|
الأزمة مستمرة – نقد وجود الحزب -1
نايف سلوم
كاتب وباحث وناقد وطبيب سوري
(Nayf Saloom)
الحوار المتمدن-العدد: 816 - 2004 / 4 / 26 - 09:53
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
نبدأ بالحكمة التالية : "إن لم يتحقق مبرر وجود الحزب فمن الطبيعي وجود الأزمة " هذا ما يعلنه الدكتور قدري جميل في بداية كلمته . لكن الحزب الشيوعي السوري موجود منذ مطلع عشرينات القرن العشرين ، وموجود اليوم وإن لم يكن حاضراً كقوة فعالة في السياسة السورية والعربية . وكانت جريدة قاسيون قد نشرت ورقة سياسية تحت عنوان : "موضوعات حول أزمة الحزب " جاء فيها : "وبسبب استمرار هذه الحالة فقد وصل الأمر إلى مفترق طرق : فإما إيجاد مخرج مبدئي صحيح من الأزمة يسمح باستعادة الحزب لدوره ، ونهوضه من جديد أو تلاشي هذا الفصيل السياسي وانقراضه .. مما لا يعني طبعاً اندثار الفكر الشيوعي، وإنما يعني أن الحياة ستجد البديل المناسب لهذا الفصيل الذي لم يؤد دوره حينذاك"
هكذا وبما يشبه لعبة "المِسْتخباية" يتم إخفاء ما جرى إظهاره من قبل . وندور في حلقة مفرغة ومدوّخة لا تترك للتوازن مطرحاً . إنها أشبه بالحزورة والفزورة : إن لم نستطع إعادة بناء الحزب الشيوعي السوري فالذنب ليس ذنب القائمين على هذا العمل ، بل ذنب الأزمة التي يعني وجودها عدم تحقق مبرر وجود الحزب . يا له من شرط بيزنطي . ألم يكن بالأصل الدافع لتجديد الحزب هو نفسه وجود الأزمة المعترف بها في الورقة السياسية "موضوعات حول أزمة الحزب" !
هذا أمر والأمر الآخر ، أن الحزب الذي يتوجب مبرر وجوده ، لم تحدد طبيعته في العبارة المقتبسة . وكذلك الأزمة لم تحدد معالمها ومستوياتها : هل هي في المجتمع أم في النظام السياسي أم في الحزب (الأحزاب) الشيوعي السوري؟
نحن كقراء لا نملك أي عنصر يشير إلى طبيعة الحزب الذي يتوجب تحقق مبرر وجوده باستثناء قول الرفيق قدري بداية : "لا نملك أي مشروع نظام داخلي للنقاش، وهذا لا يعني أن النظم الداخلية السارية المفعول لدى الفصائل الثلاثة هي أساس النقاش"
يفهم من هذا الإعلان للفقر التنظيمي أن جماعة قاسيون لا تملك حتى هذه اللحظة أي مشروع لنظام داخلي مطروح للنقاش العام . كما أنها لن تعتمد النظم الداخلية للفصائل الشيوعية الثلاثة- بأنواعها : بكداش، الترك، فيصل – كأساس أو مادة لنقاشها . وربما حصل ذلك من باب الحرص على الجدة والتميز والخروج من العدم . وكأن الجدة لا تكون إلا بالخروج من العدم ! مع أنه من الأجدى والأكثر عضوية وانسجاماً مع تاريخ جماعة قاسيون اعتماد النظام الداخلي للحزب الشيوعي السوري [بكداش] الذي عدّله المؤتمر التاسع للحزب 20-23 أيلول 2000 . كمادة للنقد والنقاش . خاصة إذا أخذنا بالاعتبار أن كل فصائل الحزب الشيوعي السوري – ومنها فصيل الترك- ما تزال تحتفظ بعقليتها البيروقراطية والتآمرية ، وتضع مشروع النظام الداخلي قبل أن يتم اعتماد الموضوعات السياسية من قبل المؤتمر. أي قبل الاتفاق على الرؤية تجاه العصر وتجاه القضايا والمهام الأخرى . وكأن النظام الداخلي شأن تكنيكي بحت . أي كأنه لا علاقة للنظام الداخلي بالبرنامج السياسي وشكل رؤية العصر وطبيعة المهام السياسية والعناصر البرنامجية للحزب السياسي .
