|
لعبة ضارة تدعى -التدليس اللغوي-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2646 - 2009 / 5 / 14 - 09:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بقليلٍ من الجهد الذهني يمكنك العثور على "المعنى الذي تريد"، أو تُحبِّذ، في أيِّ قولٍ، أو نصٍّ، مع أنَّ "النصَّ" في معناه هو الكلام الذي لا يَحْتَمِل إلاَّ معنىً واحداً، أو لا يَحْتَمِل "التأويل"، فلا اجتهاد مع النصِّ.
"العبارة"، أو "الجُمْلَة"، ومهما استبهم معناها، واستغلق وأشكل، على الناس، ولو كانوا من ذوي الألباب، يظلُّ لها سلطان على الفهم والتفسير، فتَعْصِمنا عن مجاوزة الحدِّ، صعوداً أو نزولاً، وتَحُول بيننا وبين أن نفهمها ونُفسِّرها كما تسمح لنا "الليبرالية الفنِّية" بفهم وتفسير "الخطوط" و"الألوان" في لوحات بيكاسو، مثلاً، أي بما يوافِق الإحساس والشعور.
لقد شقَّ علينا "الاختراع" و"الاكتشاف"، في دنيا العِلْم، فولَّيْنا عقولنا شطر "النصوص" و"الأقوال"، نتوفَّر على اكتشاف واختراع معانٍ جديدة لها، تَجُبُّ ما قبلها، فلم نَعْرِف من المشتغلين بـ "الكلامية"، "مكتشِفاً"، أو "مخترِعاً"، يقول بتكامُل وتصالُح واجتماع المعاني (قديمها وحديثها) فالمعنى الجديد، "المُكْتَشَف"، أو "المُخْتَرَع"، يجب أن يكون "نفياً خالصاً" لكل معنى قديم، ولو ما زال يؤثِّر تأثيراً قوياً في عقول وسلوك الناس، وكأنَّه جاء إليهم ليقول لهم إنَّ كل فهمكم القديم كان خاطئاً، لا أساس له من الصِّحة، وإنَّ عليكم، بالتالي، أن تأخذوا بهذا الفهم الجديد الذي جئتكم به!
خذوا، مثلاً، "المُكْتَشِف (أو "المُخْتَرِع") الكلامي" الجديد، المدعو الشيخ رايق إسماعيل العودات، والذي أراد أن يَظْهَر لنا على أنَّه حرب لا هوادة فيها على الخرافات والأوهام، ومخلِّص لعقولنا من براثنها، فلقد تحدَّى كل مشايخ الأزهر، وغيرهم، أن يأتوا بما يدحض "اكتشافه" أنَّ "النفَّاثات في العُقَد" لا تعني "السِحْر" وإنَّما "السموم التي تنفثها الأفاعي والعقارب في العُقَد التي هي (على ما تمخَّض عنه جبله من التأويل) بيوت الناس وبساتينهم".
هذا الشيخ، "المُجدِّد"، المُصْلِح"، "المُنوِّر"، استمرأ واستطاب لعبة "التدليس اللغوي"، فتوسَّع وتعمَّق في "الاكتشاف" حتى كاد أن يُفْهِم الناس أنَّ جُلَّ فهمهم القديم لم يكن إلاَّ خرافةً ووهماً وباطلاً، فبلبل بما "اكتشف" العقول والنفوس، مع أنَّه، وعلى ما زعم، أراد أن يكون الدواء لهذا الداء، أي البلبلة.
ربَّما لا تقفون في "اكتشافه" على ما يستحق النقاش والنظر والتأمُّل؛ ولكن أليس من الأهمية بمكان أنْ نمنع أمثاله وأشباهه، وهُمْ كُثْر، من التمادي في لعبة "التدليس اللغوي"، التي لم تأتِ إلاَّ بما يضر؟!
