|
أربعة أيام في بغداد
بهجت عباس
الحوار المتمدن-العدد: 2648 - 2009 / 5 / 16 - 09:56
المحور:
سيرة ذاتية
بغـداد حزنُـكِ يطفــو**على ضفـافٍ تجــفُّ قد سام أرضَكِ خسفُ**وكنتِ أحلى المغاني (من زنابق السّنين- للكاتب)
لم يدُر في خاطري أن سأرى بغداد قريباً رغم مغادرتي إيّاها قبل تسعة وعشرين عاماً . أليست هذه مدة كافيةً للحنين إلى مهد الطفولة وربيع الصِّبا ورونق الشباب وإن كان باهتاً في أكثر الأحايين ؟ ولكنْ ما حدث لم يكنْ في الحسبان . فوجودي في أبي ظبي لزيارة أخي وعائلته القاطنين فيها منذ أكثر من عشر سنين ولأمور وجب عليّ أن أكون هناك ليتمَّ حسمُها ولزيارة أخواتي اللائي لم أرَ الكثير من أطفالهنَّ الذين ولدوا بعد مغادرتي ، فنشأوا وتزوجوا ورزقوا بأطفال جعلتني متشوِّقاً إلى رؤيتها ورؤيتهم وأن أشمّها وأتنفَّسَ هواءها فلا بدَّ في الأخير من صنعا وإنْ طال السَّفر! أمّا كيف هي ما عليه فقد كثرت فيها الأقاويل . لذا كان فضولي كبيراً عندما هبطت الطائرة الإماراتية جوبيتر على مطار بغداد الذي بدا للوهلة الأولى كئيباً موحشاَ خالياً. نزلت وأخي الذي صاحبني في زيارتي هذه من الطائرة متقدماً بشوق وحذر إلى مركز تقديم الجوازات، انتظرت ، وما كان الانتظار طويلاً حتى وصل دوري إلى شباك الجوازات فقدمت جواز سفري العراقي إلى ضابط الجوازات الذي تفحصه وختمه وأعاده إليَّ بعد أن سألني فيما إذا كنت حصلت عليه بواسطة السفارة العراقية في كندا . خرجت إلى صالة المطار منتظراً أخي الذي أتى بعدي والذي قال إن ابن عمتنا موظف كبير في المطار وسيتصل به تلفونياً لنسلم عليه . جاء عليّ واحتضنني وكان أولَ قريب أراه بعد هذه المدة ، فلقد كان حينذاك صبياً أثناء مغادرتي العراق والآن بدا عليه الشيب والتعب والإرهاق وكان حديث وحديث ودعنا أو ودعناه بعد فترة قصيرة حيث كنا في عاجل من أمرنا . والآن بقيت مسألة إيجاد تاكسي أو باص يأخذنا إلى ساحة ابن فرناس حيث ينتظرنا هناك أبنا أختي، معتز وعلي ، بسيارتهما (لا يُسمَح إلاّ لسيارات معيَّنة أن تأتي إلى المطار) ، لإكمال الرحلة إلى فندق فلسطين - مريديان الواقع بين شارعيْ أبي نواس والسعدون قرب ساحة الفردوس التي شهدت سقوط أكبر صنم . كان قد حجز أخي غرفة فيه . كان الطلب على التاكسي أو الباص شديداً لكثرة المسافرين وقلة السيارات ، ولكنا استطعنا الحصول على مقعدين في باص صغير أوصلنا إلى ساحة ظنناها ساحة ابن فرناس ولكنها كانت قبلها ، ولما أردنا الاتصال بهما كيْ يأتيا إلى الساحة التي أنزلنا فيها الباص لم نستطع لضعف شبكات الخطوط التلفونية ، فكان هذا أولَّ انطباع سيّء . فما كان علينا إلا أن نسير ساحبيْن حقائبنا قرابة نصف الساعة حتى وصلنا ساحة ابن فرناس حيث كانا بانتظارنا . كان لقاءً حارّاً ، أصرّا أنْ يأخذانا إلى بيتهما فأبينا . وصلنا فندق فلسطين - مريديان الذي كان محاطاً بجدار سمنتي وفي رأس الشارع المؤدّي إلى الفندق كان بضعة حراس أمن