|
العمل مفتاح الأمل- رابعاً وأخيراً
رياض الحبيّب
الحوار المتمدن-العدد: 2634 - 2009 / 5 / 2 - 10:05
المحور:
ملف 1 ايار 2009 - اثار وانعكاس الازمة الاقتصادية العالمية على الطبقة العاملة والفئات الفقيرة وسبل مواجهتها؟
لم تكن قبرص الأولى في جدول زياراتي إلى أوروبا بل اليونان- ولا سيّما أثينا وكورنثوس وإيگومنيتسا* ولم يكن هدفي السياحة في قبرص بل العمل وإنْ دلّ شكل الرّحلة على أنها سياحيّة. ذلك بعد حصولي على إقامة سنويّة في لبنان- بحجّة الدراسة الجامعية فاٌنطلقت في بداية الصّيف بباخرة سياحيّة من مرفأ جونيه إلى مرفأ ليماسول وهي أكبر المدن بعد العاصمة نيقوسيا- المقسّمة بسبب الغزو التركي لنصف الجزيرة الشمالي. وقد ساعد دخولي اليونان وخروجي بدون مخالفات ولا تجاوزات في طبع التأشيرة القبرصيّة في المرفأ- على رغم قيام أحد المقيمين العرب هناك بمحاولة لمنع طبع التأشيرة المذكورة بعد وصول الباخرة إلى المرفأ. فقد تحدّث باليونانيّة إلى الموظف المسؤول يُذكّره بأنيّ من العراق وإنّ العراق في حصار وهذا [أي كاتب المقالة] قادمٌ من أجل طلب اللجوء، لم يخطر في بال الشاب العربي (سامحه الله) بأني ربّما أعرف اليونانيّة. كانت فعْلته بسبب اختلافي معه في الباخرة على موضوع ما في نقاش عابر. لكنّ الموظف المعنيّ قد اكتفى برؤية أيقونة صغيرة للسيّدة العذراء حاملة يسوع الطفل في محفظتي التي تحوي وثيقة السفر. فردّ على الشاب ما معناه: إنّ [هذا] غير مُخالف ووثيقة سفره سليمة. كان الشاب المذكور مجرّد أنموذج بسيط لبعض العرب الذي يحملون موروثات غير متمدّنة من بلدانهم إلى بلاد الغرب.
منذ اليوم الأول لوصولي قمت بشراء موبايل- الهاتف النقّال وذهبت إلى أحد المطاعم التي تقدم مأكولات عربية وكان صاحب المطعم كريماً وقد دلّني على ربّ عمل قبرصيّ يبحث عن عامل بأجرة يوميّة، لم أسال عن الأجرة بل ودّعت الرجل الكريم وذهبت مع القبرصي إلى محل العمل. كانت عنده شاحنة تحوي بضعة أطنان من السّكّر، يزن الكيس الواحد 490 نيوتن (أي أنّ الكتلة 50 كغم) والمطلوب سحب الأكياس وتنزيلها إلى الأرض بطريقة مرتبة- بمساعدة عامل آخر. كانت درجة الحرارة آنذاك مرتفعة- وفق مقياس سيليزيوس- وكنت أحمّم جسمي نصف العاري بماء حنفيّة جنينة قريبة من ساحة عمليّة التنزيل، كلّما نزّلتُ خمسة أكياس، إلى أن حانت فترة الإستراحة فانتهزتها لأسأل ربّ العمل عن المشكلة القبرصيّة بينما نحن نتناول الطعام. حدّثني قائلاً: كان النصف الشماليّ المُحتلّ هو الأغنى قبل الغزو حتى أصابه فقر مدقع بعد مضيّ زمن قصير نسبيّاً على الغزو، في وقت لم يكنْ عندنا (أي في النصف الجنوبي) أكثر من البحر والشمس! ومن جهة أخرى لم تعترف باستقلال النصف المذكور سوى تركيا التي احتلّته، علماً أن الشعب هناك يحنّ لحكومة القبارصة الموحدة ما قبل الغزو إذ لم تكن في عهدها أية تفرقة ما بين القبارصة ولا تزال طبعات الجنيه القبرصي مكتوبة بثلاث لغات: اليونانية والتركية والإنكليزية [وهذا كلام صحيح مما لاحظت شخصيّاً، علماً أنّ الجنيه القبرصي في زمن دخولي إلى قبرص عادَلَ حوالي دولارين أمريكيّين ولم ترتفع قيمته أزيد] ولا يزال أشخاص من هناك يطلبون إلينا إصدار وثائق سفر لهم بعدما ضاقت بهم سبل العيش وكنّا نلبّي طلبات الذين لا توجد لدينا في ملفّاتهم الشخصية علامات استفهام. ثمّ ختم حديثه قائلاً: إن في المنطقة مزايدات سياسية ولكنّ غالبيّة عناصر الجيش التركي كلاب مسعورة، كان هو يتحدّث وأنا آكل فتركته ليأكل كي أردّ على ما تفضّل به ولكنّ فترة الإستراحة أوشكت على الإنتهاء، إلّا أنّي شهدت له بأنّ الكلام صحيح- وفق معلوماتي المتواضعة فلم أشأ مقاطعة حديثه لأنّ تعليقي لن يُضيف لمعلوماته شيئاً حول الغزو التركي لدول الجوار وما ارتكب الأجدادُ من جرائم ضدّ الإنسانيّة وهم العثمانيّّون الأشرار.
