|
الله والشاعر والفيلسوف
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 2650 - 2009 / 5 / 18 - 05:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"لا تثق بالقصيدة، بنت الغياب، فلا هي حدس، ولا هي فكر، ولكنها حاسة الهاوية.." هكذا يتوجه محمود درويش إلى القارئ في قصيدة بعنوان "رسالة إلى ملك الإحتضار". حيث تبدو القصيدة كأنها تمثل إستمرارية جسد الشاعر ذاته كجلده ويديه وعينه.. أو وسيلته المباشرة لتحسس العالم والأنغماس في حرارة الأشياء وبرودتها الثلجية. تبدو القصيدة كوسيلة أو أداة حسية جديدة لوعي الأشياء، والتغلغل في وجودها المادي. وهو ينفي أن تكون القصيدة حدسا أو فكرا، أي أن تكون وسيلة لمعرفة عقلية تجريدية أو عملية تخضع لقوانين النفي والإثبات. إنها حاسة الهاوية، أداة معرفية لقياس السقوط والهزيمة وزمنية الموت والإحتضار. القصيدة تبدو كمنبع لمعرفة وجدانية ذاتية، أو كثرمومتر إنفعالي لقياس الشعور والأحاسيس والعواطف. ولهذا السبب ذاته يطلب الشاعر من القارئ ألا يثق في هذا المقياس الذاتي، لأن القصيدة مثل أي عمل فني آخر، لايمثل إلا بقايا تجربة وجدانية حسية وجمالية للمبدع ذاته. والقارئ لا يستطيع أن يعيش هذه التجربة مباشرة، وإنما يستطيع أن يعيشها بواسطة "الخيال"، أي بواسطة الصورة التي يضعها المبدع أمام عينيه. وهي في العادة صورة ورقية جافة يابسة، وأحيانا مجرد جثة إنفعال، أو شذرات يائسة من تجربة الشاعر. غيرأن محمود درويش في هذه القصيدة يبدو كأنه يلبس ثوب المفكر، ويستعير لسان الفيلسوف، ليدلي للقارئ بـ "فكرة" أولية مفادها أن لا نثق بالشعر، وذلك في قصيدة شعرية بعنوان "رسالة إلى ملك الإحتضار". وعلى القارئ أن يجد طريقه لوحده في هذا التركيب المتناقض .. على القارئ أن يفرز وينقي ويختار الصورة التي تناسبه وسط هذا المتحف المليء بالصور المسمى بالقصيدة، والذي يعتبره الشاعر كوعاء معرفي عام قادر على نفي ذاته كشعر، ليولد في صورة فلسفية أو أخلاقية أو سياسية. وهو في نهاية الأمر إستمرارية للشعر العربي الفلسفي، أي التراث الذي يحتوي الفلسفة كلحظات أو محطات داخل القصيدة أو المقاطع الشعرية، حيث الحسية الشعرية تتجاوز ذاتها في بعض مواقف الإشراقية، للوصول إلى تجريدات فكرية عامة، لتعبر عن فكر محاصر وغير قادر على إفراز نظرية فلسفية شاملة لفهم الإنسان والعالم والعلاقات العديدة بينهما، رغم وجود بعض المحاولات في التجربة الشعرية العربية للتخلي عن القصيدة كتركيب فني، والتعبير عن مواقف فلسفية في لغة تقع خارج حدود الشعر، كما هو الحال مع أدونيس في كتابه "التجربة الشعرية العربية". حيث يؤكد على العكس تماما من درويش، بأن القصيدة هي منبع الفكر وأساس البنية اللغوية القادرة على فهم الإنسان والعالم. وذلك في مقابل اللغة الدينية والفلسفية مصدر اليقين والإعتقاد والمذاهب. حيث أن العالم في أفق المعرفة الشعرية، أي المجازية، يكون على العكس "منفتحا بلا نهاية، لأنه إحتمال واكتشاف دائمين". ونحن نعرف بأن هذه المقولة تبدو صحيحة على المستوى الذاتي الفردي. غير أن أدونيس يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يشن بطريقة غير مباشرة حربا على الفلسفة والفكر الفلسفي عموما، مؤكدا بأن الشعر هو المفتاح الوحيد القادر على فتح أبواب المعرفة الموصدة منذ القدم، باعتباره اللغة كوعاء وحيد يحتوي كل الأدوات المعرفية من الدين والفلسفة والشعر وبقية العلوم النظرية والتطبيقية. غيرأن ما يسميه بـ "المجاز" كخاصية متأصلة في التاريخ والتراث اللغوي العربي تشكل حدا فاصلا واشارة إلى التصادم والمفارقة الحادة بين الفكر الديني والفلسفي من جانب، وبين الشعر في الجانب الآخر. ذلك أن المجاز حسب النظرية الدينية لا يعبر إلا على "المحتمل"، حيث هناك إحالة للألفاظ عن معانيها المعهودة، وتحريف للكلمات عن مواضعها، مما يفسد المعاني وبالتالي يفسد اللغة ويولد الضلال والباطل. لذلك تجب العودة إلى أصول الكلمات وتحميل الألفاظ المعاني الموضوعة لها في الأصل، وضرورة الرجوع إلى اللغة الواقعية، لغة النثر. وأدونيس يدين هذا المنظور الديني ويؤكد على العكس من ذلك بأن اللغة خاصية ينصهر فيها الفكر والشعر "بحيث يبدو الفكر أنه يتصاعد من الشعر، كما تتصاعد من الوردة رائحتها". وتتمثل هذه الخاصية بطبيعة الحال في "البنية المجازية للتعبير". ولا شك أن هذا "المنظور المثالي" لايبطل المجاز وحده، وإنما يبطل اللغة الشعرية ذاتها كمقياس إنفعالي حسب ما يراه محمود درويش.. أي حاسة الهاوية، الشعر كتجربة وجودية مباشرة وأصلية وأساسية وغير قابلة للخضوع للقوانين العقلية أو المنطقية مثل النفي والإثبات، الحقيقة والباطل، الوجود أو اللاوجود، الإحتمالي والضروري، إلى آخر هذه التصنيفات المنطقية. وهذا لا يعني أن الشعر ليس أداة معرفية، غير أنه من الواضح أنه ليس أداة معرفية موضوعية كما سبق القول. فاستعمال البنية الواقعية أو المجازية أو أية بنية أخرى لغوية في التعبير ليس كافيا وحده لرسم الحدود الفاصلة بين المعرفة الشعرية والمعرفة الفكرية أو الفلسفية ـ وهذا في حقيقة الأمر موضوع آخر يحتاج بدوره إلى المزيد من البحث والدراسة والتحليل ـ إذ أن الذي يهمنا في هذا المجال هو الطريقة التي استعملها أدونيس في تصنيف هذه المناهج المختلفة، والمنهج الذي استعمله ومكنه من وضع الدين والفلسفة في ملف واحد، مقابل ملف آخر يضع فيه الشعر، أو المعرفة الشعرية كنقيض إيجابي.. وهذا التصنيف في حد ذاته يعتبر في نظرنا ممثلا لأحدى المشاكل العميقة والأساسية التي يعاني منها الفكر المعاصر عموما، والفكر العربي بصفة أكثر حدة. وهو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعتنا منذ البداية إلى هذه المحاولات اليائسة لفك الحصار.ذلك أن اعتبار المنهج الديني كمنهج فكري، وإلصاقه أو وضعه في نفس الخانة مع الفلسفة هو خطأ جوهري لا يمكن ارتكابه إلا في حالة واحدة، حالة وجود خلل ابستمولوجي في المنهج الذي أدى إلى هذه النتيجة . وهذا الخلل ربما يرجع إلى عدم التفرقة بين الحالات المختلفة للوعي الإنساني، الحسي والفكري والمتخيل. وبالذات إلى عدم التمييز فلسفيا بين الشيء وبين صورة هذا الشيء، بين الشيء في ذاته وبين الصور المختلفة لظهور هذا الشيء، حسب الوعي الخاص لكل حالة. إن هذا التشويش المنهجي، وهذا التناقض بين مقولة "القصيدة ليست حدسا وليست فكرا"، وبين "الفكر يتصاعد من الشعر.."