حسين الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 2676 - 2009 / 6 / 13 - 07:03
المحور:
حقوق الانسان
قطار الزمن الرديء لسباق المسافات الطويلة
قد يبدو لأول وهله إن العنوان يتحدث عن سباق القطارات حاله حال السباقات الأخرى ، كسباق السيارات أو الخيل أو الكلاب أو القطط التي تقام في الغرب كنوع من أنواع الترفيه أو المغامرة أو المقامرة في أكثر ألأحيان.
إلا أن الأمر ليس كذلك , انما هو قصة حياة عراقي عاش في الغربه ولم يتعايش معها. وهي بالطبع ليست جسديه فقط بل منها الروحيه او الوطنيه. وهي مريره كمرارة العلقم بل أكثر لذعا. نحن هنا بصدد حياة الغربه في الدول العربيه ولنتفق من البدايه على أن نسمي المغترب العراقي في الدول العربيه (المغترب العراقي العربي) أما في الغرب فنسميه ( المغترب العراقي الغربي) طبعا هذا اتفاق اعتباطي على أية حال. وعندما نعمل مقارنه بين الطرفين سنجد أن حياة المراره لدى ( المغترب العراقي العربي) اكبر بكثير من مثيلتها لدى ( المغترب العراقي الغربي) وأكثر إيلاما .
وبما إن المراره هي المسؤله عن إفراز السائل المر المؤدي إلى مرارة الحياة هناك , فقد فكر كثير من العراقيين باستئصالها والتخلص من الحياة المره هناك جملتآ وتفصيلا , ولكنهم وجدوا بعد وقت معين إن الكبد أصبح يضخ المراره
بدون وازع , الأمر الذي جعل حياة ( المغترب العراقي العربي) مره بالكامل بعد إن كانت مره بين يوم وأخر. صحيح
إن وظيفة المراره هي المساعدة على الهضم, ولكن هذا في العراق فقط وليس في الغربه لان وظيفتها تتغير بتغير الأحوال. أذن كيف الخلاص من هذا المأزق الصحي المدمر؟ اخذوا يفكرون في الأمر ليلا ونهارا. جربوا كل الماديات بلا فائده ثم اهتدى البعض إلى الروحانيات وهنا حصل انشقاق كبير بين الماديين والروحانيين. الروحانيون يقولون " الصبر طيب " و " اصبر وما صبرك إلا بالله " و" الصبر مفتاح الفرج" و"إن الله يحب الصابرين". وهكذا وجدوا ملاذا آمنا يلوذون به عند الشدائد وحرق الأعصاب اليومي . ولكن الماديون انتفضوا على الروحانيين واتهموهم بالاستكانة والخنوع والماسوشيه وقدموا تحليلاتهم المادية وقالوا: إن كل ساعة صبر تساوي شعره بيضاء في رأس المغترب العراقي وكل يوم صبر يساوي ضعف بصر بدرجتين ومرض السكر والضغط العالي. نعم " الصبر طيب" ولكن ليس هنا في الغربه بل في العراق فقد اعتاده الناس وتعودوا عليه. وهكذا توصلوا إلى حقيقة ملموسه وهي إن العلاقه بين الصبر والمراره علاقه طرديه . يقولون: احسب أنت26سنه اغتراب كم شهر تساوي واضربها في كتلة المراره الشهريه ستجد إن هذه الكتلة كافيه لبناء زقوره من الآلام ثانيه في الناصرية. يبدوا إن تيار الوعي قد أخذنا بعيدا عن صلب الموضوع وهو لماذا هاجر العراقيون. في سنة 1979كان العراق يرزح تحت دكتاتورية الحزب الواحد وممارساته القمعية ضد ألمعارضه العراقية الدينيه منها والعلمانية .