|
النهضة الموءودة: إخفاقان في سجل مشروع النهضة العربية
عماد هرملاني
الحوار المتمدن-العدد: 809 - 2004 / 4 / 19 - 05:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
باحـث سـوري في حالات كثيرة يستبطن الحديث عن قضية "النهضة" في الأدبيات العربية مجموعة من القضايا الإشكالية التي اعتاد الفكر العربي على التعامل معها بنوع من التسليم، وأسبغ عليها (تحت تأثير التكرار) صفة البداهة التي لا يجوز تعكير نصوعها بشكوك التدقيق والمساءلة. وعلى مدى يزيد عن قرنين مضيا حتى الآن على دخول حقبته الحديثة، انشغل الفكر العربي بمحاولة فك اللغز الذي يتيح قلب أحوال الأمة (الإسلامية في البداية ثم العربية بعد ذلك) رأسا على عقب، ويخرجها من حال التخلف المطبق الذي كانت ترسف في أغلاله تحت ظلال السلطنة العثمانية لينتقل بها إلى حالة الرغد والقوة التي لامست عينة من تجسداتها المشخصة أثناء حملة نابليون بونابرت إلى مصر، ومنذ تلك المرحلة بدأت أقلام الكتاب العرب تلهج بالدعوة إلى تحقيق ما سيصطلح على تسميته "مشروع النهضة" الذي يمكن الأمة من استدراك تأخرها والقفز فوق درجات سلم الحضارة للوصول إلى المستوى الذي بلغته الدول الغربية (فرنسا وبريطانيا خصوصا). ورغم سلسلة الانكسارات المتتالية التي منيت بها الأمة وهي تلهث وراء سراب تلك النهضة الموعودة لم يجد الفكر العربي متسعا من التاريخ حتى يراجع مسلماته ويعيد النظر في طبيعة "الوصفة النهضوية" التي دعا الأمة إلى ابتلاعها دون تدقيق ولا تمحيص. وبعد كل انهيار كبير تعرضت له الأمة ومشروعها النهضوي كان المفكرون العرب ينجحون في القفز من فوق منعطف الأزمة التي تحيق بهم عبر حركة التفافية ماكرة يكررون فيها تحوير السؤال المحوري الذي كانوا يدورون حوله بشأن الطرق التي يجب على الأمة أن تسلكها لتحقيق مشروع النهضة، إلى سؤال آخر حول أوجه الخطأ والقصور التي أعاقت تحقيق المشروع الأثير، ومع قدر مناسب من الجرأة على توجيه بعض النقد واللوم إلى الذات، والتهويل بالحديث عن المؤامرات الخارجية التي تتواطأ فيها القوى الدولية على مختلف مشاربها من أجل إعاقة "نهضة العرب"، كان الفكر العربي قادرا باستمرار على إعادة تعويم مقدماته ومسلماته وإبعادها عن دائرة الشك والمساءلة، وتجنب دائما دخول دائرة السؤال حول طبيعة المشروع النهضوي نفسه الذي أريد استنباته في تربة المنطقة، وعن مدى ملاءمة ذلك المشروع لطبيعة تلك التربة ومكوناتها العضوية. ولادة قيصـريـة وفي هذا المجال يمكن القول بأن مشروع النهضة في المنطقة العربية ولد منذ البداية بطريقة قيصرية، حيث تمت تلك الولادة تحت تأثير "صدمة حضارية" جاءت من الخارج نتيجة تفاعلات الصدمة مع الغرب، أكثر مما يمكن اعتبارها نتاج تطور طبيعي حدث على صعيد حركة البنى الداخلية للمجتمع العربي. ويمكن الحديث هنا عن شواهد كثيرة تدعم وجهة مثل هذه القراءة لظروف ولادة مشروع النهضة، لعل أهمها هو تزامن البوادر الأولى لحركة النهضة مع حملة نابليون إلى مصر عام 1798 وما جلبته معها من استعراضات عسكرية وتقنية وحياتية لم يألفها أهل المنطقة من قبل فوقفوا أمامها بحالة ذهول وصف بعض ملامحها عبد الرحمن الجبرتي حين تحدث في كتابه الشهير (عجائب الأخبار في التراجم والأخبار) عن ردود فعل المصريين حيال بعض التجارب التقنية التي كان الفرنسيون يجرونها في الشوارع والساحات العامة والتي كانت تؤدي حسب مفردات الجبرتي إلى "أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج عنها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا" (الجزء