كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 811 - 2004 / 4 / 21 - 04:41
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
يتوزع السياسيون العراقيون في المرحلة الراهنة على ثلاثة اتجاهات بصدد الموقف من التعقيدات الحاصلة في الوضع السياسي والتحولات الجارية في اصطفاف ومواقف الأحزاب والقوى السياسية العراقية. فمنهم من هو متفائل, ومنهم من هو متشائم, ومنهم من لا يدري إلى أن يسير به تطور الأحداث الداخلية.
وأما على صعيد المجتمع يمكن القول بأن جماعات غير قليلة تسعى إلى تغيير الأوضاع باتجاه دينقراطي, وبجوارها قوىى أخرى تحاول جاهدة دفع الأمور باتجاه استبدادي وظلامي, في حين تبتعد الأكثرية الساحقة من بنات وأبناء الشعب العراقي عن المشاركة في الحياة السياسية وترفض المساهمة في رسم مصيرها بنفسها, وكأنها لم تتعلم من دروس الماضي القريب والبعيد. ولا يمكن حسم الصراع في المحصلة النهائية إلا من خلال تعبئة هذه الغالبية العظمى من المجتمع التي تقف متفرجة على الأحداث وزجها في قلب الأحداث لتساهم في رسم مستقبلها. وهي المهمة الأكثر تعقيداً والأكثر أهمية والأكثر صعوبة في آن واحد لأسباب كثيرة لا يجهلها إلا من ابتعد عن متابعة الوضع السياسي الجاري في العراق.
ومن أجل حسم هذا الصراع تحاول لقوى الإسلام السياسي المتطرفة تأجيج الصراعات وتأمين حالة مفتعلة من الاستقطاب الفكري والسياسي والديني في المجتمع وعلى صعيد المنطقة لتكسب إلى جانبها الجماهير الشعبية الواسعة وكيب المعركة الجارية على السلطة لصالحها. وهي لا تبالي في استخدام حتى الأساليب غير المشروعة والفجة وتشديد الصراع الديني لهذا الغرضو كما لا تتورع عن استخدام الأسلحة المختلفة لتحقيق الغاية المنشودة: الوصول إلى السلطة بأي ثمن, فالغاية تبرر الواسطة!
فبعد مرور عام على سقوط النظام الاستبدادي وإعلان احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة رسمياً وفق قرار مجلس الأمن الدولي 1483 لسنة 2003, يجري تحت تأثير عوامل كثيرة استقطاب متفاقم بين القوى والأحزاب السياسية العراقية يدور حول الموقف من السلطة السياسية ويرتبط بدوره بمستقبل العراق السياسي والاقتصادي والاجتماعي, رغم أن هذا الاستقطاب لم يشمل المجتمع كله, بل في إطار قواه السياسية المنظمة. ولكن ما هي طبيعة هذا الاستقطاب المتفاقم حالياً؟ وهل هو استقطاب طبيعي أم مفتعل؟ ومن هي القوى التي تقف وراء مثل هذا التفجير للصراعات السياسية التي تقود إلى مثل هذا الاستقطاب؟ الا يذكرنا هذا بالاسقطاب الذي عملت من أجل تأجيجه القوى القومية في أعقاب عام 1958 حين طرحت شعار الوحدة وهيأت الفرصة المناسبة لمزيد من التوتر في الساحة السياسية العراقية وما نجم عنها من عواقب وخيمة على المجتمع العراقي يعاني منها حتى الوقت الحاضر؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من إبراز حقيقة واضحة يحاول البعض إثارة الضباب حولها ونعني بها الموقف من الاحتلال.
كل الشعب العراقي وجميع القوى السياسية العراقية, باستثناء قلة قليلة لا يعتد بها وليست لها أرضية اجتماعية قوية, لا تريد استمرار الاحتلال ولم تكن راغبة فيه وتسعى للتخلص منه. والفارق الذي يمكن تلمسه في المرحلة الراهنة في مواقف جميع هذه القوى يبرز في انقسامها إلى غالبية ترفض ممارسة العنف والقتال للخلاص من الاحتلال ولا تجد الظروف مهيئة أصلاً لمثل هذا الكفاح, بل ترى ضرورة ممارسة الكفاح السلمي الديمقراطي لإنجاز هذه المهمة, من جهة, وأقلية ترى ضرورة تصعيد الصراع حالياً وممارسة العنف والقتال لتحقيق هذا الهدف, في وقت تعرف هي الأخرى بوجود إمكانيات غير تصعيد التوتر وممارسة العنف لتأمين استعادة الاستقلال والسيادة الوطنية.