ليس في جعبته شيء اسمه "الرأي الأخر" ومما زاد في الطين بله, أن صدام تربع على عرش الحزب في غفلة من الزمن خلال فتره زمنيه قصيرة استطاع فيها أن يبني دكتاتوريه مخيفه---مرعبه ليس على العراقيين العاديين فحسب بل على زملائه في الحزب أيضا مثل فؤاد الركابي وعبد الخالق السامرائي وعدنان حسين وهم أكثر ثقافة واطلاع منه ويميلون إلى السلم فصفاهم واحدا تلو الأخر وحتى قائل هذا البيت" بعث تشيده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهدم " لم يسلم من التصفية الجسدية .لماذا كل هذه الساديه بحق العراقيين؟ لان الحدث الأخطر قادم وهو إشعال حرب مع ألجاره إيران وهكذا دخل النظام ألصدامي السابق في حرب عبثيه مع إيران أزهقت فيها أرواح بريئة وترملت فيها نساء وضاع فيها الشباب فانتشرت المجاعة والفقر والرذيلة والدعارة وتشرد الأطفال في الشوارع وصدرت براءتهم فقست قلوبهم وأصبحوا ماده خصبه للإجرام والانحراف.هذا اجتماعيا إما اقتصاديا فقد انهار الاقتصاد العراقي وتكبل العراق بديون لا يمكن تسديدها إلا بربع قرن من الإنتاج النفطي المجاني فأصبح القطاع النفطي رهينة لمده زمنيه طويلة. وقد دفعت قساوة الحرب وبشاعتها الكثير من العراقيين إلى بيع بيوتهم والهجرة إلى الخارج بحثا عن "الفردوس المفقود" في بلادهم.منهم من نصب عليه وخسر ماله كله وعاد" بخفي حنين" إلى الوطن فعانى الأمرين: مرارة الحرب ومرارة الاغتراب في الوطن لان"الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربه"ومنهم ثلاثة أطباء كبار السن ماتوا في الطريق الصحراوي من السودان إلى ليبيا وهو طريق صحراوي موحش ومخيف بسبب ما تشكله جماعة قرنق المعارضة من خطر على القوافل السودانية الحكومية, ماتوا ودفنوا هناك في الصحراء. وقد كانت رحلات الموت هذه تستغرق من 7-11 يوم مع الخراف والماعز فوق والمسافرون داخل الباص المحور على شكل باص من باصات أبو الخصيب في البصرة وعندما تطوع احد العراقيين وذهب إلى السفارة العراقية في ليبيا وابلغهم بالموضوع, كان الرد:ومن قال لهم يتركوا وطنهم يستأهلون.
ومنهم من ماتوا غرقا في البحر بعد أن انقلب القارب المغامر إلى استراليا والمحمل بأكثر من طاقته من العراقيين المهاجرين والمهجرين زمن النظام السابق(رجالا ونساء وأطفال) هربا من الساحل العربي للمتوسط وقسوته وابتزازه إياهم. لم تكن الحرب العراقية الايرانيه وطنيه أبدا بل كانت عبثيه دفعت بالعراقيين إلى الموت المجاني ومع ذلك عند انتهاءها فرح العراقيون فرحا شديدا وأوشكوا أن ينسوا ويلاتها وويلاتهم . ولكن النظام السابق لم يتعض ويلتفت إلى شعبه بل دخل في حرب انتقاميه هذه المرة وهي على أية حال تحصيل حاصل لحربه على إيران والتي كانت مشغولة في لملمة بيتها الداخلي بعد أن سقط الشاه ونظامه السافاكي ولقد كان بالإمكان تجنب الحرب وويلاتها عبر الحوار والتفاهم وبما إن القائد الضرورة لا يؤمن بالحوار أو التفاهم أو الاستماع للرأي الآخر ولأنه كذلك تولد لديه شعور شخصي بان بعض دول الجوار قد ضحكوا عليه وغدروا به لذا احتل الكويت ولم يستمع إلى مناشدات دول العالم وخاصة العرب منها بألا يفعل ذلك .