الثاني ص236). كذلك لابد من الإشارة إلى ملاحظة أن سلسلة الإصلاحات التي جرت في السلطنة العثمانية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر (بيان قصر الكلخانة، خط همايون، دستور عام 1876) إنما جاءت كما يشير وجيه كوثراني تحت ضغط مباشر ومكشوف من جانب الدول الأوربية التي بدأت تكثف اهتمامها في ذلك الوقت بأوضاع "الرجل العثماني المريض" (الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في جبل لبنان ص 64). والنقطة المركزية التي يراد الوصول إليها هنا هي أن ظروف تلك الولادة القيصرية فرضت نفسها بقوة على ملامح الصيغة التي أعطيت لمشروع النهضة، حيث لعبت أوربا في تلك الصيغة دور المثال الذي يراد تفصيل مستقبل المنطقة العربية وفق صورته وأنموذجه، ويظهر ذلك جليا في محتوى المحاولات الإصلاحية التي عرفت طريقها إلى التطبيق خلال تلك المرحلة (بصورة خاصة إصلاحات محمد علي في مصر وابنه إبراهيم في سورية) والتي كانت تجهد في العمل، بسفور وصل أحيانا مرتبة الفجاجة، من أجل "أوربة" المجتمع العربي. كما تتجلى تلك الظاهرة في مضمون الدعوات الإصلاحية التي رفع لواءها رواد الفكر النهضوي (رفاعة الطهطاوي مثال ناصع) والتي ساوت بين معنى "النهضة" ومعنى "التحديث" ورأت أن طريق التحديث يتلخص في "استعارة" ما ينقصنا من أوربا التي حملت عنوان الغرب، ويحدد رفاعة الطهطاوي معالم هذا الطريق في كتابه الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" بعبارات واضحة وقاطعة حيث يرى أن "البلاد الإسلامية (التي برعت في العلوم الشرعية والعقلية) أهملت العلوم الحكمية بجملتها، فلذلك احتاجت إلى البلاد الغربية في كسب ما لا تعرفه وجلب ما تجهل صنعه" (ص12). ويوفر الربط بين دعوة الطهطاوي وإصلاحات محمد علي وابنه إبراهيم في مصر وسورية فرصة ثمينة من أجل تقييم تجربة النهوض التي قادها محمد علي ونظر لها رفاعة الطهطاوي والتي كان "يكفيها" حسب مفردات الطهطاوي نفسه أنها أدت إلى "تجديد المخالطات المصرية مع الدول الأجنبية" (مناهج الألباب المصرية). ومن أجل تقييم تلك التجربة ينبغي عدم الاكتفاء بالوقوف عند دلائل التواطؤ الخارجي الذي حال دون تمكين محمد علي من هزيمة السلطان العثماني وخلط أوراق لعبة التوازنات الدولية التي كانت تحيط بموضوع "المسألة الشرقية" في ذلك الوقت، ففي موازاة ذلك لابد من التوقف عند دلالات الممانعة الداخلية التي واجهت إصلاحات محمد علي داخل مصر وخصوصا إصلاحات ابنه إبراهيم داخل سورية، ويقدم ميخائيل مشاقة، وهو كاتب معاصر لتلك المرحلة، في كتابه "مشهد العيان في حوادث سورية ولبنان" شهادة معبرة حول ردود فعل أهالي المدن السورية واللبنانية حيال الإجراءات التحديثية التي حاول الحكم المصري فرضها عليهم فأثارت "تذمر" الأهالي من "المسلمين" الذين قال مشاقة أنهم "أبوا أن يدفعوا ثمن العدالة والحرية والتمدن، التي أخذت الدولة المصرية في إدخاله ونشر أعماله بينهم ... وفضلوا الرجوع إلى الهمجية والذل لرؤسائهم ... فعمدوا للمؤامرة وخلع الطاعة والثورة (على الحكم المصري) ورد سلطة الأتراك عليهم". وبصرف النظر عن خلفيات الرؤية التقييمية التي تطغى على لهجة مشاقة وعباراته، يبدو أن حالة الممانعة التي قوبلت بها إصلاحات محمد علي كانت تعبر في العمق عن حالة المواجهة التي كانت تعيشها المنطقة في تلك المرحلة بين النمط الحضاري التقليدي الذي تمثله وترعاه السلطنة العثمانية، وبين نمط جديد كان يهدف إلى استعارة النموذج الحضاري الأوربي واستنباته في تربة