هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2649 - 2009 / 5 / 17 - 08:32
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
قبل يومين , أواخر افريل , صدر كتاب لفرنسوا بايرو François Bayrou بعنوان تجاوز السلطة. المؤلف رئيس الحركة الديمقراطية حديثة النشوء, كان مرشحا لرئاسة الجمهورية في الدورة الماضية, و جاء في المرتبة الثالثة. ويعتقد الكثير من الفرنسيين انه رئيس الجمهورية القادم.
لم يتعرض الكاتب للملاحقة, ولم يُهدد حاضره أو مستقبله. لم تستدعيه أجهزة الأمن, ولم يحدد نشاطه ويمنع من السفر. ولم يُحل تنظيمه السياسي أو يُلاحق أعضاؤه. لم يكفره احد. ولم يتهم بالخيانة, ولا بوهن نفسية الأمة, أو العمالة و تقديم خدمة لعدو. وباختصار نجا الكاتب والكتاب من كل مكروه. مثل نجاة الآلاف غيره من السياسيين, والكتاب, والمفكرين, والصحفيين, والفنانين, والمعلقين, وأصحاب البرامج الساخرة التي تطال السياسيين بكل توجهاتهم, ولا توفر احد, فالكل سواء. والسلطة تُفّوض لأداء مهمة والقيام بوظيفة, وعليها آن تحترمها ولا تتجاوزها.
لا يحصل شيء مثل هذا لأحد. ولا يسحب أو يحرق كتاب أو تمنع وتصادر جريدة, (وان حصل فهو استثناء وضمن القانون وفي حدوده, ولا يمر دون أن تقوم الدنيا ويصعب أعادة اقعادها) في دولة تحترم نفسها وتعمل المستحيل لتكون محل احترام وفخر شعبها.
العالم هنا غيره هناك, الحكام من البشر ويُنظر إليهم كبشر. وكالبشر يُقيّمون. وكالبشر يتصرفون. وهم غير قادرين على نفي طبيعتهم البشرية هذه ولو وسوست السلطة لهم بغير ذلك. يأتون و يذهبون وفق القانون وعلى أحكامه ينزلون. فالدولة دولة قانون ومؤسسات. ليست ملكا أو مرتعا لأحد, حتى ولو كان في قمتها. القمة هنا, وهنا فقط, ليست مطية, لا يصلها إلا من توصله إليها القاعدة الشعبية العريضة بالإرادة الحرة. وهي "حرون" عصية على الاستئثار بها للأبد ممن كان, ومها كان.
المواطنون هنا مثلهم هناك من طبيعة بشرية, الفارق يكمن فقط بالتربية. فهنا تأصلت التربية على قيم الديمقراطية, لتصبح مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسلوك والوجود والحياة. أما هناك فلم تدخل قيم الديمقراطية أحاديث الأولين أو الآخرين. قرأ البعض شيئا منها قد يشبهها, أو سمع قليلا عنها. ولم يرها أحد على حقيقتها بأم العين, وفي عين المكان. و بالتالي قيمها لديهم مجهولة, والإنسان عدو ما يجهل, لا تستحق التضحية من اجلها. لم يهتف لها أحد, ولن يهتف, على الأقل في المستقبل القريب: بالروح بالدم نفديك يا ديمقراطية. الهتاف, بالفداء بأغلى ما يملك الإنسان, لأعدائها, خوفا وطلبا للنجاة. الديمقراطية لا تُخيف ولا تعيش في مواطن الخوف والجبن والتزييف.
كتاب "تجاوز السلطة",موضوع هذه السطور, ليس لحملة انتخابية, كهدف نهائي, فموعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية مازال بعيدا. وإنما جاء نقدا لسياسة السلطة الحالية وتحذيرا من توجهاتها ومن " مخطط رئيس الجمهورية الذي يقود فرنسا للذهاب إلى حيث كانت ترفض دائما الذهاب. وللتخلي عن النموذج الجمهوري. لعبادة المال. و لخيار مجتمع اللامساواة. والتخلي عن كل ما فعلته فرنسا, وعن الخصوصية الفرنسية في العالم".
