|
قراءة في الوضع الراهن للحركة النقابية في تونس
حزب العمال التونسي
الحوار المتمدن-العدد: 821 - 2004 / 5 / 1 - 07:28
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
بقلم: جيلاني الهمامي 1 - تقديم :
في البداية أود أن أتوجه بالشكر إلى الإخوة في منتدى الموقف الذين أتاحوا لي هذه الفرصة لأقدم هذه المساهمة في قراءة واقع الحركة النقابية الراهن في تونس.
وأود أن أنبه منذ البداية إلى أن هذه القراءة شخصية وقد أتفق فيها مع البعض وأختلف فيها مع البعض الآخر لأن قراءة الوضع الراهن للحركة النقابية في بلادنا تتحكم فيها اعتبارات كثيرة تختلف من واحد إلى آخر. فالاتحاد العام التونسي للشغل كإطار تنظيمي كان ولا يزال وعاء يستقبل منخرطين ونشطاء ومناضلين من منحدرات طبقية متعددة وتتفاعل داخله رؤى وأفكار مختلفة ومتنوعة وهو ما يجعل لكل واحد قراءته حسب موقعه ومصلحته.
كما أود أن أوضح أن ما أقصده بالحركة النقابية هو أساسا تجربة الاتحاد العام التونسي للشغل باعتبار أن تونس هي من البلدان القليلة في العالم التي حافظت على وحدانية التمثيل النقابي ولم يكن لمحاولات التعدد النقابي تنظيميا أهمية ولا إضافة ذات بال إما لأن هذه المحاولات جرت بإيعاز من السلطة ولم تنجم عن دينامكيك نقابي مستقل وآلت وبالتالي إلى الفشل أو لأنها ولدت قاصرة عن تقديم الإضافة المطلوبة لأسباب موضوعية أو لأسباب خاصة بها فآلت هي الأخرى إلى الفشل واندثرت.
كما أنبه إلى أن بعض الأحكام التي سأصدرها في قراءتي هذه قد تبدو عند البعض قاسية وربما متجنية مردها أنني اعتقد أن الوضع يدعونا اليوم إلى تقييم الواقع بمنتهى الصراحة والتجرد والجرأة من دون حسابات. كما أنبه أيضا إلى أن بعض الاستخلاصات والأحكام التي توصلت إليها قد تبدو عند البعض قاسية أو ربما على شيء من التجني ولكن حرصي على التزام التجرد والصراحة والجرأة هو الذي سمح لي بتبني هذه الأحكام.
وعلى أية حال ما من أحد منا بما في ذلك قادة المنظمة الحاليون ينكر اليوم أن الحركة النقابية التونسية تمر بأزمة أراها شاملة وعميقة أثرت على مردود الاتحاد على الساحة الوطنية وعلى علاقته بكل عناصر المشهد السياسي والاجتماعي سلطة وأعرافا وأحزابا سياسية ومنظمات وجمعيات وشخصيات وطنية وكذلك وخصوصا عموم العمال وقواعد الاتحاد ذاته.
ولرصد مميزات الواقع وجدت الأرضية التي صاغتها الحركة النقابية المناضلة على امتداد حوالي ثلاثة عقود المرجعية الأسلم والمسلّم بها لدى الجميع تقريبا. هذه الأرضية هي الاستقلالية والديمقراطية والنضالية.
وللتذكير فإن هذه الأرضية بدأت بالتشكل عند اندلاع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية للنظام في موفى السبعينات والتي أدت في أوج احتدامها إلى أحداث 26 جانفي 1978 الدامية.
