كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 806 - 2004 / 4 / 16 - 08:16
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
منذ عقود والعراق يعاني من كوارث متلاحقة تسببت في موت أكثر من مليوني إنسان وجرح مئات الآلاف, إضافة إلى وقوع الخراب الاقتصادي والتدهور المعيشي والمجاعات والتلوث البيئي والتشوه النفسي والقيمي للسكان والتراجع الحضاري المريع. وكانت أبرز تلك الكوارث والفواجع وصول حزب البعث –جناح عفلق- إلى السلطة والسياسات التي مارسها خلال 35 عاماً على الاصعة الداخلية والعربية والإقليمية والدولية. وليس هناك من هم أدرى بكوارث نظام البعث بقيادة صدام حسين مثل الشعب العراقي الذي عانى مباشرة من دكتاتورية أحمد حسن البكر وصدام حسين والحزب الحاكم وإرهاب وقمع النظام وجلاوزته. ويصعب حقاً تسجيل تلك المعانة الطويلة والمريرة في مقالات أو روايات وقصص وشعر أو رسوم تشكيلية وموسيقى وغناء أو مسرحيات أو حتى تصويرها في أفلام سينمائية. وكانت الكارثة الصدامية عامة وشاملة, فمن لم تقتله أو تشوهه جسدياً شوهته نفسياً وعصبياً وقيمياً ودفعت به لأن يغوص أما في أغوار مظلمة أو في الرذيلة بمختلف صورها أو في ممارسة العنف والرغبة في الانتقام أو في العزلة عن الناس والغوص في الفردية, وقلة أولئك الذين حافظوا على توازنهم ومارسوا النضال رغم كل الصعوبات والمخاطر. إنها الصورة المأساوية التي يعاني منها الشعب العراقي, رغم بعض الإشراقات القليلة, إذ لم تعد هناك ثقة حقيقية بالأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية إلا ما ندر, كما أن الخشية والخوف من المستقبل والرغبة في فرض حق الأفراد عنوة ودون العودة إلى المحاكم أصبحت ظاهرة تنبئ بمخاطر كبيرة على المجتمع. فالتركة ثقيلة وما نعانيه اليوم من عواقبها هي في بداياتها الحزينة.
وما أن تخلصنا من كارثة الدكتاتورية المقيتة عن طريق غير اعتيادي, عن طريق الحرب الخارجية ومن دولة عظمى تريد أصلاً فرض هيمنتها على العالم, إذ وصل الأمر بالشعب وقواه السياسية بأنها لم تعد مقتنعة بقدرتها على التخلص منها فتوسلت بتلك الدولة العظمى التي كانت تنوي خوض الحرب في كل الأحوال, حتى بدأت كارثة الاحتلال بالطريقة التي خططت لها إدارة بوش. فلم تكن استباحة العراق بعد وقوع الاحتلال سوى البداية الفعلية لاتخاذ قرار فرض الاحتلال لحماية العراقيات والعراقيين من النهب والسلب والقتل ...الخو الذي كان بالإمكان تفاديه طبعاً. وما أن فرض الاحتلال حتى رفضت الإدارة الأمريكية, أو حتى قبل ذاك, تسليم السلطة للقوى التي عارضت النظام وناضلت لإسقاطه. وكان قرار عدم تسليم السيلطة قد اتخذ سلفاً من جانب الإدارة الأمريكية, بل إدارة شؤون البلاد مباشرة عبر الحكام المدنيين والعسكريين الأمريكيين, وكانت بداية سيئة لإدارة شؤون العراق وخلق فراغ حكومي واضح وخطير. ومعها بدأت ماساة العراقيين مجدداً, ولكن تحت سيطرة الاحتلال. وأصبح الإرهاب يومياً, إذ بدلاً من أن تهتم سلطة الاحتلال باستعادة الأمن وإعادة بناء العراق, بدأت بتدبير أمور فرض هيمنتها الاقتصادية على النفط والموراد الطبيعية الأخرى في البلاد وعلى الاقتصاد الوطني وفرض الخصخصة بالصورة التي كانت تسعى إليها نخبة المحافظين اللبراليين الجدد في الإدارة الأمريكية الجديدة وسلطة الاحتلال الممثلة لها بشخص بريمر المحافظ واللبرالي الجديد. وشكل مجلس الحكم الانتقالي بطريقة اثارت