يفتشون أيّ سيارة أو راجل يريد الدخول وكان التفتيش محكماً أعقبه تفتيش آخر عند مدخل الفندق ، ففرحت وشعرت بالأمان نسبياً. حصلنا على غرفة نظيفة وواسعة ومريحة بواسطة موظف صديق وجار قديم لنا . كان الفندق ينهض من الأنقاض بعد أن قصفته صواريخ الإرهاب في العام الماضي ، ولكنَّ العمل لإعادته كما كان أو بأحسن مما كان ، بطيء جداً كعادتنا في مثل هذه الأمور، فكثير من الطوابق لم تُصلَّحْ ، وكان مصعد كهربائي واحد يعمل وثلاثة عاطلة . وبالرغم من هذا فالفندق جميل بحدائقه ومساحة بنائه وموظفيه اللطيفين بأخلاقهم العالية وحسن معاملتهم وتعاملهم مع الزبائن التي لمسناها ولاحظناها . تشرف غرفتنا على شارع أبي نواس المطل على نهر دجلة الأخذ ماؤه بالنضوب حيث التقطت صورة له من (بالكون) الغرفة الواقعة في الطابق الثامن وقد بانت في وسطه جزرة (جزيرة صغيرة) . بعد أن حططنا الرِّحال في الفندق واسترحنا قليلاً خرجنا إلى شارع السعدون نتمشى فيه ونبحث عن مطعم نظيف ، فوجدنا ضالتنا في مطعم نظيف ، (الطبيخ) ، كما بان من واجهته ، في أحد الشوارع الفرعية الواقعة على السّعدون . لم يكن الطعام جيداً ولا رديئاً ، ولم يكن رخيصاً بحساب بغداد ، فقد دفعنا عشرين ألف دينار (18 دولاراً أمريكياً تقريباً) فكنت آكل بيد وأكشّ (أطرد) الذباب المهاجم الذي لم أفلح في التخلص منه تماماً بيد أخرى . بعد هذا تجولّنا في شارع السّعدون المزدحم بالسيّارات التي توقفت فجأة بعد سماع صفارات وجلبة عنيفة فالتفتنا فإذا بمصفحتين أمريكيتين ضخمتين مرّتا في الشارع وكان المارة يبتعدون عنهما إلى أن ذهبتا بعيداً فاستمر السّير . ذهبنا إلى الفندق بعد شراء بضع قناني ماء واسترحنا ساعتين قبل أن ننطلق في شارع السّعدون مرة أخرى ومنه إلى الشارع الجميل يوماً ما المسمّى بشارع أبي نؤاس . أبو نؤاس هذا الشارع العريق لم يكنْ كما كان في أيامنا الخوالي، فالكآبة تخيم عليه والليل الذي كان يضيء بمصابيحه الوهاجة ومقاهيه وباراته وكازينواته التي ينطلق منها صوت أم كلثوم أيام زمان أمسى ليلاً حزيناً تنام فيه كلاب وترقد فيه صخور، وإنَّه لليلٌ حزين ، ذلك الذي ينتظر إلى أن يهُلَّ الصباح ، كما يقول ريلكه . فعلى ضفة دجلة وفي منتصفها توجد بضعة مطاعم ومقاهٍ يقابل معظمها فندق مريديان ، وما خلاها فيصفر فيها الخراب . وعند التجول بين كازينواته ومطاعمه ليلاً وهي بعدد الأصابع ، كان ثمة مطعم بالسمك المسقوف يبيع الكيلو من السمك بخمسة وعشرين ألف دينار (22 دولاراً تقريباً) . وكان الذباب يغطي هذه الأسماك . أما عجينة الخبز الموجودة في الصحن الكبير (الإنجانة) التي يصنع منها صاحب المطعم الخبز الحارَّ لروّاده وزبائنه ، فلا تبين إلا كقطعة سوداء من الذباب النَّهم المتراكم عليها! ولست أدري لماذا لا تُغَـطّى بقطعة قماش أو ورق يمنع الذباب المهاجم عنها ! ذهبنا نسير على الشاطئ الهادئ الذي يترنح النور الخافت عليه وكانت الساعة بين العاشرة والحادية