|
هذه أو هذه وإلا فتلك: عقائد الحتمية في السياسة السورية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2675 - 2009 / 6 / 12 - 10:04
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
بثلاثة ضروب من الحتمية تشرع السلطات السورية نفسها. الضرب الأول مستبطن في حالة الطوارئ التي تنوء تحت ثقلها البلاد منذ اليوم الأول للحكم البعثي قبل ما ينوف على 46 عاما. تقرر الإيديولوجية المضمرة في حال الطوارئ أن سورية تواجه أخطارا مصيرية داهمة، وأن أولوية المواجهة تستنفد كل جهودها وطاقاتها، وتتسبب في بعض أوجه القصور السياسية والاقتصادية والحقوقية. تنزع إيديولوجية المواجهة هذه إلى اشتقاق النظام السياسي والقانوني في سورية من حالة الحرب المفترضة. نظامنا هو ما هو وأوضاعنا هي ما هي بسبب وجود عدو خطر على الأبواب. ووجود أراض سورية محتلة من قبل إسرائيل يوفر سندا واقعيا لإيديولوجية المواجهة، رغم أن الأراضي المعنية احتلت عام 1967، بعد أربع سنوات ونيف من حالة الطوارئ. وتتكفل الأجهزة التي تنتج هذه الإيديولوجية بخلق ارتباط جوهري وحتمي بين بنية النظام وبين المواجهة المفترضة، إلى درجة أنه يغيب عن أكثرية السوريين أن حالة الطوارئ فرضت وقت استولى حزب البعث على السلطة، وليس أثناء أي من حروبنا مع إسرائيل. والمقتضى العملي الذي يبنى على هذه الإيديولوجية هو أنه ليس على جمهور السوريين أن يرفع صوته بمطالب اجتماعية وسياسية، لأن المعركة الوطنية المصيرية لها الأولوية العليا. من قد يحتج أو يشكك في ذلك ربما يكون عميلا أو خائنا. الحتمية الثانية ثقافية، برزت في تسعينات القرن العشرين مع صعود أفكار الديمقراطية والليبرالية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان عالميا. كان الدفاع المعياري عن البنية الاستبدادية للنظام أن ثقافتنا وتراثنا، خصوصيتنا، تحدد نظامنا ومستوى الحقوق والحريات فيه. قد يقال إن نظامنا هو الديمقراطية الخاصة بنا، أو إنه يعمل على بناء ديمقراطية وحقوق مناسبة لمجتمعنا وخصوصيته وتراثه. وهنا أيضا تعني العلاقة الحتمية بين ثقافتنا الخاصة ونظامنا السياسي أن هذا لا يستطيع أن يكون غير ما هو. ومن قد يعترض على النظام هو داعية أفكار مستوردة أو ربما بوق للدعاية للاستعمارية. واللافت أن هناك تنويعة أخرى لهذه الأطروحة الثقافوية، يتبناها مثقفون مستقلون، تقرر أن نظامنا استبدادي فعلا، لكنه ليس كذلك إلا لأن ثقافتنا استبدادية في جوهرها، مع ميل إلى استنباط "ثقافتنا" من "الإسلام". وهذا ما يجعل الاستبداد من طبائع الأشياء عندنا، وما يعفي السلطات من أية مسؤولية عنه. وثمة بعد أطروحة فرعية إضافية، تقرر أن من شأن التغيير السياسي في بلادنا أن يفضي إلى سيطرة الإسلاميين لأسباب تتعلق بتركيب تفكيرنا وثقافتنا، فتزكي بقاء الأوضاع القائمة إلى حين يتغير التركيب المريض هذا. هنا أيضا تقذف مطالب الإصلاح السياسي إلى مستقبل مجهول. الحتمية الثالثة اقتصادية. برزت هذه في وقت مبكر من العهد الحالي. في جانبها التفسيري تقرر الحتمية الاقتصادية أن مستوى الحريات والحقوق العامة يتحدد بمستوى التنمية ومتوسط الدخل الفردي، وأن الناس يحتاجون إلى الخبز على موائدهم قبل كل شيء آخر. وفي جانبها السياسي العملي تعطي أولوية للإصلاح الاقتصادي على الإصلاح السياسي، وتعلن أن إصلاح الاقتصاد هو بالضبط الشيء الذي تكرس له كل جهودها. هل من حاجة إلى القول إن النظريات الحتمية الثلاثة زائفة تماما؟ لم يظهر في أي يوم مفعول إيجابي لحالة الطوارئ على الدفاع والأمن الوطنيين. بل ولم يكن هذا غرضها في أي يوم. وفي نقاش نزيه قد يمكن القول إن أوضاعنا الحالية وما تتسم به من أوجه قصور متعددة ليست نتاج المواجهة مع العدو، بل هي نتاج نظام الاستثناء الذي يحتاج إلى إيديولوجية مواجهة كي يسوغ نفسه ويمنع الاحتجاج عليه ويخوّن معارضيه. وبالمثل ليست خصوصيتنا المزعومة هي التي أنتجت هياكل السلطة الاستبدادية الراهنة، بل إن الخصوصية من اختراع الهياكل هذه وإيديولوجييها لتبرير الأوضاع القائمة. بالمثل أيضا ليست الظروف الاقتصادية الصعبة هي التي تفسر البنيان السياسي والحقوقي الراهن، بل إن البنيان هذا هو المسؤول عن تلك الظروف. فهي نتاج انفراد مديد بتحريك الموارد الوطنية لمصلحة نخب من المقربين والمحاسيب وأهل الثقة. والانفراد هذا يقتضي قوانين استثنائية لحمايته وضمان تراكم الملايين والمليارات في الجيوب نفسها. تشترك الحتميات الثلاث في أنها موجهة لتثبيت الأوضاع القائمة وإضفاء الشرعية عليها. ورغم تتابعها في الزمان إلا أنها تتعايش معا في خطابات إيديولوجيي النظام. يقال لمن قد ينتقد الأوضاع الراهنة إننا في حالة حرب (اسكت إذاً!)، وإن الديمقراطية متعارضة مع تقاليدنا (اسكت ثانية!)، وإن الخبز أهم من التصويت (اسكت أيضا!). تشترك النظريات الثلاثة أيضا في صفتها المجملة الممتنعة على الشرح والبرهان، وفي أن دحضها ممتنع تماما لأنه ليس لها معنى موضوعي أو صيغة محددة. إنها نظريات موجهة لأغراض عملية، أي تبرير ما هو قائم. أما محصلتها الجوهرية فهي تعطيل إمكانية الإصلاح. فإذا كان الحال نتاج مواجهة حتمية مع العدو الوطني، أو تعبيرا عن خصوصية ثقافية أصيلة، أو انعكاسا لأوضاع اقتصادية تفرض منح الأولوية لحاجات معيشية ماسة، فإنه لا ينصلح دون انتهاء المواجهة أو تغيير الثقافة أو توفر الخبز على موائد السكان. بالطبع لن يتغير شيء. المواجهة لازمة، فإن انتهت ربما يخترع غيرها؛ والثقافة لا تتغير إما لأنها "أصالتنا" التي لا ينبغي أن تتغير، أو لأن هناك قوى متخلفة في المجتمع تمنع تغيرها، أو لأن تغييرها يؤدي إلى الأسوأ فحسب، رغم أطيب جهود النظام؛ والأوضاع الاقتصادية لا تتغير رغم أفضل الجهود أيضا، إما بسبب الامبريالية ومحاصرتها لبلدنا، أو لأننا بلد عالم ثالثي، أو بسبب الجفاف، أو بفعل التكاثر السكاني... الإصلاح مستحيل في جميع الحالات. مستحيل فعلا دون تغيير جدي في هياكل النظام السياسي باتجاه يجعله أكثر مسؤولية، وبما يتيح إمكانية نقاش عام يتصف بالحد الأدنى من الصدق والنزاهة.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظرات في اللوحة الإيديولوجية العربية السائدة
-
العلمانية والقومية والامبريالية.. أسئلة مفتوحة
-
نظريتان في الطائفية.. بلا نظر
-
الكتابة العمومية كسياسة كتابة
-
نظرية الحتمية الثقافية في الثقافة السورية مقالة ضد العناد
-
الفكرة القومية العربية (والإسلامية) كإيديولوجيتي حرب أهلية
-
مسار حرج لتطور الوضع الكردي السوري
-
في ذهنية المنفعة ونقد الثقافة
-
العلم والفتوى و..الفوضى
-
كيف نتقدم؟ أبالثقافة أولا؟
-
مفهوم سيادة الدولة كأساس لحرية الاعتقاد الديني
-
عولمة التقدم وانبعاث التخلف
-
في عالم -الخطيئة الأصلية-
-
أي رصيد للقوة بحوزة حركات المعارضة -العلمانية- العربية؟
-
من يصغر مصر الكبيرة؟
-
الصعود الإسلامي وأزمة التقدم العربي
-
في السياسة والثقافة وأزمة العام الوطني
-
انفصال الإخوان المسلمين السوريين عن جبهة الخلاص.. ماذا بعد؟
-
في نقد الأصولية
-
ليس الدولة أن تفهم غير لغة القوة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|