الشيء المنطقي و "الطبيعي" أن تحدد المهام وتبلور النقاط البرنامجية المتفق عليها ، وعلى ضوء ذلك يتم طرح مشروع نظام داخلي للنقاش إذا رأت الجماعة أن الشروط متوفرة لقيام برنامج جديد وبالتالي حزب جديد . نقتبس من لينين في خطاب ختام المؤتمر الثاني للحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي: "لا يمكن أن تُفصل آلياً القضايا السياسية عن قضايا التنظيم"[2]
إن الفصل الميكانيكي الواضح بين قضايا السياسة وقضايا التنظيم عند جماعة قاسيون ، وجماعة الترك يجد تفسيره في الرغبة في معالجة قضايا التنظيم كقضايا محض تقنية لا علاقة لها بالبرنامج ولا بالقضايا والمهام السياسية للحزب(الفصيل) المعني. إن مفهوم الحزب الشيوعي أو الحزب الديمقراطي [جماعة الترك] ما يزال يعالج كقضية محض تقنية وليس كإحدى القضايا الفكرية الأكثر أهمية . حسب عبارة جورج لوكاش.
الأمر مقلوب عند الرفيق قدري حين يقول : "أما نقاشنا الحالي فهو يجري حتى الآن على أساس أن نحدد المفاهيم والمبادئ العامة للقضايا التنظيمية التي إذا ما اتفقنا عليها . بالإضافة إلى ما أنجز وهي الورقة السياسية سيسمح لنا بالسير نحو وضع نظام داخلي جديد "
وعوضاً عن مناقشة القضايا التنظيمية كقضايا نظرية منهجية داخل الورقة السياسية وبارتباط عضوي معها، تناقش القضايا التنظيمية كقضايا تقنية إذا ما اتفق عليها تضاف إليها ما أنجز في الورقة السياسية . فإذا كانت الأرضية السياسية غير متوفرة لقيام نظام داخلي إلا بحدود دنيا . وأنا أراها غير متوفرة كعمل جدي وأصيل ، وأن هناك مفاهيم ومبادئ وقضايا لا بد من إعادة النقاش حولها حسب كلام للدكتور قدري ، يكون من الحق طرح تساؤل حول ضرورة تقديم مشروع نظام داخلي لجماعة تدعي أنها ليست حزباً بعد . وأدعو إلى الاكتفاء بالتنسيق حول بعض المهام البرنامجية المقترحة. أي طرح مهام محددة وشكل للتنسيق الداخلي والخارجي[داخل الجماعة وخارجها] والعمل على تنفيذ مهام محددة في الواقع السوري بالتعاون والتنسيق مع الجماعات الأخرى المتصالبة معها. إلى أن تتوفر الشروط الأنسب وتتبلور الرؤى حول القضايا السياسية الأساسية ، ومن ثم قضايا التنظيم .
بعد كل هذا تتقدم كلمة الدكتور قدري لتعالج مفهوم الحزب عبر تمثيلات تخطيطية وتجريدية ، بحيث يظهر التنظيم وكأنه أمر تقني فحسب. حيث يتم تشبيهه مرة بالجهاز العصبي ومرة بجهاز إرسال واستقبال للإشارات . ومن هذه التجريدات والتمثيلات التبسيطية والخطاطات المجردة يخرج الدكتور قدري بتعريف للحزب يصلح لكل شئ ، ويمكن اعتماده حتى في القطارات الحديثة. يقول التعريف: "الحزب هو الأداة المنظمة الواعية للتحكم بالعمليات الاجتماعية التي تجري دون ذلك على أساس عفوي بفعل القوانين الموضوعية وتستطيع التحكم بمسار هذه القوانين الموضوعية عبر الحزب بحيث تحترم هذه القوانين التي تفعل فعلها وتسرع التطور لا أن تخالفها ، فالتحكم بها ما هو إلا تسريع للتطور"
وحتى نبين مواضع الكلمات المحذوفة والمغيبة أو المستبدلة في هذا الخطاب "التجديدي" التجريدي بشكل ضار ومميت ، نورد تعريف الحزب الشيوعي السوري في النظام الداخلي للحزب الشيوعي السوري الذي عدّله المؤتمر التاسع للحزب 20-23 أيلول عام 2000 وكان الدكتور قدري أحد الذين ساهموا في تعديله واعتماده . يقول التعريف: "الحزب الشيوعي السوري هو الطليعة الواعية المنظمة للطبقة العاملة في سوريا . وهو أعلى شكل من أشكال تنظيمها ، وهو اتحاد كفاحي اختياري بين الشيوعيين الذين يجمعهم هدف واحد هو إلغاء استثمار الإنسان للإنسان ، واضطهاد شعب لشعب ، وبناء مجتمع اشتراكي يقوم على مبدأ "من كل حسب قدرته ولكل حسب عمله" والسير بهذا المجتمع نحو مرحلته العليا : المجتمع الشيوعي ، الذي تتلاشى فيه الطبقات ، ويقوم على مبدأ "من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته" "