عشرة مساءً ، فلم نرَ أحداً سوى بضعة أولاد مراهقين يتحادثون وكلبيْن سائبيْن ، فشعرت بالوحشة والقلق حيث الأمان ليس متكاملاً وربما كانت مشيتنا ذلك الوقت (مجازفة) ، فأيُّ (شيء محزن أو مؤسف) قد يكون . ولكنَّ المشْيَ كان ضرورة لي بعد الطعام الذي ( لم يكن سمكاً ولا خبزاً مما ذكرتُ سابقاً) ، إذ أنَّ حرق السكّر في الدم بالرياضة كان أمراً محتّماً لمرضى السكر للحفاظ على مستوى طبيعيّ له في الدم ، وهذا ما التزمت به في السنوات التسع الماضية بدلاً من الأدوية . فبالتغذية الصَّحيحة والرياضة البدنية تستطيع أن تحافظ على مستوى سكر الدم دون حاجة إلى أدوية أو أنسولين . لذا عندما أخذت حاجتي من المَشْي ، قفلنا راجعَـيْن إلى الفندق بسرعة حيث انقضى ما تبقى من الليل . في الصّباح خرجنا من الفندق إلى شارع أبي نؤاس بحثاً عن تاكسي يوصلنا إلى الجهة الأخرى من بغداد ، صوب الكرخ، فوجدناه ، حيث قادنا في شارع أبي نؤاس متوجهاً إلى شارع الرشيد . وبعد أن قطعنا مسافة قصيرة فيه سمعنا صفارات وجلبة وضجيجاً ، فانتحت السيّارات جانباً وتباطأتْ لتدعَ سيارة (محجَّبة مظلّلة) تأخذ طريقها ، وقدامها ووراءها بضع من سيارات الهمر البيض المدرَّعة . قال السائق إنها سيارة محافظ بغداد على الأغلب أو وزير أو مسؤول حكومي ، وأكمل ممتعضاً أنه في كل يوم يواجه مثل هذا الحدث مرات فيكون ازدحام وتأخير وكآبة . ومهما تكن ، فكم تُكلف خزينة الدولة هذه الحماية المُصمَّمة المقرّرة لبضع مئات من هؤلاء الساسة المحظوظين والشعب عاطل وفقير؟ لم أستغرب حينذاك من أنَّ ابنة أختي مثلاً بقيت عاطلة سنة أو أكثر بعد تخرجها من الكلية حتى حصلت على وظيفة بعقد لمدة سنة وبراتب مائة وخمسين ألفَ دينار (مائة وثلاثون دولاراً) في الشهر! وطوال فترة سير السيارة (الحكومية) جنبنا وقربنا كنت أحوقـل وأستعيذ بالله أن تذهب وتختفي بعيداً عنا قبل أن يدركنا خطر احتمال مهاجمتها من قبل الإرهابيين فنكون في وسط معمعة لا نعرف نتيجتها . ذهبت سيارة المسؤول مع كوكبة حراسه بعيداً فتنفست الصُّعَداء . لم يكن سائقنا مسروراً طبعاً بما لاقاه ويلاقيه يومياً ولكنه علّق على أنّ هذه هي الحياة الطبيعية في بغداد الآن ولا بدّ من التكيّف معها ، فلا عجب إنْ شاب الفرد وهو شاب أو مات قبل الأوان . دخلت سيارتنا شارع الرشيد الجميل الضاحك في الماضي والكئيب المتوتِّر في الحاضر ، وكان الازدحام شديداً ، فرأيت الخراب في مبانيه على الجهتين وآثار الرصاص والقنابل على عماراته ومخازنه المهجور بعضها والناهض من الرماد البعض الآخر. ولكن السيارة لا تقطعه حتى النهاية ، بل إلى جسر السّنك حيث تعبر عليه إلى صوب الكرخ. أما القسم المتبقي منه ، فقد صار سوقاً ضخماً كبيراً لبائعي الخضر والفواكه والطعام والملابس والبضائع الأخرى لباعة يعرضون ما لديهم في (بسطات) وأكشاك على جانبيه . عبرنا إلى الجانب الآخر من بغداد ، صوب الكرخ، وكان الازدحام شديداً أيضاً . وبمدة غير قصيرة وصلنا حيّ القادسية إلى بيت أختي الذي اجتمع فيه الأخوات وأبناؤهم وبناتهم وكان لقاء حار بعد تسع وعشرين سنة تبدلت فيها الأشكال والوجوه والصور ، أعقبه غداء وأحاديث طويلة. في اليوم التالي قررت أن أسير مَشياً على القدمين من الفندق إلى شارع المتنبي وسوق السراي لأرى أكثر ما يمكن وأسترجع الذكريات ، فبدأنا السير ، أخي وأنا ، من شارع السَّعدون الذي شعرت وكأنه قطعة من برلين أو وارشو بعد الحرب العالمية الثانية . المخازن مفتوحة ولكن ليس كلَّها ، والباعة على الأرصفة يبيعون الماء والمشروبات والكرزات والصمون . السيارات تسير وكذلك العربات التي تجرها الحيوانات ، فتذكّرتُ هذه الأبيات:
ولقد مـررتُ على ديـارهم**وطلــولها بيد البِلى نهْـبُ فبكيتُ حتى ضجَّ من لَغَب**نِضوي ولجَّ بعذليَ الركبُ وتلفتتْ عيني ومذ خَفيِتْ**عنّي الطّلــولُ تلفَّـت القلبُ لم أرَ المعالم القديمة في الباب الشرقي ومدخل شارع الرشيد التي اعتدْتُ أن أراها أيام زمان . فهناك كان مصرف الرافدين ، الذي كان لي يوماً ما حساب فيه ، لم أره . وسينما الخيام ومحلات القايماقجي وفندق سميراميس وتايكَرس بالاس (الذي شهد حفلة قران الزعيم الشيوعي الراحل عامر عبد الله قبل خمسين عاماً تماماً) أكل الدهر عليها وشرب . كانت محلات صغيرة على جانبْي شارع الرشيد ، بعضها مفتوح وبعضها مغلق وكنتُ أتابع السّير ولم يكنْ ينتابني أيّ قلق لشعوري بأمان وطُمأنينة وكأنَّ الإرهاب قد ولّى ، ولكني رغم هذا ، كنت أحسّ أنه ليس وضعاً طبيعياً أو بالأحرى لا يشبه المدن الكندية أو الأمريكية أو الأوروبية التي كنت أسير في شوارعها وأنا مطمأن تماماً . كان باعة الخضر والفواكه منتشرين في الشارع يعلنون عن بضائعهم ويتصايحون لترويج ما لديهم ولكنّ ما لديهم لم يكنْ رخيصاً بالنسبة إلى مستوى الرواتب التي يتقاضاها الموظفون ، وبعض البضاعة لم يكنْ إلا في متناول الطبقة المُرفَّهة المُنَعَّمة ، فمثلاً رأيت الكمأة (الجما) ، الذي كان أيّ واحد من العراقيين في السبعينات من القرن الماضي يستطيع أن يشتري الكيلوغرام منها بمائتيْ فلس حينذاك ، تباع بعشرين ألف دينار ! ورأيت نصف كيلو بامياء عند أحد البائعين الذي طلب مبلغ عشرة آلاف دينار ثمناً لها ( ليس في موسمها فليست قياساً ، ولكن يوجد حتماً من يشتريها منه بهذا الثمن أو ما يقاربه) . وكذلك تكون المطاعم الراقية ، مثل مطعم زرزور – كباب الفلوجة في المنصور ، حيث تكلف وجبة الكباب (المفروض أنه أكلة شعبية رخيصة) أكثر من اثنيْ عشر ألف دينار ، ولا ينكر أنَّ هناك مطاعم أرخص منه ولكنها ليست بهذه الجودة . وهذا يعني أنَّ هناك طبقة ثرية من العراقيين الذين يعيشون بهناء وطبقات بكفاف أو ما دونه وحتى الفقر المدقع ، ناهيك عن الأرامل واليتامى والمعوقين (مخلفات الحروب والإرهاب) والعجزة المعوزين الذين فقدوا من يعيلهم أو يساعدهم على كسب لقمة العيش . وما ينطبق على الأكل ينطبق أيضاً على