الكتاب أثار في رقي أسلوبه ومتانته, وجرأة ودقة طروحاته إعجاب حتى من يخالف المؤلف سياسته وأفكاره. فقد وصفه البعض بأنه في قوة أسلوب جورج بومبيدو في لغته الأدبية , وإستراتيجية فرنسوا ميتران.
يذهب المؤلف بعيدا في تقييمه لرئيس الجمهورية, الذي عرفه عن قرب ولفترة طويلة في العمل السياسي, وناظره في الحملة الانتخابية, معتبرا إياه "ولدا بربريا", ليس في عمره الزمني فبايرو نفسه في نفس عمر الرئيس, وإنما في أحلامه, وتصرفاته. ورغباته بان يصوره الإعلام على انه رجل متفوق surhomme , فائق الحيوية. وباعتقاده أن مجرد الوصول للسلطة كاف لتغيير كل شيء. و كان بالمستطاع تغيير كل شيء ". إذا كان لي أن اكتب كتابا عن هذا الرئيس فلن أجد عنوانا انسب من " l’Enfant barbare". فهو فيما يعتقده بعظمته الذاتية, وبما يتخيله بان العالم قد بدا معه, وبأنه بين يديه. وهو بربري في سوء تقديره أو احتقاره للآخرين. والأخطر من هذا كله جهله بأعمدة الثقافة والأخلاق في الوطن.
وفي تقييم سريع موجز وبليغ, يرى أن الرؤساء الخمسة, الذين تعاقبوا على الجمهورية الخامسة منذ نصف قرن , كل منهم وحسب طبيعته, قد فهم واحترم منطق التاريخ الفرنسي. فديغول كان يحترم التاريخ لأنه كان جزأ منه وشارك في صنعه. وبومبيدو احترمه لأنه درسه جيدا. وجيسكار ديستان من سلالته. وميتران كان يستوحيه. وشيراك كان يخشاه. أما ساركوزي فيجهله. (ص. 60).
ويعبر الكاتب عن قناعته بأنه سيأتي اليوم الذي ستكتشف فيه فرنسا بنفسها بأنها دفعت ثمنا باهظا, حتى ولو لم يصل ذلك إلى درجة المأساة, وذلك للاستمرار الجماعة الحاكمة بترتيب الأشياء بطريقة تصل إلى إقصاء المواطنين عن مراكز القرار واتخاذ القرارات باسمهم. ومن خلال مفهومه للديمقراطية يرفض المؤلف ان تتراجع ممارستها لتنحصر في منح "شيك على بياض" للحاكمين يستطيعون سحب ما يريدون من أرصدة المواطنين. وكأنّ ليس لهؤلاء الحق في رؤية ما يجري إلا مرة كل 5 سنوات, عند الانتخابات. المطلوب أن يشارك المواطنون في الحياة السياسية كل يوم, وفي كل وقت, وفي الأزمات البسيطة والصعبة. والمهم, حسبما يرى, وجود رابط دائم بين المسؤولين والمواطنين. وان "واجبنا متابعة القضايا التي تخصنا. تركنا لهذا يولد الاعتقاد بان لا أحد ينظر أو يراجع ملفات المسؤولين. او ان هؤلاء أحرار باتخاذ قرارات غير قابلة للتفحص والنظر فيها بالمعنى الحقيقي".
"لأول مرة في تاريخنا نرى حاكما فرنسيا, والمجوعة التي حوله, يبحثون عن نموذج يفرض في فرنسا كبديل عن النموذج الفرنسي. عن النموذج الذي اختاره الفرنسيون بأنفسهم". مشروع الرئيس الحالي ومجموعته لم يعلن مطلقا اسمه. يصفه البعض على انه الليبرالية الجديدة néolibéral . أو أنه مشروع المحافظين الجدد néoconservateur . و يعرض الكاتب تسميته مشروع اللامساواة . يأتي هذا المشروع, كما يعلن, في الوقت الذي يكتشف العالم فيه النتائج المدمرة المترتبة عن هذا النموذج وبفعله. ومع ذلك, ورغم ذلك, وفي الوقت الذي يتعرض فيه العالم الرأسمالي للانهيار. بسبب عدم التوازنات التي ضاعفها هذا المشروع وأضعفت الصرح تريد السلطة الحالية الالتحاق بهذا النموذج. ولكن, لمن لا يعرف, فرنسا عنيدة عنادا قويا فيما يتعلق بالتعرض لتاريخها.