فبعد فترة الرخاء الاقتصادي النسبي للنصف الأول من السبعينات ظهر نموذج التنمية الليبرالي الذي انتهجته حكومة نويرة آنذاك على محدوديته الاقتصادية وهشاشته الاجتماعية. وكانت من ابرز نتائجه تعمّق الفوارق بين الجهات وغلاء المعيشة وتدهور المقدرة الشرائية لعموم الشعب واتساع ظاهرة الفقر إلى جانب استقرار نمط الحكم الدكتاتوري وغياب أبسط الحريات العامة والفردية. وعلى خلفية ذلك دبّت داخل الفريق الحاكم آنذاك خلافات حول منهج معالجة الأزمة فظهر شق المتشددين بقيادة الوزير الأول نويرة ووزير الدفاع عبدالله فرحات وبعض غلاة التشدد من الحزب الحاكم مثل محمد الصياح وعامر بن عائشة فيما تشكل فريق ما سمي بالمعتدلين من وزير الداخلية الطاهر بلخوجة ووزير الاقتصاد عزوز لصرم ووزير الشؤون الاجتماعية محمد الناصر مدعومين في قصر قرطاج بوسيلة بورقيبة. وقد وجدت قيادة الاتحاد بزعامة عاشور في هذا الشق حليفا مرحليا لمواجهة المتشددين. ورغم أن الصراع بين الطرفين تمحور أساسا حول الأوضاع الاجتماعية وقضايا الحريات فإن السباق نحو خلافة بورقيبة على سدة الحكم كان هو الدافع والمغذي الرئيسي لذلك الخلاف.
وإذا كان فريق نويرة يجد في أجهزة الدولة القمعية (الإدارة والجيش والبوليس) أدواته لإدارة الصراع فإن خصومه عولوا إلى جانب موقعهم في السلطة على المنظمة الشغيلة لممارسة الضغط المضاد. وقد وجد الزعيم النقابي عاشور الذي قد يكون رأى نفسه الأحق بخلافة بورقيبة في هذا الوضع الفرصة المناسبة لحبك تحالفه مع شق من الحكومة لحسم خلافه بصورة مباشرة حول القضايا الاجتماعية المطروحة وربما استراتيجيا من أجل الفوز بكرسي رئاسة الدولة. وكان عليه بطبيعة الحال أن يطلق عنان التحركات والنضالات العمالية وأن يركب شعاراتها ومطالبها.
وفي هذا الإطار فتح الباب لدخول أفواج من المناضلين اليساريين خريجي الحركة الاحتجاجية الطلابية الذين وجدوا في تصاعد النضال النقابي العمالي الإطار المناسب للمثل والقيم التي اعتنقوها في الجامعة على امتداد السبعينات. وقد لعبت العناصر اليسارية دورا كبيرا في صياغة شعارات الحركة الاحتجاجية العمالية وفي تأجيج التحركات التي شهدتها فترة ما بين موفى سنة 77 والإضراب العام يوم 26 جانفي 78.
لقد كانت هذه المدة على قصرها حافلة بالتطورات ومتسارعة الأحداث وتكثفت خلالها عملية الاستقطاب بين الشقين فيما تقدمت الحركة الجماهيرية أشواطا كبيرة في صياغة أرضيتها النضالية حول ثلاثة شعارات مركزية : استقلالية المنظمة عن السلطة وديمقراطية العمل النقابي ونضالية الاتحاد. وقد طبعت هذه الشعارات أنشطة الاتحاد خلال تلك الفترة وشكل المجلس الوطني المنعقد أيام 8و9و10 جانفي 1978 الخطوة الحاسمة في تبني هذه الأرضية بصورة رسمية. وفي خطوة عملية أعلن الأمين العام الحبيب عاشور استقالته من الديوان السياسي للحزب الحاكم واستقال أعضاء المكتب التنفيذي من اللجنة المركزية وحصلت بذلك بدايات القطيعة حتى جاءت أحداث 26 جانفي الدامية وزج بالقيادة في السجن ودبّر الانقلاب عليها بتنصيب قيادة بديلة موالية للشق المتشدد في الحكم.
وسنحاول في ما يلي ومن ذلك التاريخ تتبع تعامل السلطة من جهة والقيادات النقابية من جهة ثانية مع هذه الأرضية النقابية التي غدت المرجعية النقابية الأساسية.
ليس من المبالغة في شيء القول منذ البداية أن السلطة أجادت التعامل من منظورها الخاص مع هذه الأرضية وعرفت كيف تتأقلم كل مرة مع متطلبات الظرف وتحدد التكتيك الأنسب لها.
لقد راوحت بين سياسة المواجهة المباشرة العنيفة في 26 جانفي 78 وفي خريف 1985 للتدخل بصورة سافرة وللسطو على المنظمة النقابية كلما استعصى عليها التحكم فيها وبين المناورة والتخريب من الداخل لتطويعها وتدجينها.