المجتمع الشرقي الإسلامي. وقد يكون مما لاشك فيه هنا أن القوى التي حملت لواء النمط الحضاري الجديد كانت تنطلق من قناعة راسخة بان إنجاز هذه النقلة سيحقق مصالح الأمة بكاملها وسيعود خيره ونفعه على سائر فئات المجتمع، وحيث أننا نعرف منذ كارل ماركس بأن كل فئة اجتماعية "تطرح مصالحها الخاصة على أنها مصلحة المجتمع بكامله" (الأيديولوجيا الألمانية)، يصبح من الواجب تدقيق طبيعة النتائج التي آل إليها المشروع المذكور بعد اكتمال دورته الزمنية التي انتهت عمليا بانهيار السلطنة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى. إخفـاق مـزدوج ومن هذا المنظور قد يكون بالإمكان القول أن التجربة الأولى التي خاضتها المنطقة مع مشروع النهضة وانتهت بتقويض السلطنة العثمانية لم تخفق فقط في انتشال المنطقة من لجة التخلف التي كانت ترسف في حمأتها، بل ربما أدت التجربة نفسها إلى تعميق تلك اللجة من خلال النتائج التي أسفرت عنها على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فعلى الصعيد الاقتصادي قامت التجربة على محاولة تحديث فوقي للاقتصاد وهو ما أدى كما يلاحظ جورج قرم إلى "تدمير تقاليد حرفية ثمينة كان بالإمكان أن تشكل، في ظل سياسة مختلفة، انطلاقة نحو التجديد التكنولوجي" (الاقتصاد العربي أمام التحدي ص 237). أما على الصعيد السياسي فلعل أخطر نتائج التجربة هو الدور الذي لعبته في الإجهاز على السلطنة العثمانية التي لفظت أنفاسها تحت وطأة الضربات المزدوجة التي وجهت إليها خلال الحرب العالمية الأولى من الداخل والخارج، وقد يكون مما لا خلاف حوله هنا أن السلطنة كانت قد وصلت في ذلك الوقت إلى مرحلة من الضعف والترهل التي لم يكن من الممكن أن تستمر بعدها لفترات طويلة في الحياة، إلا أن الحقيقة القاسية التي سيظل من الواجب مواجهتها هنا هي أن مشروع النهضة (بصيغته التحديثية المتأوربة) أسهم في إسقاط السلطنة لصالح المشروع الغربي الذي بادر إلى تقاسم المنطقة عبر الاتفاقات الاستعمارية الشهيرة (خصوصا اتفاقية سايكس بيكو)، وهو المشروع الذي مهد بدوره لزرع دولة إسرائيل في قلب المنطقة من أجل ضمان تفكيك المشروع القومي العربي الذي شكل واجهة أيديولوجية للمشروع النهضوي خلال تلك الحقبة، وخصوصا عبر الصيغة التي تبلورت للمشروع على يد مفكري بلاد الشام (بطرس البستاني، إبراهيم اليازجي، نجيب عازوري.. وبعد ذلك الجمعيات العربية السرية وضحايا إعدامات 6أيار)، ثم أخذت تجسدها المشخص في ثورة الشريف حسين بن علي في الحجاز. وقد يكون من بين أبرز ما يثير الانتباه في هذا المجال أن القوى الاجتماعية التي رفعت لواء مشروع النهضة في تلك المرحلة ما لبثت أن تمكنت من التكيف مع الواقع الجديد الذي نشأ بعد انهيار السلطنة العثمانية وسقوط الدول العربية تحت سلطة الاحتلال الغربي، وشيئا فشيئا بدأت تلك القوى تختصر حلمها بنهضة تحديثية تضع الدول العربية في مصاف الدول الأوربية من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية ونمط الحياة، وتختزل طموحاتها الاقتصادية الكبرى لتكتفي بدور الوكيل المحلي للمشاريع الكولونيالية وتسهم من موقعها الجديد في تكريس آليات الارتباط التبعي للغرب، وبدل طموحاتها من أجل أوربة نمط الحياة العربية اكتفت تلك الفئات بأوربة نمط حياتها الشخصية والعائلية لتتحول بذلك إلى طلائع للتبشير بنمط الاستهلاك الغربي داخل مجتمعاتها المحلية بكل ما حمله هذا النمط الحياتي إلى المجتمع العربي من نتائج مدمرة على مختلف الصعد الاقتصادية والثقافية والقيمة، أما أكثر