عبدالله تركماني
الحوار المتمدن-العدد: 2627 - 2009 / 4 / 25 - 09:39
المحور:
المجتمع المدني
يعرف المجتمع المدني بأنه مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف. وهكذا يستبعد من المفهوم المؤسسات الاجتماعية الأولية كالأسرة والقبيلة والعشيرة والطائفة الإثنية أو المذهبية أو الدينية، كما يستبعد منه المؤسسات السياسية والحكومية، ويبقى بذلك في نطاق المجتمع المدني المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي يقوم نشاطها على العمل التطوعي.
لقد شغل مفهوم المجتمع المدني حيزا واسعا من الخطاب العربي في العقدين الأخيرين، ولا يزال يشكل إحدى أهم المسائل التي تستحوذ على الاهتمامات الأساسية لهذا الخطاب، بحيث يمكن اعتباره جزءا أساسيا من بنيته، جنبا إلى جنب مع مسائل الديموقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والموقف من الآخر الغربي.
لكنّ اللافت هو التباس مفهوم المجتمع المدني وتناقضه واختلاطه في الفكر العربي الراهن إلى درجة يضيع معها جوهره ومضمونه والأسس التي يقوم عليها، مع تغييب المرجعية التي تسنده ويستمد منها وجوده ومكوناته وقيمه. ويرجع أصل هذا الاختلاط والالتباس إلى أنه لم يتم التعامل معه بوصفه مفهوما حديثا نشأ وتكوّن مع ثورة الحداثة العلمية والتقنية والإنتاجية في الغرب، مترافقة مع تحوّل غير مسبوق في السياسة والثقافة والفكر والاجتماع، ما أسس لنشوء مفهوم الفرد والحرية الفردية والعلاقات المدنية المختلفة، بما يشكل اختلافا جذريا عن تلك القائمة في مجتمع القبيلة والعشيرة والطائفة، أو ما يمكن تسميته بـ " المجتمع الأهلي " الذي تحدده الروابط الدموية القرابية أو المعتقدية الإيمانية.
عن نشوء وتطور المجتمع المدني في العالم العربي
يذهب بعض الباحثين إلى القول بأنّ بوادر المجتمع المدني وأشكاله الأولى نشأت في البلدان العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث تشكلت النقابات العمالية والمهنية في بداية القرن العشرين، وكذلك الجمعيات التعاونية والأحزاب السياسية وسواها من المنظمات التي تدخل في إطار تعريف المجتمع المدني.
وفي الواقع، يكاد المجتمع المدني الحديث في المجتمعات العربية يدين في انتشاره النسبي لظاهرة العولمة، من حيث ما تنطوي عليه من انتشار للأفكار والمكتسبات عبر الحدود أو من حيث ما ترتبط به من تطور في تقنية الاتصالات الجديدة. فهي التي قدمت له الإطار النظري والوسائل التي مكنته من الحصول على حد أدنى من حيز الاستقلال عن النظم القائمة.
إنّ تطور المجتمع المدني في العالم العربي، منذ العقد الأخير من القرن الماضي، قد تأثر بظواهر المناخ السياسي الدولي والإقليمي، وأبرزها:
(1) - شهدت تسعينيات القرن العشرين تعديلات في القوانين المنظمة لعمل المنظمات غير الحكومية في العديد من الأقطار العربية, ومن الملاحظ أنّ المنظمات نفسها شاركت - بدرجة أو بأخرى - في مشروعات هذه القوانين، كما أنّ العديد من هذه المشروعات في عدة دول عربية تعرضت للانتقادات.
(2) - يلاحظ أنّ نمو هذه المنظمات في الدول العربية ارتبط بالاتجاه نحو مزيد من حرية التعبير عن الرأي الذي شهدته بعض هذه الدول, وأبرز نماذج ذلك ما حدث في البحرين والمغرب والأردن ومصر وموريتانيا واليمن.
(3) - النمو والتطور في المنظمات غير الحكومية عكس، إلى حد كبير، تركيز الخطاب الرسمي في بعض الدول العربية على ضرورة تعزيز دور هذه المنظمات وحتمية علاقة الشراكة بين هذه المنظمات والحكومات.
(4) – تداعيات أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، حيث أنّ أكبر ضربة تلقتها فكرة كونية حقوق الإنسان ووحدة مصيره هي في التطورات السلبية لهذه الأحداث والتي انطوت على طعن مباشر وصريح في مبدأ العالمية ذاته، وخصوصا أنّ أداء المنظمات العالمية لم تكن على المستوى المطلوب، واقتصر في جزء منه على المطالبة بتحسين الإجراءات في مسألة محاربة الإرهاب.
