كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 815 - 2004 / 4 / 25 - 07:52
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
لقد انتصرت الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب, ولم يكن هناك من يشك في هذا الأمر, ولكنها لم تكسب السلام حتى الآن ولم تمنح الشعب العراقي الأمن والاستقرار والسلام الذي وعدته به. وكان هذا متوقعاً أيضاً, إلا من أولئك العراقيين الذين أرادوا خداع انفسهم وخداع الإدارة الأمريكية معهم لإقناعها بشن الحرب, في حين أنها لم تكن بحاجة إلى أن يخدعها أحد, إذ كان الصقور السوداء في البيت الأبيض ووزارة الدفاع قد هيأوا كل شيء للحرب منذ سنوات.
ومنذ سقوط النظام والولايات المتحدة الأمريكية تتخبط في سياساتها, رغم وضوح الاستراتيج العام لديها, وأعني بها الهيمنة الكاملة على العراق ومنطقة الشرق الأوسط, ومعها إسرائبل, حليفها الاستراتيجي والأمين على مصالح إسرائيل. فهي لم تدرس الشعب العراقي جيداً, ولم تدرك طبيعة التناقضات التي كانت تعمل فيها ولا الصراعات التي كانت قد تأجلت في عمق المجتمع منذ سنوات طويلة, كما لم تعرف مزاج الشعب إزاء الاحتلال والقوات المحتلة, وبالتالي رفضت باستمرار سماع صوت العقل والحكمة, فسمحت بعد دخولها بغداد بالنهب والسلب وإخفاء الأسلحة وما تيسر من أموال وعتاد ومتفجرات, ثم فرضت الاحتلال ورفضت تلسيم السلطة لقوى المعارضة وراحت تحكم بإدارتها الخاصة الجاهلة بأوضاع العراق والعراقيات والعراقيين وتركت الحدود مفتوحة على مصراعيها لكل المتربصين بالشعب العراقي وبها, وعمدت إلى تهميش مجلس الحكم الانتقالي بعد أن أجبرت على تشكيله, كما لم تعر مجلس الوزراء أي اهتمام, وبالتالي صادرت إرادة الشعب, رغم أنها تركته يتمتع بحرية الفوضى والتسلح والتسرب عبر الحدود, سواء من جانب بعض ابرز قادة النظام المدنيين والعسكريين, أم دخول القوى المناهضة للمجتمع والراغبة في تفجير الأوضاع ومنع الاستقرار. واتخذت إجراءات وأصدرت قرارات اقتصادية وسياسية لم تتجاوب مع مصالح الشعب العراقي, ولكنها فرضتها في الواقع, فالأمر والنهي بيد الحاكم بأمره وممثل الإدارة الأمريكية بريمر.
وها نحن نعيش تفاقم المأساة وتزايد عدد القتلى في صفوف الشعب والقوات الأمريكية وفي صفوف الإرهابيين من مختلف الأتجاهات الإسلامية والقومية والبعثية المتطرفة, في حين كان بالإمكان حماية جميع تلك الأرواح لو كانت قد مارست السياسة الواقعية في العراق. ولكن هذه هي واحدة من أبرز سمات المحتلين في كل مكان وزمان, وأعني بها: الغطرسة وعدم الاستماع إلى رأي الناس والقوى المدركة لحاجات ومصالح العراق وعدم احترام الإنسان الفرد والجماعات, رغم أنهم يدخلون البلاد بحجة حماية الشعب وتحريره من الاستعباد والقهر والإرهاب.
ومع إن الإدارة الأمريكية قد اتخذت قرارات بتسليم السلطة للعراقيات والعراقيين, فأنها بدأت منذ فترة تحاول رسم مستقبل العراق بريشتها الخاصة والوانها وبما يخدم مصالحها, وهو ما يتناقض حقاً مع مصالح الشعب.