نقول له، ولو لم يَحْتَج الأمر إلى ما يشبه الدليل أو البرهان، إنَّ "الراقي" يَنْفُث في العُقْدة"، وإنَّ "شرَّ السواحر من النساء يعقدن عقداً في خيوط، وينفثن عليها" هو وحده "المعنى الحقيقي" الواضح الجلي، والذي لا يحتاج إلى تأويل، لـ "ومَنْ شرِّ النفَّاثات في العُقَد"، فَلِمَ كلُّ هذا الاستنفاد للجهد والوقت في لعبة "التدليس اللغوي"، التي عسَّرت علينا فَهْم المعاني وتمثُّلها، ونأت عن أبصارنا وبصائرنا بما كان في متناولها؟!
"الزمان يتمطَّى بملل فوق صخرة ليِّنة.. لقد قرَّر أنْ يضاجع الريح فوق جبال الملح.. ".
يكفي أنْ نقرأ هذا المقطع مِنْ "قصيدة" حتى نشعر أنْ لا مناص لنا من الإجابة عن السؤال اللغوي الآتي: "هل لكلِّ عبارة معنى؟".
قَرَأْتُ أنَّ شخصاً أراد أنْ يَسْخَر من شُعراء "الشِعر الحديث"، أو من بعضهم، فأرسل "قصيدة"، منها المقطع المذكور، إلى مجلة أدبية "رصينة"، ظانَّاً أنَّ المجلة ستُلقي بها في سلَّة المهملات، ولكنَّه فوجئ، أوَّلاً، بنشرها، ثمَّ فوجئ بالإعجاب والتقدير اللذين حظيت بهما، فالنقَّاد الأدبيون تسابقوا في اكتشاف ما انطوت عليه "القصيدة" من معانٍ فلسفية وفكرية عميقة!
صاحبنا لم يكن يتوقَّع أنْ يلقى الغثاء اللغوي الذي أرسله كل هذا الاهتمام والاستحسان والإعجاب، ولكن يبدو أنَّ شيوع "التعقيد اللغوي"، أي تأليف الكلام على وجه يعسر فهمه، قد جعل لكل كلام مستغلَق، غير مفهوم، سلطانا على الناس، فيقومون، عَبْرَ "إعطاء الكلام دلالة مُعَيَّنَة"، أي عَبْرَ "التأويل"، باكتشاف معانٍ في النص لا وجود لها البتَّة في العلاقة بين "الدَّال"، أي الكلمة أو اللفظ، و"المدلول"، أي المعنى.
في هذه الطريقة في تأليف الكلام، نزاول ضرباً من ضروب الغش أو التدليس اللغوي، فنُسْقِط على "النص" معنىً لا وجود له البتَّة، ولا يمكن أنْ يكون موجوداً، في "ذات النص"، وكأنَّ الكاتب من هذا النمط يبحث عن "النجاح" في العبارة المستغلَقة غير المفهومة، أي في العبارة التي تَخْرِق قانون "التواضع اللغوي"، وتُقَوِّض العلاقة بين "الدَّال" و"المدلول". لو قُلْتَ "شربتُ ماءً بارداً" لكان قولكَ متَّفقاً كل الاتِّفاق مع قانون "التواضع اللغوي". أمَّا لو قُلْتَ "أكلتُ ماءً مثلَّثاً" لخَرَقْتَ هذا القانون أسوأ خَرْق.
ومن ضروب الغش أو التدليس اللغوي، أيضاً، أنْ تُدْخِل في الكلمة "معنىً غريبا"، أي معنىً يقوِّض العلاقة المتواضَع عليها بين "الدَّال" و"المدلول"، في سبيل أنْ تُسقِط على "النص" التفسير الذي تريد. إنَّ كل الناس يعرفون المعنى الأم أو الحقيقي لكلمة "نار"، مثلاً. وأنتَ، على سبيل المجاز، تستطيع أنْ تجعل لهذه الكلمة معنى "الشوق"، أو "الانتظار"، مثلاً، ولكنَّكَ لا تستطيع أنْ تقول إنَّ "الماء" من معاني كلمة "النار" من غير أنْ تقوِّض الصلة الطبيعية بين "الدَّال" و"المدلول"، وتَخْرِق قانون "التواضع اللغوي" أسوأ خَرْق.