الكثير من الغبار حول مهماته ودوره وعلاقته بالإدارة الأمريكية مما فسح في المجال للكثير من القال والقيل والإساءة إلى وجوه لعبت دوراً نضالياً مشرفاً طيلة عقود, بعد أن لعبت دوراً في دمجهم مع عناصر تابعة كلية للإدارة الأمريكية وليس من هم لها غير التاييد لما تقرره الإدارة الأمريكية والرغبة في استمرار هذه القوات إلى أجل غير مسمى, وبالتالي شوهت سمعة المجلس حتى قبل أن يبدأ عمله وسحبت البساط من تحت أقدامه بفرض حق الفيتو على قراراته وفرض الرقابة الكاملة على الميزانية التي يمكن أن تتحقق له. ثم بدأت عملية تعيين الوزراء من الأقارب والأصدقاء وأعضاء الأحزاب, وبدأ البعض منهم يقرب المقربين منه إلى مواقع المسؤولية, وهكذا ارتفع صوت الاحتجاج الشعبي والرفض لما يجري, خاصة وأن الإدارة الأمريكية اعتمدت مبدأ الطائفية المقيت في توزيع المراكز والمناصب والوظائف ابتداً من مجلس الحكم ونزولاً إلى المدراء العامين والمدراء ...الخ. وكان هذا الموقف من أسوأ الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة بعد دخولها العراق إضافته إلى عملية منح الرعاع والغوغاء والمجرمين والإرهابيين والمخربين الحق غير المعلن باستباحة العراق وترك الحدود مفتوحة على مصراعيها لدخول الإرهابيين من قوى الإسلام السياسي المتطرفة من مختلف القوميات, وبشكل خاصة من القوميين والبعثيين والإسلاميين العرب من أتباع أو مؤيدي النظام المخلوع.
وبدأت في ضوء ذلك الكارثة الجديدة كارثة التطرف السياسي في أوساط معينة من أتباع المذهب السني الوافدين منهم من الخارج أو الموجودين في الداخل, وكذلك من أتباع المذهب الشيعي وخاصة جماعة مقتدى الصدر والفضلاء. وكانت المصيبة أكبر. إذ أن هؤلاء بدأوا باستخدام نقاط الضعف في الإدارة العراقية وفراغ السلطة وعجز مجلس الحكم الانتقالي عن إداء دوره المعقول في الحكم بسبب دور الإدارة الأمريكية المهيمن والرافض لاستقلالية نسبية في نشاط المجلس. وعجز المستشارون العراقيون الذين قدموا مع القوات الأمريكية إلى بغداد على تحمل سطوة وهيمنة سلطة الاحتلال المدنية والعسكرية وتهميش دورهم وتحويلهم إلى مترجمين او منفذين لإرادة المحتل, فمنهم من استقال ومنهم من ارتضى لنفسه الوضع القائم, والشعب أدرى بأسباب قبولهم البقاء كمستشارين. وكارثة التطرف التي تتجلى في المجموعات الإسلامية والبعثية في محافظة الأنبار, حيث أصبحت مرتعاً للمتطرفين من جماعة أسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي وفدائيي صدام حسين والأمن الداخلي وبعض مراتب الجيش والحرس الجمهوري, كما اصبحت بعض مناطق بغداد وبعض مدن الوسط والجنوب مرتعاً لنشاط المتطرفين من أتباع مقتدى الصدر والفضلاء بعيداً حتى عن القبول بسماع صوت العقل لدى السيد علي السيستاني ومرجعيته في الحوزة العلمية في النجف. وشكل مقتدى الصدر جيش المهدي الذي يريد به فرض هيمنته على السلطة وهو المصاب بجنونها وجنون العظمة والنرجسية الخانقة.
إن الكارثة الجديدة لخانقة حقاً بسبب كونها استطاعت أن تجر وراؤها الكثير من العراقيات والعراقيين الذين لا يميلون عموماً إلى التطرف والتهديد بالقتل. كما حاول إشراك العشائر العراقية في عملية التمرد التي أعلنها في العراق وهيمن على مدينتي النجف وكربلاء وفرض إدراته عليها وعلى كل القوى الإسلامية الأخرى المختلفة معه. وهو بهذا يبرهن عن نواياه ومواقفه عموماً في حالة وصوله إلى السلطة والعياذ بالله.