لقد انتهى ذلك اليوم على خير ولكنّ ظهري- وسائر عضلات الجسم- في اليوم التالي كان متصلّباً، قضيت مدّة أسبوع في سُبات من سبات أهل الكهف ولم أكن أسمع نباح كلب في محيط مسكني لأفيق، كان تحت الطبّاخ الذي في حجرتي قطيع من الصراصر مختلفة الأحجام، تنشط ليلاً فتخرج لكي (تسلّم) على بعضها بعضاً ثمّ تختبئ وهكذا دواليك. لم تكُ عندي- في حال التعرّض لغزو مفاجئ من الذباب على طعامي المكشوف- أيّة وسيلة لمقاومة كبير الحجم منه نسبيّاً سوى الحذاء الذي قياسه 44 وهو قياس حذاء المُنْتَظَر حامل فلسفة الأحذية التي ظهرت أولى ملامحها عقب زيارة الرئيس الأمريكي السابق إلى العراق. وبالمناسبة كان معمل التصنيع الرئيسي للحذاء المذكور في تركيا، حتى باع صاحب المعمل من مثله أزواجاً كثيرة لمسلمين في الشرق والغرب، إنها لم تكن مجرّد صفقات تجاريّة سهلة الإستيراد والتصدير، بل فلسفة نالت استحساناً عند سيّئي الأخلاق ومُنحَطّي الضمير.
كانت فرصة إيجاد العمل وتالياً الإقامة محصورة بأسبوعين يمكن طلب التمديد بضمان وجود مصروف- هذا الكلام يسبق انضمام قبرص اليونانيّة إلى الإتحاد الأوروبي والذي تسعى الحكومة التركية في سبيل الإنضمام إليه وقد لبّت شروطاً عدّة ومنها إلغاء عقوبة الإعدام والإعتراف بحقوق الأقليّات ولا سيما الأكراد، أمّا الأرمن فلا يزالون يطالبون تركيا بالإعتراف بالمجازر الوحشية ضدهم إبّان الحرب العالمية الأولى وبتقديم الإعتذار، إذ بلغ عدد ضحايا الأرمن مليوناً ونصف المليون من الأبرياء وهناك ضحايا كثر من السّريان أيضاً خلال المجزرة المذكورة ومنهم جَدّي الذي نجا من دون إخوته هارباً وأهل بيته صوب بغداد. ولكنّ تركيا ليست متزمتة فحسب بل تدين أية محاولة لإثارة موضوع تلك المجازر! وربما تفلح في الإنضمام للإتحاد المذكور بفضل لغة المصالح الإقليمية والسياسة الدوليّة الماكرة.
كدت أحزم أمتعتي البسيطة لترك قبرص ولكني فوجئتُ في اليوم ما قبل الأخير من مدة الإقامة بقبول مؤهّلاتي في إحدى المؤسسات غير القبرصية والتي تتعامل باللغة الإنگليزية حتى مع القبارصة أنفسهم. فعملت بصفة موظف أرشيف مدّة عامَين ثمّ حصلتُ على تكريم استثنائي- وهو يجري سنويّاً بالقرعة والذي كانت جائزته هذه المرّة تذكرة سفرة إلى اليونان ذهاباً وإياباً ومن اليونان غادرت إلى دول أوروبية عدّة وأرسلت كتاب استقالتي إلى المؤسسة القبرصيّة وقد حصلت في وقت قصير على جميع مستحَقّاتي.