واتبعت ضمن هذه السياسة تكتيكات متنوعة بالتركيز أحيانا على تكتيك محدد وأحيانا بالجمع بين تكتيكات متعددة.
التكتيك الأول: إتباع أسلوب الاحتواء مقابل تنازلات ظرفية وشكلية لتجاوز الأزمة (الحلول التصالحية في سبتمبر 1981 وماي 1988) واستمالة القيادة وشرائها بواسطة مكاسب جزئية وموجهة (طوال التسعينات) أو عبر التفاهم معها وتشريكها في بعض الهياكل الاستشارية (الميثاق الوطني، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مجالس الإدارات للمؤسسات العمومية، المجلس الأعلى للتخطيط والمجلس الأعلى للتصدير، اللجنة العليا لحقوق الإنسان...) وتعيين بعض القادة في مراكز ووظائف إدارية عليا.
التكتيك الثاني: التخريب من الداخل وتشجيع الخلافات كلما لاحت على بعض وجوه القيادة نزعة نحو التململ أو التنطع (دفع بعض أعضاء المكتب التنفيذي للتمرد على السحباني في منتصف التسعينات ثم تدبير الانقلاب عليه في موفاها) والتحريض على حركات الانشقاق (جماعة الاتحاد الوطني في الثمانينات).
وغالبا ما مزجت السلطة بين التكتيكين المذكورين متبعة الترغيب والترهيب في ذات الوقت.
وكان للقيادة النقابية ضلع كبير في نجاح السلطة في مثل هذا التمشي إذ أنها في فترات الوفاق لم تكن تبدي أية ممانعة في تمكين السلطة من التنازلات المطلوبة لتمرير هذا المشروع أو ذاك في جميع المجالات كما لم تكن تخفي لهثها وراء ترضية الحكم ووصل بها الأمر في أحيان كثيرة إلى قمع التحركات وتهرئة هياكل المنظمة لجرها في مسارات التنازل والتخلي عن مقرراتها وتوصيات ومطالب منخرطيها. وغاب عنها أن تنكرها للقواعد وللإطارات النقابية لا يؤدي إلا إلى خلق فراغ جماهيري من حولها هي بالذات أي القيادة لذلك تجد نفسها في فترات هجوم السلطة عليها ضعيفة ومعزولة وعاجزة عن المواجهة والصمود.
أما قوى اليسار فقد ظلت دوما هامشية وقاصرة عن لعب دورها في استقطاب العمال إلى توجهاتها النقابية الخاصة وكثيرا ما نجحت البرقراطية في زرع الشقاق داخلها والتناحر الفئوي بين تياراتها. ولم تكن قادرة أبدا على مواجهة حملات التصفية التي تقوم بها البيرقراطية كل مرة ضد فصيل من فصائلها أو كلما هجمت عليها السلطة أو على المنظمة النقابية ككل رغم أن قوى اليسار شكلت في أكثر من مرة العمود الفقري لمقاومة التنصيب والانقلاب على الاتحاد.
وبطبيعة الحال وفي ظل هذه المعطيات كانت القواعد العمالية ضحية قمع واستغلال السلطة والأعراف من جهة وتواطئ البرقراطية وحملات التبريد والتسخين التي تجنح لها هذه الأخيرة بحسب الظروف والحسابات من جهة ثانية وكذلك ضحية عجز وطفولية قوى اليسار من جهة ثالثة.
2 - حول استقلالية المنظمة :
أ) في السبعينات :
استقالت القيادة النقابية من الحزب الحاكم قبيل أحداث 26 جانفي مسايرة آنذاك مطلبا جماهيريا ملحا وضغطا جماهيريا قويا داعيا إلى فك الارتباط بحزب الدستور رمز قوة وهيمنة الدولة. وإذا كانت هذه الحركة تعكس ظاهريا قناعة باستقلالية الاتحاد عن الدولة فإنها كانت تعكس في الأساس احتدام الصراع بين شقوق السلطة واستعمال المنظمة النقابية كأداة من أدوات إدارة وحسم هذا الصراع.
فهدف البيروقراطية كان إذا مزدوجا : خدمة صراعها مع الشق الثاني في الحكم من ناحية واستعمال حركة الاحتجاج الاجتماعي وتوظيفه في خدمة أغراضها من ناحية أخرى.
