هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2673 - 2009 / 6 / 10 - 10:12
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
الكتاب بعنوان تجاوز السلطة. والكاتب هو فرنسوا بايروF. Bayrou . وقد تعرضنا في مقال سابق لعرض بعض الأفكار الواردة فيه. كما أرسلنا رسالة للكاتب (منشورة على موقعه الشخصي) متعلقة بالكتاب المذكور, وتمنينا عليه أن لا ينظر الديمقراطيون, على الأقل في الحركة التي يترأسها, "الحركة الديمقراطية MoDem" , كغيرهم للمنطقة العربية على أنها مجرد منطقة خصيبة لا تصلح إلا للاستغلال الاقتصادي والسياسي فهي ــ إذا ما سادتها الديمقراطية, وبُنيت السلطة حسب معاييرها , لتخرج عن كونها سلطة مطلقة, قمعية, غاشمة ــ قادرة ليس فقط على إنتاج بترول وغاز وفوسفات, وغيرها من الثروات, بشكل أفضل, وإنما كذلك على إنتاج فكر وإبداع, مثل الغربيين أنفسهم, وبأن هؤلاء الغربيين لو عاشوا في ظروف الإنسان العربي الحالي, أو الإنسان في العالم الثالث, لما اختلف تكوينهم عن تكوينه, ولا إنتاجهم عن إنتاجه.
وقد رأينا من المفيد أن نعرض في السطور التالية ما يراه الكاتب, في الفصل التاسع من كتابه, من خطر على العلمانية في فرنسا. فهو لا يقصد فقط مواصلة نقده لسياسة ساركوزي ــ منذ التنافس على الرئاسة والى اليوم, وبهدف التحضير المبكر للانتخابات الرئاسية القادمة بعد 3 سنوات ــ وإنما كذلك, من رؤية ومنظورا لسياسي والبروفسور الملم بالتاريخ ودروسه, التحذير من الركون للمبادئ التي يُعتقد بأنها أصبحت من المكتسبات الناجزة والراسخة عميقا و نهائيا في الضمير الجمعي الفرنسي.
وعليه, يمكن أن يتبين من الكتاب وجود هدف مزدوج يريد الكاتب التركيز عليه : عدم التسليم بان المكتسبات أصبحت في حكم الثوابت في الواقع الفرنسي وفي السياسة الفرنسية لا يمكن التراجع عنها بطريقة أو بأخرى, ونقد عنيف, تنافسي, للرئيس الحالي في سياساته التي يعتبر أنها تذهب في خطوطها العريضة, وحتى التكتيكية, بفرنسا حيث لا يريد الفرنسيون لها الذهاب. ومن ذلك التخلي عن النموذج الفرنسي والانحياز إلى النماذج الانكلو سكسونية, كما اشرنا في مقالنا السابق, والى المساس بالديمقراطية عن طريق تجاوز السلطات وصولا لاحتكارها. وقد رأى الكاتب في السؤال الذي طرحه الصحفي لوران جوفران Joffrin من صحيفة Libération على الرئيس نفسه, تجسيدا لما يراه الفرنسيون بأم العين: " السيد الرئيس تحتلون غالبا, إن لم نقل بشكل مستمر ودائم, الساحة الإعلامية. وانتم كذلك في أصل غالبية مبادرات الحكومة, إن لم نقل كاملها. وقد استعملتم في الإشارة لرئيس الوزراء كلمة معاون. وقرارات ووزرائك تُتخذ بمقتضى توجيهات من مراكز خاصة... هل, في العمق, لم تقم بتغيير الدستور ؟. فأنت الآن, في العالم الديمقراطي, الأكثر إمساكا بالسلطات من أي رئيس دولة أو حكومة. هل أقمت صيغة من صيغ السلطة الشخصية, حتى لا نقول ملكية منتخبة؟
فيما يتعلق بالعلمانية في فرنسا, يريد المؤلف, أن يبين عدم التعارض بينها وبين الدين( وهذا لا يحمل ابتكارا من قبله. كما لا يخرج عن المألوف أن يذهب مذهب كل العلمانيين عند الحديث عن العلمانية, بالبدء بإثبات إيمانهم أولا, كمدخل تمهيدي للحديث عن العلمانية, ليس فقط, على ما نعتقد, في محاولة لمزيد من للإقناع, وإنما كذلك وبشكل خاص, لاتقاء كل ما يمكن أن تكون ردود أفعال من المتطرفين باسم الدين, ولا عجب أن يكون ذلك أيضا في أوروبا الحالية نفسها, فالتطرف يحمل نفس ردود الأفعال أينما كان) فيقول: شاءت الحياة أن تجعل مني أنا المؤمن مدافعا عن العلمانية. هذا هو الواقع. ولا أرى فيه أي تناقض. وإنما العكس. لا تعارض بين أن يكون الإنسان مؤمنا, وان يدافع في الوقت نفسه عن العلمانية. " فالمسيح نفسه شق طريقا ثوريا في هذا المجال عندما قال: أعطوا ما لقيصر لقيصر, وما لله لله. مؤسسا بذلك الفصل بين أمور الدولة وبين والأمور الروحية". (ص.159).