محاولة النظام الجديد القطيعة rupture مع النموذج الفرنسي تأتي تحت مصطلح الإصلاح , الذي يكثر الرئيس من استعماله, لتمرير سياسته الخاصة, فكلمة إصلاح, كما يرى, كلمة ملغومة. في السياسة كما في التاريخ الكلمات كالسلاح و يمكن تغيير اتجاهها لتحويل معانيها, ولتغيير طبيعة محتوياتها. يعيد المؤلف أصل الكلمة إلى اللاتينية حيث تدور حول فكرة " إعادة للشيء صيغته الأولية".الإصلاح كان يعني تخليص مؤسسة من إفساد الزمن لها ليعود إليها معناها الأصلي. ويشير كيف أن هذا المعنى تطبق بشكل خاص على الدين والكنيسة , عندما كان يُعتقد في نهاية العصور الوسطى الابتعاد عن صفاء المؤسسين الأوائل ونقائهم. في القرن 19 اخذ ت كلمة إصلاح تحولا سياسيا باتجاه الإصلاح الانتخابي واعتماد الاقتراع العام بالنسبة للرجال فقط, حيث لم يشمل ذلك النساء إلا بعد فترة طويلة جدا. في سبعينات القرن العشرين ظهر للمرة الأولى تيار سياسي عرف أصحابه بالإصلاحيين. يذكر المؤلف انه هو نفسه كان من هذا التيار. وكان وقتها لمصطلح الإصلاح معنى محددا, فهو دعوة لتقدم اجتماعي دون ثورة. إذ يُعتقد بالإصلاح دون عنف, دون دكتاتورية البروليتاريا. دون تأميم . دون الرضوخ للشمولية. والذهاب إلى القول بأنه لا يمكن الوصول للتقدم الاجتماعي إلا بالدفاع عن الحريات, وعن مسؤوليات المواطنين . ولم تنتهي كلمة الإصلاح باختفاء التيار الإصلاحي.
كلمة إصلاح اليوم أصبحت لازمة لا تنفصل عن الخطاب السياسي للرئيس والحكومة. فلا يكاد يمر يوم دون أن نسمع : يجب الإصلاح. نحن بحاجة لإصلاح. الحكومة لا تتخلى عن الإصلاح. الإصلاح ضرورة. ولكن الشيء الوحيد الذي لا يقوله مطلقا الرئيس والحكومة ما هي بالتحديد الإصلاحات , إصلاحات ماذا, ومن احل ماذا. الناس جميعا يريدون الإصلاح, يعتقدون بضرورة الإصلاح. ولكن الواقع يشير إلى أن وراء هذه الكلمة وبمفهوم ساركوزي اديولوجية خالصة وخاصة.
لم يكن ساركوزي ومنذ مدة طويلة يخفي إعجابه بالنموذج الأمريكي وينحاز إليه. يحب الانتساب إلى الأقوياء والتحالف معهم والانحياز إليهم, وإلى عالم المال والليبرالية بنموذجها الانكلوـ سكسوني. كان معجبا بجورج بوش حاول أن يوثق علاقة صداقة معه.
هذا العام قرر ساركوزي العودة إلى قيادة الحلف الأطلسي OTAN التي كان ديغول قد أخرج فرنسا منها عام 1966 مصرحا بان فرنسا لا تقبل أن تضع قواتها العسكرية تحت القيادة الأمريكية. من سخرية القدر, يعلق المؤلف, أن يكون أخر مسؤول في الحزب الذي أنشأه ديغول هو الذي يتخذ القرار بالعودة للحلف المذكور.