، والذي يمثل هذا المأزق الذي يتواجد فيه الفكر المعاصر، يعود بالدرجة الأولى إلى أهمية "الكلمة" في التركيب الثقافي العربي. وإلى أهمية اللغة الشعرية الخيالية في جميع جوانب الحياة العربية. من "افتح يا سمسم"، إلى "إن شاء الله". وهذا قد يلقي قليلا من الضوء، ولو بطريقة باهتة، وقد يفسر لماذا كل الأنظمة العربية السياسية بدون استثناء تخاف من الكلمة لماذا تقفل الصحف وتسيطر على أجهزة الاعلام المختلفة. لماذا المحاصرة والمطاردة والرقابة والإرهاب ضد كل من يفتح فمه ليقول كلمة مخالفة لكلمة رئيس القبيلة. ذلك أن الكلمة "أقوى من السيف"، ولها قوة الفعل. يكفي أن يقف القائد العظيم وراء منصته ويقول قصيدته في سحق العدو، لتتحول الهزيمة المريعة إلى نصر شامل، وإسقاط طائرة بالصدفة إلى هزيمة الأسطول الجوي المعادي بأسره. وهزيمة عدة دول عربية تتحول إلى مجرد "كبوة حصان". ذلك أن الشعر عامل مقدس وبنائي للهياكل الثقافية السائدة، والطبقة الحاكمة تتعامل مع الكلمات ليس كعلامات، وإنما كأشياء مادية حقيقة. الكلمات لها القدرة على التأثير على مسيرة الإنسان والعالم.. في التاريخ الإجتماعي العربي المعاصر. ومن الواضح أن علاقة الأنظمة العربية الاسلامية، والإسلام ذاته باللغة هي علاقة سحرية وليست واقعية أو عقلانية، فـ "الفكر يتصاعد من الشعر.. كما تتصاعد من الوردة رائحتها..". إن استعمال اللغة بطريقة سحرية، يخرج اللغة من مجال "المعنى"، وينفي عنها وظيفتها الأساسية كوسيلة وظاهرة تاريخية تنمو وتتطور حسب إحتياجات المجتمع العملية والفكرية والفلسفية، ويقذف بها في غياهب العتمة المقدسة، ويحولها إلى عنصر ووحدة متكاملة منغلقة على نفسها كلغة مقدسة. فتدخل اللغة وتنحصر في جمال الخيال والتصوير والمجاز، وتحل اللغة محل الفعل. ذلك أن الصورة قادرة هي أيضا على خلق الطاقة الشعورية والإحساسية والإنفعالية. ومحمود درويش في رسالة كتبها إلى سميح القاسم، يذكر قصة سائق التاكسي الذي سألته وكالة الصحافة الفرنسية عن سبب إستماعه الدائم إلى الشعر، فأجاب.."عندما أقترب من حاجز للجيش، أستمع إلى الشعر لأنه يجعلني أقوى". غير أنه في الآونة الأخيرة نشهد يقظة بعض الشعراء العرب، بعد الهزائم المتكررة، وبعد فشل الكلمات في إشباع الفقراء، أو تحرير شبر واحد من الأراضي المحتلة. فقد صرح محمود درويش في فرنسا قبل موته بقليل بأن "الشعر لا يستطيع أن يسقط الطائرات، وكلما ارتفع صوت الطائرة انخفض صوت الشاعر". ولن نتساءل هنا عن ضرورة أو إستحالة مواصلة الكتابة الشعرية، فهذا موضوع آخر. ولكننا لا بد أن نتسائل عن طبيعة التحالف القائم بين الشعر والدين، ضد اللغة الفلسفية. فمقولة "من تمنطق فقد تزندق" لا تشير فقط إلى أن الحرب الشاملة التي شنها الفقهاء وعلماء الفكر الديني ضد الفلسفة، كانت أحد الأسباب المهمة التي أدت إلى هزيمة العقل النقدي، واندحار الفكر الفلسفي المستقل، وإنما تشير ايضا ولو بطريقة غير مباشرة، إلى الخطأ المنهجي الذي أشرنا إليه، والذي ارتكبه بعض المثقفين العرب، بالخلط بين المنهج الديني والمنهج الفلسفي، ووضعهما في جانب واحد في مقابل اللغة الشعرية. ونشير في نهاية الأمر إلى إمكانية اللقاء والتحالف بين الدين وبين بعض الذين يؤكدون على اللغة الشعرية كمصدر معرفي أساسي في الثقافة العربية، وذلك رغم التناقض ـ السطحي ـ القائم بين اللغة الشعرية والدين.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الأسرة والكراسي
-
طبيعة الكارثة
-
مناورات لفك الحصا ر
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|