|
الانسان.. ذلك الكائن الأثيري
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 2627 - 2009 / 4 / 25 - 09:42
المحور:
سيرة ذاتية
(4) الانسان.. ذلك الكائن الأثيري
"طال طوافي على أبواب مدينتي، وأبواب مدن العالم بحثا عمن أحبّ، ولكن البحث عن الحبّ الأعظم كلّفني حياتي كلّها، فلقد بترت ومزقت أشلاء جسدي وروحي، ونثرتها في كل مكان وزمان، وها أنذا أحاول اليوم أن أجمع هذه الأشلاء الممزقة لكي أعود للانصهار والذوبان في روح العالم الكليّة.!" -عبد الوهاب البياتي-
لماذا يكتسب المكان هذه الأهمية في وجود الكائن؟.. وما هو لغز الخلقة الترابية؟.. لو لم يكن المكان والزمان قائمين، هل كان البشر يبادرون لايجادهما، وهل كان للغربة والاغتراب وجود بغيرهما؟.. الوجود مادة، والانسان مادة، ، والأرض مادة، والمادة لا تأتي من، ولا تقوم في فراغ. كان أنكسيمندر الاغريقي (611- 545) ق.م يرى أن الكون يتكون من مادة متصلة لانهائية تملأ الفضاء، هي معدن جميع الأشياء، وكلّ شيء تولد عنها وإليها يعود. وأضاف الايطالي جورديانو برونو (1548- 1600)ق.م. أن.. المكان لا نهائي، تتحرك فيه أجرام لا حصر لها، منها الشموس والكواكب تدور حولها، تتألف من نفس مادة الأرض. هذا الكون تشرف عليه قوة لا نهائية واحدة. فالمكان وفق هؤلاء، ليس مادة مجردة أو ميتة، وانما هي دالة رئيسة في قصة الوجود الكوني. ما يدفع إلى القول، أنه.. في البدء كان المكان. ففي قصة الخليقة (سفر التكوين): في البدء خلق الرب الاله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية.(تك1: 1-2). وغرس الرب الاله جنة في عدن شرقا، ووضع فيها آدم الذي جبله. (تك2: 8). وأخذ الرب الاله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. (تك2: 15). فالوجود المادي للأرض، مسرح الحياة والحركة، سابقة على ما نشأ منها. وقد اعتبر ماسنيون الفرنسي أن فكرة الوعد التي توحّد الأديان السامية عن سواها، قائمة على أساس مادي (مكان) ممثلة بوعد ابراهيم (قال الربّ لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك.) (تك11: 1-2). أو (الجنة الموعودة) في الاسلام وهو وعد ميتافيزيقي. أما نيتشه الألماني (1844- 1900) في موقفه السلبي من الدين، فقد قلل من أهميته خارج الذهن، معتبراً أن المكان والزمان ليسا غير أشياء يتم قياسها وفق تصور ذهني معين. لكن عبث نيتشه هذا لا يرقى إلى منطق. لقد رفض كلّ شيء، كلّ ماض وكل تقليد، دون أن يقدم إجابة على أسئلة وجوده. بعبارة أخرى، لقد وجد نفسه يدور في مدار سواه، مدار الفردية، التعويل على الشخصية الانتقائية، وحين اكتشف ذلك، وما يمثله من عجز، أصيب بالجنون. وبعد عام.. مات. ان فلسفة نيتشه فشلت في تحقيق مكانة لائقة بها، ولكن شعرية نيتشه، ما يمكن الحديث عنها، ما يفترَض الالتفات إليه، فهي أكثر حكمة من هرطقاته. * المادة حقيرة.. نعم.. أن كلّ شيء يسحب للأسفل هو حقير.. كل شيء يستعبد هو حقير.. والنصوص