|
الفضائيات والأفيون الرخيص
شاكر النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 814 - 2004 / 4 / 24 - 11:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
دخل الإعلام العربي عصر القنوات التلفزيونية الفضائية العربية منذ أكثر من عشر سنوات. وكان لبعض القنوات الأمريكية - خاصة في حرب الخليج - الفضل في هذا التدفق التلفزيوني الفضائي العربي. وكعادتنا –نحن العرب- في حب التقليد الأعمى والأخذ بالمظهر دون الجوهر، تدافعنا بقنواتنا التلفزيونية إلى الفضاء دون تخطيط، ودون دراية، ودون علم، ودون دربة. فكنا كـ (الهجين الذي وقع في سلة التين) كما يقول المثل الشعبي الأردني.
فالانتقال بالإعلام التلفزيوني من الدائرة القطرية إلى الدائرة القومية ثم إلى الدائرة العالمية ومن الأرض الى الفضاء، كان يلزمه الكثير من تبديل السياسات الإعلامية، وتبديل اللغة الإعلامية، والعقل الاعلامي، والاعتبارات الثقافية للمتلقي الجديد، هذا إذا كنا نريد أن يكون لنا إعلام حر. بمعنى أن المتلقي التونسي أو الأردني أو اللبناني لا يخاطب بنفس اللغة الإعلامية التي يخاطب بها المتلقي المصري لاعتبارت كثيرة منها المستوى الثقافي ونسبة الأمية ودرجة الاتصال بالآخر. والمتلقي العربي في أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا وكندا لا يخاطب بنفس اللغة الاعلامية التي يخاطب بها المتلقي الليبي داخل ليبيا. ولكن الإعلام العربي لم يلتفت إلى كل هذه الاعتبارات المهمة . وكل ما فعله الإعلام العربي أنه نقل أطناناً من (الغثاثة) الإعلامية من الأرض إلى الفضاء. وهو بذلك وسّع من دائرة انتشار (الغثاثة) التي كانت تزيد من الإضرار والتجهيل والإظلام الثقافي الذي كان يشمل القطر المُرسِل فقط. وكل ما فعله الإعلام العربي (العتيد) أيضاً أنه طوّر "الوسائل التقنية" للإعلام، ولم يطوّر "الرسالة الإعلامية" ذاتها بما يتلاءم وعقل المتلقي الجديد الذي أصبح يملك مفاتيح الإعلام العالمي كله، وقد زالت الحدود، وتكسرت القيود، وهُدمت السدود. وأصبح مالكاً للحقيقة بعد أن كان مملوكاً للظلام. وأصبح المتلقي هو الذي يفرض ذوقه على الإعلام بعد أن كان الإعلام هو الذي يفرض رسالته على المتلقي. وأصبح العالم بين يدي المتلقي من خلال جهاز نقال لا يتجاوز حجمه حجم (خُرْج المكاري) والدنيا كلها بين يديه وهو جالس في حديقته يشرب شاي الساعة الخامسة مساءً، أو على كرسيه الهزاز في الشرفة المطلة على حمام السباحة، أو وهو قابع في جبال اليمن وجبال أوراس، أو تائه في صحراء الجزيرة العربية، أو مستلقٍ على شواطيء لبنان، أو منفي في صعيد مصر.
مصرع الثقافة
لا يهمنا في هذا الكلام الرسالة السياسية المتخلفة التي ينقلها الإعلام العربي عبر الفضائيات وكأنه يخاطب بها أطفالاً متخلفين عقلياً، هذا إذا كانت هناك رسالة حقاً. ولا يهمنا في هذا المقام الرسالة الاقتصادية التي لا يوجد فيها أي مرجع موثوق – غير صرح مصدر مسؤول - لكي يتأكد المرء من صحة ما يُقال وما يُذاع من أرقام مزورة لا تمت إلى الواقع بصلة. والدليل على ذلك هو ما نحن فيه الآن من جوع وفاقة وحرمان وعري. فالإعلام العربي لم يحذرنا في يوم من الأيام من الخطر الاقتصادي الماحق والضائقة الاقتصادية التي نعيشها الآن في طول العالم العربي وعرضه. ولم يحذرنا من الفقر والجوع والبطالة والشحاذة على أبواب الجوامع كما نفعل الآن، بل هو صوّر لنا أن العالم العربي مستقبلاً سيكون بخير وفير ونعمة دائمة يجب أن نشكر القيادات عليها، ونمنحها دائماً صكوك الولاء والطاعة والدعاء باستمرار الحال ودوام الاستقرار. ولكن ما يهمنا في هذا المقام هو مصرع الثقافة في هذه الفضائيات (الفاضيات) .
فكيف أصبح حال الثقافة في هذه (الفاضيات)؟
من الواضح أن النظام العربي السياسي أدرك منذ البداية أهمية التلفزيون، وأهمية السيطرة التامة على هذه الوسيلة ومن هنا كانت كافة محطات التلفزيون العربي التي تبث من داخل الوطن العربي ومن خارجه ملكاً للدولة العربية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. واعتُمدت الاموال الطائلة للانفاق على هذه المحطات. فقد تجاوزت ميزانيات وزارات الاعلام في بعض الدول العربية ميزانيات وزارات التربية والتعليم أو الصحة أو أي مرفق من مرافق الخدمات العامة الأخرى. وكان الهدف من ذلك ليس نشر الوعي السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي من وراء هذه الميزانيات المرصودة الضخمة لكي يرقى المجتمع الى درجات أفضل ويتقدم خطوات الى الأمام، ولكن الهدف كان وصول عقل النظام وأفكار النظام وسياسة النظام ويوميات النظام وحركاته وسكناته الى المتلقي، ليكن النظام أقرب الى المتلقي من حبل الوريد، وليكن خطاب النظام واضحاً وضوح الشمس، مضيئاً لامعاً كعين الديك.