وانطلقتُ بعدئذ برحلات (إبن ريّوضة) القصيرة منها والطويلة- إلى مدن كانت لها ملامح ضبابيّة في أحلامي وإلى جزر ينبت في أعماق محيطاتها ذلك العشب السّحري الذي كان گلگامش يستميت ليحظى به والذي كان من مصادر الوحي والإلهام في قصائدي وسائر مقالاتي التي قمت بإحراقها جميعاً في قبرص ولم أبقِ على واحدة منها في تلك السّاعة المَرثيّة! إلّا أنّ كفاحي كان مزيجاً ما بين عنصر البحث عند گلگامش وبين رؤيا السعادة عند كامو في محاولات سيزيف العبثيّة. ولا أزال أعتبر نفسي عاملاً في الأرض وفلّاحاً فأينما سنحتْ فرصة عمل في الأرض ذهبت تاركاً ورائي مخلّفات البطالة والكسل وسائر أشكال المعاناة المكتسبة منها والوراثيّة.
يحيا العمل وفي مناسبة يوم العمّال العالمي أغتنم الفرصة لأتقدّم بأطيب التهانئ لعُمّال العالم أجمع رجالاً ونساءاً وأتمنّى لهم عيداً سعيداً مكلّلاً بالنجاح في جميع الأصعدة ويا أحبّائي من العمّال وعشّاق الحياة والجَمال اٌتحدوا في سبيل ضمان حقوقكم كاملة غير منقوصة ومن أجْل تحقيق طموحاتكم المشروعة فأنتم عُمّال الحياة ورافد حاضرها وصُنّاع مستقبلها- آمين
..............
إيگومنيتسا Igoumenitsa, Greek: Ηγουμενίτσα مدينة يونانية تقع في شمال غربيّ البلاد على ساحل البحر الآيوني- المتصل من الجنوب بالبحر الأدرياتيكي وتبعد مسافة 545 كم عن أثينا
#رياض_الحبيّب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العمل مفتاح الأمل- ثالثاً
-
العمل مفتاح الأمل- ثانياً
-
العمل مفتاح الأمل- أوّلاً
-
زيدوا من مواقفكم المُحَسّنة بدلاً من القرصنة
-
حرية التعليق ومتنفس التصويت
-
من وحي المقالة السابعة والسبعين في شأن عصبة مالك الحزين
-
الجريء
-
القضية الفلسطينية ممّا في ذاكرتي العراقية
-
المنهل الطَّيِّب في موجز تعليقات الحبيِّب- ثالثاً
-
المنهل الطَّيِّب في موجز تعليقات الحبيِّب- ثانياً
-
الرِّدَّة- رَدّاً على البُرْدَة
-
مقاطع من عودة الحذر
-
عودة الحذر
-
ذكر واحد يساوي أنثى واحدة فقط لا غير
-
رفع الحصانة عن إبليس في قضية التضليل والتدليس
-
الرِّحْلة المُرَقَّمَة 622 إلى القمَر
-
الكشف الدقيق- ردّاً على تعليق
-
إنصاف النصف الآخر
-
المنهل الطَّيِّب في موجز تعليقات الحبيِّب
-
صوت مع العلمنة
المزيد.....
-
المدافن الجماعية في سوريا ودور -حفار القبور-.. آخر التطورات
...
-
أكبر خطر يهدد سوريا بعد سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل للحكم.
...
-
كوريا الجنوبية.. الرئيس يون يرفض حضور التحقيق في قضية -الأحك
...
-
الدفاع المدني بغزة: مقتل شخص وإصابة 5 بقصف إسرائيلي على منطق
...
-
فلسطينيون يقاضون بلينكن والخارجية الأمريكية لدعمهم الجيش الإ
...
-
نصائح طبية لعلاج فطريات الأظافر بطرق منزلية بسيطة
-
عاش قبل عصر الديناصورات.. العثور على حفرية لأقدم كائن ثديي ع
...
-
كيف تميز بين الأسباب المختلفة لالتهاب الحلق؟
-
آبل تطور حواسب وهواتف قابلة للطي
-
العلماء الروس يطورون نظاما لمراقبة النفايات الفضائية الدقيقة
...
المزيد.....
|