|
أزمة المثقف العربي
هشام آدم
الحوار المتمدن-العدد: 2649 - 2009 / 5 / 17 - 06:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
http://www.hishamadamme.blogspot.com هنالك إشكالية محددة في تعريف الثقافة Culture على أساس أنها شكل واع من أشكال المعرفة البشرية، والتي بدورها تعمل على ترسيخ أساسيات التفكير المنطقي، وزيادة الوعي بالمدرك العام، والذي هو عبارة عن مخزون العقل البشري الناتج من إفرازات الحِراك الاجتماعي، والسياسي، والطبيعي، ولا توجد تفصيلة محددة تجعلنا نغوص أكثر لنعرف الفارق بين الثقافة والحضارة والمعرفة؛ لأنها دوائر متداخلة: فالمعرفة تُشكل ثقافة، والإنسان صاحب الثقافة هو الذي يصنع الحضارة؛ إذن فالمعرفة هي الأساس الفلسفي لمجموع المنتجات الواعية. ولأن معطيات المجتمع تؤثر في الإنسان مادة هذا الحِراك والمنتج الحقيقي له، فإن هذه المعطيات تدخل بطريقة غير مباشرة في تكوين هذا الوعي وتشكيله أو قولبته، حيث لا يستطيع الإنسان عموماً، والمثقف بصورة خاصة أن يعيش بمعزل عن هذه المعطيات الخارجية.
ففلسفة الوعي تعتمد على مبدأ ديالكتيكية "التأثير والتأثر" ولا يتم إنتاج أي حركة معرفية بمنأى عن هذا المبدأ، أو خارج هذا الإطار. والمعطيات بجميع أشكالها - سواءً كانت معطيات ذاتية التولّد أو إفرازات طبيعية لعملية البحث والاستقصاء التي يُنتجها الإنسان لا إرادياً أو حتى بدافع البقاء -هي التي تُحدد الشكل المورفيمي Morpheme لهذه الثقافة أو الحضارة واللتان هما أجزاء من المعرفة المطلقة.
للتوضيح: فإن المعطيات الخارجية طبيعة المناخ في المناطق الصحراوية تُشكل "وعياً" يُفرز بدوره إنتاجاً فكرياً وسلوكياً يتلاءم وهذه الطبيعة المناخية يتمثل في أدوات الحضارة بشكلها العام كالمسكن وأدوات الصيد والملبس واللغة. . . إلخ. بينما تختلف هذه المنتجات الحضارية لاختلاف الوعي في بيئة تختلف معطياتها الخارجية، ثم تأتي اللغة، رغم أنها إحدى إفرازات هذه المنظومة، لتشكل وتصوغ هذه الثقافة بشكلها النهائي، وتضعها في قالبها اللفظي. هذا الارتباط بين الوعي (باعتباره شكلاً فكرياً لمنظومة المعطيات الخارجية) وبين البيئة (التي هي محيط هذه المعطيات والمفرز لها) هو -في نظري- المحور الأساسي الذي تقوم عليه حركة الثقافة.
ومن نافلة القول أن هذه المعطيات في شكلها الجدلي المتغير تنقسم إلى معطيات موضوعية Objective Outputs وهي كل ما يحيط بالإنسان من مادة تساعد في تشكيل هذا الوعي العام أو ما يسمى بالوعي الجماعي والتأثير عليه. وهذه المعطيات لا يمكن السيطرة عليها، بل هي التي تولد لدينا نزعة البقاء، وتجبرنا على خوض صراعاتنا على أساسها. ومعطيات ذاتية Subjective Outputs وهي التي تشكل الوعي الفردي، وتلعب دوراً كبيراً في تحديد اتجاهات وميول الأفراد بمنأى عن الصيغة الجماعية، وفي الغالب فإن هذه المعطيات الذاتية هي التي تعطي السمة الاختلافية بين كل فرد وآخر في تعاطيه للصراع. وجزء من هذه المعطيات الذاتية يدخل بشكل فاعل في بناء الشخصية الفردية، والتي هي من أهم الخصائص التي يعتمد عليها علماء النفس في تفسير الظواهر السلوكية.
