|
جذور الإلحاد(3) غموض و لا منطقية الغيبيات
سامح سلامة
الحوار المتمدن-العدد: 2655 - 2009 / 5 / 23 - 10:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
*** من المثير للدهشة حقا هو أن البشر وخلال أكثر من مئة ألف عام على الأقل ، صنع خيالهم عشرات الأنواع من الكائنات الغيبية، ومئات الألوف من أفرادها، ألهة وأشباح وأرواح وعفاريت وجن وشياطين وملائكة، و أعطو لكل منها أسماءها ومواصفاتها وشخصياتها ورموزها، ونسبوا لها قصص وأساطير وقدرات ونصوص، وفسروا بها كل ما يحدث لهم وأمامهم من أمور الطبيعة والحياة، حيث افترضوا فيها بلا دليل أنها لها القدرة على التأثير على أحوالهم وأحوال الطبيعة ، و صنعوا لمثل تلك الكائنات تماثيل وصور ونصب ورموز ومعابد وهياكل وأضرحة وتعاويذ وأيقونات، أما الأكثر خيالا وتجريدا فقد نزهوها عن النحت والرسم والتجسيد الذى وصفوه بالوثنية تحقيرا له، واكتفوا برسمها فى كلمات وجمل . قدم البشر عبر تاريخهم إلى كل هذه الكائنات الخيالية، قرابين وأضحيات ونذور وأدعية وصلوات وطقوس مختلفة، إلا أنهم لغفلتهم يظنون أن تستجيب لهم. *** فى الوقت الذى كانوا فيه لم يزالوا فى طور جمع الثمار والجذور والصيد ، حيث كانوا لا ينقسمون لطبقات و لايعرفون الملكية الخاصة و لايخضعون سوى لأعراف عشائرهم، ظهر من بينهم أول من عرفوا على أيديهم الاستغلال قبل ملاك الثروة والتجار والمرابيين و العسكر والملوك، الذين لم يظهروا إلا فى مراحل أكثر تطورا،عندما عرف البشر الزراعة التقليدية، فقد كان المستغل الأول لأخوانه من البشر هو الكاهن أو الساحر أو العراف الذى أدعى قدرته على التواصل مع أى من تلك المخلوقات الغيبية والتأثير عليها ، ومقابل ذلك تم إعفاءه من العمل المنتج، والدفاع عن العشيرة، وتكفل أفراد العشيرة المنتجون بمتطلبات حياته دون أن يعمل عملا مفيدا لهم، وليس ذلك فحسب بل تم منحه مكانة ونفوذ واحترام يفوق غيره من أبناء العشيرة فى مقابل ما يبيعه لهم من أوهام، واستمر هذا الوضع وتطور وتعقد بتطور و تعقد المجتمع البشرى، فسار الكاهن والساحر والعراف مؤسسات دينية عملاقة تستثمر المليارات، لتضمن ربحية عالية تفوق غيرها من المؤسسات، مستغلة غفلة البشر. *** بعد تطور المجتمع البشرى تطورت عقائد البشر لديانات أكثر تنظيما ، و من ثم ظهرت فئة رجال الدين الفلاسفة التى حاولت أن تعقلن تلك الخرافات والأساطير والمعتقدات البدائية، دفاعا عن بقاء المؤسسات الدينية المنظمة، ولصالح المستفيدين من بقاءها سواء أكانوا من رجال الدين أو رجال الدولة أو ملاك الثروة، لأنه مع تطور العقل البشرى، ما أصبح البشر يبلعون تلك السذاجات بسهولة، فكان لابد من استخدام ألوان من المنطق الزائف والسفسطة العالية، لتستمر العقائد قوية فى قلوب المؤمنين بها، ويستمر استغلالهم وخضوعهم، ففى العصور الوسطى حيث سادت النظرة الدينية فى أوروبا والعالم الإسلامى ، ما كان هناك من عمل لهؤلاء سوى الدفاع عن المنقول الأسطورى بالمعقول العقلى الذى استفادوا فيه من الفلسفة التى نشأت فى بلاد الأغريق وخصوصا سفسطائيوهم الذين كانوا لديهم القدرة على الإقناع بالقضية ونقيضها، واشتعلت صراعات فى العالم المسيحى بين أنصار الطبيعة الواحدة والطبيعتين ، وبين المشيئة الواحدة والمشيئتين، وفى العالم الإسلامى بين الجبرية والقدرية والأشعرية، و سالت فى تلك الصراعات، بحور من الحبر والدم. و لم تعد المسألة مجرد أن البلاهة البشرية اهدرت معظم ثراوتها وجهودها ليبتلعها السحرة والكهنة والعرافون والدجالون وغيرهم، ولم تكتفى تلك المؤسسات بذلك بل اندلعت الحروب والمذابح وعذب البشر واضطهدوا وقتلوا بسبب اختلافاتهم حول تلك الكائنات الخيالية فى حين لم يقدم أحدهم دليل مقبول علميا على صحة دعواه . *** تراهم يستبسلون فى رفض نظرية التطور التى استنزفت جهود العلماء الحقيقين ، لأكثر من قرن ونصف ليقدموا براهين قاطعة على صحتها، من الحفريات وعلاقتها بطبقات الأرض، و تطور الأجنة فى الأرحام ، و المورثات فى الخلية، والبقايا الأثرية فى الكائنات الحية، ورصدهم لعملية التطور وهى تجرى فعلا فى عالم النباتات والحيوانات