الملابس والحاجيات الضرورية الأخرى، فتجوالي الليلي في منطقة المنصور مثلاً ذكرني بمخازن لندن ونيويورك وتورنتو وغيرها من مدن الدول الصناعية والتجارية الكبرى، وكذلك الليل الجميل في الكرادة (الداخل) بمخازنه الجميلة ودكاكينه التي تمتلئ بالبضائع الغربية من كل نوع وصنف والمطاعم المتنوعة بأكلاتها التي تناسب كل جيب والتي تغص بالناس المتفرجين والشارين ، فكنت أسير فيها ذلك الليل وكأني أسير يوم أحد في أسواق بورتُـوبلّـو – نوتنغ هِـلْ - لندن . وكذلك ما شاهدته في حيّ المنصور أيضاً ، فأنت تشعر أن ثمة حرية فردية يتمتع بها العراقي دون رقيب ، لم تكن موجودة في العهد البغيض المباد ، ولكنَّ نظام الأحزاب والعشيرة والطائفية ومحاصصة التخلّف ، الذي وضع أسُسَه سيّء الصّيت بريمر ، بعيداً عن الانتماء العراقي الذي يجب أن يكون الأساس ، رفعت الجاهل والانتهازيَّ إلى مناصب عـليّة وجعلت الحياة لا عدالة فيها ولا إنصاف ، فضاعت المقاييس واختـلّ التوازن وأنقلب الهرم رأساً على عقب . ومع ذلك فلا يزال العراقيون يشعرون بسعادة الحرية ، وإنْ لم تكنْ كاملة ، ولكنَّهم غير سعداء بما يلاقون من هذه الحكومات المتعاقبة التي خلفت حكم صدام ، ولكنْ ما لاقوه حينذاك يجعل ما يلاقونه الآن هيّـناً غير قابل للمقارنة . تابعنا السّير إلى شارع المتنبي الشهير الذي أصابه الدّمار الإرهابي قبل عام ولكنه نهض من أكوام الرماد تعباً تنتشر على أرصفته كتب الباعة إضافة إلى المكتبات على جانبيه حيث تجد كثيراً مما لا تتصور . اشتريت بعض الكتب وذهبنا إلى مقهى الشابندر المعروفة بملتقى الأدباء والشعراء في الأيام الخوالي ، فجلسنا فيها نصف ساعة تقريباً ارتشفنا الشاي العراقي اللذيذ الذي كلف ألف دينار لكلينا (أقل من دولار) ، وكانت المقهى هادئة يخيِّم عليها السّكون حيث كان الوقت صباحاً ولم يكن من روادها إلا عدد قليل جدا حيث كان بعضهم يرمقنا بنظرات تساؤل غريبة . بعد هذا التقطنا بعض الصور مع تمثال المتنبي العظيم المطل على نهر دجلة الآخذ بالنضوب . زرت سوق السراي والأسواق المجاورة له وسوق الأقمشة المقابل له حيث شاهدتُ بائع الكبة الشهيرة التي كنا نتلذذ بأكلها في الزمن الخالي وكانت صحة الشباب تتغلب على ما هـو محشوّ فيها ! وكنت أسير في هذه الأسواق وكأني في فلم سينمائي أو حلم من الأحلام . يوم الأربعاء ، الثامن من نيسان ، حجزت بصعوبة بالغة على الخميس للعودة إلى أبي ظبي ، حيث أن تذكرة السفر لا توجد فيها كلمة OK بالرغم من أنَّ الإياب في يوم الخميس مثبت عليها ، لأنّ مقاعد الطائرة محجوزة كلها ، ولكنّ أحد المسؤولين في الخطوط الجوية جوبيتر الموجود في أبي ظبي (رتّب) هذا الحجز بعد أنْ اتصل أخي به تلفونيّاً ونحن في مكتبهم في السّعدون ، فكل شيء في العراق يمكن حدوثه ، وقد لا يكون أيّ شيء أيضاً . بعد هذا الحجز مشينا سيراً على الأقدام من مكتب الخطوط الجوية في السَّعدون إلى شارع الرشيد الذي سرنا فيه حتّى