يغيب عن عبارة الدكتور قدري : الشيوعي السوري ، والطليعة الواعية المنظمة للطبقة العاملة في سوريا .. وأنه أي الحزب أعلى شكل من أشكال تنظيمها [هناك أشكال تنظيم أخرى كالنقابات الخ..] ويغيب أيضاً هدف الحزب الاستراتيجي أو برنامج الحد الأعلى الذي ينظم إيقاع تكتيكات الحزب وتحالفاته . التعريف البكداشي يحدد هدف الحزب ببناء المجتمع الاشتراكي في سوريا عبر مواصفاته المنقولة من كتاب لينين "الدولة والثورة" [الدولة والثورة –تعاليم الماركسية حول الدولة ، ومهمات البروليتاريا في الثورة . آب- أيلول 1917] كما يهدف الحزب الشيوعي السوري إلى إلغاء اضطهاد شعب لشعب ، واستثمار الإنسان للإنسان . ويقول أن الحزب منظمة كفاحية طوعية ، هدفها إنجاز الأهداف المطروحة في الواقع السوري.
كل هذا يغيب عن تعريف الحزب عند الدكتور قدري . أي يغيب المجتمع السوري والواقع العربي بكل قضاياه . فبحجة إنتاج خطاب جديد يعيد الخطاب البيروقراطي إنتاج نفسه عبر خطاب تجريدي تقنوي هدفه الأكبر التهرب من طرح القضايا الملحة في الواقع السوري والعربي . فتعريف تقنوي تجريدي كهذا يصلح لكل زمان ومكان ولكل شئ من ماكينات الخياطة وحتى سفن الفضاء ، للبورجوازية والإقطاعية ، لكنه لا يصلح كخطاب بديل عن الخطاب الشيوعي البيروقراطي المأخوذ دفعة واحدة من المدرسة السوفييتية البيروقراطية ، ولا يصلح لإنتاج حالة حزبية شيوعية جديدة في الواقع السوري الراهن.
من جديد ، لقد خلقت هذه الصياغات التقنوية المتهربة من مواجهة المهام السورية الجدية أزمة إضافية . وسوف تكرس الأزمة السابقة للحزب الشيوعي السوري إذا ما استمر الخطاب في اندفاعه التقنوي الخادع.
وهنا يطرح السؤال : ما مبرر وجود حزب يصلح في كل مكان : على سطح الكوكب الأحمر وفي آلة الخياطة ، وفندق الشيراتون ، وفي نقابات العمال ومصالح السكك الحديد ، كجهاز للتحكّم بالعمليات الموضوعية الجارية ، أو كجهاز يرسل إشارات ويستقبل إشارات يبقيها كما هي أو يعدّلها الخ..
هذا الهراء الفارغ وهذه الصيغ التجريدية الفارغة سوف تقود إلى أزمة أخرى مضاعفة ، وسوف تخلق إرباكاً عاماً وتشويشاً هدفه التهرب من مواجهة القضايا الأساسية للواقع السوري ومهامه الراهنة : كإلغاء حزبية الدولة واحتكار السياسة ، واستئصال الفساد الإداري والمالي ، ودفع المجتمع السوري نحو المبادرة والفعالية السياسية في مواجهة مخاطر الهجوم الإمبريالي الأمريكي على المنطقة العربية والعالم .
ويعود الدكتور قدري ويقول : "إذا ما استطعنا حل مشكلة السياسة (أي الرؤيا والخطاب) فهذا لا يعني أننا قد وجدنا الحل لمشكلة التنظيم . أي أن الرؤية والخطاب شرط ضروري لحل مشكلة التنظيم لكن غير كاف " وهذا صحيح تماماً ويشير إلى أن جماعة قاسيون لم تحلّ مشكلة السياسة، أي الرؤيا حسب تعبير الدكتور ، ولم تحلّ مشكلة الخطاب كما لاحظنا عندما استبدلت الخطاب البيروقراطي التعاليمي السابق المكرور والممل بخطاب تقنوي تخطيطي مجرّد غير مرتبط بالقضايا السورية والعربية الراهنة.