هذا من الناحية الظاهرية , أما من الناحية الحقيقية والفعلية فقد أراد أن يضرب عصفورين بحجر واحد: أولا التخلص من بعض ضباط الجيش الممتعضين من سياسته والذي من المتوقع إن ينقلبوا عليه ويستلموا السلطة ,وثانيا الهاء الناس عن حالة الاقتصاد المدمر , فأغمض عينيه واحتل الكويت وهو مدرك لما قد يحصل. وحصل ما حصل, وهنا بدأ العراقيون بالخروج من العراق هربا من الجحيم المكتوب عليهم( الظالم سيفي انتقم به وانتقم منه ) .الجحيم النفسي الاقتصادي المفروض على العراق والذي فرضه هو نفسه على العراقيين فأخذ يمعن في إذلالهم من خلال ما يسمى بالبطاقة التموينية سيئة الصيت ( طحين مصحوب ببعض التراب أو , الفصم, --صابونه—شاي مستعمل ومعاد استعماله من خلال تجفيفه وإعادة صبغه وتلوينه—دهن نباتي صاك وهو بالطبع خطير جدا ويسبب على مدى ليس ببعيد تصلب الشرايين ( وهي بالأصل متصلبة من زمان ) المؤدي إلى ارتفاع الضغط والجلطة الدماغية —نصف دجاجه مكرمه من صبحه. وفي حالة سؤالك عن الميزانية بقصد أو بدون قصد , فانك من المفقودين لا محالة . وعند نشوب حرب استعادة الكويت وما رافقها من عذابات إنسانية بدأ العراقيون بالخروج من البلد بأعداد كبيره هذه المرة وهذه هي عبارة عن الهجرة التانيه والثالثة .وحتى في الغربة نفسها يتدخل الحظ أو القدر ويلعب دوره في حياة المغتربين فمنهم من توفى هناك من القهر والعذاب أو من مرض السكر والضغط العالي ولا يتذكر هذا المهاجر العائد إلى وطنه (وليته ما عاد) إلا القليل منهم لان الذاكرة لم تعد تسعفه ولكن أسماء من مثل المرحومين عبد الحسين وعبد الجبار ما زالت محفورة في الذاكرة كما أن ذاكرة الدكتور شلتاغ محافظ البصرة الجديد تختزن أسماء أكثر فقد كان في الجزائر وليبيا ولندن وذاق مرارة الغربة ومعانتها النفسية.وكذلك السيد بهاء الاعرجي أيام سوق السر بادي حيث كان صاحبنا المهاجر هذا( والعائد إلى وطنه منذ عشرة اشهروالذي ما زال يدخل في مربع ويخرج من أخر ليعود مره أخرى إلى المربع الأول والذي ما زال يكافح في العودة إلى عمله السابق في مصفى البصرة بدون نتيجة علما بان لديه شهادة بكالوريوس انكليزي سنة 1975ولديه ألان خبره 26سنه في الترجمة الشفهية والمكتوبة والطباعة عربي –انكليزي على الكمبيوتر ) والمحامي اللامع يتناولان القصص والأحاديث الحزينة عن مأساة الشعب العراقي وضحاياه وشهدائه ومنهم سائق التاكسي البرازيلي الشهيد باسم أبو محمد والشهيد هادي الركابي أبو محمد . فقد كان يتقاسم السجائر مع هذا المهاجر في مكتبه في ألكاظميه قبل أن يهاجرا إلى لندن وليبيا. الموت غرقا في البحار—النصب والاحتيال-السرقة-الموت في الصحاري –الشعور بالإذلال—الاهانه—الاحتقار في المعاملة-هذا ما كان ينتظر بعض العراقيين في الغربه.أذن الغربه ليست دائما مجزيه ,بل هي أحيانا نوع من أنواع المغامرة أو المقامرة—إما حياة أو موت , إما جنه أو نار.