وصلنا ساحة حافظ القاضي ، تلك العمارة ، التي كانت وما يحيطها جميلة في أحد الأيام ، أصبحت خراباً . التقطت صورة وطلبت من أخي أن يلتقط لي صورة أو أكثر يظهرها وما أمامها من عربات نقل بضاعة و(بسطات) لباعة وكسبة لتكون تذكاراً ، فلما التقط صورة وثانية وثالثة رأيت شخصاً مدنيّاً بديناً يركض نحوي هائجاً ويقول أين هذه الصورة ولماذا التقطتها ، وأردف قائلاً : إن أحد القناصة المتواجدين هنا أراد أن يرميك! يا ربِّ يا ساتر ! ماذا فعلت وماذا سيجري وأنا مسافر غداً؟ استدعى بعض عناصر الأمن للتحقيق معي وكان عدوانيّاً . قلت له ولعنصريْ الأمن اللذين أتيا يهرعان قائليْن إن التصوير ممنوع في هذه المنطقة لأنها منطقة أمن: إني لم أرَ قطعة (لوحة) مكتوباً عليها (التصوير ممنوع) ، فهل لي أن أعرف هذا وأنا زائر بعد غياب طويل؟ أخذاني إلى مكتبهما الموجود في الساحة وكان المدنيّ البدين يستعديهما عليّ ولكني تنفست الصٌّعداء لما انصرف. أخذ أحدهما الكاميرا من يدي وأراد محو الصورة فلم يقدر ، وكذلك فعل زميله . فطلبا مني محوها فقلت لهما لا أعرف (الواقع إن زوجتي هي التي تستعملها ولم تخبرني إلا مرة واحدة عن محو الصور ونسيت) ، فقالا : إذنْ نصادرها ، أجبتهما إنها ليست لي وهي أمانة في يدي ولا أظنكما تفعلان ذلك . فكان جدل بيننا ، وأخيراً قلت لهما إني فلان (ذكرت لهما اسمي الكامل) كنت أستاذاً يوماً ما في كلية الطب – الجامعة المستنصرية قبل أن أغادر العراق منذ تسعة وعشرين عاماً ، وهذه هي أول زيارة لي بعد هذا الغياب، أبهذا يكون تكريمي ؟ عند هذا أعطياني الكاميرا وقال لي أحدهما ، وأعتقد أنه الرئيس ، بأدب ولطف أيمكن أن آخذ صورة معك ؟ استغربت حقاً لهذا التبدل السريع الذي لم أصدِّقه وقلت له : بكل سرور . أخذنا هذه الصورة وصوراً أخرى معهما وأعطاني بطاقته الشخصية وعليها أسمه وتلفونه ورقم الفاكس . فقلت له إنّ لي موقعاً شخصياً على الإنترنت ، وأعطيته عنوان الموقع وسألته فيما إذا لم يمانع من نشر هذه القصة مع الصور على الإنترنت فرحّب بالفكرة . كان في الحقيقة إنساناً طيباً ومؤدباً وربما كان خريج جامعة ، فأنا على كلّ حال ممتن للزبيدي النبيل ولأخلاقه الحسنة ولزميله الطيِّب الخلوق . تابعنا السِّير بعد هذا وكنا حذريْن في التقاط الصّور حتى وصلنا السوق العربي التي تقع الشورجة خلفه على شارع الجمهورية . كان هناك لفيف من الحرس والشرطة ، فسألتهم إن كان مسموحاً لي التقاط بعض الصور هنا ، فكانت الإجابة بنعم ، فسررت لها . وطلبوا مني أخد صور معي (لا أدري لماذا؟) . وقدّموا لنا شاياً وكانوا لطيفين جداً معنا وخصوصاً بعدما عرفوا أني من كندا . كنت في الواقع أتحاشى الاقتراب من الشرطة والجيش وكل مكان أو سفارة أو أيّ مبنى حكومي في العهد البعثي ، ولكن الآن أجدني مُرحَّباً بي من قبلهم وكأننا إخوان ، وهذا من مزايا التغيير . أقصد تجربتي هذه مع رجال الأمن وليس مع المسؤولين الحكوميين بغرائبهم