والرؤيا السياسية تحتاج لقراءة نافذة لعدة قضايا حاسمة :
1- الإمبريالية وشكل حركة المشروع الرأسمالي الجديد ، والتحولات التي طرأت على الإمبريالية العالمية والاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة ديالكتيك المنافسة/ الاندماج مع هيمنة الاندماج على المنافسة في علاقة المراكز الإمبريالية مع بعضها البعض بعد الحرب العالمية الثانية تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية. بفعل الحرب الباردة وتغلغل الشركة الاحتكارية الأميركية في المشروعات الرأسمالية المركزية الأخرى.
2- دولة الأطراف الرأسمالية ودورها الوسطي في الصراع بين بلدان الأطراف والمراكز الإمبريالية .
3- شكل عمل الشركة الاحتكارية بعد الحرب العالمية الثانية ، وأثر التقدم التقني على تقدم الاستثمار في الخارج المباشر وغير المباشر. وأثر قيادة الولايات المتحدة للنظام الرأسمالي ، واختزالها لهذا النظام عبر تركز الثروة والقوة فيها . وعبر ازدواج القانون الدولي كقانون أميركي وعالمي وكذلك الدور المزدوج للدولار كعملة قومية أميركية وعالمية في نفس الوقت وآثار ذلك على علاقة المراكز الرأسمالية مع بعضها البعض وعلاقتها مجتمعة مع الأطراف.
4- الموجة الاستعمارية الجديدة ، المزودة بما يسمى "بالتحكّم"، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
5- نقد التجربة السوفييتية كـ بروفة عظيمة للقرن العشرين واستخلاص الدروس.
6- رسم استراتيجية تراجعية للحزب الماركسي في الشرط الدولي الراهن في مواجهة الاستقطاب العالمي بين مطرقة الإمبريالية الأميركية ذات السياسات الاستعمارية المتجددة وبين المد السلفي الكبير الذي يطرح نفسه كبديل للغرب بمجمله.
7- وضع مهام برنامجية ونقاط منفصلة للعمل السياسي ، مع درجة من التنسيق التنظيمي المناسب نظراً للخواء السياسي السوري ، ولـ الإحباط العام واللامبالاة السياسية .
8- المساهمة في تطوير وتنشيط مناقشة قضايا التراث العربي ومنه الديني كمهمة للجماعات الماركسية .
9- إعادة الاعتبار للتعليم الماركسي والاشتراكي الحي عبر ترجمة ونشر الكلاسيكيات الماركسية .
10 – رصد الحركات الاجتماعية الجديدة في أوربا والعالم ومحاولة قراءة دورها في مناهضة الإمبريالية العالمية. وتطوير علاقاتها بالحزب الماركسي.
بعد هذا الإسهاب بما يخص القضايا السياسية المطروحة للحوار الماركسي العام نعود إلى كلمة الدكتور قدري حيث يقول: "إذا كنا متفقين على ما جاء في الورقة السياسية فهذا معناه أننا نريد حزباً ، شروط عضويته لينينية في ظروفنا الحالية " ويتابع حديثه وكأنه يشير إلى النظام الداخلي للحزب الشيوعي السوري [بكداش] حيث يقول: "لا يمنع أن نعيد النظر في نظامنا الداخلي بالشكل الذي نتناقش فيه . ولكن هناك خط أحمر وهو شروط العضوية والمركزية الديمقراطية"
إذاً توجد مصادرات تنظيمية مسبقة بيروقراطية كشروط العضوية مثلاً .