إن العراق المبتلى حتى الآن بالكوارث المرعبة, وآخرها كارثة التطرف والإرهاب باسم الإسلام, سواء من جماعات من أتباع المذهب السني أو المذهب الشيعي, لا يمكن أن يعيش بخير ويشفى من علله ويعيد تضميد جراحه بهؤلاء المتطرفين, بل لا بد من اعتماد مبدأ فصل الدين عن الدولة, وهي الخبرة الإضافية التي أضافتها إلى خبرتنا السابقة بدمج الدين بالدولة والسياسة, واعتماد المجتمع المدني العلماني بتفاصيله الأساسية, وخاصة مبدأ سيادة الحرية والديمقراطية ومبادء حقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية, مبدأ سيادة الحياة الدستورية والنيابية النزيهة والتداول الديمقراطي للسلطة والتعددية الفكرية والسياسية والابتعاد عن العنصرية والشوفينية والطائفية ومكافحة الفساد الوظيفي المتفشي على مختلف المستويات حتى اليوم, بل كما يبدو قد اشتد في الآونة الأخيرة وأحرق الأخضر بسعر اليابس وعم البلاد. ولا شك في أن الكارثة ستبقى مستمرة إن استمرت الأحزاب السياسية العراقية في عملها على الطريقة الراهنة حيث تقبل في صفوفها كل من هب ودب وحيث لا تسعى إلى تطوير العمل المشترك في ما بينها والاتفاق على قواسم مشتركة ثم العمل الجاد في ضوئها, أو رفض من يمارس الرشوة والفساد الوظيفي وهو في صفوفها أو يعتمد على أبنائه وأخوته وأقاربه في التوظيف ومنح العقود في مختلف الوزارات بحث لم يعد ممكناً لإنسان مستقل الحصول على وظيفة دون التوسط عبر آخرين. فهل هذا هو العراق الذي كانت تسعى إليه قوى المعارضة العراقية الراكنة في مجلس الحكم الانتقالي والوزراء؟ إنها لمن دواعي الحزن أن نقول بأن هذه الظاهرة لم تترك أحداً في العراق إلا ومسته بشكل ما, فهل سنقبل بها أم نرفضها وكيف نرفضها؟ هذا ما ينبغي التفكير به الآن وفي المستقبل.
من المفيد أن أشير هنا إلى أن قوى اليسار الديمقراطي العراقي, التي تجاوزت ورفضت مقترحاتي الأولى بشأن وحدة أو تحالف اليسار الديمقراطي العراق, تجد نفسها اليوم في وضع غير مناسب ومقلق لها وللجميع. إنها كانت تتصور بأن مقترحاتي جاءت مبكرة وسابقة لأوانها, وها نحن نقف اليوم على عتبة معقدة وصعبة. فلو كنا قد بدأنا يوم طرحت المقترح لكنا قد قطعنا الآن شوطاً جيداً, في حين نحن الآن ما نزال نفكر بمدى صوا ب الفكرة أصلاً. فهل يرحم التاريخ من يأتيه متأخراً رغم التنبيهات والتحذيرات, أم بدأنا نغرق من جديد في عبادة الفرد وإبراز شخوصنا كقيادات تاريخية جديدة. كم كنت أتمنى على صحفيين مارسوا المهنة طويلاً أن يتجنبوا الانزلاق في دوامة خلق عبادة الفرد من جديد ونحن في أمس الحاجة إلى الالتزام بالديمقراطية والنقد والنقد الذاتي والارتقاء إلى مستوى المشاركة الفعالة في رسم السياسات وليس في قبول ما يرد من أعلى أو السكوت عن أولئك الذين نتحالف وأياهم على الطريقة التي تم العمل بها طويلاً.
كم أتمنى أن يعود الجميع إلى أرضية الواقع ويبتعدوا عن كل ما سبق وأدين من ممارسات لا تمت إلى الديمقراطية بصلة, فدروس الماضي البعيد والقريب ما تزال حية ويفترض أن نستفيد منها وكلنا زائلون ولا يبقى إلا استمراية الشعب في الحياة وليس كأفراد, فهل نعي هذه الحقيقة ونعود إلى التواضع الذي يفترض أن نتسم به قبل أن نطلق على أنفسنا قادة ثوار وفطاحل ليس من بديل بين الناس عنا, وقبل أن نسمح لآخرين بمحاولة إبرازنا بهذه الطريقة الفجة.
أملي أن يعي من أقصدهم ما أطرحه في هذه المقالة وليس هدفي الإساءة لهم, بل تنبيههم إلى المزالق التي يمكن أن ينحدر الإنسان إليها إن لم ينتبه إلى نفسه وإلى من يريد أيقاعه في حبائل عبادة الفرد أو جر الناس إلى هذا الموقع.
برلين في 25/04/ 2004
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