ويبدو لي بوضوح كبير بإن قوى الإسلام السياسي المتطرفة تنزع إلى ممارسة العنف وإبراز العضلات لا لطرد المحتلين من البلاد, بل تهدف من حيث المبدأ قطع الطريق على القوى الديمقراطية الوصول إلى السلطة من خلال محاولة الإدعاء بأن القوى الديمقراطية تقف إلى صف المتعاونين مع الاحتلال, وبالتالي تهيئة الفكر الداخلي لتسلم السلطة باعتبارها أكثر وطنية من غيرها. وبهذا ترتكب خطأ فادحاً وتسيء إلى سمعة القوى الديمقراطية دون أدنى مبرر, وتساهم في تفكيك وإضعاف القوى السياسية العراقية التي تريد استعادة الأمن والاستقرار وإعادة إعمار العراق وتهيئة مستلزمات تسلم زمام السلطة من قبل قوى المجتمع العراقي المختلفة, ولكنها في المحصلة النهائية تضعف نفسها وتضعف كل القوى التي تريد الخلاص من الاحتلال في أقرب فرصة ممكنة. أي أن قوى الإسلام السياسي المتطرفة تحاول تشديد التناقض والصراع وتحويله إلى نزاع سياسي عسكري بهدف تعبئة الناس حولها وعزل القوى الديمقراطية بحجة مكافحة الاحتلال, وهو ما لم يتوفر لها حتى الآن وينبغي أن لا نسمح لها بالنجاح في مثل هذا الادعاء الباطل.
فإذا كان التوافق قائماً من ناحية الهدف, فالاختلاف بالوسيلة لا يستوجب الصراع بين القوى السياسية المختلفة, إذ يمكن الاتفاق على سبل معينة لخوض الصراع ومعالجته لصالح الشعب. ولكن في الواقع يبدو بأن الخلاف لا يمس موضوع الاحتلال, بل يمس موضوع السلطة والرغبة في الهيمنة على السلطة وإبعاد القوى الديمقراطية عنها بأي ثمن حتى من خلال خوض المعارك الدموية ضد الاحتلال وتقديم تضحيات كبيرة من صفوف الشعب العراقي لتأمين مستلزمات الوصول أو الحسم المبكر للموقف من السلطة.
إن قوى الإسلام السياسي المتطرفة من مختلف التيارات المذهبية ترى في القوى الديمقراطية العراقية عدوها اللدود, إذ أن لها مشروعاً مختلفاً لمستقبل العراق عن المشروع المدني والعلماني الذي تريده القوى الديمقراطية العراقية, وهي تدرك أن المشروع الديمقراطي يمكن أن يحظى بتأييد الشعب العراقي حالما تهدأ الأمور ويستقر الوضع الأمني وتستعيد القوى العاملة العاطلة عن العمل على عمل ومصدر رزق ثابت. في حين أنها تعتقد بأن دمج الكفاح ضد الاحتلال ووضع القوى الديمقراطية وكأنها تقف مع الاحتلال يوفر لها فرصة خداع الشعب بموقفها من السلطة ومن المستقبل المظلم غير الحضاري الذي تريده للعراق. إن الصراع المبطن الدائر حالياً موجه بالأساس ضد القوى الديمقراطية والعلمانية, ولكن يجد تعبيره غير المباشر في تشديد الصراع مع قوى الاحتلال, وبالتالي يلتقي التيار الديني المتطرف بالتيار القومي الشوفيني المتطرف أيضاً, إذ أنهما يلتقيان إزاء مسألة أخرى هي الموقف من الديمقراطية ومن حق الشعب الكردي في تقرير مصيره وفي إقامة اتحاديته في إطار الدولة العراقية الاتحادية وضد تمتع القوميات الأخرى بحقوقها المشروعة. وهذا التحالف غير النبيل هو الذي نجده اليوم بين مختلف فصائل قوى الإسلام السياسي المتطرفة وبين القوى القومية المتطرفة وجماعات النظام السابق التي تتوزع حالياً في صفوف هذه القوى, إضافة إلى وجود تنظيمات مسلحة خاصة بها أيضاً.
إن من واجب القوى الديمقراطية أن تلعب دوراً متميزاً في توضيح حقيقة الصراعات السياسية الجارية في العراق وحقيقة الموقف من الاحتلال لكي لا تسمح لكل الذين يحاولون وضع القوى الديمقراطية في خندق غير الرافضين للاحتلال وغير الساعين للخلاص منه. فالقوى الديمقراطية تتمتع بوطنية لا تقل عن وطنية الآخرين, ولم تقصر في نضالها الطويل من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية بل كانت في الطليعة منه, كما لم تكن كلها إلى جانب الحرب التي جرت لإسقاط النظام, وبالتالي ليس من حق أحد أن يزايد عليها في الوطنية أو يحاول تعبئة الناس ضدها تحت ستار الكفاح ضد الاحتلال.
إن على القوى الديمقراطية أن تدرك عن حق بأن المعارك الجارية في العراق تستهدفها أولاً وقبل كل شيء حتى من جانب تلك القوى التي لا تتحدث عن هذا الموضوع بل تضمره. فأول من ينحر من قبل قوى الإسلام السياسي المتطرفة بمختلف أجنحتها, الوهابية والحنبلية المتطرفة والشيعية المتطرفة, من أمثال السيد كاظم الحسيني الحائري الكربلائي والسيد مقتدى الصدر, هي القوى الديمقراطية, وخاصة اليسارية منها.