وبالرغم من كون المركزية الديمقراطية هي الأبجدية الناظمة لكل حزب سياسي عليه اتخاذ قرارات يتوجب تنفيذها ، وله قيادة وقواعد وفيه أكثرية وأقلية ومع التلميح الإيجابي لنقد الدكتور قدري للتعاطي الميكانيكي للعلاقة بين لحظتي المركزية الديمقراطية ، إلا أن الكلام غير كاف لشرح أبعاد هذا النقد . فالديمقراطية الواسعة تعطي للمركز وزناً معنوياً أكبر وفعالية أوسع. لكن المسألة مشروطة بطبيعة القيادة : فإذا كانت القيادة بيروقراطية متحجرة وجامدة عقائدياً فإن ديمقراطية نامية من الأسفل ، من القواعد تعني تشظي العمل التنظيمي وتبعثره ، ولهذا نلاحظ في حركة عكسية أثر القيادات البيروقراطية المتزمتة على القواعد حيث يكون المبدأ السائد هو تجهيل القواعد والخوف المرضي من أي إصلاح ثقافي عند القواعد ، ويكون التكفير والطرد والحرمان والتشهير هو القاعدة. وتأبيد القيادات والوجوه المتصدّرة للحركة هو السائد . أما إذا اشتغل مبدأ المركزية الديمقراطية بالشكل الفعال والصحيح فهذا يعني أن هناك حركة تجديد مستمرة للقيادة وهناك رفد مستمر بدماء جديدة ، وهذا مؤشر على سلامة العلاقة العضوية بين الطبقة الاجتماعية وحزبها السياسي . ننقل عن أنطونيو غر امشي: "و"العضوية" [في علاقة الطبقة بالحزب السياسي المعبر عنها] لا تتحقق إلا في المركزية الديمقراطية . إنها "المركزية " في حركتها إذا جاز التعبير ، أي تكييف التنظيم باستمرار ليلائم الحركة الحقيقية ، والمواءمة الآتية من الأسفل ، والأوامر الآتية من أعلى، وإدماج العناصر التي تدفع بها الجماهير من الأعماق باستمرار إلى الهيكل الصلب لجهاز القيادة ، وهو ما يضمن استمرار الخبرة وتراكمها بانتظام ... والمركزية الديمقراطية "عضوية" لأنها من جهة تأخذ الحركة في الاعتبار ، وهي الكيفية التي يكشف بها الواقع التاريخي عن نفسه ، فلا يتجمد آلياً في بيروقراطية ... إن غلبة المركزية البيروقراطية .. يدل على أن الجماعة القائدة قد تشبّعت، وتحولت إلى شلة ضيقة تعمل على المحافظة على امتيازاتها الأنانية بالسيطرة على قوى المعارضة ، بل وإجهاضها ، حتى وإن كانت مصالحها متجانسة مع المصالح الجوهرية المسيطرة [3]
المركزية الديمقراطية مبدأ ناظم لكل حزب باستثناء "حزب الأعيان " حيث الأعيان يعتمدون على الوجاهة والثروة والعلاقات الشخصية في كسب النفوذ السياسي .
يقول الدكتور قدري : "يجب أن نبني حزباً ذا تنظيم لينيني لا مارتوفي [نسبة إلى مارتوف] .. إننا بحاجة لتنظيم لينيني بشروط العضوية ، وإلا فلنعيد النقاش حول الورقة السياسية "
يُفهم من هذا القول أن الورقة السياسية لجماعة قاسيون تطمح إلى بناء حزب شيوعي في طريقه إلى السلطة السياسية عبر ثورة اجتماعية اشتراكية ، وهو في وضع ثوري على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي . مما يقتضي وجود شروط العضوية اللينينية . وليس الشروط المارتوفية ذات الطموح البرلماني الرخو . وهذا يفترض وجود طروحات ضمن الجماعة أكثر "واقعية" ترى أن شروط الثورة غير متوفرة وبالتالي فهي تقترح شروط للعضوية مختلفة عن الشروط اللينينية.