واقع ومعوّقات عمل منظمات المجتمع المدني
ازداد عدد الجمعيات غير الحكومية في الدول العربية، خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، خصوصا في: المغرب، تونس، مصر، الأردن، وكذلك لبنان، ومناطق سلطة الحكم الذاتي في فلسطين المحتلة. ويعتبر تكاثر المنظمات العربية غير الحكومية (وصل عددها في العام 2004 إلي حوالي230 ألف منظمة أهلية، حسب التقرير الثالث للشبكة العربية للمنظمات الأهلية) جزءا من ظاهرة دولية برزت بعد نهاية الحرب الباردة، حيث ترسخت واتسعت القدرات التنظيمية والمادية لهذه المنظمات. وهذه المنظمات على كثرتها وتنوعها ليست على درجة واحدة من التعامل مع سلطات بلدانها، وذلك تبعا لمدى قرب هذه السلطات أو بعدها عن الديموقراطية. كما أنها ليست على درجة واحدة في موقفها من التمويل الأجنبي لمنظماتها.
وفي ضوء الاختلاف والتمييز بين المجتمعين " المدني " و " الأهلي " يمكن تفسير الإرباكات والمعوقات التي يواجهها المجتمع المدني في العالم العربي: أولها، التركيب القبلي العشائري الطائفي للمجتمعات العربية، حيث الملاحظ هشاشة الأحزاب والنقابات والجمعيات، وكونها في الغالب واجهات لعصبويات ما قبل مدنية وما قبل حديثة على رغم تسمياتها المدنية والعصرية. وثانيها، اكتساح الدولة التسلطية مؤسسات المجتمع باحتكارها مصادر القوة والسلطة والثروة، وبإحلالها السياسة محل الثقافة والاقتصاد والممارسة الاجتماعية. وثالثها، يكمن في المفهوم الإسلامي للمجتمع المدني، حيث دار نقاش حول مدى ملاءمة مفهوم المجتمع المدني مع مضامين ومركبات الحضارة العربية - الإسلامية، إذ أنّ تجليات المجتمع المدني – كما يعتقد بعض مثقفي الإسلام السياسي - وجدت في المجتمع الإسلامي في مرحلة تاريخية سبقت ظهور الفكرة في الغرب، ففي مراحل مختلفة من التاريخ الإسلامي نهضت كيانات ومؤسسات إسلامية عدة بوظائف تتماثل مع تلك القائمة في المجتمع المدني، ومنها جماعات القضاة والعلماء ورؤساء الطوائف وشيوخ الطرق، إلى جانب دور الوقف الإسلامي، وكذلك دور المسجد الذي يعتبر مركزا للإشعاع الثقافي والاجتماعي.
وهكذا، تظل إشكالية عدم الاتفاق علي مفهوم المجتمع المدني, تمثل مشكلة في التوصل إلى مقارنات دقيقة للوضع الراهن للمنظمات غير الحكومية العربية.
ولعل من أهم الإشكاليات الفكرية:
(1) - الدور الذي يمكن أن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني، فإذا كان هدف الأحزاب السياسية الوصول إلى السلطة، فإنّ مؤسسات المجتمع المدني لها آليات وأساليب أخرى، وإن اشتركت أحيانا في بعض الأهداف.
(2) - ضعف الثقافة الديموقراطية، وكذلك النقص الشديد في الوعي الحقوقي.
(3) - معاناة مؤسسات المجتمع المدني العربي من غياب المبادرة أو ضعفها على المستوى الفكري والعملي، وعدم التوجه إلى دراسة الظواهر الجديدة.
(4) - مبدأ التدخل لأغراض إنسانية، فهناك من يرفضه وهناك من يؤيده ويدعو إليه، ولكل حججه ومنطلقاته وأهدافه. وفي الواقع، أصبح مبدأ التدخل الإنساني، بما لا ينطوي على تأييد الوسائل العسكرية والحروب الاستعمارية، مبدأ آمرا وملزما في القانون الدولي، وهذا يعتبر تطورا في فقه " الديبلوماسية الوقائية " التي تبلورت منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي.
(5) - انشغال مؤسسات المجتمع المدني، وخصوصا منظمات حقوق الإنسان، بالحقوق المدنية والسياسية على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى درجة أنّ الأخيرة غالبا ما تهمل أو تُنسى.