النتائج كارثية في هذا المجال فقد تمثلت في الهزيمة الفجائعية التي منيت بها الجيوش العربية في حرب فلسطين عام 1948 بعد أن كانت تلك الجيوش تشكل منذ عهد محمد علي موضع رهان القوى النهضوية وحظيت بمركز الصدارة بين اهتمامات المشروع التحديثي. تعـويم المأزق ورغم النتائج الكارثية التي أسفرت عنها دعوة النهضة في تجربتها الأولى، يبدو أن رموز الفكر النهضوي لم يستفيدوا من دروس تلك التجربة وصدماتها الموجعة، وهكذا فقد جاءت المفارقة الملفتة حين انزلقت المنطقة في اتجاه إعادة تعويم المشروع النهضوي والحفاظ على مضامينه الأيديولوجية بعد نقلها إلى قوالب وأوعية اجتماعية وسياسية جديدة أفرزتها تطورات الوضع الذي استجد في الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال السياسي إبان الحرب العالمية الثانية. فقد أدت هزيمة الجيوش العربية عام 1948 إلى تعرية النظام العربي الذي ظهرت ملامحه الأولية بعد سقوط السلطنة العثمانية ثم تكرس بصورة مشخصة بعد الحصول على الاستقلال وخصوصا إبان تشكيل جامعة الدول العربية التي اختزلت الطموحات الوحدوية للمشروع النهضوي. وعلى هذا الأساس لم يكن من المستغرب أن تسفر تداعيات الهزيمة عن تهاوي العروش وسقوط الأنظمة التي جاءت إلى سدة الحكم تحت رايات المشروع النهضوي العتيد في العديد من البلدان العربية التي احتضنت ولادة ذلك المشروع وخصوصا في مصر وسورية والعراق. لكن الملاحظة التي تستدعي التوقف عندها في هذا المجال هي أن التحولات العاصفة التي شهدتها الدول المذكورة اقتصرت في عمقها على استبعاد القوى التقليدية التي واكبت (بأشخاصها أو تياراتها) معركة الانفصال عن السلطنة العثمانية ثم معارك الحصول على الاستقلال من الاستعمار الغربي وأسهمت في بلورة صيغة النظام العربي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وتم استبدال تلك القوى التقليدية بقوى جديدة انحدرت في الغالب من أصول ريفية وصعدت إلى الدرجات العليا في السلم الاجتماعي والسياسي عن طريق انخراطها في المؤسسة العسكرية التي كانت تشكل منذ عهد محمد علي، البؤرة الأكثر تأثرا بموجات الحداثة التي تعرض لها العالم العربي خلال تلك المرحلة، ووجدت تلك النقلة صورتها النموذجية في ثورة يوليو التي قادها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مصر وأفرزت تيارا انتشر على امتداد الوطن العربي، وأيضا في سلسلة الانقلابات العسكرية المتلاحقة التي وقعت في سورية والعراق والتي توجت بانتقال السلطة في البلدين إلى يد حزب البعث الذي أسهم في إعطاء التيار النهضوي العربي صيغته الحزبية المقننة. والملفت في هذا المجال أن القوى الجديدة التي صعدت نتيجة تلك التحولات إلى سدة السلطة في عدد من الدول العربية اعتبرت نفسها منذ البداية وريثا شرعيا لمشروع النهضة العربية الذي أجهضته مؤامرات "القوى الاستعمارية" في الخارج وتواطؤ "القوى الرجعية" من الداخل حسب المفاهيم والمفردات التي كثر استخدامها في أدبيات التيارين الناصري والبعثي خلال تلك المرحلة (خصوصا المنطلقات النظرية لحزب البعث التي أقرها المؤتمر القومي السادس عام 1963). وهكذا يمكن التسجيل بأن التحولات التي جرت في العالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية أدت إلى تغيير الحوامل الاجتماعية لأيديولوجيا النهضة، دون أن يترافق ذلك مع أية خطوات جدية في اتجاه مراجعة المشروع نفسه أو تدقيق المضامين المتأوربة التي حكمت وجهته منذ مرحلة التأسيس. والواقع أنه على الرغم من صخب الخطاب السياسي الذي أطلقته القوى