محمد سيد رصاص
الحوار المتمدن-العدد: 161 - 2002 / 6 / 15 - 07:47
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
في يوم الجمعة 7 تموز 2000، اعلن الدكتور حسن الترابي (في خطاب امام تجمع جماهيري في ولاية شمال كردفان) ان قرار انقلاب 30 حزيران 1989 <<اتخذته الحركة الاسلامية من دون علم الذين في قمة السلطة الآن بساعة الصفر... جاءت الحركة بالبشير من الجنوب (حيث كان قائدا لفرقة المظلات التاسعة) والتجاني آدم طاهر من مصر>>.
من يتتبع ما جرى في السودان، في الفترة الفاصلة بين حل الرئيس عمر البشير للهيئتين اللتين كان الترابي يتولى رئاستهما، اي البرلمان (12ك 1999) والأمانة العامة لحزب <<المؤتمر الوطني>> الحاكم (6 ايار 2000). يدرك ان الترابي قد خسر المعركة امام البشير، ويمكن ان يبان حجم ذلك، اذا عرفنا بأن احدا من العسكريين الاعضاء في المجلس الحاكم، الذي شكل يوم انقلاب 1989، لم يقف معه باستثناء (الأمين محمد خليفة)، فيما لم يستقل سوى وزيرين ثانويين تضامنا معه، بينما استطاع نائب الرئيس (علي عثمان طه)، وهو القيادي الشاب الذي برز في جامعة الخرطوم اثناء معارضة الاسلاميين للنميري بين عامي 1969 1977، ان يستقطب معظم الحركيين الذين زرعتهم الحركة الاسلامية في اجهزة السلطة اثناء عقد التسعينات، رغم وقوف معظم القادة القدماء، الذين أسسوا (حركة الميثاق الاسلامي) عام 1965، مع الترابي في صراعه مع البشير.
ليس الدكتور الترابي سياسيا عاديا، فهو من القلائل، بين الساسة العرب، الذين يجمعون في شخصهم حدود (الفكر السياسة التنظيم)، وعند مقارنته بالساسة الآخرين يمكن ان نضعه في خانة القادة الذين تطول قامتهم الى ابعد من التنظيم الذي يقودوه، وهو من الذين يشعر بعضهم، مثل عبد الناصر، بأن بلدهم يمثل قميصا ضيقا بالنسبة اليه. كما انه من النادرين بين قادة الاحزاب العربية الذين تعاونوا مع الحكام العسكريين، كما جرى من قبله مع النميري بين 1979 1985، واستطاعوا ان يحصلوا على مكاسب سياسية لصالح تنظيماتهم وتوجهاتهم، من دون ان يستطيع الحكام وضعهم في الجيب، وقد بان حجمه السياسي (لما ارادت كل الاحزاب السودانية تدفيعه فاتورة التعاون مع النميري عبر دعم خصمه في انتخابات دائرة الخرطوم الجنوبية عام 1986 مما ادى لفشله في نيل مقعد نيابي) عندما فاز تنظيمه، اي (الجبهة القومية الاسلامية)، ب (51/264 مقعدا) في الجمعية التأسيسية، منها 20/45 في الخرطوم، و23/28 في دوائر الخريجين، وذلك رغم كونه من بلد تتحدد فيه الاحزاب وفق قواعد فئوية تقليدية (الختمية والأنصار)، اوقبلية (مثل تنظيم جون غارانغ الذي يستند الى قبيلة الدنيكا (45% من سكان الجنوب)، او حركة اريك ميشار، الذي انشق عن غارانغ عام 1991، المستندة الى قبيلة النوير).
يمكن لانتخابات نيسان 1986 البرلمانية، ان تعطي صورة عن القاعدة الاجتماعية المرموقة للاسلاميين السودانيين الذين انقضوا على السلطة في انقلاب 1989، بخلاف احزاب كان تنظيمها العكسري اقوى من المدني عندما قفزت الى سدة الحكم، مثل البعث العراقي في 8 شباط 1963، الشيء الذي ادى الى فقدانه سلطة عندما وقف عسكريوه مع عبد السلام عارف ضد جناحه المدني، مما ولد الظرف المؤات لنجاح انقلاب عارف (18 ت2 / 63).