ب) في الثمانينات :
قبلت البيروقراطية بحل المصالحة النقابية (لائحة الهيئة الإدارية الوطنية 21 سبتمبر 80 ولجنة نور الدين حشاد المتناصفة) لأنها كانت متهافتة على الحل التصالحي وعلى العودة إلى الجهاز النقابي موطن نفوذها ومصدر امتيازاتها حتى وإن اقتضى ذلك التضحية مؤقتا بزعيمها الحبيب عاشور (الاستثناء).
لكن حين عارضت حكومة مزالي ودخلت في مواجهة مع السلطة فقد وجدت في مناهضة سياسة التقشف والإنتاج والإنتاجية شعارا تعبويا لحشد العمال وراءها ليس لإفشال هذه السياسة أساسا وإنما لتوظيف الغضب العمالي وواقع الأزمة الاجتماعية مجددا لحسم مسألة الخلافة مرة أخرى.
نقول هذا لأن فترة ما بين رفع الاستثناء ( ديسمبر 82 وعودة عاشور كرئيس للإتحاد) وأكتوبر 85 تاريخ استحواذ الشرفاء على مقرات الاتحاد أقدمت القيادة النقابية على سلسلة الأعمال التي لا تفيد مطلقا قناعتها باستقلالية المنظمة النقابية عن السلطة على الصورة التي رسمتها حركة 26 جانفي أو بأكثر دقة على الصورة التي انقادت بها الحركة الجماهيرية منذ صائفة 77 إلى تاريخ أحداث 26 جانفي 78.
ولا يمكن أن ننسى في هذا الصدد دخول الاتحاد في جبهة وطنية مع الحزب الحاكم في الانتخابات التشريعية سنة 81 وإقدام سبعة من المكتب التنفيذي عن الانشقاق وبعث منظمة موازية (الاتحاد الوطني) وإمضاء اتفاقية السلم الاجتماعية (أفريل 84) وتجريد زهاء الـ200 نقابي لأنهم فقط عارضوا تلك الاتفاقية.
ج) في التسعينات :
كرست القيادة النقابية طوال عشر سنوات (89 – 99) خط التهادن مع السلطة وتدجين المنظمة بصورة فجة ومكشوفة حتى غدا الأمين العام (السحباني) بمثابة عضو بالحكومة أكثر مما هو المسؤول في منظمة العمال. وتتجلى الانتكاسة التي لحقت بالنزر القليل من الاستقلالية التي كسبته المنظمة من قبل في جملة من المظاهر نستعرض منها ما يلي :
باركت القيادة وساندت كل اختيارات السلطة في جميع الميادين حتى تلك التي لها انعكاس مادي مباشر على الشغالين كالتلفويت في المؤسسات وإعادة هيكلة مؤسسات أخرى من قطاعات الإنتاج والخدمات (المستشفيات والبريد والنقل ...) والترفيع في نسب الانخراط في أنظمة التغطية الاجتماعية وسن قوانين الأسعار والمزاحمة. صادقت على جميع مخططات التنمية ومشاريع المالية وتنقيحات القوانين الأساسية الكبرى وما تضمنته من قرارات وإجراءات ضربت في الصميم المكتسبات الجزئية للشغالين كما زكت معاهدات الانخراط في نظام الليبرالية الاقتصادية المعولمة (المنظمة العالمية للتجارة واتفاق الشراكة مع الاتحاد الاوروبي) لعبت دورا خطيرا في التصعيد القمعي الذي شهدته البلاد منذ اندلاع الهجوم على "حركة النهضة" وحزب العمال والذي شمل لاحقا مجمل تعبيرات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات وشخصيات. وكان الاتحاد في كل ذلك عنصرا بارزا ضمن محور التشدد الذي برز في الفريق الحكومي عندما كان عبد الله القلال وزيرا للداخلية. واضطلعت قيادة الاتحاد بمهمة حصر قوائم النقابيين المعارضين من تنظيم "النهضة" وغيرها وإعانة قوات البوليس على تصفيتهم، هذا إلى جانب السكوت على المحاكمات والإيقافات التي طالت إطارات نقابية كثيرة من مختلف القطاعات والجهات. ساندت التشريعات القمعية وتحويرات القوانين (تحويرات الدستور المتتالية، ومجلة الصحافة والأحزاب والمجلات القانونية الأخرى) المقيدة لحرية نشاط مكونات المجتمع المدني مثل قانون تصنيف الجمعيات شاركت في الحملات المنظمة للتهجم على الأحزاب المعارضة القانونية وغير القانونية وعلى الرابطة والمنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية والأجنبية (منظمة العفو الدولية مثلا) وعلى الصحف ووسائل الاعلام الاجنبية باسم "الوطنية" و"مناهضة التدخل الخارجي في شؤون الوطن". شكلت واجهة خارجية للدفاع عن النظام في المحافل الدولية (المكتب الدولي للشغل ، السيزل...) والتغطية على التجاوزات والقمع المسلط على البلاد بما في ذلك على النقابيين.