يعلن الكاتب, بمبالغة مقصودة, أنه ظل يعتقد أن العلمانية قد أصبحت مكتسبا ناجزا و راسخا ومنذ زمن بعيد, ولا يمكن المساس بها, باعتبارها من الدعائم التي يقوم عليها بنيان الوطن, أو لعلها الدعامة الأساسية في بنيانه. وبان الفرنسيين, برغبة أو دون رغبة, ينتسبون إليها. وفي كل الأحوال, كما يرى, لا يمكن, تخيل أي إنسان واع يهاجم العلمانية. "عند شغلي لمنصب وزير التربية كان علي التحقق من الطبيعة الراسخة للشعور العلماني .. : حياتي كلها منذ كنت تلميذا إلى أن أصبحت أستاذا. من الحضانة إلى الجامعة, تحمل البراهين على أن التعلق بالعلمانية لم يكن خادعا بشكل أو بآخر. ومع ذلك فان هذا التعلق, مثله مثل الحب, يتطلب دائما البرهنة عليه.
عندما نص الدستور على العلمانية جعل منها خاصية الجمهورية. وعليه " كنت اعتقد إننا نقف على قاعدة إسمنتية صلبة. على ضمانات. وان المفهوم الفرنسي للعلمانية الذي هو الأكثر أصالة في العالم, لا يمكن وضعه موضع التساؤل ممن كان. لقد كنت مخدوعا.
ويبين سبب ذلك بقوله : " أول إنذارات الخطر جاءت من كتاب كتبه ساركوزي حين كان مرشحا لرئاسة الجمهورية بعنوان الجمهورية, الأديان, الأمل, La République, les religions, l’espérance . جاء فيه ما أقلقني, بشكل خاص قول المؤلف: "الدين مفيد للمجتمع. فائدته في استجابته للنظام العام". وبطبيعة الحال يقصد ساركوزي بذلك دور الدين الإسلامي في حفظ النظام في الضواحي الفرنسية المضطربة.
منذ وقت طويل جدا لم يتجرأ أحد على النظر لاستعمال الدين وسيلة دفاع عن النظام الاجتماعي.. منذ موراس شارل (كاتب وصحفي في اللاهوت والسياسة الفرنسية, قومي وملكي, كان في نظريته من اشد المعادين للديمقراطية. ساند حكومة فيشي. وحكم عليه عام 1945 بالسجن المؤبد وعفي عنه عام 1952. قاموس ACHETTE ). وقد استعمل ساركوزي حججا, في كتابه وتصريحاته, استساغها المؤمنون, مع أنها في حقيقتها مناقضة لإيمانهم, ومنها: " الأديان مفيدة للجمهورية. لان الدين هو الأمل, والجمهورية بحاجة للأمل". (الأمل بالمعنى الديني المسيحي) كلام اطرب المتدينين. فالسلطة, ومنذ زمن طويل, لم تُسمعهم كلاما معسولا. ويعلق بايرو بقوله : إذا كان الأمل, بالنسبة للمؤمن وبالنسبة للمواطن مفيد للجمهورية, يجب أن يكون جلبه وتحقيقه واجب الدولة, وعلى هذه أن لا تقوم بتلزيمه (بعقد التزام) للدين. فالأمل الذي يجب أن ينشأ في الجمهورية هو أمل مدني civique : نقيمه بأيدينا, بوسائلنا المعرفية. أمل في الحياة الدنيا, وللحياة الدنيا. الأمل في عالم أكثر عدلا, أكثر تحريرا للإنسان. وليس أمل في لحياة الآخرة يُفرض علينا قبوله مع قبول أوضاعنا الحالية. أي أن نبقى مستسلمين لما هو في الحياة الدنيا.