إن التوتر المتفاقم في البلاد, الذي تسببت به سياساتها غير المدروسة والاعتباطية, وبسبب شراسة القوى المعادية لاستقرار الوضع في العراق, وبسبب ضعف القوى الديمقراطية, قد دفعها إلى الارتكان إلى قوى ليست راغبة في كل الأحوال باستعادة الاستقرار والأمن والسلام في العراق, بل تريد إشاعة المزيد من الفوضى والإرهاب لتصل إلى أهدافها الداخلية. فهي من جانب تريد أن تستعين بالحكومة الإيرانية للتفاهم مع مقتدى الصدر, وهي تعرف أن القوى التي تتعاون مع مقتدى الصدر لا تبتعد عن المحافظين الرجعيين في إيران الذين ينوون تشديد الحصار على الأمريكيين في العراق لكي لا يفكروا بحرب وقائية جديدة ضد إيران أو لدعم الصدر من أجل وصول قوى الإسلام السياسي المتطرفة والمحافظة الشيعية إلى السلطة. وهم الذين يشجعونه من وراء الستار ويرسلون له الدعم والتأييد واشياء أخرى أيضاً لدفعه إلى ممارسة العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال, وريما لاحقاً ضد القوى غير المؤيدة لسياساته المغامرة والصبيانية.
وهي في الوقت نفسه تحاول إعادة العمل مع البعثيين القدامى الذين لعبوا دوراً قيادياً في حزب البعث, سواء أكانوا من العسكريين أم من المدنيين, ولكنها تعتقد بأنهم لم يرتكبوا جرائم بحق الشعب العراقي. وهي بهذه الإجراءات تحقق مفهوم القول التالي "إنها كالمستجير من الرمضاء بالنار"!
لا شك في أن الملايين التي كانت في حزب البعث أو على حسابه في مؤسسات أخرى لم تكن كلها من البعثيين حقاً أو المخلصين له, إذ كان فيهم الانتهازي والخائف من قمع النظام والراغب في العيش المرفه على حساب ضيم الشعب ... إضافة إلى وجود أولئك الأكثر إخلاصاً لنظام البعث وصدام حسين الذين يمارسون النشاط الإرهابي حالياً, علماً بأن بعضهم الآخر قد دعي إلى اتخاذ الحيطة والحفاظ على نفسه ومواقعه إلى حين تبرز الحاجة إليه. ولا شك في أن بعض الأحزاب السياسية العراقية, وكذلك الأحزاب اليسارية كما يقال, قد ابتلعت الكثير من هؤلاء في صفوفها, ومنهم من هو على استعداد لتفجير تلك الأحزاب من الداخل حين تحين الساعة, وهو ما يفترض الانتباه إليه بكل جدية.
إن التمييز بين العثي المخلص لصدام حسين والبعثي المخلص لأفكاره, الذي اختلف بسببها مع صدام حسين, ليس سهلاً, ولكنه ضرورياً ومفيداً. ولكن لا يجوز بأي حال وضع البعثي الذي واصل مسيرة صدام حسين من مواقع المسؤولية في مواقع القيادة العسكرية أو المدتية, إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة, وتجربة عبد الكريم قاسم مع البعثيين والقوميين ليست بعيدة عن ذاكرة من عاش تلك الفترة. ويرزيد المر تعقيداً أن جميع البعثيين يقعون اليوم تحت طائلة التهديد والانتقام منهم من قبل إرهابيي البعث المنفلتين من عقالهم والذين نفذوا أحكاماً بالإعدام على عدد غير قليل من الناس منذ سقوط النظام حتى الوقت الحاضر.
لم يكن شعار اجتثاث البعث هو الشعار المناسب ولا عودة البعثيين إلى مواقعهم العسكرية والمدنية السابقة التي تدعو لها إدارة بريمر بموافقة إدارة بوش هو الموقف المناسب أيضاً, فكلاهما متطرف ويقود إلى عواقب سيئة. في حين يمكن معالجة فكر وممارسات البعث وقواه الخاصة باساليب أكثر وعياً وعلمية وموضوعية وحجة من ممارسة العنف والمحاربة بالرزق أو حتى الاغتيال. إن من يمارس هذه الأساليب غير الإنسانية سوف لن يختلف عن فكر وممارسات واساليب قوى البعث وصدام حسين التي مارستها طوال 35 عاماً. وبالتالي يتحول الضحية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية. ,املي أن لا يحصل ذلك, فليس الهدف هو تبادل المواقع أبداً, بل تغيير المجتمع وتغيير الواقع العراقي باتجاه مدني ديمقراطي.
