|
-العقد الاجتماعي- البعثي وتناقضاته
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 812 - 2004 / 4 / 22 - 08:12
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا شيء يجمع في الظاهر بين الغارة الإسرائيلية على موقع عين الصاحب السوري في 5 تشرين أول من عام 2003، وبين اعتصام طلاب في جامعة حلب في 25 شباط الماضي احتجاجا على المرسوم الرئاسي رقم 6 الذي يخلي الدولة من التزام سابق بتوظيف خريجي كلية الهندسة لمدة خمس سنوات. بيد أن الارتباط وثيق بالفعل. وهو على وجه التحديد ارتباط بين امتناع الحكم السوري عن الرد على الغارة الإسرائيلية وبين كل من المرسوم رقم 6 والرد بالقوة على اعتصام الاحتجاج عليه في جامعة حلب. ويحيل الترابط بين الحدثين إلى ما قد نصطلح تسميته، بغير قليل من التجاوز، العقد الاجتماعي البعثي، أعني التزام نظام الحزب الواحد البعثي بالدفاع عن البلاد في وجه اية مخاطر خارجية من جهة، وبضمان حد أدنى من الحقوق الاجتماعية للسوريين من جهة أخرى، مقابل احتكار الحزب للسلطة وقيامه فعليا بمصادرة الحقوق السياسية للسوريين ومنعهم من العمل السياسي المستقل، وتقنين ذلك عبر حالة الطوارئ التي تجعل من ممارستهم للسياسة اعتداء على السيادة الوطنية، مثلها تماما مثل أي عدوان إسرائيلي. يوظف هذا المقال مفهوم العقد الاجتماعي توظيفا محض إجرائي. فالمفهوم يتيح لنا رؤية تطورات الواقع السياسي السوري خلال الشهور الأخيرة من زاوية تعارضها مع التعهدات المعلنة للعقيدة البعثية، وفي الوقت نفسه نقد أسس العقيدة البعثية على ضوء التطورات الواقعية. هذا "التعاقد" الاصطلاحي لا يُلزِم قارئ المقال الإقرار بوجود إرادة تعاقدية بعثية، ولا بوجود هذا العقد على شكل مؤسسي أو دستوري في أي يوم من ايام حكم "الحزب" التي تعادل نصف عمر الكيان السوري الحديث. وفي سياق نقد الأسس العقدية لنظام الحزب الواحد على ضوء تطورات الشهور الأخيرة سنفرد تناولا مستقلا لمفهوم "الوحدة الوطنية" البعثي من منظور تفجر العنف في مدينة القامشلي في 12 آذار الماضي وانتشاره خارجها في الأيام التالية.
أحشف حالة الطوارئ وسوء كيلة العدوان الخارجي! لثلاث اعتبارات لا تستطيع السلطات السورية، ولا يحق لها، أن لا ترد على غارة عين الصاحب التي استهدفت التراب الوطني. أول الاعتبارات مشتق من محض مفهوم الدولة السيدة بصرف النظر عن نظام حكمها وعقيدة الحزب الحاكم فيها. فالدفاع عن البلاد هو ركن اساسي من أركان سيادة الدولة، التي تنفرد، لذلك، بامتلاك الحق في إعلان حالة الحرب وعقد السلم، وتحتكر مجمل علاقات البلد الخارجية مع الدول الأخرى. فإن فشلت في القيام بهذه الالتزام السيادي فإن الباب يغدو مفتوحا لقيام بعض مواطنيها بانتداب أنفسهم للقيام بهذا الواجب، وتاليا منازعة الدولة سلطتها وشرعيتها. (وما يسمى الإرهاب الإسلامي والعربي هو في معظم حالاته رد على تقاعس الدول وعجزها عن القيام بالوظيفة الدفاعية الحيوية). يرتبط الاعتبار الثاني بالعقيدة البعثية المؤسسة على قيم الوطنية وتحرير الأرض ومواجهة الأعداء. تركز هذه العقيدة بالذات على تصور حربي حصرا للمواجهة مع العدو، وتنشر خطاب حرب وتعبئة، وثقافة طوارئ وخطر وأمن. كذلك تجعل النخبة البعثية من نفسها معيارا للوطنية، ومن مدى اقتراب السوريين الاخرين من مواقفها وسياساتها برهانا على وطنيتهم، وتصادر حقهم في النقد وتمارس ضدهم سلاح التخوين حين يرتأون تصورا مختلفا للوطنية السورية. وتصادر ما سميناها ثقافة الطوارئ على اعتبار الرد على العدوان الخارجي أو صمود البلاد في وجهه المبرر الأسمى لأية إجراءات سياسية او اقتصادية أو قانونية تتخذها. ومن هنا الاعتبار الثالث الذي يتصل تحديدا بحقيقة أن تهيئة الشروط المناسبة للرد على العدوان هي الذريعة المعلنة لحالة الطوارئ المفروضة في البلاد منذ استولى حزب البعث على السلطة قبل 41 عاما. فإذا لم تفد حالة الطوارئ في ضمان شروط أفضل لحماية البلاد من اعتداء صريح على التراب الوطني، فبم ستفيد؟! واختصارا: إذا امتنعت السلطة عن الرد على عدوان خارجي فإنها تخسر، من حيث المبدأ، حقها في: (1) منع مواطنيها من محاولة الرد عليه؛ و(2) مصادرة حقهم في النقد والاحتجاج؛ (3) إدامة حالة الطوارئ. وهو ما يعني طرح شرعية وأسس نظام حكم الحزب الواحد للتساؤل العام من قبل السوريين جميعا. ومن ناحية سياسية، فإن للرد على أي اعتداء على البلاد مفعولا ردعيا يوفر عليها مخاطر التعرض لاعتداءات أخرى في حال أفلت المعتدي من العقاب. وبالعكس فإن عدم الرد، مهما يكن السبب، "يكسر عين" الدولة ويفضي عمليا إلى تخفيض مرتبة سيادتها بين الدول السيدة.
