعه أن يقدم لمصر "العناصر البشرية" المطلوبة للسير بالمجتمع بالشكل الذي نتوخاه في ظل الظروف العالمية المعاصرة والمستقبلية . أما عن المنهج المطلوب لإصلاح التعليم إصلاحاً يسمح بتخريج الإنسان العصري الذي تحتاجه مصر للتعامل مع حقائق وتحديات المرحلة الحالية والمراحل القادمة ، فمن الضروري أن نبرز أن الإصلاح الكامل الشامل للمؤسسة التعليمية المصرية يقتضي إصلاح ثلاثة جوانب رئيسية من جوانب المؤسسة التعليمية وهى : - البرامج والمقررات المدرسية. - أحوال المدرس المصري (سواء المتعلقة منها بتكوينه وتدريبه أو المتعلقة منها بأجره وظروفه الحياتية). - الأبنية المدرسية (والتي يفترض أن تكون مشتملة على كل الوسائل العلمية والمعملية والرياضية المنتظر توفرها في أية مدرسة عصرية . أما إصلاح البرامج والمقررات فهو البعد الوحيد القابل للتنفيذ الفوري شريطة توفر الرؤية والنظرة الفلسفية العصرية المطلوبة في واضعي إستراتيجيات التعليم (أي ان يكونوا من المنتمين للحاضر والمستقبل - وليس للماضي) . أما إصلاح أحوال المدرس المصري والأبنية المدرسية المصرية فإنها عملية مركبة وذات كلفة بالغة الارتفاع ، لذلك فمن المنطقي أن تكون لنا سياسة إصلاحية في هذا الصدد على المدى القصير وسياسة موازية طويلة الأمد. أما الإصلاح على المدى القصير فيتطلب عدم الانشغال بإصلاح المؤسسات التعليمية كلها في وقت واحد ، وإنما انتقاء مجموعة من المدارس على مستوى الجمهورية قد تمثل ما لا يزيد عن 10% من عدد المدارس الكلي ، ووضع برنامج محدد للرقي بهذه المجموعة المنتقاة على كافة المستويات ، وبالتحديد مستوى المعلمين (المدرسين) ومستوى البرامج التعليمية ومستوى الأبنية التعليمية وما يتبعها من تجهيزات كالمعامل والمكتبات والملاعب الرياضية ومعامل اللغات الأجنبية وأجهزة الكمبيوتر. وتكون هذه المدارس (والتي قد لا تتجاوز 10% من عدد المدارس الكلي) هي نموذج التطوير المنشود . والهدف من الاكتفاء بعدد لا يتجاوز العُشر (10%) هو أن ما لا يدرك كله لا يترك كله ، بمعنى أن إصلاح كل المدارس في ذات الوقت هي مهمةٌ بالغة الصعوبة والكلفة. وللتدليل على صواب هذا المنهج المتدرج وعلى استحالة الإصلاح الفوري الكلي لكل المدارس المصرية ، فأنني اكتفي بملاحظتين : العدد الإجمالي للمدرسين في مصر اليوم يبلغ تسعمائة ألف مدرس . فإذا تخيلنا زيادة مرتب المدرس (في المتوسط) بما يعادل ثلاثة آلاف جنيهاً في السنة لتحسين ظروفه المعيشية تحسيناً طفيفاً ، فإن تكلفة ذلك (إذا تم بالنسبة للجميع في وقت واحد) سوف تكون في حـدود ثلاثة آلاف مليون جنيهاً (هي تكلفة الزيادة في المرتبات فقط وليس تكلفة المرتبات الإجمالية) . أن التطوير الشامل والكامل للأبنية المدرسية على مستوى الجمهورية ولكل المدارس في نفس الوقت يحتاج لميزانية لا تقل عن خمسين ألف مليون جنيهاً (أي ما يعادل نصف الميزانية الإجمالية للدولة في سنة بأكملها). وهكذا يتضح أن الحديث عن الإصلاح الكامل والشامل لكل المدارس والمؤسسات التعليمية في وقت واحد هو من ضروب المستحيل ، وكل من يطالب بذلك بشكل فوري وحال فإنه ينطبق عليه المثل المصري بأن من يده في الماء ليس كمن يده في النار . كذلك يدعم المنهج المقترح أنه طبق في العديد من الدول . ففي بريطانيا مثلاً توجد العديد من المدارس العادية ، وهي ذات مستوى متوسط وأحياناً أقل من المتوسط ، ولكن إلى جانبها توجد مراكز التعليم المتميز وهو ما يشبه ما عرفناه في مرحلة ما تحت مسمى مدارس المتفوقين . حيث توجد مدارس هي بمثابة مراكز للتميّز (Centers of Excellence) على مستوى المدرس والتلميذ والمباني التعليمية والمكتبات والمعامل والتسهيلات الرياضية والبرامج التعليمية . أما البرنامج الإصلاحي لكامل المؤسسة التعليمية ، والذي هو بطبيعته برنامج طويل المدى ويستحيل أن ينجز بالكامل على المدى الزمني القصير أو المتوسط ، فإنه يحتاج بداية لوضع ورقة استراتيجية تحدد ما الذي نطلبه من المؤسسة التعليمية (لاسيما قبل الجامعية) وما هي الأهداف التي نبغي الوصول إليها . وهنا ، فإن أكبر مشكلة ستواجهنا هي إن معظم برامج التعليم (قبل الجامعي) عندنا اليوم هي برامج إما ضعيفة الصلة أو أحياناً معدومة الصلة بالاحتياجات المجتمعية وفي مقدمتها