لم يؤد تمتع الاسلاميون السودانيون بهذه القاعدة الاجتماعية، ولا وجود زعيم سياسي ظهر طوال عقد التسعينات وكأنه يضع مدنييه وعسكرييه تحت عباءته الى ان يكون (حكم الانقاذ) السوداني خارجا عن القاعدة التي حكمت علاقة المدنيين والعسكريين، المنضوين في حزب عربي وصل، ضمن ظرف <<ما>>، الى السلطة: فقد حصلت سوابق شبيهة، كما عندما فشل سكرتير الحزب الشيوعي العراقي (سلام عادل) (بعد ان اصبح الشيوعيون القوة المهيمنة اثر تعاونهم مع عبد الكريم قاسم في ابعاد القوميين بين خريف 1958 وربيع 1959). في ازاحة قاسم، في تموز 1959، بسبب الرفض السوفياتي لذلك، خوفا من توتير الجو الدولي مع واشنطن والاقليمي مع عبد الناصر نتيجة لانقلاب شيوعي في بغداد، مما ادى لابعاده الى موسكو واستبداله بقيادة معتدلة موالية لقاسم، وقد تكرر هذا الامر في الجزائر لما ابعد العسكريون، بقيادة بومدين في حزيران 1965، القيادة التاريخية لحزب جبهة التحرير الوطني ممثلة في (بن بيللا).
في السودان، لم يأت فشل المدنيين بالامساك بزمام الامور نتيجة، فقط، لأن التوازن يكون، في انظمة من هذا النوع، هو لصالح من يقود الدبابة، وإنما، ايضا بل وبالأساس، بسبب مجموعة الظروف الدولية والاقليمية التي حكمت منطقة الشرق الاوسط في فترة (ما بعد الحرب الباردة) ونشوء (القطب الواحد) الذي سيطر على المنطقة بعد حرب 1991.
كان المأزق الرئيسي الذي واجه حكم الاسلاميين السودانيين ناتجا عن انتهاء (الحرب الباردة)، وما عناه ذلك من انتفاء الظرف الذي كان يجعل الغرب يتلاقى مع الاسلاميين في مواجهة (المعسكر الشرقي)، كما جرى في افغانستان: ظهرت ابعاد ذلك في حرب الخليج (1991) لما وقف الاسلاميون بمعظمهم، ومنهم حكام الخرطوم، مع العراق، فيما ساعدت واشنطن القاهرة وتونس في حربهما مع الاسلاميين بعد عام 1991، ووقفت، بعد تردد استمر ثلاث سنوات بسبب الدور الفرنسي في انقلاب 1992، مع عسكر الجزائر.
ادى ذلك لانعكاساته على علاقات الخرطوم مع محيطها الاقليمي، من القاهرة التي اثارت موضوع (حلايب) ودعم الخرطوم للاسلاميين الذين حاولوا اغتيال الرئيس مبارك في اديس أبابا (حزيران 95)، الى اريتريا وأثيويبا الداخلتان في علاقات تحالف وثيقة مع تل ابيب، وصولا الى اوغندا التي دعمت واشنطن تقوية دورها الاقليمي في منطقة البحيرات الافريقية معتمدة على امتدادات قبيلة التوتسي في (رواندا بوروندي زائير).
في لحظات سياسية محددة، يصبح بعض السياسيين، بما يمثلوه من رموز وسياسات معينة، في وضعية هي اقرب الى العقبة امام تحولات ومسارات يرى ضرورتها اغلب من هم موجودون في الطاقم الحاكم مع اولئك السياسيين: كان هذا هو وضع الترابي، في النصف الثاني من عقد التسعينات، في مواجهة (البشير)، وأغلب طاقم نظام (الانقاذ)، تحت ظله ضغط العامل الدولي المهيمن على الشرق الاوسط، وانعكاساته الاقليمية، مما ولد اتجاهات داخلية سودانية، في قمة جهاز السلطة، رأت التضحية بذلك الرأس كمحاولة لاخراج النظام من عنق الزجاجة.