وفي ظل هذه السياسة الاعلامية التي اتبعها النظام العربي السياسي، ضاعت الثقافة بين الأرجل وتزاحم أقدام (المطبلين والمزمرين) و(الزفّات) الاعلامية للأنظمة التي تقيمها محطات التلفزيون العربية. فكما حوصرت الثقافة العربية من قبل الأنظمة في الأرض فقد حوصرت كذلك في الفضاء. وكما وقفت الأنظمة العربية متفرجة فرحة على النسبة المئوية المخزية والفاضحة للأميّة العربية فقد سُعدت بزيادة هذه النسبة بواسطة الفضائيات التي تقوم بتربية المتلقي على أن تشييئه وجعله (حصّالة) متلقنة بدون عقل يفكر ويحاور ويحلل ويفسر ويستنتج. وهو ما تريده الأنظمة العربية من المواطن العربي.
الفضائيات ساهمت في زيادة نسبة الأميّة!
يقول بعض خبراء التربية والتعليم في العالم العربي أن زيادة نسبة الأمية الأبجدية والأمية الثقافية في العالم العربي في السنوات العشر الأخيرة كان من أسبابها الرسالة التلفزيونية الفضائية التي تشجع المتلقي على المشاهدة لا على القراءة، وعلى التبلد العقلي لا على النشاط الذهني، كما تقدم له ما يُسلّيه لا ما يُثقفه، وما يُخدّره لا ما يُطوره ويرقى به. كما يُعلّم التلفزيون المتلقي العربي أساليب جديدة في التهريج والتجهيل والكسل العقلي وصناعة وفن التفاهة والفهلوة. وأنه في ظل حصار الكتاب العربي حصاراً حديدياً، من قبل أجهزة الرقابة ومن قبل الناشرين الذين يسعون وراء الكتاب السريع الربح القصير الأجل دون الكتاب البطيء الربح الطويل الأجل، ومنع وصول الكتاب الجيد الى القاريء العربي بفعل تخلّي الدولة عن دعم الكتاب وارتفاع ثمن الكتاب الذي أصبح يساوي في المتوسط ثمن عشر (ربطات) من الخبز تكفي العائلة مدة اسبوع كامل، وفي ظل انتشار كتب السحر والتراث والكتب الدينية التي لا تقدم جديداً بقدر ما (تعلك) قديماً مستهلكاً، وفي ظل تواري أو انحسار الفن المسرحي الجيد وكلفته العالية الذي يُربي الذوق العام.. في ظل كل هذا أصبحت الفضائيات العربية هي المصدر الوحيد والرخيص والسهل والممتع للتسلية المجانية والمعرفة المبرمجة الموجهة السطحية التي تُشبع ولا تُغذّي، وتُتخم ولا تُفيد، وتنفخ ولا تقوّي، وهي بمثابة (تبن المركوبات).
ومن خلال هذه (الموالد) و (الزفات) و (الكرنفالات) السياسية والاجتماعية والفنية التي تقدمها الفضائيات ليلاً نهاراً وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة، أصبحت الثقافة في (خبر كان)، حيث تم تطبيق القواعد الفضائية التهريجية والسطحية المطبقة على البرامج السياسية والاجتماعية والفنية على البرامج الثقافية كذلك. واتسمت البرامج الثقافية بالضحالة والسلبية والجهل والاستهتار بدور الثقافة في بناء حضارة الشعوب.
*كاتب أردني.
#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سينور ثاباتيرو: هل تعلم ماذا يعني قراركم بسحب القوات الاسبان
...
-
درس عظيم في الديمقراطية العراقية
-
لماذا نُصرُّ على الديمقراطية لا الشورى، وما الفرق بين الشورى
...
-
هل استبدل العراق بساطير الديكتاتورية بعمائم المؤسسات الدينية
...
-
فتوى القرضاوي لنُصرة فرعون!
-
نِعمَةُ الأُميّة في العالم العربي!
المزيد.....
-
بوتين: لدينا احتياطي لصواريخ -أوريشنيك-
-
بيلاوسوف: قواتنا تسحق أهم تشكيلات كييف
-
-وسط حصار خانق-.. مدير مستشفى -كمال عدوان- يطلق نداء استغاثة
...
-
رسائل روسية.. أوروبا في مرمى صاروخ - أوريشنيك-
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 80 صاورخا على المناطق الشم
...
-
مروحية تنقذ رجلا عالقا على حافة جرف في سان فرانسيسكو
-
أردوغان: أزمة أوكرانيا كشفت أهمية الطاقة
-
تظاهرة مليونية بصنعاء دعما لغزة ولبنان
-
-بينها اشتباكات عنيفة بالأسلحة الرشاشة والصاروخية -..-حزب ال
...
-
بريطانيا.. تحذير من دخول مواجهة مع روسيا
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|