من الضروري التمييز في التعامل بين مختلف قوى البعثيين بعيداً عن فتوى الرجل المتطرف كاظم الحسيني الحائري المقيم في إيران والذي يسير مقتدى الصدر, إذ أنه اراد بفتواه قتل أغلب البعثيين تقريباً, أي اجتثاثهم جسدياً وليس فكرياً ووظيفياً فحسب. إذ أن الاجتثاث الفكري والحزبي والوظيفي تتبناه اللجنة الوطنية العليا لاجتثاث البعث التي يترأسها الدكتور أحمد الجلبي, وهي لعمري لجنة غريبة من نوعها.
الفكر لا يصارع إلا بالفكر والحجة لا تفند إلا بالحجة هذا أولاً, أما الذين مارسوا الإجرام بحق الشعب فيجب أن يقدموا إلى المحاكمات ويتلقوا عقابهم المناسب ثانياً, وأما من ساهم بصيغ ما في دعم النظام من مواقع المسؤولية فيفترض أن يزاح من موقعه إلى موقع أقل أهمية وتأثيراًً, أو أن يحال إلى التقاعد مع ضمان صرف راتبه التقاعدي.
إن ما أخشاه في الإجراء الأمريكي الأخير في العراق, أي إعادة البعثيين العسكريين والمدنيين, إلى مواقعهم في أجهزة الدولة والجيش والشرطة هو محاولة الاعتماد عليهم من جديد لتمشية سياستهم في العراق والاستجابة لإرادتهم. فقد قيل سابقاً إن المشكلة في العراق لم يكن النظام بقدر ما كان صدام الذي تمرد على إرادتهم بعد أن كان واحداً منهم, وهي أشبه بقرارات المافيا التي تقتل كل من يخرج على إرادتها من أعضائها السابقين. وبالتالي كان في مقدورها التعامل مع أجهزة النظام السابق بدون تغيير لولا سلوك صدام الذي أغاض الأمريكيين وخاصةو محاولته تنظيم اغتيال بوش الأب في الكويت. وهذا ما يحصل اليوم في ليبيا. فطالما قبل القذافي بسياسة الولايات المتحدة, انتهى العداء المتبادل وعاد الصفاء بين الدولتين, وراحت ذات الأجهزة والأشخاص تمارس أدوارها كما كانت تؤديها قبل ذاك أثناء الحرب الباردة بين ليبيا القذافي والولايات المتحدة.
إن على العراقيات والعراقيين أن يتدبروا أمورهم, فالولايات المتحدة تعمل من أجل تحقيق مصالحها, وعلى الشعب وقواه السياسية أن تعمل من أجل مصالح الشعب أيضاً, وهي قط لا تتوافق مع المصالح الأمريكية على المدى المتوسط والبعيد أو حتى على المدى القريب, حيث يمكن أن تكشف الأيام كل ما خفا عن الناس من اسرار وحقائق غير معروفة لنا جميعاً في الوقت الحاضر.
إن الاستعانة بالإيرانيين أو بالبعثيين من القياديين السابقين إشكالية لا يمكن القبول بها ويفترض أن تدرس مع مجلس الحكم الانتقالي ومع الأحزاب والقوى الوطنية ومع الشعب العراقي الذي عانى من هؤلاء الأمرين. ويبدو أنهم يتطلعون إلى العمل مع بعض الذين عملوا في الاستخبارات والقوات المسلحة وفي الفيالق التي ساهمت في قتل لأبرياء في كردستان العراق في فترة الآنتفال أو في غيرها من الكوارث التي تسبب بها النظام للشعب في كردستان ووللشعب في وسط وجنوب العراق. أملي أن يرفض الشعب العراقي, بمختلف قومياته وقواه وأحزابه الوطنية, هذه السياسة, وأن يعبر بوحدة رادته ووحدة قواه السياسية وتضافر جهودها لكي لا يعود العراق القهقري إلى حيث بدأ النضال.
برلين في 23/4/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