الجديدة، وأصابت نجاحا مشهودا في تسويقه، حول قدرتها على إنجاز الأهداف التي عجزت القوى التقليدية عن إنجازها في إطار مشروع النهضة وخصوصا على صعيد التحديات الثلاث التي وضعها المشروع نصب عينيه منذ البداية وهي تحقيق حلم الوحدة بين أقطار الوطن العربي واستكمال تحرير الأقطار العربية المحتلة من جانب الدول الغربية (وبعد الحرب برزت قضية تحرير فلسطين) وإنجاز التطور الاقتصادي الذي يتيح إخراج الاقتصاديات العربية من وهاد التخلف والتبعية التي وصلت إليها في ظل برامج وسياسات القوى التقليدية (مع ملاحظة تطابق تلك الأهداف مع تلخيص حزب البعث المعروف لأهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية)، نقول أنه رغم الصخب الذي ميز خطاب القوى الجديدة التي تصدت لقيادة المشروع النهضوي بعد الحرب، يكشف حصاد العقود التي أمضتها القوى المذكورة في إدارة دفة الأمور في عدد من الدول العربية عن حجم التناقض الصارخ الذي يباعد الشعارات التي أطلقتها تلك القوى وبين النتائج التي أسفرت عنها سياساتها على أرض الواقع. شـواهد الأزمة وبعد سنوات قليلة من تسلمها زمام الحكم في بعض البلدان العربية (بشكل أساسي في مصر وسورية) تلقت القوى الجديدة صدمة قوية على صعيد القضية التي أعطيت من قبلها صفة "قضية العرب المركزية" وهي قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، حيث كانت هزيمة حزيران عام 1967 فاتحة سلسلة من الانهيارات المتلاحقة التي تتالت على مختلف الجبهات العسكرية والسياسية بدءا من تحولات قمة الخرطوم (استراتيجية إزالة آثار العدوان) ومرورا بالضربة التي تعرضت لها المقاومة الفلسطينية عام 1970، وبعد ذلك تداعيات حرب تشرين عام 1973 وانطلاق مسيرة الصلح بين النظام المصري وإسرائيل، ثم فجائع الحرب اللبنانية وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982وصولا إلى مشاهد التسابق العربي الراهن على تطبيع العلاقات مع إسرائيل في مختلف المجالات استنادا إلى مفرزات مؤتمر مدريد، وعلى صعيد النهضة الاقتصادية والاجتماعية لم تكن النتائج أقل فجائعية مما حدث على جبهة الصراع مع إسرائيل، حيث تطالعنا هنا أيضا صورة الإخفاقات المدوية التي يعيشها العرب اليوم في مظاهر التبعية الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والمديونية الخارجية والانكشاف الغذائي (وهي المظاهر التي ترتسم صورة مفزعة عنها في تقارير التنمية البشرية للعالم العربي عامي 2002 و2003). أما الإخفاق الأساسي الذي منيت به القوى الجديدة فقد جاء على جبهة مشروع الوحدة العربية الذي وضعته تلك القوى في مقدمة برامجها (وشعاراتها)، حيث لم تفشل تلك القوى في تحقيق أية خطوة جادة على طريق الوحدة العربية المأمولة وحسب، بل قادت المنطقة في الاتجاه المعاكس تماما لذلك الطموح الأثير، وهو ما تشهد عليه وقائع التناحر المعلن والمستتر الذي أصبح يحكم مسيرة العلاقات بين العديد من الدول المتجاورة أو المتباعدة داخل الوطن العربي، ناهينا عن مخاطر التذرر والتفتت الأقوامي والإثني والطوائفي التي بدأت تنخر جسم الوحدات القطرية نفسها وتهدد وحدة الكيانات الصغيرة التي تشكلت منها خارطة المنطقة بعد تفكك السلطنة العثمانية. وتبقى المعضلة الكبيرة التي أسفرت عنها تجربة القوى الجديدة التي قادت مشروع النهضة في مرحلته الثانية هي البنية الاستبدادية للأنظمة التي أقامتها تلك القوى تحت شعارات "حماية الثورة" من مخططات قوى "الثورة المضادة" والتي كان من نتيجتها تعميم ثقافة الخوف التي تم تكريسها عبر سياسات "السجون المفتوحة" و"المقابر الجماعية" والانتهاكات اليومية والمبرمجة لأبسط حقوق الإنسان وحرماته. لقد أدت هذه الثقافة إلى تأميم مشاعر الاهتمام بالشأن العام لصالح القوى الحاكمة التي اعتبرت نفسها قوى "طليعية" تدرك وحدها ما يخدم ويفيد الصالح العام وما يهدده أو يضره، وأعطت لنفسها بالتالي حق مصادرة عملية صنع القرار بصورة كاملة، وبما يشمل جميع الميادين والجبهات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، بدءا من قرار الحرب والسلام وانتهاء بقرار شق طريق في أصغر قرية تقع في أقصى بقعة تشملها سلطة الدولة. أفـق جـديـد وإذا كانت النهاية المرة التي آلت إليها تجربة القوى التي قادت المرحلة الثانية من مشروع النهضة هي ما شاهدناه من نتائج موجعة للعدوان الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية (باسم الغرب) ضد العراق (الذي شكل رمزا جامعا للأمة العربية)، فلعل الدرس الأساسي الذي تكشفت عنه الحالة العراقية هو أن الشعب الذي يعاني القهر على يد سلطاته الوطنية لا يقف إلى جانب تلك السلطات حين تتعرض البلاد للغزو الخارجي، وأن الشعب المتحرر من ربقة الطغيان هو الذي يستطيع الدفاع عن الوطن وحماية أمنه وكرامته حين يتعرض للخطر الخارجي، وإذا كان ثمة من أمثلة يمكن إيرادها هنا لدعم وجهة هذه القراءة لدروس ما حدث في العراق، فقد يكون مما له دلالته في هذا المقام أن تلك الأمثلة لن تقتصر على شواهد النجاح الذي حققته المقاومة اللبنانية ضد العدوان الإسرائيلي، ولا على حالة المقاومة الفلسطينية التي تستمد قوتها من طبيعة البنية التعددية والمنفتحة التي حكمت مسيرة النضال الوطني الفلسطيني على مدى نصف القرن الماضي، فإلى جانب هذه الشواهد كلها تبرز حالة المقاومة العراقية نفسها التي خرجت من القمقم الضيق الذي حبست بداخله لسنوات طويلة، وانفجرت في مواجهة قوات الاحتلال حين شعر الشعب أنه هو صاحب الحق والواجب في الدفاع عن حرية الوطن وكرامته. وبالعودة مرة أخرى إلى "مشروع النهضة" الذي شكل محور اهتمام هذا الملف، فلعل النتيجة الأساسية التي يمكن الخروج بها مما تقدم عرضه في الفقرات السابقة هي أن مفتاح الخروج بالمشروع النهضوي من المأزق الذي وصلت إليه التجربة السابقة (بمرحلتيها) يكمن في كسر حالة الاحتكار التي فرضت على الاهتمام بالشأن العام طوال المراحل الماضية وفتح أبواب المشاركة الواسعة لمختلف فئات المجتمع ومؤسساته الأهلية والمدنية، وتمكينها من المساهمة في صياغة صورة المستقبل الذي ما تزال أبوابه في المنطقة مشرعة حتى الآن على جميع الاحتمالات.
#عماد_هرملاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثلاث مفارقات على هامش مشروع الشرق الأوسط الكبير
المزيد.....
-
-كنا نعتمد فلسفة القوة-.. وزير خارجية العراق يقارن توجه البل
...
-
-كنا على استعداد لتنفيذ ضربة نووية-، ضابط من القوات النووية
...
-
حادث مروّع في ليتوانيا.. طائرة تصطدم بمنزل وتؤدي إلى مقتل شخ
...
-
فيتامين مهم يساعد في تخفيف أعراض الانسداد الرئوي المزمن
-
منظمة دنماركية تحذر: الذخائر غير المنفجرة ستهدد سكان غزة حتى
...
-
دفنا تحت الركام.. لحظات مروعة لانهيار مقلع رخام في تركيا (في
...
-
-إكسير ذهبي- لمحاربة ارتفاع الكوليسترول وأمراض القلب
-
روبوت بري روسي ينجح في تدمير موقع أوكراني (فيديو)
-
علامات تحذيرية على قدميك قد تكشف مشاكل صحية غير مرئية
-
-بلومبرغ- تكشف فحوى العقوبات الأوروبية الجديدة ضد روسيا
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|