...وحشف "الاشتراكية" وسوء كيلة عدم التوظيف! كذلك لا يستطيع النظام أن يتنكر من طرف واحد لالتزام سابق دون أن يبيح للطرف الآخر أن يدافع عن نفسه. كانت متطلبات التنمية التي حددتها نخبة النظام نفسه قد دفعته، في قبل ثلاثين عاما، إلى التعهد بتوظيف خريجي كليات الهندسة لمدة خمس سنوات؛ وهذا التعهد هو السبب في تفضيل طلاب كثيرين الالتحاق بهذه الكليات، بمن فيهم طلاب كان في وسعهم الالتحاق بكليات أخرى. في السبعينات والثمانينات وأكثر من نصف التسعينات كان بعض الطلاب المرتاحين ماديا يشكون من التطبيق الإجباري للتوظيف. في النصف الثاني من التسعينات صار التوظيف اختياريا: الدولة ملزمة بتوظيف من يرغب من المهندسين. اليوم صار عدم التوظيف إجباريا، دون أي حوار مسبق مع الطلاب أو من قد يمثلونهم (اتحاد الطلبة، نقابة المهندسين)، ودون أية إجراءات تصحيحية (تمييز إيجابي بحقهم في مجال القروض أو السكن...)، ودون اي شرح لمبررات القرار، ودون إعطاء مهلة سماح (خمس سنوات مثلا، مدة الدراسة في كليات الهندسة) بحيث ينطبق المرسوم فقط على من يلتحقون بكليات الهندسة بعد صدوره. هنا أيضا لا تستطيع السلطة أن تجمع بين حشف "الاشتراكية" وسوء كيلة عدم التوظيف، ولا بين التخلي عن مبدا التوظيف العام ومصادرة حق الإضراب أو الاعتصام والتنظيم النقابي المستقل. فجوهر "العقد" الاشتراكي أو الديمقراطي الشعبي، وسورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية بصريح نص دستورها ذاته الذي أعطى لحزب البعث احتكار السلطة، يقوم على ضمان ما يفترض أنها حقوق المواطنين الاجتماعية من عمل وتعليم وطبابة وسكن مقابل تجريدهم من حقوقهم السياسية والإنسانية. ورغم ان نظام الحزب الواحد لم يلتزم في أي يوم بتلك الحقوق الاجتماعية بصورة منسجمة، فإنه لأول مرة يجمع بين تقنين التخلي عنها وقمع الاحتجاج عليها. من جهة أخرى، إن الموقع الذي تحتله سلطة حزب البعث الاشتراكي في الاقتصاد الوطني ترتب عليها مسؤولية اساسية في تأمين الحد الأدنى من الدخل للمواطنين السوريين جميعا. فالنظام الاشتراكي البعثي يحتكر إدارة الموارد الوطنية، وينفرد بتحديد أولويات الانفاق العام، ويملك المشاريع الاقتصادية الأساسية، ويتحكم بتوزيع المشاريع الرابحة على من يناسب نخبته (الهاتف الخليوي مثلا)، ويضع الخطط التنموية، و وهو فوق ذلك يشرف إشرافا حصريا على الجامعات، ويتحكم بخيارات الطلاب لكلياتهم، ويحتكر النشاط النقابي. الغنم بالغرم. وكل هذه السلطة والامتيازات دون التزامات مقابلة هي وصفة للانفجار الاجتماعي. نهاية عقود قلنا: لا يمكن للسلطة أن لا تدافع عن البلاد وأن تستمر في فرض حالة الطوارئ؛ وقلنا: لا يمكن لها أن تتخلى عن التزاماتها الاجتماعية وان تمنع المتضررين من الاحتجاج، بل وأن تفصل خمسة من الطلاب المعتصمين فصلا نهائيا من جامعة حلب. لكن هذا بالضبط ما حصل، ولم يكن لامتناع الإمكان الحقوقي أو الأخلاقي أن يؤثر على الإمكان السياسي. هذا يكشف في الواقع حدود المقاربة الحقوقية، وبالخصوص في غياب سلطات مستقلة (تشريعية، قضائية، اجتماعية..) تراقب انضباط العلاقة بين السلطة السياسية والمبادئ والقيم الاجتماعية. ودون سلطة معدِّلة تنفلت السلطة السياسية دون ضوابط وترتد في الوقت نفسه إلى القوة الخام. والقوة تتيح جمع ما لا تجمعه مبادئ العدالة من حشف وسوء الكيل. لكن هذا الاجتماع المستحيل، أخلاقيا وإنسانيا ووطنيا، هو بالضبط أصل المزيج الانحلالي الذي ننغمر فيه: تفكك اجتماعي وقهر سياسي وخراب لغوي وتشوش عقلي واغتراب معنوي وضعف عسكري. قد لا تكون السياسة حقوقا وأخلاقا ومبادئ لكن سياسة دون حقوق وأخلاق ومبادئ هي تدمير ذاتي لا أكثر ولا أقل. لا يرد على