وعجائبهم . أخذنا نتحادث في أمور كثيرة ، فهمس أحدهم في أذني قائلاً (لا تبق هنا كثيراً) فقلت له إني مغادر غداً . فسألونا إن كنا نرغب في رؤية تمثال الزعيم عبد الكريم قاسم (الواقع مقابل رأس القرية مكان تمثال عبد الوهاب الغريري الذي أزيل ليحل محلَّه تمثال الزعيم) ، فصحبنا اثنان منهم إلى التمثال حيث التقطنا عدّة صور . عند هذا رجعت بي الذاكرة إلى نصف قرن من الزمن حيث سمعنا آنذاك بمحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في 7 /10/1959 والحزن والقلق كانا يخيّمان على الناس ذلك اليوم والمصير المجهول الذي كنا نرقبه ونحن نستعد للانخراط في دورة ضباط الاحتياط الرابعة عشرة التي ستبدأ بعد ثمانية أيام ، أيْ في 15/10/ 1959 ، وكيف تدول الأيام ، فكم من المياه جرت تحت الجسر منذ ذلك الحين ، وكم ستجري الآن وبعده ، فهلْ سيتعظ المفسدون في العراق وهل من مُدَّكر؟ كان هؤلاء الحرس أو الشرطة أناساً بسيطين ومؤدَّبين عكس موظفين كثيرين في دوائر الدولة من أحزاب الحاكمين وأقاربهم الذين لا يعملون إلا برشوة ومحسوبية حيث بلغ السّيل الزّبى . ودّعناهم وتابعنا السَّير ماريّن بشارع النهر الذي بدا لي ضيقاً جداً مع بضعة دكاكين صياغة ذهب وفضة ولكنه كان مزدحماً بالناس وبسوق الصفافير الذي اشترينا منه هاونيْن من البرونز قبل يوم ، وقد بدا لي السوق مختنقاً والدكاكين صغيرة وكئيبة وليس فيها بضاعة كثيرة . أما الطَّـرْق على النحاس لعمل المصنوعات فلم أسمعه كالماضي الذي لم نكن نستطيع محادثة بعضنا البعض للأصوات والضجيج الذي يملأ السوق . كما أنّ مياه المجاري كانت راكدة فيه حيث كنا حذريْن من المشي فيه لنتفادى الأوساخ . إنَّ بغداد الآن تعيد لنا بعض صورها في أوائل القرن العشرين!
#بهجت_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خميرة تُديم السرطان ولكنّها قد تطيل العمر
-
بؤس الكاتب العربي
-
مرض القولون الكيسي
-
من الأساطير القديمة ما يومئ - للشاعر الألماني هاينريش هاينه
-
إلى الخريف - وليم بْلَيْكْ
-
تسيلان وهايْدَغَرْ - قصة وقصيدة تودناوْبَرْغ
-
أوباما والعرب
-
قصيدتان - غوته
-
أربع قصائد من رواية (سنوات تدريب فيلهلم مايستر) لغوته
-
قبلاي خان - للشاعر الإنكليزي ساموئيل تايلور كولريج (1772-183
...
-
تتمشّى في جمال - لورد بايرون
-
الخريف - للشاعر الفرنسي لامرتين ( 1790 - 1869 )
-
تمثال الفرعون المنهار بين شاعرين - شيلي وسميث
-
الطريق الذي لم يُسلَك - للشاعر الأميركي روبرت لي فروست (1874
...
-
أغنية الخريف - للشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821-1867)
-
إلى الخريف
-
إلى الخريف - للشاعر الإنكليزي جون كيتس (1795 - 1821)
-
أعطيك خريفاً - للشاعرة الفيتنامية المعاصرة دا ثاو
-
نظرة في الجين والجينوم
-
ترنيمة حائكةٍ سيليزيّة* - للشاعرة الألمانية لويزه أستون (181
...
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|