احتياجات المجتمع الاقتصادي . فالتعليم يستهدف تقديم ما يسمى بالتعليم الحر أي القائم على التعرف على مناطق عديدة من مناطق المعرفة الإنسانية (دون أن يستغرقنا التخصص) ولكن هناك هدف آخر لا يقل أهمية وهو إعداد موارد بشرية ذات مواصفات خاصة تتطلبها الحياة الاقتصادية أي قطاعات العمل الإنتاجي والخدمي . ولا شك عندي أن مؤسستنا التعليمية (وتحت ظروف الستينات والتي كانت مضادة لهذه الأهداف والتي كانت أيضاً تعمل على تخريج "موظفين عموميين" وهم كادر بشري اضمحلت الحاجة اليوم لهم ، ناهيك عن افتقار مؤسستنا التعليمية منذ ذلك العهد لروح التعليم الحر الذي يخلط التعليم بالتثقيف بالاستنارة بغرس قيم الحضارة الحديثة وقيم العمل في ظروف الحياة الاقتصادية المعاصرة) . وسوف نكتشف أننا ونحن نضع هذا التصور الاستراتيجي لهدف أو أهداف العملية التعليمية في حاجة لتخليص المؤسسة التعليمية (وبرامج التعليم) من روح الحشر التي تتسم بها ومن روح التلقين واختبار القدرة على تخزين المعارف ، وهي صفات غير ذات قيمة عالية بالنسبة للإنسان العصري الذي تحتاجه ظروفُ الحياة الاقتصادية المعاصرة. كذلك سنكتشف أن معظم برامجنا الدراسية التي كان من المفروض أن تستهدف تحبيب التلاميذ في العديد من جوانب الإبداع الأدبي والفني قد نجحت في تبغيض التلاميذ في كل ما يُقدم لهم في هذه المجالات نظراً للذوق السقيم الذي اتُصف به من عُهد إليهم باختيار البرامج والنصوص – فهم خلطة ما بين "الموظف العام الخالي من الموهبة والتذوق والإبداع" و"الإنسان المحافظ" كنتيجة طبيعية لظروف تكوينه التعليمي والثقافي والفكري والاجتماعي (فمن الأسهل أن يكون الإنسان محافظاً عن أن يكون تقدمياً وعصرياً ومتحرراً – فالاتجاه الثاني يتطلب قدراً كبيراً من المعرفة والثقافة وأحياناً الذكاء) . ** هذا النص هو الترجمة العربية الحرفية للفصل الثالث من كتابي بالإنجليزية (الثقافة العربية مصفدة) (450 صفحة) التى نشرتها (فى 2009) كبري دور النشر العالمية وهى (دار نشر جامعة كامبريدج - فرع نيويورك ) والترجمة من الإنجليزية للعربية بقلم المؤلف ومراجعة السيدة / ليلي حنين المساعدة الشخصية الأولي للمؤلف .
#طارق_حجي (هاشتاغ)
Tarek_Heggy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلامة موسي : كبير المظاليم فى حياتنا الثقافية
-
يا طائر الفينيق الأروع إنتصر اليوم للتحضر والتمدن
-
خطاب أوباما بجامعة القاهرة - تعليقات أولية.
-
نحن ... وثقافة الحوار المتمدن .
-
عواقب تآكل الطبقة الوسطى.
-
رحلة صعود الإسلام المحارب وإنزواء البدائل
-
وهم ضياع الهوية ... أو ثقافة القوقعة !
-
مرة أخري : لخدمة هذه القيم أكتب منذ ثلث قرن !
-
نحن .. . وقيم التقدم .
-
أدب المنشقين السوفييت قبل إنهيار جبل الجليد.
-
ثقافتنا: ... بين الوهم والواقع
-
بين الإستقرار والفوضى.
-
العربي النمطي ... فى الشعر النبطي
-
مستقبل العقل المسلم.
-
الحالة الإيرانية فى كبسولة.
-
من دفاتر طارق حجي القديمة - مسألة ديكتاتورية البروليتاريا
-
من دفاتر طارق حجي القديمة : مسألة الدولة فى الفكر الماركسي.
-
من دفاتر طارق حجي القديمة : الماركسية - إلى أين ؟
-
برقية تلغرافية لكل لبناني حر ...
-
طارق حجي : من المؤلفات الأولي : الإقتصاد الماركسي .
المزيد.....
-
الجزائر تستعجل المجموعة الدولية لتنفيذ قرار اعتقال نتنياهو و
...
-
فتح تثمن قرار المحكمة الجنائية الدولية: خطوة نحو تصويب مسار
...
-
نتنياهو: قرار المحكمة الجنائية الدولية إفلاس أخلاقي.. ويوم أ
...
-
السلطة الفلسطينية تُرحب بإصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغا
...
-
رويترز عن وزير الدفاع البريطاني: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو
...
-
رويترز عن وزير الدفاع الايطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو
...
-
الجزائر ترحب بقرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتق
...
-
البيت الأبيض: مذكرات الاعتقال بحق المسؤولين الإسرائيليين مرف
...
-
نتنياهو ردا على قرار المحكمة الجنائية الدولية: لن نستسلم للض
...
-
قادة ورؤساء صدرت بحقهم مذكرات اعتقال من الجنائية الدولية
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|