خياران لا ثالث لهما وعليه لا يحق لعراقيي الداخل أن يحسدوا عراقيي الخارج على حياة الرفاهية الوهمية التي يحيونها هناك. وهنا تحضرنا أبيات احد المهاجرين قبل أن يغادر وطنه:أتذكر قلت لن أعود—ها أنت يقتلك الحنين –تلوع بالأشواق—ليتك كنت تعلم ما البعد –ما المنفى—ما الفراق لأخذت في يوم الرحيل—حفنتين من التراب زادا لغربتك المريرة—يا عراق –يا عش عصفور رمته الريح في عش غريبة—يا موطني آت أنا آت حتى ولو في جسمي المهزوم ألاف الجراح---وكما رحلت مع الرياح يوما--- أعود يوما مع الرياح.نعود مرة أخرى إلى هجرة العراقيين الثانية أي عند احتلال الكويت والثالثة بعد الحصار المدمر ..كان بإمكان العراقيين إثناء الحرب العراقية الإيرانية أن يهاجروا إلى الغرب ويحصلوا على حق اللجوء السياسي أو الإنساني.ولكن بعد احتلال الكويت, أصبح العراقيون غير مرغوب بهم في دول العالم عدا بعض الدول العربية كسوريه والأردن وليبيا ولكن ليبيا كانت مفضله لدى العراقيين بسبب حاجتها إلى الكادر العراقي المتخصص لذا تدفق عليها العراقيون من سوريه والأردن فازدحمت المقاهي والفنادق بهم . وهنا يلعب الحظ دوره ,فمن كان يحمل شهادته الجامعية معه يتحصل على عمل بعد فتره وجيزة يقضيها ( منظف سيارات—حارس مزرعة---راعي غنم الخ.ولقد جلب العراقيون معهم العادات الجديدة التي ترسخت لديهم أثناء فترة الحصار الجائر وهي الانانيه المفرطة والشهادات المزورة الأمر الذي جعل العراقيين العاملين بعقود يحجمون عن مساعدة القادمين الجدد خوفا واحترازا فضاع عمل الخير وتلاشت الروح الوطنية فأصبح العراقي يعاني من ألغربه والاغتراب في آن واحد . الثمن إذن غالي جدا.ففي كل سنه من تلك السنوات العجاف يضع العراقيون أيديهم على قلوبهم خوفا من إلغاء العقود .هذه المعاناة كانت قبل سقوط النظام , أما بعده,فقد اشتدت المعاناة لدى العراقيين لأنهم اعتبروهم راضين عن سقوط النظام السابق ومرحبين بأمريكا. ويوم بعد يوم,أخذت المعاملة السيئة تزداد ضد العراقيين خاصة وأنهم ليس لديهم سفارة عراقيه أو قنصلية أو قائم بأعمال الأمر الذي دفع بعضهم إلى ركوب البحر والهجرة إلى الغرب أما اللذين طفح بهم الكيل من العذاب وقد كانت عندهم الروح الوطنية عاليه وحبهم لوطنهم غير قابل للمساومة فقد قرروا العودة إلى الوطن. ولكن كيف؟ لقد اختلف الأمر. فإذا كان الأب راغبا بالعودة تكون الأم رافضه لها والعكس بالعكس.وأحيانا تأتي المعارضة من الأبناء .فقد تعودوا على حياة سهله ووسائل ترفيه وتسليه ,وهذه , كما تصورها بعض وسائل الإعلام وخاصة المسمومة منها , غير متوفرة في العراق الجديد بالاضافه إلى عدم وجود الماء والكهرباء والأمان . ولكن الروح الوطنية لدى بعض العراقيين ما زالت تتنفس ولم تمت بعد. فقاموا بزيارة جس النبض ولكنهم اصطدموا بواقع مزري ومخيف بالرغم من مناشدات الحكومة العراقية الجديدة وعلى رأسهم دولة رئيس الوزراء نوري المالكي للمهاجرين بالعودة إلى وطنهم والمساهمة في اعمارة.اصطدموا بالفساد المالي والإداري والكره الأعمى لدى بعض موظفي الدولة للعائدين فهل يعقل أن يمتطي العراقيون العائدون لوطنهم نفس قطار الزمن الرديء الذي امتطوه أول مره ؟ THAT S THE QUESTION
حسين خزعل الركابي
#حسين_الركابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