(6) - توجه مؤسسات المجتمع المدني إلى الاحتجاجات والنقد والأهداف المطلبية، وإن كانت هذه مسألة مهمة من خلال الرقابة والرصد والتعبئة، إلا أنها لا يمكن أن تساهم في وضع تصورات حول التشريعات الوطنية، سواء بمواءمتها مع الاتفاقات والمعاهدات الدولية وتطور الفقه الدولي على هذا الصعيد، أو تعديلها أو اقتراح قوانين وتشريعات جديدة بديلة منها.
(7) - هناك بعض المواقف المتناقضة من بعض القضايا الحساسة بحجة الخصوصية والشمولية، وهذه تشمل قضايا مثل المرأة والموقف من المساواة، والأقليات القومية والدينية والفئات المهمشة أو ذوي الاحتياجات الخاصة.
(8) - الارتياب من العلاقة مع الآخر، ولعل بعض الأطروحات الإلغائية لا تدرك أنّ العالم كله أصبح قرية عالمية صغيرة، وأنّ هناك قيما إنسانية مشتركة لبني البشر بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو لغتهم أو منشئهم الاجتماعي أو جنسهم.
وتكشف العديد من التقارير عن أن معوّقات عمل المنظمات غير الحكومية في الدول العربية تتشابه إلي حد كبير, مع خصوصية بعض الحالات, ومن أهم المعوقات المشتركة: النقص في الموارد المالية, ضعف الاتجاه نحو التطوع, غياب المعلومات والحاجة إلى توثيقها وصعوبة الحصول على المعلومات, مزيد من الحاجة لرفع إمكانات وقدرات الكوادر العاملة في هذه المنظمات خاصة المتطوعين, تدخل الدولة في بعض الحالات، قلة أو غياب الدراسات المتعلقة بالجمعيات وتقييم عملها وضعف التنسيق بين الجمعيات وضعف التشبيك, وضعف قدرتها على إقامة علاقات خارجية, النقص في الاتصال والإعلام, غياب الشفافية في بعض الأحيان, التسابق والتنافس على التمويل الأجنبي, إهمال الريف والتركيز على المدن.
ومن أهم معوقات التطور الذاتي، يمكن أن نذكر:
- عدم امتداد تلك المنظمات في عمق الشارع العربي، بسبب انكفاء الفرد العربي، تحت وطأة الخوف والتهديد في ظل الأنظمة الشمولية، مما دعاه إلى الانعزال، والبعد عن الشأن العام توخيا للسلامة، عدا عن انشغاله اليومي بتأمين لقمة العيش، تحت وطأة سياسات الإفقار العام، والنهب والفساد اللذين امتصا خيرات البلاد والعباد.
- افتقار مؤسسات المجتمع المدني داخلها، في كثير من الأحوال، للممارسات الديموقراطية والشفافية بين أفرادها، أو بين أعضاء الشبكات التي تحوي مؤسسات عدة، مما يقود في كثير من الحالات إلى شخصنة العمل، وشق الصفوف نتيجة لخلافات الأفراد، وذلك ناجم عن غياب تقاليد العمل الديموقراطي تحت وطأة عقود القمع، وامتداد ممارسات السلطات الحاكمة على تقاليد العمل المجتمعي والسياسي.
- حصر مطالب بعض المؤسسات المدنية المتخصصة في قضايا محددة معزولة عن النضال الديموقراطي والقضايا الوطنية، وانعدام تنسيقها مع مؤسسات المجتمع المدني الوطنية، والاتجاه بدل ذلك إلى التنسيق مع جهات خارجية، مما يضعف دورها الوطني المجتمعي على أرض الواقع.
- افتقار تلك المؤسسات للأشخاص ذوي الكفاية الذين يمكن أن يضحوا بوقتهم وعملهم ومصلحتهم الخاصة في سبيل الشأن العام، لعدم وجود تقاليد راسخة للعمل المدني وأهميته في تقرير مصير الشعوب.
ومن العوائق الأخرى التي يواجهها المجتمع المدني العربي:
(1) - انتشار البطالة والفقر، ومن جهة أخرى تشير التقديرات إلى وجود اكثر من 60 مليون عربي لا يعرفون القراءة والكتابة، مما يعيق انتشار الثقافة السياسية ومشاركة الفرد في الحياة المدنية وبناء مجتمع مدني فعال.