في فترة ما بعد 12ك 1999، تغيرت علاقات الخرطوم مع القاهرة من العداء الى نقيضه، وساهم المصريون في رعاية عملية تقارب السودان مع الخليج، فيما تقاربت اثيوبيا وأريتريا مع الخرطوم، ولو ان حاجة البلدين الى مودة السودان هي الأساس في تقاربهما تجاهه، في ظل الحرب الناشبة بينهما منذ 1998، اكثر مما هو لشيئ آخر، فيما فشلت محاولات المصالحة مع اوغندا.
داخليا، لم تؤد حركة (12 ك1)، الى تغيرات دراماتيكية، باستثناء خروج (المهدي) من التجمع المعارض، في 16 اذار 2000، الا ان ذلك لم يؤد الى حصول مصالحة مع النظام من قبل حزب الامة، فيما بقي (المير غني) و(غارانغ) على موقفهما المعادي، ما يلفت النظر هو اتجاه الترابي الى اقصى المعارضة وعقده اتفاقا مع (غارانغ)، في 20 شباط 1002، مما ادى لاعتقاله وسجنه، وفي وقت بدأ (الأمة) يتجه الى التصلب مجددا مع (البشير) من خلال مطالبته بتغييرات دستورية على نظام (الانقاذ) واجراء انتخابات جديدة، مما ادى لعدم دخوله في التشكيلة الحكومية الجديدة.
يلفت النظر، ان واشنطن، بخلاف القاهرة، لم تندفع، بعد ازاحة الترابي، للتقارب مع الخرطوم، ولم تدخل في حوار جدي معها، في عرقلت دخولها لعضوية مجلس الامن محتلة للمجموعة الافريقية بينما ظلت على علاقاتها الوثيقة مع كل اطياف المعارضة السودانية، بجناحيها الشمالي والجنوبي.
في السودان، لم يستطع الحكام العسكريون تجاهل او الغاء البنى السياسية القائمة، بسبب استناد الاخيرة الى مرتكزات اجتماعية ثابتة، سواء كانت ذات طابع طائفي او قبلي: في تشرين اول 1964 دفع (ابراهيم عبود) الثمن بسبب توحد القوى السياسية ضده، وفي نيسان 1985 تكرر السيناريو، بعد شهر من انفضاض التحالف (النميري) مع الترابي، ووضعه للأخير في السجن.
في علاقة البشير مع الترابي اصطدم (السياسي العملي) مع (الأيديولوجي)، ولو ان الاخير الذي مثله الدكتور الترابي لا تفتقد سيرته السياسية الميل الى البراغماتية او ملاقاة الضرورات العملية، الا ان ظروف ما بعد 1989 قد وضعته في زاوية اجبارية بان فيها وكأن ازاحته اصبحت شرطا لخروج الحكم السوداني من مأزقه، مما ادى الى اظهار البشير بمظهر (العملي) و(البراغماتي) الذي يبحث عن حل ولو ادى به بذلك للوصول الى <<امكان فصل الدين عن الدولة>> كما اتهمه الترابي في فترة ما بعد ازاحته.
يمكن للمثال السوداني، بين حزيران 1989 وك1 1999، ان يعطينا صورة عن مدى تعقيد العلاقة بين (السياسي) و(الجنرال) ضمن نظام واحد، واذا كان الامر لا يمكن تبسيطه او اختزاله ضمن حدي (الكلمة) و(الدبابة)، ليصل الى ابعد من ذلك، اي لتداخل (الخارجي) مع (الداخلي) مما يفرض نموذج من الاستجابة عند السياسي المعني، الامر الذي يحدد طبيعة المنتصر في دولة محاصرة وضعيفة امام (الخارج) الاقوى، وكذلك الخاسر، وبغض النظر عن موضوع الكفاءة والمواهب السياسية، او التجربة، او من اتى بمن فإن الاستنتاج الرئيسي الذي يمكن استخلاصه، من هذا المثال، هو متعلق بمدى قدرة (الخارجي) على تحديد سقوف وحدود حركة (الداخلي) في منطقة بالغة الاهمية مثل الشرق الاوسط...
(╫) كاتب سوري