الدينية مادية.. قائمة على المكادة والمكان، ولذلك جعلت الانسان عبدا.. ان الجسد مكان.. ولكن الانسان ليس مجرد جسد.. والجسد ليس هو كلّ الانسان.. ان علاقة الجسد بالانسان هي سرّ حقارته ودونيته، وسبيل مكنة ابليس أو حصته فيه.. سرّ التضادّ.. لغز الصراع الوجودي بين ما يدعى خير أو شر، حق أو باطل، سموي أو دوني. "آه يامدينة نفس الانسان، لقد كنت شهوة كل من الرئيسين: أولهما يريد أن يحتفظ بما كسب، والثاني ستبقى خسارته إلى الأبد.. الشيطان يصيح: المدينة ملكي!.. ولكن عمانوئيل يطالب بحقه الالهي في مدينة نفس الانسان- ثم يبدآن القتال، فتصيح نفس الانسان: آه.. ان هذه الحروب ستقضي عليّ.*" الانسان كائن من ثلاثة أقانيم، ليس الجسد إلا أحدها. وهو المادي بين أولئك، والمادي مرتبط بالأرض، لذا هو أسرع ما يتعرض للعطب والخراب والفساد، وهو حمالة الشرور والآثام والأطماع والآلام، هو ما يقهر العقل ويذلّ النفس.. الجسد.. من قال أن السعادة في الجسد فقد خاب وحبط.. فالجسد حقير والسعادة سامية.. الجسد انحطاط والسعادة سمو.. الجسد يفنى والسعادة باقية.. لا.. ليس للجسد كل ما نسب إليه.. كل ما نسب إليه كان خطأ وزيغا وانحرافا.. وقنوط سليمان الجامعة، كان نتيجة اتكاله على الجسد والحياة بالجسد والزهو به،- مثله مثل أيّ ملك-، مستهينا ببقية الأقانيم.. كيف فات سليمان ما جاء في أيوب والمزامير وأشعياء.. بل أن فكرة هذا الصراع هي الهاجس الحقيقي لسفر أيوب.. مواجهة المادي والروحي، الزائل والباقي..انه مفعم بتعداد خصائص كل حال.. ذلك هو امتحان الانسان في الوجود.. - حياتي انما هي ريح، أيامي نفخة، أيامي أسرع من الوشيعة وتنتهي بغير رجاء.. (7) - الانسان مولود للمشقة (5)، الانسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبا، يخرج كالزهر ويبرح كالظل ولا يقف (14) - فكم بالحريّ سكان بيوت الطين الذين أساسهم في التراب ويُسحَقون مثل العثّ (4).* خطاب سفر أيوب ومعظم نصوص (التناخ) تعكس أرجحية العقل المادي في ذلك الوقت، الأرض والنفوذ والغرائز، والتي فنّدها يسوع المسيح بإعادتها إلى الأصل (الروحي) في قولته الشهيرة (مملكتي ليست من هذا العالم)!. أمر أوقع الفلاسفة في شرك الواقع أكثر من أي شيء آخر. وكان للنزعة المادية للاقطاع الديني وأطماعهم المقدسة في قوت الناس، المبرر الأساس لاستبعاد الدين خارج دائرة العقل والفلسفة. ان العاملين في مجال الدين هم بشر عاديون ، ليس لهم أو بهم أي خاصة أو امتياز على سواهم، وعملهم في مجال الدين لا يختلف عن أي عمل -اقتصادي- آخر في جوهره، لأنهم بدونه يموتون جوعا. ولو لم يسرفوا على أنفسهم لتمردت عليهم عوائلهم التي لا تريد أن تكون دون سواها. مركز إشكالية هؤلاء أو المجتمع المحيط بهم، إضافة هالة روحانية فوقية على شخصياتهم ونشاطاتهم، فظهر التضادّ -النشاز- واضحا بين المادي والروحي وغلبة أي منهما في شخصياتهم. اولئك الذين استطاعوا التمويه على نشاطهم