(2) - انهيار الطبقة الوسطى في معظم الدول العربية في العقدين الأخيرين مما أثّر سلبا على المجتمع المدني والحياة السياسية بصفة عامة، فالطبقة الوسطى هي التي تفرز المثقفين والمنظرين والنشطاء.
(3) - آليات المحاسبة والمراقبة غير قائمة في أغلب الأقطار العربية، وحتى عملية الفصل بين السلطات لا نجدها موجودة ومعمولا بها أساسا، ومن ثم فلا توجد علاقة تفويض وتمثيل ومساءلة، وفي ظل غياب المؤسسات التي تمثل الشعب وغياب النخبة المثقفة التي تعبر عن هموم الجمهور ومشاكله، وفي ظل غياب نظام إعلامي قوي وفعال يكشف التجاوزات ويراقب السلطات يبقى التحالف المالي السياسي مسيطرا على مجريات الأمور بدون مقاومة من قبل أية قوة في المجتمع، حيث أنّ هذه القوى لا توجد أساسا.
هذه الإرباكات والمعوقات هي التي وقفت ولا تزال تقف عائقا أمام نهوض المجتمع المدني في العالم العربي، حيث يواجه الجميع مأزقا حقيقيا. وما لم يجرِ تحوّل أساسي، سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وفق تصور شامل في بنية المجتمعات العربية، وعلى أساس ديموقراطي يفسح في المجال أمام قواه الحية للعمل من دون قيود وإكراهات، فإنّ هذه المجتمعات ستبقى ملغّمة بكل عوامل التفجر من الداخل، وسننتظر كثيرا قبل قيام مجتمع مدني حقيقي على الأرض العربية.
آليات تطور المنظمات غير الحكومية في العالم العربي
أدت العولمة إلى إدخال تغييرات على خريطة المجتمع المدني في العديد من الأقطار العربية، حيث نلاحظ أنّ أساس هذه الخريطة في المجتمعات العربية، حتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين، كان منظمات شعبية تعبر عن مصالح فئات اجتماعية معينة كالنقابات العمالية والمهنية والاتحادات الطلابية والمنظمات النسائية والشبابية، أو منظمات غير حكومية دفاعية، أو جمعيات أهلية خيرية وثقافية واجتماعية تقدم لأعضائها خدمات متنوعة كما تقدم خدماتها للفئات الضعيفة في المجتمع، أو أندية رياضية وثقافية واجتماعية تشبع احتياجات أعضائها لأنشطة متطورة في هذه المجالات، وكذلك الجمعيات التعاونية.
لكنّ العولمة جاءت معها بقضايا جديدة ومشاكل جديدة مثل حماية البيئة من التلوث، والفقر، والهجرة واللاجئين وضحايا العنف والسكان الأصليين والمخدرات والإرهاب وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفولة وحقوق الأقليات الدينية والعرقية. ولأنّ منطق العولمة يستبعد قيام الدولة بدور أساسي في مواجهة هذه المشكلات فإنها شجعت على قيام منظمات غير حكومية للتعامل معها، كما أنّ نشطاء المجتمع المدني سارعوا في كثير من الأقطار العربية لتكوين منظمات غير حكومية لمواجهة هذه المشكلات والتخفيف من حدتها.
لكنّ قرارات المؤتمرات الدولية العولمية جعلت أغلبية المنظمات العربية غير الحكومية تعزف عن المنهجية البنيوية الشاملة في عملها، واندفاعها نحو المنهجية الوظيفية التي تجعل المجتمع المدني في الدول العربية، إطارا خدميا، رعائيا، خيريا، ثقافويا، يطبق تلك القرارات في الإطار المحلي، ويكون مرتبطا بالهيئات الدولية الممولة والمقررة، ومجرد وسيط لها إلى المجتمع المحلي. وبقدر ما يعبر الاستغراق في المنهجية الوظيفية عن الانسجام الشكلي للمنظمات العربية غير الحكومية مع قرارات المؤتمرات الدولية، فإنه يدعم صحة الاستنتاج القائل بأنّ هذه المنظمات باتت تركز على الأنشطة ذات الاهتمام الدولي أكثر مما تهتم بالأنشطة ذات الاهتمام المحلي. وقد اتضح من تحليل بعض التقارير أنّ أولويات مجالات اهتمام المنظمات العربية تمثلت في مكافحة الفقر, والحد من البطالة, وتمكين المرأة.