"الكلمة" يجب أنْ تُسْتَعْمَل، عند تأليف الكلام، لتؤدي "معناها الحقيقي"، أو "معناها المجازي". يترتَّب على ذلك، أوَّلا، أنْ يكفَّ أهل الفكر والقلم عن دسِّ معانٍ في الكلمة لا تمتُّ بصلة إلى معانيها الحقيقية المتواضَع عليها، ثمَّ يترتَّب عليه أنْ يجيء "المعنى المجازي" للكلمة مستوفياً لشروطه، فإنَّ "الشوق" لا يكون من المعاني المجازية لكلمة "النار" إلاَّ إذا كان بينه وبين النار من أوجه الشبه والتماثل ما يجيز هذا الاستعمال المجازي، فأنتَ لا تستطيع أنْ تقول إنَّ "الماء" من المعاني المجازية لكلمة "النار" لانتفاء أوجه الشبه أو التماثل بينهما.
"الكلمة" هي "الدَّال"، أمَّا "معنى" الكلمة فهو "المدلول". وإنَّ لكل دالٍ مدلوله، الذي إمَّا أنْ يكون حقيقياً، وإمَّا أنْ يكون مجازياً، فلنتحرَّ المعنى الحقيقي، ولنستوفِ شروط استعمال الكلمة في معناها المجازي، فبهذه الطريقة فحسب تكون الكتابة "أرقى أشكال التفكير"، وتستقيم العلاقة بين "النص" و"التفسير"، بين "الكلمة" و"المعنى".
لقد نزل القرآن بلسان عربي مبين، فانتفت الحاجة، بالتالي، إلى "التأويل" و"المؤوِّلين"، فكل من قَرَأَهُ من العرب في الجاهلية كان يفهم معاني كلماته وعباراته ونصوصه فهماً جيِّداً.
و"المؤوِّلون" قرَّروا أنْ يُفْهَم "التأويل" على أنَّه "التفسير" المتأتي من اجتياز المعنى الواضح للكلمة، أو للكلام، إلى المعنى الذي يريده، ويحتاج إليه، "المؤوِّل".
وفي الموقف من "التأويل العلمي" للقرآن، لا أرى موقفاً أصح من موقف أبو أسحق الشاطبى المتوفى سنة 790 هجرية، فهو يرى "أنَّ كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل عِلْم يُذْكَر للمتقدِّمين أو المتأخِّرين من علوم الطبيعيات، والمنطق، وجميع ما نَظَرَ فيه الناظرون من أهل الفنون وأشباهها. وهذا ليس بالصحيح. ثمَّ أنَّ السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبكلامه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنَّه تكلَّم أحد منهم في شيء من هذا المدَّعى.. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظرة لبلغنا ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أنَّ ذلك لم يكن، فدل على أنَّه غير موجود عندهم..". هذا الرأي السديد هو الذي ينبغي لكل المفكِّرين الإسلاميين التزامه، فـ "التأويل العلمي" لآيات قرآنية إنَّما هو تطاول على الدين والعِلْم معاً.
حتى في "العالم الدنيوي السياسي" ننغمس في لعبة "التدليس اللغوي"، فنأتي بقولٍ لزعيمٍ، لا أثر فيه لعظَمَة الفكر، فنَمْخُر فيه كالسفينة تمخر في عباب البحر، لنكتشف، أو لنكشف للرعية، ما حواه من "عَظَمَة فكرية"، وكأنَّه الإلياذة لهوميروس (الذي يُشكُّ في وجوده)!
نُحمِّل عقولنا من ثقل هذا "الجهد الذهني" ما تنوء بحمله الجبال، ولو كان "القول العظيم" من قبيل "الفَرْق بين المرأة والرجل يكمن في أنَّ المرأة تحيض والرجل لا يحيض"!