إن وعي هذه القضية وإدراك ابعادها يضع على عاتق القوى الديمقراطية العراقية أن تنتبه إلى أوضاعها الراهنة وأن تمارس العمل السياسي الجماهيري وأن تبتعد عن ضيق الأفق الحزبي لصالح المصالح الوطنية العليا. إنها مدعوة إلى ممارسة أدوات واساليب جديدة وخطاب سياسي جديد وإعادة نظر بأوضاعها والاحتكاك بالمجتمع وتبني مطالبه وانتقاد سلطات الاحتلال ومجلس الحكم والوزراء عن الأخطاء والنواقص التي ترتكب في العمل اليومي, وكذلك النقد المتبادل في ما بين الأحزاب لصالح تحسين العمل ولصالح خلق تحالف وطني في ما بينها وبين كل القوى التي ترفض هذا التصعيد الدموي للتوتر وتحويله إلى تنزاعات مسلحة وإلى تشديد وتعميق الاستقطاب في المجتمع.
نعرف جميعاً بأن الأقلية الضئيلة من الشعب العراقي هي التي تساهم في عمل الأحزاب والقوى السياسية أو في الحياة السياسية العراقية, في حين أن الجمهرة الواسعة أو الغالبية العظمى من الجماهير الشعبية تقف بعيداً عن كل القوى والأحزاب السياسية العراقية ولا تساهم في العملية السياسية الجارية في البلاد تاركة مصيرها إلى القدر, إنها ما تزال تتفرج على المشهد السياسي بعين اللامبالاة وعدم الاهتمام وكأنه لا يحدد مستقبلها ولا يمس مصيرها, تماماً كما حصل في فترة الحكم الدكتاتوري. والمسؤولية لا تقع على عاتق الجماهير التي تقف متفرجة, بل على مجمل الأوضاع التي عاشها الشعب طيلة العقود المنصرمة وعلى الأحزاب السياسية.
وتقع اليوم على عاتق الأحزاب والقوى الديمقراطية بمختلف أجنحتها مهمة الاحتكاك بهؤلاء الناس, بهذه الأكثرة الصامتة المنعزلة عن العملية السياسية في البلاد, رغم تأثيرها السلبي الشديد على أمنها وعملها ومصدر رزقها وحياتها, من أجل إشعارها بمسؤوليتها, من أجل كسبها إلى العمل السياسي والمشاركة في تقرير مصير البلاد.
بعض القوى السياسية العراقية تراهن على أن سلطات الاحتلال لن تسمح بوصول قوى الإسلام السياسي المتطرفة إلى السلطة أو إلى فرض إرادتها على الشعب في العراق وإقامة دكتاتورية من نوع جديد. يمكن أن يكون هذا صحيحاً إلى حد غير قليل, إذ عندها ستنتعش الاتجاهات المتطرفة والإرهابية في منطقة الشرق الأوسط كلها وتنتقل إلى بقية أرجاء العالم. ولكن هذه ليست مهمة قوات الاحتلال, بل هي من مهمات القوى الديمقراطية العراقية وقوى الشعب التي ترفض التطرف والعنف والاستبداد. ولهذا يفترض أن تميز القوى الديمقراطية نفسها من جهة, وأن توضح جوهر الصراع الجاري حالياً من جهة ثانية, وأن تلعب دورها في عزل القوى المتطرفة عن التأثير الواسع على الأوساط الشعبية الكادحة التي تعاني اليوم من مصاعب الحياة والمعيشة بسبب السياسات والحروب السابقة وبسبب غياب الأمن والاستقرار حالياً وضعف مسيرة عملية إعادة إعمار العراق والأخطاء السياسية لقوى الاحتلال والفساد الوظيفي المنتشر في كل أنحاء البلاد, إضافة غلى ضعف القوى المتحالفة في ما بينها حالياً من جهة ثالثة.
إن من يريد التغيير باتجاه ديمقراطي يفترض أن يشمر عن ساعديه للعمل في وسط الجماهير وأن يسعى إلى إقناعها على المشاركة في الحياة السياسية, أن تأخذ مصيرها بيديها ولا تتركه إلى أولئك الذين يدعون الدفاع عنها من منطلقات ظلامية قاتلة تعود بالبلاد إلى القرون الوسطى وإلى التخلي عن السير في ركب الحضارة الإنسانية. إنها مهمة القوى الديمقراطية العراقية بمختلف فصائلها ومدارسها الفكرية والسياسية, إنها مهمة المجتمع بأسره, ومهمة كل فرد يؤمن بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية, وليس من حق أي منا أن يقف متفرجاً على الأحداث السياسية دون أن يساهم في هذه العملية الجارية بأي قدر يستطيع النهوض به, إنها مهمة وطنية نبيلة أولاً وقبل كل شيء.
برلين في 19/4/2004
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