أهمية دور المنظمات غير الحكومية في العالم العربي
تتحمل المنظمات غير الحكومية في الدول العربية مسؤوليات كبيرة في مجال التنمية والخدمات والعمل التطوعي ومناصرة الفئات المهمشة, وقد شهدت السنوات الأخيرة دورا متعاظما لهذه المنظمات، خاصة في ظل المتغيّرات المحلية والإقليمية والعالمية التي تمر بها المنطقة العربية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. مما يطرح السؤال الجوهري التالي: هل توجه هذه المنظمات خيري أم تنموي تمكيني؟
إنّ هذا السؤال يطرح القضية الأولى التي تواجهنا حين نطالع تقرير الشبكة العربية للمنظمات الأهلية عن مكافحة الفقر. وبداية نشير إلى أنّ التوجه الخيري هو علاقة مباشرة بين مانح ومتلقٍ وهي علاقة تستهدف مساعدة الطرف الأول للطرف الثاني, بشكل مباشر ومؤقت, لمواجهة الأعباء الاقتصادية والاجتماعية للحياة. أما التوجه التنموي فيشير في مضمونه إلي التمكين، بمعنى مساعدة الطرف الأول للطرف الثاني المتلقي لأن يزداد اعتماده على نفسه بما يؤدي إلي تحسين نوعية حياته, من خلال التعليم والتدريب والتأهيل للحصول علي فرصة عمل والارتقاء بذاته.
إنّ التقرير يؤكد أنّ كل الدول العربية محل البحث, تشهد غلبة كبيرة للتوجهات الخيرية والرعائية على نشاط المنظمات الأهلية، حيث أنّ أكثر من 55 % منها على المستوى العربي تنشط في مجال العمل الخيري (مصر 32 %, لبنان 53.3 %, سورية 80 %, الكويت 78%, السودان 70 %). كما يذهب التقرير إلى نتيجتين: أولاهما، عدم اتفاق خريطة توزيع الفقر مع خريطة التوزيع الجغرافي لمؤسسات المجتمع المدني. وثانيتهما، أنّ عمل وفعاليات مؤسسات المجتمع المدني العربي تتسم بالنخبوية، مع تسجيل ضعف ما يعرف بالمنظمات القاعدية الشعبية.
أهم الشبكات العربية غير الحكومية المشتركة
هناك اتجاه عام نحو التشبيك, ففي السودان على سبيل المثال تم تأسيس العديد من شبكات التنسيق المحلية والإقليمية والدولية منها المجلس السوداني للجمعيات الطوعية, والشبكة السودانية لمكافحة الإيدز, وشبكات المنظمات العاملة في مجال محاربة الجفاف والتصحر, وشبكة المنظمات العاملة في مجال المرأة, وتأسس معظمها في التسعينيات. وفي فلسطين أُسست أكثر من 95 مؤسسة غير حكومية في الضفة الغربية وقطاع غزة شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية, إلى جانب الاتحاد العام الفلسطيني للجمعيات الخيرية. وشهد لبنان تناميا على مستوى التعاون والمشاركة الأهلية خلال قنوات عدة منها تجمع الهيئات الأهلية التطوعية, وملتقى الهيئات الإنسانية غير الحكومية, واتحاد المعاقين, والمجلس النسائي اللبناني, وتجمع هيئات حماية الطفل والاتحاد الوطني لرعاية الطفل.
إن الخبرة العربية للشبكات - كما كشف عنها كتاب حديث صادر عن الشبكة العربية للمنظمات الأهلية في أيار/مايو 2003 - هي خبرة حديثة, وعلى الرغم من كل الإيجابيات التي تحملها فإنّ هناك تحديات كثيرة تواجه هذه الشبكات, لعل أهمها ما يتعلق بالثقافة المدنية والعمل المشترك في إطار الفريق, مع تخطي المنظور القطري الضيق وتبني المنظور العربي الواسع, ترتبط بذلك الممارسة الديمقراطية, ووضع السياسات بطريقة جماعية, بالإضافة إلي تحدي الاستدامة والديمومة في إطار أزمة التمويل الشائعة بين الجميع.