المسألة التنظيمية عند لينين ليست مرتبطة براهنية السلطة السياسية بالنسبة للشيوعيين فحسب ، بل هي ذات جذر أعمق . المسألة المنهجية التي طورها لينين بعد أن أخذها عن الاشتراكي الديمقراطي الألماني كارل كاو تسكي هي مسألة إنتاج وعي سياسي اشتراكي ونقل الوعي إلى البروليتاريا من "الخارج" والدواعي التاريخية والبنيوية لهذا الجهد ، وبالتالي بناء منظمة قادرة على إنتاج وعي اشتراكي وقادرة على توصيله للطبقة التي تدّعي تمثيلها السياسي بشكل عضوي. يقول لينين في كتابه ما العمل؟ : "نثبت هنا كلمات ك. كاو تسكي التالية الهامة والعميقة في صدقها ، هذه الكلمات التي قالها بصدد مشروع البرنامج الجديد للحزب الاشتراكي – الديمقراطي النمساوي[يقول كاو تسكي] : "يحسب كثيرون من نقادنا المحرِّفين أن ماركس قد أكد أن التطور الاقتصادي والنضال الطبقي لا يخلقان ظروف الإنتاج الاشتراكي وحسب ، بل يخلقان مباشرة أيضاً وعي ضرورته. وهاهم هؤلاء النقاد يعترضون بأن إنكلترا البلاد الأكثر تطوراً من الناحية الرأسمالية ، هي أبعد الجميع عن هذا الوعي ... صحيح أن الاشتراكية ، بوصفها مذهباً، تستمد جذورها من العلاقات الاقتصادية الراهنة كشأن النضال الطبقي البروليتاري سواء بسواء ، وأنها كالنضال الطبقي البروليتاري تنبثق من النضال ضد ما تسببه الرأسمالية للجماهير من فقر وبؤس . غير أن الاشتراكية والنضال الطبقي ينبثقان أحدهما إلى جانب الآخر ، لا أحدهما من الآخر . إنهما ينبثقان من مقدمات مختلفة . فالوعي الاشتراكي الراهن لا يمكنه أن ينبثق إلا على أساس معارف علمية عميقة. وبالفعل إن العلم الاقتصادي الحديث هو شرط من شروط الإنتاج [النظري] الاشتراكي ، شأنه مثلاً ، شأن التكنيك الحديث سواء بسواء . والحال أن البروليتاريا ، بالرغم من كل رغبتها ، لا تستطيع أن تخلق لا هذا ولا ذاك ، فكلاهما ينشأ عن التطور الاجتماعي الحديث . هذا وأن العلم ليس بيد البروليتاريا ، بل بيد المثقفين البورجوازيين : فالاشتراكية الحديثة نفسها قد انبثقت هي أيضاً في رؤوس بعض أعضاء هذه الفئة ، وقد نقلها هؤلاء إلى أكثر البروليتاريين تطوراً من الناحية الفكرية ، الذين أخذوا بعد ذلك يدخلونها في نضال البروليتاريا الطبقي حيث تسمح الظروف . وعلى ذلك كان الوعي الاشتراكي عنصراً يؤخذ من الخارج وينقل إلى نضال البروليتاريا الطبقي ، لا شيئاً ينبثق منه بصورة عفوية "[4] من هنا يكون الحزب جهاز هيمنة من جهة ، أي مثقف جَمْعي ، منتج وعي سياسي اشتراكي وموصل لهذا الوعي للطبقة التي يمثلها. وهو جهاز سيطرة من الجهة الثانية أي منظم لقوى الطبقة وتحالفاتها مع الطبقات الهامشية الأخرى .
ملاحظة أخيرة : كنت قد قدّمت نقداً للنظام الداخلي للحزب الشيوعي السوري- بكداش الذي أقره المؤتمر التاسع ، حيث انتقدت صلاحيات القيادة في موضوع التنسيب . حيث يمكن للجنة المركزية أن تنسّب أعضاء دون المرور بإحدى المنظمات القاعدية . وهذا تفصيل ما كتب :
"يجري قبول الأعضاء في الحزب إفرادياً عن طريق المنظمة الحزبية الموجودة في منطقة عملهم أو مسكنهم ، وفي حالات خاصة عن طريق اللجنة المنطقية أو المركزية مباشرة". [النظام الداخلي]
الملاحظة النقدية الخامسة:
مثل هذه الحالة الخاصة في قبول الأعضاء كمثل الثقب في شبكة صيد تهرب منها الأسماك كلها، وتضيع معها الحياة الديمقراطية الداخلية للحزب، ذلك أنه وفي وقت الأزمات وأوقات تزعزع الثقة بالقيادة تستطيع هذه الأخيرة تقديم قوائم طويلة لمنتسبين جدد تم قبولهم مباشرة عن طريقها وتستطيع القيادة بواسطتهم تحطيم نتائج أية انتخابات ديمقراطية عن طريق إغراق هذه الانتخابات بهذا العدد الكبير من المنتسبين الجدد. وبالتالي فهي قادرة على طرد كل "المعارضين" والمنافسين على القيادة. وهذه الفقرة من النظام الداخلي هي الأكثر خطراً على الحياة الديمقراطية لأي حزب إديولوجي. ومن هنا نقدنا الشديد لعبارة الدكتور قدري التي تكرس هذا العيب في أي تنظيم سياسي . تقول العبارة : "يجب زيادة صلاحية القواعد في موضوع العقوبات وزيادة صلاحية القيادة في موضوع التنسيب" وهذا معناه أننا سنجعل من القواعد قضاة أشداء في حزب نحن الذين يسنّون قانونه البيروقراطي.