مضيفا أن قبول القول بان الدين يضمن النظام الاجتماعي كما هو, لأنه يحمل للعالم أملا في الآخرة, أعطى الحق, في نظر الكثيرين, لمنتقدي الدين في القرون الأخيرة, وتبريرات لمقولة ماركس المشهورة : "كان الدين أفيون الشعب" l’opium du peuple بتخدير طبقة البروليتاريا لتبقى حالمة, هادئة راكدة مطمئنة لواقعها. الدين, أي دين, لا يرضى بان يبقى محصور دوره الاجتماعي بحفظ النظام لمصلحة الدولة. وعلى جمهورية المواطنين أن لا تقبله هي أيضا بهذا المفهوم وبهذا الدور.
الأيمان الديني, برأيه, لا ينفصل عن حياة الناس, و بالعكس يجب أن يحمل للإنسان مزيدا من يقظة الضمير, مزيدا من الحساسية, خاصة في حالات القلق المترتبة على تركه يتدبر أمره بنفسه وحيدا.
" أنا لست عالم لاهوت, حمدا لله, ولكن هذا لا يمنع من الاجتهاد. في كل الأحوال إذا كان عندي مناظرة للدفاع عنها قد أدافع طوعا عن الفكرة التي يساندها أي إنسان, وهي أن الدين ليس مجرد أمل في الآخرة. هذا مناف للعقيدة, وعدم فهم لها. لأنها, وقبل كل شيء, موجهة للحاضر. وان هذا من الحقيقة وليس من الضبابية والغموض. وان حضور الأمل هو الحضور الواقعي في الشخص الحي. وليس إيديولوجيا.
إيجاد الأمل الحقيقي يقع على كاهل الجمهورية, وهذه مهمتها الأولى: خلق الأمل المدني civique . ولا يمكنها تفويض و تحميل مهمة إيجاده لغيرها أي كان. على عاتقها وحدها يقع بعثه لدى الجميع. وعلى عاتقها وحدها تحقيق المساواة, والعدالة, والأخوة ,و المسكن, و الأمن, والتضامن. وهذه آمال يجب أن تصبح حقائق وأفعال.
فرنسا باسكال وفولتير. فرنسا حرية الاعتقاد أو عدمه. لا يمكنها توجيه إهانات وانتقادات لمن أعطوا حياتهم مضحين مخاطرين بكل شيء من اجل ترسيخ هذه الحريات التي لا تتحقق خارج العلمانية.
أؤكد بان لا فولتير, ولا Péguy , ولا هيجو, ولا احد من كل الذين نحتوا وجه فرنسا المضيء بين باقي الأمم, يمكنهم قبول العبارة التالية: " الأخلاق العلمانية تخاطر دائما بتلاشيها عندما لا تستند إلى أمل يكمل الأمل في l’infini المطلق" . من الصعب تصديق أن فرنسيا يمكنه قول مثل هذا القول. ولا تخيل أن رئيسا يتحمله. وأنا كمواطن لا اقبل أن يأتي احد ليعلمنا ويعلم أولادنا بان الأخلاق يجب أن تكون مرتبطة بالضرورة بالدين, وإلا لا وجود للأخلاق.
فرنسا باسكال كفرنسا هيجو تقف في وجه الامتهان . الدين والإيمان, والتحبب لله, ليست من مهام الرئيس. للرئيس هنا مهمة واحدة: الحماية الفعالة لحرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد, حرية الضمير, وحرية العبادة, وهذا وحده يتطلب عملا كبيرا.