قصيرة العمر، واستخدامهم للنظرية عمليا فى الزراعة والطب، والمنطق الصحيح فى أن الأشياء تتطور من الأبسط للأعقد ، و لايمكن أن توجد على على هذا المستوى من التعقيد فجأة و بلا مقدمات، وفى نفس الوقت يصدقون عن يقين أن كل تلك المخلوقات الحية قد تم صنعها على هيئة تماثيل طينية، ونفخ فيها اللة أشهر الكائنات الغيبية من روحه فسارت حية، وأنها ظهرت هكذا بهيئتها المعقدة فورا بفضل قدرة كائن غيبى لا يمكن لنا أن ندركه على أى نحو يمكن أن يثبت وجوده أو ينفيه، و فضلا عن ذلك فلم يشاهده أحدا وهو يخلقها على هذا النحو. بل هى قصة وردت فى نص يؤمنون بلا دليل أنه منزل من قبل هذا الكائن ، لأن مؤسسات مثل الأسرة والمدرسة والإعلام والدولة فضلا عن مؤسسات الدين مازالت تقدم لهم تلك النصوص والحكايات وكأنها الحقيقة المؤكدة ، وزرعت فى عقولهم أن أساطير الدين أقوى من حقائق العلم، وأجدر بالاتباع. *** الإيمان البشرى العميق بتلك الكائنات الغيبية وعلى رأسها اللة، والأساطير والنصوص التى تروى عنها، و الذى يصل لحد التعصب والقتل والاستشهاد دفاعا عنها ومن أجلها ، يثير الدهشة فعلا لأن كل هذه الكائنات الغيبية كائنات غاية فى الغموض ، لأنها لم تغادر جماجم البشر يوما لتصبح حقيقة ملموسة يمكن أن نختبرها علميا، فهى كما يعرفها المؤمنون بها ليست طبيعية و لا مادية، و لا تشبه شيء من أشياء الطبيعة التى نعرفها، و التى نملك القدرة على قياسها، واخضاعها للتجارب العلمية المنضبطة، لأننا لا يمكن أن ندركها سواء بحواسنا أو بأجهزتنا العلمية، أو أن ندرك تأثيرها على كائنات الطبيعة المختلفة، على النحو الذى يفرضه منهج العلم، و الإنسان مكون من مادة لا يمكن أن يدرك إلا كل ما هو مادى فكيف يؤمن هذا الإنسان العاقل بشيء ما لا مادى ، أى ليس مكونا من ذرات العناصر الكيميائية المعروفة، و لا من الجسيمات الأولية التى تكونها، لا من جسيمات الطاقة التى تسبب حركة الكتلة، و لا من جسيمات الكتلة، و لا من مركبات تلك الذرات العضوية وغير العضوية، التى تشكل كل الكون المعروف لدينا، فالكائنات الغيبية أشياء لا سائلة و لا صلبة و لا غازية ، وهى لا طول لها و لاعرض و لا ارتفاع ، و لا لون لها و لا رائحة، فكيف يمكن الإيمان بشيء هو في حقيقته لاشيء، و ما هو إلا خيال فى الذهن البشرى، شأنه شأن كل شخصيات الروايات الأدبية و لا فرق هنا بين الألهة والملائكة والشياطين و الأرواح والأشباح، و لا فرق هنا بين رع و زيوس واللة وبراهما، و لابين الغول والعنقاء وإبليس. ***يتوهم البشر المؤمنين بالغيبيات، و جود مادى ملموس لتلك الكائنات أحيانا ، نتيجة نشاط كهروكيميائى فى أمخاخهم، و ما هذا الوجود إلا هلاوس سمعية وبصرية ، تحدث لهم فى النوم أو فى اليقظة ، فيظنونها حقيقة. وتتزايد لديهم تلك الأنشطة نتيجة الأمراض النفسية والعقلية المختلفة، وفى حالات الجوع و العطش الشديد، والخوف والقلق، وتناول الخمور والمخدرات والأدوية المختلفة، وممارستهم الرقص السريع والتعرض للموسيقى العنيفة، وممارسة الطقوس الدينية المختلفة، والتأمل الطويل، وفى بعض حالات الصرع، وعندما يصابون بهسترية جماعية أو فردية، تلك الهلاوس الحسية ما هى إلا تجارب ذاتية فردية لا تنبأ عن أى حقيقة ما، إلا أنها مجرد نشاط كهروكيميائى فى المخ البشرى ، الذى من الممكن أن يحدث للأفراد والجماعات الذين لديهم القابلية للإيحاء و الحساسية المفرطة، مع توافر إرادة الاعتقاد لديهم بصحة تلك الهلوسة. *** الكلام عن الوجود الروحى غير المادي هو الكلام عن اللاشيء. فكل تلك الكائنات الغيبية التى أبدعها المخ البشرى، ما هى إلا أشياء وهمية لا وجود لها لأنها لا تخضع لنطاق المادة، ولن يمكنا فى يوم من الأيام إدراكها بعكس ما لا نعرفه حتى الآن من أسرار الوجود المادى نظرا لقصور وسائلنا وحواسنا ، إلا إن امكانية إدراكها مستقبلا بتطور قدراتنا على المعرفة، ينفى عنها صفة الغيبية.
#سامح_سلامة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جذور الإلحاد(2) تناقضات فكرة اللة
-
جذور الإلحاد (1)حجج وحجج مضادة
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|