هذه المناقشة بأن سوريا، وبصرف النظر عن نظام حكمها والحزب الحاكم فيها، لا تستطيع الرد عسكريا على العدوان الإسرائيلي. فليس للمناقشة الحالية علاقة من قريب أو بعيد بمنطق التهييج الإيديولوجي والسياسي من نوع المطالبة بفتح جبهة الجولان الذي انتعش محليا ووقتيا بعد الغارة، ولا بالمنطق التخويني الذي نجده منتعشا هذه الأيام عند أصوات سورية في الخارج. كذلك لا يحيل التحليل إلى ضرورة إلغاء المرسوم رقم 6 وعودة الدولة إلى الالتزام بتوظيف المهندسين. المسألة بالأحرى تتصل بضرورة إعادة النظر بقواعد عمل النظام السياسي الذي يراكم العجز عن مواكبة حاجات السوريين ومطالبهم الاجتماعية والسياسية والمعنوية من جهة، وعن الرد على الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته من جهة أخرى، فضلا عن تطوير قدرة البلد على الاستجابة الفاعلة لتحديات تغير البيئة الإقليمية والدولية ومشاريع إعادة هيكلة المنطقة. إن تراكم الاختلالات السياسية والاجتماعية والقانونية والإيديولوجية في البلاد يطرح مسألة التغيير السياسي بصورة بديهية. بكل بساطة، ثمة مطالب وطنية واجتماعية باتت تفوق قدرة النظام القائم على تلبيتها أو الاستجابة لها. انتهى العقد الاشتراكي السوري، وانتهى أيضا عقد حالة الطوارئ إن جاز التعبير. تحللت السلطة من التزام ينص عليه الأول (في سياق تحلل شامل، وإن يكن مقنعا، من "الاشتراكية")، وامتنعت عن الالتزام بما يمليه عليها الثاني. فإذا استمر نظام الحزب الواحد بعد انفساخ عقوده فلن يقود إلا إلى انحلال عام. بالمقابل، لا يمكن للسوريين تحمل أعباء مرحلة ما بعد عقود الحزب الواحد إلا بقدر ما تتحرر طاقاتهم على العمل المشترك والدفاع الجماعي عن النفس. هذا يعني: (1) إلغاء حالة الطوارئ والقوانين والمحاكم الاستثنائية وجميع مترتباتها، وبمفعول رجعي؛ (2) حرية العمل النقابي والسياسي والاحتجاج السلمي. دمشق 12 نيسان 2004
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظام الاستثناء الشرق أوسطي
-
ثلاثة برامج قتل وفكرة عزلاء
-
اضطرابات الجزيرة ضرورة تجديد التفاهم الوطني السوري
-
سوريا أمام المنعطف مــن هنا إلى أيــــن؟
-
اعتصام دمشق فاعلون مترددون وإعلام يقيني
-
طبائع العمران وصناعة الواقع في الدولة الحزبية
-
في السنة الحادية والأربعين فصل حزب البعث عن الدولة ضمانة له
...
-
صـــراخ فـي لـيــل عــراقــي
-
سوريون ضد حالة الطوارئ!
-
هل سيكون 2004 عام التحول في سورية؟ عرض تقرير -التحديات السيا
...
-
سورية والتحديات الخارجية عرض لتقرير -مجموعة الأزمات الدولية-
-
نقاش حول الدفاع الوطني
-
بلاد الموت السيء
-
نحو مؤتمر تأسيسي لحزب ديمقراطي يساري - مناقشة عامة لمشروع مو
...
-
وقــائــع ثــلاثــة أشـــهـر زلـزلـت ســـوريــا
-
من الحزب الشيوعي إلى اليسار الديمقراطي
-
لم ننجح في حل المسألة السياسية، فنجحت المسألة السياسية في حل
...
-
الآثار السياسية للعولمة واستراتيجية التعامل معها
-
بداية العولمة ونهاية إيديولوجيتها1 من 2
-
المثقف المستشار والرائي الأميركي
المزيد.....
-
سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي:
...
-
أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال
...
-
-أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
-
متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
-
الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
-
الصعود النووي للصين
-
الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف
...
-
-وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب
...
-
تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|