لقد شهد العام 1992 ولادة الشبكة العربية للبيئة والتنمية (رائد)، أثناء التحضير لمؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو بالبرازيل. وتصدر الشبكة التي تتخذ من القاهرة مقرا لها مجلتين الأولى باسم " منتدى البيئة "، والثانية بعنوان " التنمية البشرية المستدامة "، إلى جانب كتيبات وتقارير متعددة، حول طرق الحفاظ على مياه الشرب، ووسائل إدارة المخلفات في المنطقة العربية والمتوسطية. وتسعى الشبكة إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتي يعاني منها الإقليم العربي، مثل قضايا المياه والطاقة والزراعة والأمن الغذائي، والصحة، والأنظمة الطبيعية والتنوع البيولوجي. وذلك عبر تعزيز الجهود التي تبذلها الشبكة في مجال المشاركة الشعبية، وسيادة ثقافة الحوار وقبول الأخر، والتعاون مع ممثلي الجهات الحكومية، والقطاع الخاص.. الخ.
وكان العام 1991 قد شهد تأسيس مجموعة 95 المغاربية في الرباط، بمساهمة مشاركات من المغرب والجزائر وتونس. وذلك على خلفية استراتيجيات مؤتمر نيروبي للنهوض بالمرأة الذي انعقد في العام 1985. وقد انتظمت المجموعة كشبكة من أجل العمل والمناصرة " في مواجهة آليات التمييز ضد النساء " كونها لا تتجه مباشرة إلى " صناع القرار بل تنتج أدوات من أجل ذلك ". كما أنها لا تأتي تعويضا عن " الجمعيات المحلية في عملها الميداني، ولا تفرض عليها أية وصاية بل تدعمها ". وكانت المجموعة قد أصدرت عدة تقارير سنوية حول مظاهر العنف وانتهاك حقوق النساء في المغرب العربي، إلى جانب دليل من أجل المساواة بين الجنسين في الأسرة. لكنّ، تحديا الاستمرارية والاستقلالية عن الهيئات السياسية والحكومية هما أبرز ما يواجه عمل المجموعة، التي تتخذ من الجزائر مقرا لها.
أما الشبكة العربية لمحو الأمية وتعليم الكبار، فقد تأسست في العام 1999، بدعوة ورعاية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم " الأليكسو ". وقد شاركت في تأسيس الشبكة 69 منظمة غير حكومية وحكومية (بصفة مراقب) يمثلون 15 دولة عربية، واتخذ من القاهرة مقرا لتلك الشبكة الجديدة.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ هناك شبكات عربية محدودة تنشط في العالم العربي, لعل أهمها وأشملها الشبكة العربية للمنظمات الأهلية (مقرها القاهرة), وتضم في عضويتها نحو1200 منظمة أهلية كبري في 19 دولة عربية, واجتمعت في نيسان/أبريل 2002 في بيروت, لكي تستكمل إجراءات إشهارها وتبني النظام الأساسي وإجراء انتخابات لاختيار مجلس الأمناء.
وفي 6 كانون الثاني/يناير 2005 أعلن في القاهرة عن تأسيس المنتدى الاجتماعي العربي ليكون " إطارا لتجميع وترابط منظمات وحركات المجتمع المدني في نشاطها ضد هجمة الليبرالية الجديدة على الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعوب، وبشكل خاص أشكال عسكرة العولمة وسعيها لفرض هيمنة الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية المتحالفة مع الصهيونية العالمية على الوطن العربي، بكل ما يرتبط بسياسات الهيمنة تلك من احتلال واعتداءات إجرامية وجرائم حرب، وبشكل خاص في العراق وفلسطين، وتهديدات مباشرة أو غير مباشرة للشعوب العربية الأخرى ".
كما انعقد بالدار البيضاء بتاريخ 16-17 كانون الأول/ديسمبر 2005 المؤتمر التأسيسي لشبكة الديمقراطيين في العالم العربي، بحضور 62 معنيا بأوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان ممثلين لأربع عشر دولة عربية. وقد ناقش المشاركون برنامج عمل لدعم الديمقراطية، ودواعي إنشاء الشبكة المتمثلة في تفاقم الأزمات والممارسات الاستبدادية، وظهور مؤشرات خطيرة مثل الإقصاء والتطرف والعنف في العالم العربي، بالرغم من ظهور بعض المؤشرات الإيجابية على المستوى المحلي والدولي، مما يستدعي الحاجة لتنسيق جهود الديمقراطيين واستثمارها في إطار جامع للديمقراطيين وجميع القوى المؤمنة بالديمقراطية. واعتمد المشاركون في عملهم مرجعية العهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والتراث الإنساني، ومبادئ الإسلام ومقاصده، وما دعت إليه الأديان من قيم سامية كالتسامح والتعايش.