من كل ما سبق يمكن الاستنتاج أن المهام الدعاوية والثقافية في الشروط المعقدة الراهنة تفترض أشكالاً مختلطة من التأطير السياسي ومن شروط العضوية . كما تفترض مزامنة مستويات متعددة من العمل . مع التركيز على إعادة إنتاج وعي سياسي اشتراكي أصيل ونابض بما يخص الشروط الجديدة .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ملاحظات انتقادية على كلمة الدكتور قدري جميل تاريخ 2/4/2004 تحت عنوان "إن لم يتحقق مبرر وجود الحزب فمن الطبيعي وجود الأزمة"
[2] مأخوذ من : جورج لوكاش "التاريخ والوعي الطبقي" ترجمة الدكتور حنا الشاعر ص 240 فصل "ملاحظات منهجية عن قضية التنظيم" الطبعة الثانية دار الأندلس 1982
[3] أنطونيو غر امشي "كراسات السجن" ترجمة عادل غنيم ص 198-199 دار المستقبل العربي 1994
[4] مختارات لينين في 10 مجلدات المجلد 2 . كتاب ما العمل؟ ص 54-55
#نايف_سلوم (هاشتاغ)
Nayf_Saloom#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في -كراسات السجن- لـ أنطونيو غرامشي
-
العلاقة العربية الكردية تعدّد مستويات المقاربة
-
القول النظري والقول السياسي حدّ العلم والقول السياسي
-
خمر تمور العراق يُسكر الأكراد السوريين
-
في الفهم المادي للتاريخ- مدخل إلى الأيديولوجية الألمانية- ال
...
-
في الفهم المادي للتاريخ -مدخل إلى الإيديولوجية الألمانية- ال
...
-
في الفهم المادي للتاريخ مدخل إلى الإيديولوجية الألمانية- الق
...
-
في الفهم المادي للتاريخ مدخل إلى الأيديولوجية الألمانية- الق
...
-
اللينينية- قراءة نقدية في كتاب مارسيل ليبمان اللينينية في ظل
...
-
قراءة نقدية في مشروع موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي ال
...
-
ديالكتيك إنتاج الهوية الاجتماعية في الفكر الماركسي
-
الحلقة المسحورة
-
حول المركزية الديمقراطية
-
ملاحظات نقدية حول النظام الداخلي الذي أقره المؤتمر التاسع لل
...
-
الدولة و السياسة - قراءة في فكر غرامشي
-
المجتمع المدني - عودة المفهوم
-
في الإديولوجيا والثقافة
-
الجامعة في العصر المعلوماتي
-
حول الديمقراطية السوفييتية
-
موقع رزكار ساحة لاختبار الرأي ، وللإسهام في صياغة مشكلات الي
...
المزيد.....
-
فيديو يكشف ما عُثر عليه بداخل صاروخ روسي جديد استهدف أوكراني
...
-
إلى ما يُشير اشتداد الصراع بين حزب الله وإسرائيل؟ شاهد ما كش
...
-
تركيا.. عاصفة قوية تضرب ولايات هاطاي وكهرمان مرعش ومرسين وأن
...
-
الجيش الاسرائيلي: الفرقة 36 داهمت أكثر من 150 هدفا في جنوب ل
...
-
تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL في ليتوانيا (فيديو+صورة)
-
بـ99 دولارا.. ترامب يطرح للبيع رؤيته لإنقاذ أمريكا
-
تفاصيل اقتحام شاب سوري معسكرا اسرائيليا في -ليلة الطائرات ال
...
-
-التايمز-: مرسوم مرتقب من ترامب يتعلق بمصير الجنود المتحولين
...
-
مباشر - لبنان: تعليق الدراسة الحضورية في بيروت وضواحيها بسبب
...
-
كاتس.. -بوق- نتنياهو وأداته الحادة
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|