المادي كانوا مركز حفاوة وتبجيل، أما الذين لم يهتموا بالتظاهر والتخفي فوصموا بالاقطاع الديني. والأصح هو الفصل بين جانبي الشخصية، والاهتمام بالمنظور الشخصي في مدى التوفيق بينهما. ففي الغالب يقع المرء في ازدواجية أو انفصام عندما يحكم على سواه ويتناسى نفسه!. الانسان لا يعاني من الروح.. انه يعاني من الجسد، الروح لا تأخذ، الروح تعطي، أما الجسد فأنه يأخذ، ويأخذ، ويريد المزيد، أنه الهاوية!. والمفارَقة.. أن الأديان في عمومها، تقوم على المادة في مبادئها وتعاملاتها ووعودها المجانية، وفي نفس الوقت، تمنح نفسها نوعا من وكالة (إلهية) لا يخرّ إليها الشكّ (!!) جاعلة من البشر وسائل لبسط النفوذ وتحقيق التراكم المادي وبلوغ بحبوحة العيش (الجنة على الأرض) لسادتها ودهاقينها، فما هو وجه الخلاص الذي تقدمه للبشر، وما هو الرجاء المنتظر!!. * المكان واسطة إلى.. ليس إلاّ.. طبقا لما سبق، ترتب فهم خاطئ لمفهومية المكان. ان الزمن عدو الانسان الاول، لذلك يعمل على قتله باستمرار. ومن وسائل القتل تلك، العناية المفرطة بالمكان، المكان كرمز للأبدية. يشعر الانسان بالراحة عندما يصل إلى بيته. يشعر الانسان بالراحة عندما يكون في بيته. ينام الانسان مرتاحا في بيته. وعندما يبات أو يأكل أو تطول مدة إقامته خارج بيته، يبدأ بالتشكي والاضطراب، ويشعر بالضياع والغربة. الغربة لأنه خارج بيته. ضائع لأنه خارج بيته. بعضهم يصاب بأمراض معوية (نفسية) عندما يأكل خارج البيت. أول حاجه السكن، تاني حاجه الشغل.. من غير دوله التنتين معرفش أفكر.. آه.. السكن قبل كا حاجه!.. السكن، البيت، المكان، الوطن، الأم، المشيمة، الرحم، الفردوس، السعادة، الأبدية. هل تعرف أين دفنت (الدايه) مشيمتك!.. هل ما تزال تحنّ، تحلم، تستذكر، ذلك المكان؟.. ألم تحدثك والدتك عن ذلك؟.. وأنت.. لم تسألها؟.. الاهتمام بالمكان هو وسيلة للشعور بأن كل شيء طبيعي، وانك في مكانك الطبيعي، حيث الدفء والأمن والاستقرار، وعندما تعتني بالمكان ، اموقع، الديكور، العلاقات والأبعاد، فلكي تمنح نفسك أفضل حالة من الاشباع. ـــــــــــــــــــــــــ • يوحنا بنيان- الحرب المقدسة- تعريب: فايز عزيز عبد الملك- منشورات لجنة خلاص النفوس- 1990- القاهرة • سفر أيوب- الأرقام داخل السطور تشير إلى الاصحاح المقتبس منه..
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(مساء..)
-
عن المكان الوجودي..
-
المرأة والمكان.
-
(شوسع الدنيه وما لمّتني..)
-
مظفر النواب.. من الرومانتيكية الثورية إلى الاحباط القومي
-
(سوبرانتيكا)..
-
(رجل وامْرأة..)
-
صلاة نافلة
-
نوال السعداوي.. قليلاً من السياسية
-
(وحدي).. الصورة أجمل!*
-
قال المعلم
-
لا أرغب فيك
-
الثقافة والمثقفون والعالم
-
(شيء..)
-
نهايات
-
(غياب)
-
(أصدقاء)
-
ساعةٌ أخرى مَعَ ئيلين - (1)
-
ساعةٌ أخرى مَعَ ئيلين
-
أين شارع الوطني؟..
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|