وقد حدد المشاركون أهداف الشبكة التي تتمثل في العمل على: نشر ثقافة الديمقراطية والحكم القائم على سيادة القانون، وتوفير الدعم والتضامن للنشطاء ودعاة الإصلاح في الوطن العربي، وتسريع وتيرة الإصلاح باتجاه التحول الديمقراطي، والتأثير في السياسة الداخلية والدولية بما يخدم الشعوب العربية ويحافظ على استقلاليتها وسيادتها، والقيام ببرامج ونشاطات ناجعة وفعالة.
حول علاقة منظمات المجتمع المدني مع سلطات بلدانها
إنّ المؤيدين لفكرة المجتمع المدني ينطلقون من أنّ التطور الديمقراطي للمجتمعات العربية وتحديثها يتطلبان قيام تنظيمات غير حكومية تمارس نشاطا يكمل دور الدولة، ويساعد على إشاعة قيم المبادرة والجماعية والاعتماد على النفس، مما يهيء فرصا أفضل لتجاوز هذه المجتمعات مرحلة الاعتماد على الدولة في كل شيء، وكذلك تصفية أوضاع اجتماعية بالية موروثة من العصور الوسطى.
لقد دار جدل كثير حول المجتمع المدني في البلدان العربية، وحول الأهمية التي يكتسبها، من جهة كونه أحد أهم روافد تعزيز وتمكين الديموقراطية، فضلا عن دوره في تفعيل الوعي بأهمية الحراك الطوعي في المجتمع. لكن المشكلة هي أنّ غالبية النخب السياسية الحاكمة في البلدان العربية تتخذ موقفا سلبيا من الدعوة إلى إحياء أو تقوية المجتمع المدني، وتتصوره مقتصرا، فقط، على جملة من المنظمات غير الحكومية التي تقف في وجه الدولة، والتي تأسست حديثا في سياق العولمة، وحددت نشاطاتها وموضوعاتها منذ لحظة التأسيس وفق أجندة خارجية، وتعتمد على تمويل دولي ودعم منظمات غير حكومية في البلدان الغربية المتقدمة.
هل يمكن تجاوز أزمة الثقة ؟
هناك أزمة ثقة عميقة ومتبادلة بين الطرفين، فأنظمة الحكم تنظر بريبة لهذه المنظمات المشاكسة التي لا تريد فقط التحرر من القيود الرسمية، وإنما تطالب أيضا بإحداث تغيير نوعي في شروط ووسائل صنع القرار. إنها تريد أن تصبح وغيرها من مكونات المجتمع المدني شريكا نديا مع الماسكين بعجلات الدولة، حيث يعتقد بعضهم بأنهم فوق المحاسبة، وأنهم الضمان الوحيد لتجنب الفوضى.
وفي المقابل يعتقد نشطاء المنظمات غير الحكومية بأنّ الحكومات تناور وليست لها نية في القيام بإصلاحات حقيقية. فالذين اجتمعوا في بيروت أو في تونس على هامش مؤتمري القمة العربية من ممثلي منظمات المجتمع المدني يعتقدون بأنّ " موقف اللامبالاة الذي اتخذته غالبية الحكومات العربية من مستخلصات تقارير التنمية الإنسانية في العالم العربي، مؤشر مهم ليس إلى عدم الرغبة في الإصلاح فحسب، بل أيضا إلى عدم الاستعداد للاعتراف بأنّ هذه المنطقة تعاني من مشكلة كبيرة ". واعتبروا أنّ " المدخل السليم للإصلاح - إذا شاءت الحكومات العربية إنقاذ المنطقة من خطر الانهيار والتحلل والفقر وتفشي الفساد السياسي والأخلاقي والمالي والإرهاب والتطرف، أو خطر تهيئة شعوبها للاستعمار بطلب الإنقاذ من الخارج - هو إطلاق الحريات وإعادة الاعتبار لمبادرات الداخل للإصلاح، والاعتذار لشهدائها وضحاياها، والشروع العملي بالإصلاح، بدلا من الحديث المناور عنه، وفي الوقت نفسه انتقاد المطالبين به في الداخل والخارج ".