ألا يكفي "الأمَّة" أنَّها أضاعت مئات السنين من عمرها وهي تُنْشئ وتطوِّر "صناعة الكلام" ليَكْثُر فينا، ويتكاثر، ونحن في مستهل الألفية الثالثة، أولئك الذين لا عمل يؤدُّون، ولا غاية ينشدون، سوى إنتاج مزيدٍ من "البضائع الكلامية"، التي تفتقر إلى "القيمتين" معاً، "القيمة التبادلية" و"القيمة الاستعمالية"، وكأنْ ليس من استعمال لـ "المجاهر الإلكترونية" عندنا إلاَّ استعمالها في رؤية ما دَقَّ وخفي من معانٍ عظيمة في الأقوال؟!
"إدِّعاء العَظَمَة" في كل شيء إنَّما هو مرض شرقي مُزْمِن، فقلَّما عرفنا نحن الشرقيين حاكِماً لا يَظْهَر لنا على أنَّه بدر البدور، لم تَلِد مثله النساء بعد، له أُفْق يسع كل شيء ولا يسعه شيء، يُحدِّثكَ حديث العالِم؛ ولكن في كل ما يصلح دليلاً على جهله. ولقد حاورت صحافية غربية أحد أفراد هذا النوع من الحكَّام، فأدهشها إذ أظهر لها أنْ لا رادع يرعه عن أن يدلي برأيه "الحصيف" في كل شيء، فلمَّا أفرط في "تعاظمه" أدهشته هي إذ سألته: "هل تؤمِن بالله؟"!
بعضهم قد تعوزه القدرة على أن يُعظِّم نفسه بنفسه، فيُخْتَرَع من هذه "الحاجة" جمهور من "العلماء"، الذين يتوفَّرون على اكتشاف كل أوجه "العَظَمة الفكرية" في كل قول يقول، أو ينتحل، مؤلِّفين "اللجان"، وعاقدين "المؤتمرات"، لابتناء ما يشبه "الفكر الجديد" من حجارة أقواله!
هؤلاء هم الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه، ويخترعون "المعاني العظيمة" لكلام "العظماء"، وكأنَّ التدليس اللغوي هو كل متاعهم الفكري.. وكأنَّ تعليم الناس حُسْن الفهم والتفسير ليس في منزلة الرهص الحضاري!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مُثَلَّث أوباما!
-
-عباريم- تَحُدُّه -الأوهام- غرباً و-الحقائق- شرقاً!
-
ردٌّ من جواد البشيتي على ما نُشِر من تعليقات على مقالته -ويس
...
-
ويسألونكَ عن -الجاذبية-..!
-
أغْمَضوا أعينهم فرأوا -غموض- نتنياهو!
-
ثقافة -الانحطاط الثقافي-!
-
صحافتنا مصابة ب -أنفلونزا الرقابة الذاتية-!
-
-أنفلونزا الخنازير- أم -أنفلونزا الرأسمالية-؟!
-
-الشيزوفرينيا السياسية الفلسطينية-.. داء أم دواء؟!
-
قنبلة صوتية من نوع -سيداو-!
-
في فِقْه -السلام الاقتصادي-!
-
نتنياهو في منتصف الطريق بين -لا- و-نعم-!
-
حتى لا يتحوَّل العرب إلى -أقلية قومية-!
-
شرط نتنياهو لقبول -حل الدولتين-!
-
اكتشاف فلكي يُزَلْزِل -العقل السليم-!
-
هذا -الإفراط القانوني- في تنظيم -حرِّية الصحافة-!
-
عندما يختلف نتنياهو وأوباما -لغوياً-!
-
لا تجريم لإسرائيل حتى تعترف هي بجرائمها!
-
فتاوى تَعْظُم فيها الصغائر وتَصْغُر العظائم!
-
-أصل الأنواع- في الكتَّاب!
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|