|
أيها الطائرُ الخفيف، سلامٌ عليك
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2629 - 2009 / 4 / 27 - 09:24
المحور:
حقوق الانسان
هذه الأيام، يُلِحُّ عليَّ كثيرًا صديقُنا الروائيّ يوسف أبو ريّة. الذي رحلَ قبل ثلاثة شهور. كأنما رسالةٌ يبثَّها إليّ، صاحبُ "عطش الصبَّار"، و"الضحَى العالي"، و"تلُّ الهوَى"، و"ليلةُ عُرس"، وغيرها من الروايات، وقصصِ الأطفال التي حصدَتْ حبَّ القراء، ورسّختْ اسمَ كاتبِها في متْنِ المشهد السرديّ العربي، وفي متنِ قلوبِنا. ظلَّ، قبل رحيله، وعلى مدى شهور طوال، يُساجلُ المرضَ ويناوئه ويشاكسُه، من دون أن يُعلِنَ لأحد أن كبدَه آخذٌ في التحلّل والضُّمور. ربما كبرياءُ الفنّان منعته من القول، ربما رِهانُه على أن الموتَ الذي يخطفُ أحباءَنا لا يزالُ بعيدًا عنّا. إذْ الموتُ يكيدُ لنا فيخطفُ من نُحبُّ، لكنْ، ماذا سيفعلُ بنا، طالما أن اختطافَه لنا نحن لن يزعجنا، بل سيزعجُ آخرين ممن أحبّونا؟! لم يعلنْ لنا، نحن أصدقاءه، عن آلامِه النبيلة إلاَّ قبل الاحتضار بأيام. أبَى إلا أن تظلَّ ضحكتُه الصاخبةُ شاسعةً في سماء ذاكراتنا، حتى أننا، الآن، لا نستحضرُه أبدًا مريضًا واهِنًا، بل مرِحًا ضحّاكًا ساخرًا. قبل أيام من طيرانه إلى حيث يطيرون، بثَّ بعضَ أوجاعِه لأحدِ أخلَص خُلَصائه، هو الأديب الكبير سعيد الكفراوي. فتفجّرتِ المقالاتُ من أقلامنا نناشدُ الدولةَ، الساكنةَ، والوزراءَ، الخاملين، ليحرِّكوا ساكنًا. دخل الأديبُ محمد سلماوي، رئيسُ اتحاد كتّاب مصر، والأمين العام لاتحاد الكتّاب العرب، سِجالاً عنيفًا، ورفيعًا، مع وزارة المالية لترفعَ يدَها عن منحةِ حاكم الشارقة لعلاج أدباء مصر، الفقراءِ إلى الله، الأغنياءِ بمواهبهم وأقلامهم. لكن الأموالَ لم يُفَكُّ أسْرُها إلا بعدما تحرّرَ يوسف من إسار الدنيا، ليطيرَ خفيفًا من الدَّين. والآن، وبعد شهورٍ على الفقد، أسألُ نفسي حين يزورُني طيفُ يوسف: هل يجوزُ أن أقولَ، على نحو يخلو من أيّة إنسانية، إنني فَرِحةٌ أنه قد مات في ذلك التوقيتِ النبيل عينِه، وبتلك الكيفيةِ الرفيعةِ عينِها؟! يتطلّبُ الأمرُ بعضَ "ترويضِ النَّمِرةِ" داخل نفسي، اقتباسًا من شكسبير. يتطلبُ الأمرُ أن أحرِّرَ عقلي من حبّي ليوسف، وأحرِّرَ عنقي من صداقتي له، وأحرِّر قلبي من حَزَني على فقده، وأحرِّرَ روحي من شعوري بالمرارة عليه وعلينا وعلى فكرة الثقافة بمجملها، في مجتمع غير قارئ لا يحفلُ كثيرًا بالثقافة ولا بالمثقفين. حينما أتحرَّرُ من كلِّ ما سبق، سأنظرُ إلى الأمر على نحو أكثر تجريدًا؛ فأكتشفُ أن يوسف قد اختارَ أن يطيرَ خفيفًا مُتحرِّرًا من عبء الدَّين وتبِعة مدِّ اليد. حتى ولو كان مدُّ اليد مطالَبةً بحق. فأنا من الذاهبين إلى أن الحقَّ أحقُّ أن يأتي طواعيةً، ذاك أن "الحقَّ" كيانٌ مستقلٌ لا يؤخَذُ ولا يُمنَحُ بل حريٌّ هو بأن يأتي صاحبَه بشرفٍ دون أن يضطرَ، أو حتى يفكرَ، صاحبُ هذا الحقِّ أن يطالبَ به. لم تَرُقْ لي مرّةً كلمة "ما ضاعَ حقٌّ وراءَه مُطالِب". لماذا أصلاً يضيعُ الحقُّ؟! هو مثل خلايانا ودمائنا وأعصابنا، جزءٌ منا لا يصحُّ أن يفارقنا، لكي نطالبَ به. ومع هذا فقد اختار المبدعُ الكبير، شأن كلِّ مبدعٍ كبير، أن يعلوَ فوق الحقِّ، ما دام الحقُّ قد اختبأ، أو خُبِئَ بمعرفة خبيث. أقولُ إنني فرحةٌ بطيران يوسف على مستويين. الأول أنه تحرر من تبعة مَكرُمةٍ من دولةٍ أو وزارة، وهي حقّه الأصيل لدى هذه الدولة وتلك الوزارة: أولا كمواطنٍ مصريّ، وثانيًا كمبدع كبير. وكذا تحرَّرَ من مكرمةِ ثريٍّ عربي يشعر بمعنى وقيمة كلمة "مبدع"، في حين حكومةٌ بأسرها لم تشعر بذلك، وهو بعض حقوقنا المهدرَة لديها. وأما المستوى الثاني، لفرحي، اللاإنساني والجاحد، بِموت أبو ريّه، شابًّا في أوج عطائه، فهو أنه قد تحوَّلَ، بموته الخاطف، إلى أيقونةٍ أمل، ومسيحٍ يَفتدِي زملاءه الذين سيرقدون رقدته على فراش المرض. وهذا ما كان، فقد تحرك ساكنُ هذا الذي لا يتحرك من أجهزتنا الكسول، وانتبهتْ إلى قتلها العمْد عقولَها ومبدعيها وقاماتها الفكرية. سواءً بإهمالها إياهم وبَخْسِها حقَّهم؛ فيلوذون بالهرب إلى حيث بلادٍ تُقدِّرهم كما أحمد زويل، ومجدي يعقوب، وغيرهما من مهاجرينا، أو بإهمالها لهم مرضى راقدين على فُرِش الموت؛ فيموتون تحت مرآها ومسمعها، حتى إنْ همَّ هامٌّ من دولة أخرى لنُصرتهم، حجبت عطيتَه عنهم ليموتوا في مشافي التأمين الصحيّ بفُرشِها الخَشنة وصدأِها الضاربِ في النفوس والعِتاد. اختار يوسف أبو ريه أن يموتَ مِيتةَ كلِّ مواطنٍ مصريّ بسيط أهدرتْ حكومتُه حقَّه لديها، مثله مثل المئات يموتون كلَّ يوم، مثله مثل أطفالٍ مصريين يأكلهم السرطانُ بماء ملوَّثٍ وطعامٍ فاسدٍ وتطعيماتٍ منتهيةِ الصلاحية. مات يوسف بينما زوجته الطبيبة "فريدة" تجوبُ بقميصه الملوث بدم الذئب على المسئولين تناشدهم أن ينقذوا زوجها، وأصدقاؤها يكتبون المقالات تلو المقالات: أنْ انقذوا يوسف الذي صَدَقَكم رواياتٍ ومقالاتٍ ونضالاً. لكن لسانَ حال الحكومة لم يقل سوى كلمة رادّة حاسمة: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخلو لكم وجه أبيكم. شكرا لك يا عزيزي يوسف أن اخترتَ الميتةَ الصحيحة الوحيدةَ، غيرَ مَدين لأحدٍ، ودائنًا للجميع. يا يوسف، كما قد تعلم، تقيمُ لجنةُ القصَّة بالمجلس الأعلى للثقافة يوم 14 أبريل تأبينًا لك، ننتظرك بيننا هناك، فلا تتخلّفْ عن الحضور. جريدة "اليوم السابع 14/4/09
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فريدة النقّاش، صباحُ الخير
-
عزازيل ومرآة ميدوزا
-
لشدّ ما نحتاجُ إليكَ أيها الشارح
-
قال: لا طاغوتَ يعْدِلُ طاغوتَ الكُهّان
-
وإننا لا نبيعُ للكفار!
-
أبريلُ أقسى الشهور
-
احذروا هذا الرمز!
-
الكونُ يتآمرُ من أجل تحقيق أحلامِنا
-
ما تشدي حِيلك يا بلد!
-
من أين نأتي بسوزان، لكلِّ طه حسين؟
-
طواويسُنا الجميلةُ
-
أنا أقولُها علنًا!
-
وأين صاحبي حسن؟
-
حينما للظلام وَبَرٌ
-
الله كبير!
-
-وهي مصر بتحبني؟-
-
الحقلُ هو سجادةُ صلاتي
-
مصرُ الكثيرةُ، وأمُّ كلثوم
-
أيها العُنُقُ النبيل، شكرا لك!
-
مصرُ التى لا يحبُّها أحد!
المزيد.....
-
إمكانية اعتقال نتنياهو.. خبير شؤون جرائم حرب لـCNN: أتصور حد
...
-
مخاوف للكيان المحتل من أوامر اعتقال سرية دولية ضد قادته
-
مقررة أممية لحقوق الانسان:ستضغط واشنطن لمنع تنفيذ قرار المحك
...
-
اللجان الشعبية للاجئين في غزة تنظم وقفة رفضا لاستهداف الأونر
...
-
ليندسي غراهام يهدد حلفاء الولايات المتحدة في حال ساعدوا في ا
...
-
بوليفيا تعرب عن دعمها لمذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت
-
مراسلة العالم: بريطانيا تلمح الى التزامها بتطبيق مذكرة اعتقا
...
-
إصابة 16 شخصا جراء حريق في مأوى للاجئين في ألمانيا
-
مظاهرة حاشدة مناهضة للحكومة في تل أبيب تطالب بحل قضية الأسرى
...
-
آلاف الإسرائيليين يتظاهرون ضد نتنياهو
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|