وهكذا، يبدو أنّ تجسير العلاقة بين الأنظمة والمجتمعات المدنية المحلية هو خطوة ضرورية من خطوات الإصلاح المنشود. وتبدأ عملية التجسير بالاعتراف بحق هذه المجتمعات في الوجود من خلال إطلاق حرية تكوين الجمعيات والأحزاب والنقابات وتحرير وسائل الإعلام من كل أشكال الاحتكار، ثم فتح الحوار مع الممثلين الشرعيين للمجتمع المدني، وإشراكهم في إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية وصياغة السياسات الخارجية. وبذلك يقع سحب كل المسوغات التي تعتمدها الدول الغربية لاختراق المنطقة وإحكام الهيمنة عليها.
لقد شهدت السنوات الأخيرة تطويرا للشراكة وعلاقات التنسيق والتفاعل والدعم المتبادل بين كل من المنظمات غير الحكومية من جانب, والدولة والقطاع الخاص والبرلمان من جانب آخر. ومن الدول التي شهدت تفاعلا بين الدولة والمنظمات غير الحكومية نذكر: مصر والمغرب والسودان ولبنان والأردن, ومن نماذج ذلك: قيام بعض المنظمات الأهلية بتوقيع عدد من الاتفاقيات مع بعض المؤسسات الوطنية والدولية, برنامج أمير(2) في الأردن لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات للشباب, قيام وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في سورية بإيفاد عدد من العاملين بهذه المنظمات (المسيطر عليها من قبل الحزب الحاكم) إلي الدول العربية والأجنبية لحضور دورات تدريبية واستقدام خبراء عرب وأجانب بالتعاون مع المنظمات العربية والدولية والمؤسسات الخيرية لتدريب العاملين في الجمعيات الأهلية علي الموضوعات التي تهم عملها ونشاطها. وارتبط التفاعل بين الدولة والمنظمات غير الحكومية في المغرب بتطوير المنظومة التربوية ومجال حماية البيئة وقضايا المعاقين وتنمية القدرات النسائية وتحسين أوضاع الطفولة والاهتمام بملفات حساسة كملفات ضحايا التعذيب. وفي لبنان اتجهت بعض البلديات إلى تعميق التعاون مع الجمعيات والمجالس الاختيارية من أجل بلورة احتياجات المجتمعات المحلية ودفع عجلة التنمية بها، كما بدأت الخطوات التحضيرية لمشروع التنمية الاجتماعية عبر مجلس الإنماء والإعمار تأخذ طريقها نحو التنفيذ بتمويل من البنك الدولي, وإن كان ذلك يتم بخطي بطيئة. وهناك أيضا علاقات إيجابية بين هذه المنظمات والبرلمان في بعض الدول (مصر, لبنان, المغرب). ففي لبنان ـ علي سبيل المثال ـ خطا منتدى الحوار البرلماني سلسلة خطوات لتفعيل العلاقة بين السلطة التشريعية والجمعيات الأهلية.
وهكذا، رغم ما سبق طرحه من صعوبات ومعوقات تواجه المنظمات غير الحكومية في الدول العربية، فإنّ هناك طموحات واسعة مرهونة بمزيد من التفعيل لدور هذه المنظمات في إطار المشاركة مع القطاعين الحكومي والخاص, وتوسيع دائرة نشاط عملها ليشمل المناطق الريفية والصحراوية والبدوية والحضرية المعزولة, وظهور المجتمع المدني كشريك في عملية صنع التشريعات وتغيير الإطار القانوني، خاصة في ظل المتغيّرات التي تشهدها المنطقة العربية سياسيا بمزيد من التوجه نحو الديمقراطية والتعددية والمشاركة الشعبية, واقتصاديا نتيجة تطبيق سياسات السوق والخصخصة وإعادة الهيكلة الاقتصادية وتراجع دور الدولة, وما ترتب علي ذلك من اختلالات اجتماعية أهمها البطالة, وزيادة حدة الفقر, والحاجة إلي دعم ومساندة الطبقات المهمشة والمحرومة.
ولعل من المناسب الحديث عن أهمية تطوير مؤسسات المجتمع المدني لتتحول من " قوة احتجاج " إلى " قوة اقتراح " ومن " قوة اعتراض " إلى " قوة اشتراك ". ومثل هذا الدور يمكنه أن يؤثر على مسار الأحداث ويعلي من هيبة المنظمات ومكانتها خصوصا بعد فترة من التجريب.
لقد آن الأوان لكي تنطلق مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي برؤية عقلانية وبدراسة معمقة للواقع، فالوضع أصبح أكثر تهيئة على المستوى الموضوعي والذاتي، وفي الجانبين المحلي والدولي، لقراءة جديدة لدور المجتمع المدني ومؤسساته.
#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