وبما أن لا شيء ساكن في هذا الكون، فإن المعرفة والوعي والمعطيات الخارجية (المادة) في تغيير وحركة مستمرين، فإننا نرى تطور الوعي والمعرفة، وتوالد حضارات على أنقاض حضارات أخرى بائدة. إذاً فهو شكل من أشكال الصراع يمتاز بالتجدد. وفي اعتقادي الخاص فإن أزمة المثقف العربي تتمثل في أمرين غاية في الأهمية هما: الصراع مع السلطة على اعتباره شكلاً من أشكال القهر الفكري الذي يجعل حركة التعاطي مع المعطيات الخارجية أكثر صعوبة وأقل سلاسة، وبالتالي فإن عملية تشكل الوعي أو - إذ جاز لي التعبير - عملية الاستفادة من الصراع المعرفي المتجدد تتباطأ، مما يخلق نوعاً من العجز الزمني أو التفاوت بين المتغيرات المادية والوعي الفردي للمثقف. وعندما لا يكون المثقف مواكباً لهذا التغير المتسارع تنتفي عملية الصراع القائمة أصلاً على نظرية الاندثار والاستحداث، فتصبح المعطيات المستفادة معطيات لا قيمة لها ولا جدوى لعدم تطابقها مع الواقع المعاش. كما أن صراع المثقف مع السلطة ينتج في الأساس عن رفض الوعي بالتسليم لقوالب معرفية جاهزة "مسبقة الصنع" وينصرف المثقف عن صراعه مع المعطيات الخارجية والحركة المتجددة بصراعه مع السلطة. وإذا اعتبرنا أن السلطة شكل من أشكال المعطيات فإن حصر الصراع في جزئية واحدة من منظومة جزئيات، فإنها تؤدي إلى عدم المواكبة أو ما يُسمى بالوعي السلبي الذي ينتج في حصر أدوات المعرفة في شكل واحد من أشكالها المتعددة.
كما أن إشكالية الهوية Identity Crisis هي إحدى المعوقات التي تجعل المثقف العربي يقع تحت أزمة حقيقة ناتج عند عدم قدرة المثقف على الوقوف على قاعدة انتمائية محددة. وتنشأ ضرورة الانتماء عن فكرة التمثيل الواعي التي تساعد في تشكلها المعطيات الذاتية. حيث تعمل هذه المعطيات على تحديد الميول والاتجاهات الفكرية والعقائدية كذلك. وقد يتغير سلوك الفرد العقلي بحسب ما تمليه عليه قناعاته الفكرية، حيث تعمل الهوية والانتمائية على تكوين بنية وعي لدى الفرد.
للتوضيح: "شعراء العصر الجاهلي" و "شعراء صدر الإسلام" إن لكل مؤسسة اجتماعية شكلها الوعيوي الذي يُميزها عن أية بيئة أخرى، فالعصر الجاهلي يمتاز في مجمله بالفكر الوثني وباستئثار المادية على السلوك التفكيري لديهم لذا نجد أنهم يعبرون عن واقعهم بشعر ملتصق تماماً بهذه الفكرة. كما نجد أنهم لا يؤمنون إلاّ بكل ما هو مادي محسوس يرونه بأعينهم المجردة أو بأدوات المعرفة الحسية. لذا فهم لا يؤمنون بالغيبيات ولا بالمثاليات التي جاء بها الإسلام لاحقاً. والإسلام جاء بمعطيات فكرية مثالية جديدة تعتمد على القوى الروحانية والقدرية والغيبية والمشيئية، فنجد أن شعراء صدر الإسلام وتحديداً (المخضرمين) منهم تغير شكل الوعي لديهم لتغير انتمائهم.
إضافة إلى إشكالية الهوية والصراع مع السلطة لدى المثقف العربي، فإن هناك إشكالية لا تقل أهمية عن هاتين الإشكاليتين ألا وهي إشكالية اللغة Language Crisis وأزمة المصطلحات. وفي اعتقادي فإن اللغة بشكلها الحالي عاجزة عن التعبير ولا توازي المد الفكري المادي الذي نعايشه في هذا العصر. إن اللغة - في نظري - تستمد قوتها من شكل الوعي وليس العكس. لذا فإننا نجد ظاهرة محاولات التعريب والتي غالباً ما تكون قاصرة وعاجزة عن التدليل والتوفيق بين ماهية الأشياء والتعبير عنها لفظياً. وهنا يتعلق الأمر بارتباط الوعي بالمادة التي هي مصدر التغذية البنيوية لها. ولا غرابة إذا كنا نستخدم ألفاظ من لغات أخرى للتدليل على ماديات لم نرتبط بها عقلانياً أو فكرياً.
للتوضيح: اللغة العربية هي أكثر اللغات التي يمكن أن تعبّر عن العلوم الإنسانية والمعاني الروحية والغيبية لأنها مرتبطة بها فكرياً. اللغة الإنكليزية هي أكثر اللغات التي يمكن أن تعبّر عن العلوم الطبيعية والماديات لأنها مرتبطة بها فكرياً، وعلى المثقف العربي أن يحاول تحليل هذه الإشكاليات بنوعٍ من الشفافية ليتمكن من ممارسة الوعي بشكل أكثر نضجاً وأكثر مواكبة للمتغيرات اليومية.
#هشام_آدم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جدلية المرأة والرجل (تاريخ العبودية)
-
نقد الانتلجنسيا السودانية
-
الله والشيطان في الريس عمر حرب
-
الميتافور الدلالي في اللغة الإبداعية
-
الروح
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|