نحن في فرنسا بنينا عبر العصور نموذجا لمجتمع قائم على العقد الاجتماعي. النموذج الفرنسي, كما يقر بنفسه,هو ككل النماذج الأخرى, إلى جانب حسناته هناك عيوبه. " فرنسا أم الفن, فرنسا أم السلاح, فرنسا أم القانون" , منذ كتابة هذه الكلمات قبل 4 قرون ليس لدينا ما نخجل منه. فرنسا البلد الوحيد الذي خلق نموذجا لمجتمع جمهوري, ديمقراطي,علماني, اجتماعي.
خلال الحملة الانتخابية وبعد استلام ساركوزي والمجموعة الحالية السلطة , أصبحت الجمهورية شيئا فشيئا اقل ديمقراطية, لان مبادئها الأساسية, توازن السلطات وفصلها, تم خرقه حتى دون اهتمام بإنقاذ المظاهر. تجاوز للسلطة.
عندما يتحول رئيس الجمهورية على مسمع وعلم الجميع إلى رجل مسؤول حزبي. إلى رئيس حزب بعينه. عندما يشارك في الاجتماعات والمؤتمرات لحزبه, يفقد مشروعية وظيفته كرئيس. في حين إن عليه أن يكون فوق الأحزاب, فوق الخلافات والكتل. رئيس لكل الفرنسيين. هو مساس بمبادئ ديمقراطيتنا. فالرئيس المتحزب ليس رئيسا. ولا يمكن اللجوء إليه كمرجع نزيه ومحايد.
عندما يعمل رئيس الجمهورية على تقليص دور البرلمان, وتحديد دور الحكومة والتلاعب بها وربطها ربطا وثيقا بشخصه, وعندما يحاول السيطرة على الإعلام ومركزته. فانه يتجاوز السلطة. ويقدم الكاتب أمثلة عديدة على ذلك, ونكتفي هنا بإشارته إلى مثال واحد ضحيته باتريك بوافر دارفوار الصحفي الفرنسي الشهير ومقدم نشرة أخبار الساعة الثامنة على المحطة الأولى للتلفزيون الفرنسي, وصاحب المقابلات الشهيرة مع رؤساء الجمهورية الفرنسية المتعاقبين على قصر أللاليزيه, فقد دفع الثمن غاليا بعد اشهر من مقابلة مع ساركوزي قال له فيها: " رأيناك مع الرؤساء ورؤساء الحكومات في قمة الثمانية الكبار في بهجة وسرور زائد. وبعض الشيء كبهجة وفرحة طفل في طريقه لدخول ساحة الكبار..".
كما يشير المؤلف إلى المساس بمفهوم العلمانية عندما يعمد الرئيس الحالي لعلاج بعض الظواهر المعينة ذات الأسباب الاقتصادية والإدارية, باستغلال النزعات الدينية, مساوما على مبدأ العلمانية. بدل التأكيد على مبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والمساواة والأخوة.
لا تكفي مقالة محدودة مثل هذه للإلمام بمضمون هذا الكتاب الغني, والادعاء بغير ذلك ينقصه حقه ويخرج به عن مقاصده. وقد نعود إلى الكتاب نفسه في مقالة قادمة.
وأخيرا , ليست الشجاعة والجرأة والنباهة معقودة لفرنسوا بايرو وغيره من السياسيين والكتاب والمفكرين والصحفيين الغربيين دون غيرهم, ولأنهم غربيون , أو لانهم من طينة غربية. وكان يمكن أن يكون هؤلاء كغيرهم في انتفاء الديمقراطية, وفي ظل أنظمة شمولية ودكتاتورية. الشجاعة والجرأة والنباهة, والفكر والإبداع وتفتح الإنسان, وتطور المجتمع وسمو علاقاته, كل هذا لا يكون إلا في ظل الديمقراطية وفي حماية دولة القانون والمؤسسات.
الأرض التي لا تظللها الديمقراطية ويحميها القانون تبقى متصحرة ولا ينبت فيها إلا الأشواك والبؤس, وتحل الخرافات والأساطير فيها محل الأفكار والإبداع. ويضمحل الإنسان.
في مثل تلك الأرض لا أحد يتحدث عن تجاوزات السلطة, حتى ولو كان بايرو نفسه من أبنائها, لان السلطة فيها تسلط غاشم متجبر, شمولية, مطلقة, بلا حدود أو قيود, تتجاوز كل شيء.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