لا نريد دين دولة, ولا أديان دولة. لا نريد دولة تتلبس الدين لتدافع عن مصالحها . لا نريد, كفرنسيين, أو أوروبيين, كمواطنين أو كمؤمنين, عودة مرعبة للخلف. نعتبر أن الخراب في الماضي الذي تسبب به تواطؤ الدولة مع الدين قد أصاب الدولة كما أصاب الدين . وان الكاثوليكية بشكل خاص تحملت, خلال عقود, الخزي opprobre لأنها دين لدولة. لا يجب الاقتراب من موضوع بسببه قتل الكثير الكثير نتيجة التعصب والتطرف.
ويشير للأمل الذي بشرت به حركة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية, بنسخته البوشية (نسبة لبوش), المتمثل في الإستراتيجية الانتخابية التي تبحث عن الناخبين المترددين. فمدبري حملة بوش رأوا انتصارهم في تعبئة المراكز المتشددة المستجيبة لطروحاتهم من ناخبي اليمين الديني الأمريكي. اليمين نفسه الذي ساند العدوان على العراق.
المتحمسون للنموذج الأمريكي في فرنسا يعملون على الارتباط بالمراكز الصلبة المتشددة في اليمين الفرنسي, وخلق مثل هذه المراكز في الأماكن التي لا وجود لها فيها, أو لم تعد متواجدة بها. الوسيلة الأكثر ضمانا لذلك بالنسبة لهم هو إيجاد جو تكتنفه المشاكل والخلافات ليواجه الفرنسيون بعضهم بعضا في المواضيع الخلافية والقابلة للمواجهة. اعتقد بان إستراتجيتهم تكمن في بناء أو دعم بؤر صلبة, وهم يصنفون الكاثوليك المتشددين بين البؤر اليمينية الصلبة , ويعزفون على أوتار مقابلة الدين بالعلمانية. فالمواجهة والتوتر والتحريض هي عوامل التوتر والانفعال. وهذا بدوره يجند فصائل من الناخبين مصدر أصواتهم الكراهية وليس المصالح الوطنية.
لا شك أن بايرو يعلم أن لا عودة عن العلمانية في فرنسا, ولا خوف عليها. ولكنه في التهويل من عبارة قيلت هنا أو هناك, أو من موقف متصلب من بعض المتشددين الكاثوليك , أو ممن يميلون للنموذج الانكلو سيكسوني, لا يمكنه الإثبات بالدليل القاطع على خطر سيهاجم العلمانية بنسختها الفرنسية, وبالتالي كسب ناخبين وأنصار يهمهم مصير العلمانية.
وأخيرا, وبعد عرض سريع لهذا الفصل من الكتاب المذكور, يمكن القول إن تركيز الكاتب على إثارة بعض المخاوف من المساس بالعلمانية ليس فقط مصدره أهداف انتخابية, وإنما فيه تخوف من الردات الدينية اليمينية المتطرفة على غرار اليمين الديني في الولايات المتحدة. ومع ذلك فالكل يعلم, بمن فيهم المتدينون, بشكل خاص, أن في ظل العلمانية والديمقراطية مُورست و تُمارس الحريات بأنواعها, ومنها حرية العبادة وإقامة الشعائر الدينية, لكل الأديان, وحرية المعتقد مهما كان, وان في هذا, وفي هذا وحده, راحة وطمأنينة للمؤمن وغير المؤمن.
في الدول الأوربية الديمقراطية أحزاب مسيحية, تساهم في اللعبة الديمقراطية في الدولة العلمانية, وتحترم أصولها, وتضع برامج سياسية تدعو على أساسها الناخبين لاختيارها. ولكنها لم تدعو يوما لإلغاء الدولة العلمانية, وإقامة دولة دينية على أنقاضها. ولا تكفرها. ولا تُكفّر أحدا فيها أو تتوعده وتلعنه في الحياة الدنيا, و ترفع توصيات لله بعدم توفير إقامة مريحة له في الحياة الآخرة. د.هايل نصر.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