ولا يزال هذا النهج مستمرا إلى حدّ الساعة بصورة عامة رغم تغيير النبرة فيما يتعلق بوضع الحريات. فالاعلان على مساندة الرابطة والمطالبة بالعفو التشريعي العام والتزام " الحياد " في ما يخص الاستفتاء وتحوير الدستور هي مواقف ظرفية استوجبتها خطة " التصحيح النقابي " لتمرير الاطاحة بالسحباني. فالقيادة لم تنتظر كثيرا لتكف عن المطالبة بالعفو التشريعي وترفض إدراجه ضمن لوائح مؤتمر جربة وتتخلى عن مساندة الرابطة وتغلق في وجهها مقرات الاتحاد في الجهات بمناسبة مؤتمرات فروعها بل لتتهجم عليها كما حصل مؤخرا. كما لم تنتظر كثيرا ليدعو الأمين العام "الشغالين إلى المشاركة في استفتاء 26 ماي 2002 وإنجاحه".
ومع هذا عادت القيادة لتلزم الصمت حيال محاصرة مكونات المجتمع المدني (عمادة المحامين والرابطة مثلا) والتعديات التي تطال المعارضين وحتى النقابيين من أجل نشاطهم النقابي مثل السكوت على تعنيف نقابيي التعليم الثانوي ورفض التشهير بما حصل للمناضل النقابي الكاتب العام للنقابة الجهوية للتعليم بمنوبة سامي الطاهري.
وليس السكوت على موقف النظام من العدوان على العراق ومحاصرة دور الاتحاد ومنع النقابيين من التعبير عن مواقفهم إلا دليلا إضافيا على أن القيادة لا تزال مربوطة بعجلته وتتحمل المسؤولية في تدجين الاتحاد لصالح السلطة.
3 - حول ديمقراطية العمل النقابي :
إن ما بلغته الحياة داخل المنظمة من تكلس وجمود ومن غياب للديمقراطية هو المرادف والوجه الآخر لغياب الاستقلالية. فمنذ أن استفحلت سياسة القمع وفرض الإجماع القصري على المجتمع الذي شكل الاتحاد واحدا من أبرز عناصره تردت أوضاع الحريات داخل الاتحاد نفسة وغابت الديمقراطية بين هياكله. وإذا كان حصر مظاهر ذلك يستدعي عملا أشمل وأدق فإني سأحاول بهذه المناسبة استعراض أبرزها وهو يتمثل في الآتي :
شطط المركزة وتفاقم عبادة شخص الأمين العام وتمكينه من صلاحيات مطلقة تلغي أي دور لباقي هياكل المنظمة من النقابة الأساسية للمؤتمر العام، صلاحيات تضعه فوق الهياكل والقانون بحيث يتصرف في قرارات المنظمة وأموالها ومستقبلها دون محاسبة وبلا رادع. تحوير القانون الأساسي والنظام الداخلي مرارا وأحيانا دون العودة إلى الهياكل المخولة إلى القيام بذلك من أجل تمكين الأمين العام ثم المكتب التنفيذي والمكتب التنفيذي الموسع من صلاحيات واسعة لا تحدها إلا صلاحيات الأمين العام غير قابلة للمراجعة ولا الطعن (فسخ الإضرابات، منع الهيئات الإدارية والمجالس من الاجتماع، إمضاء الاتفاقيات بدلا عن الهياكل المعنية ...) إصدار سلسلة من المناشير الداخلية تتعارض مع القانون الأساسي والنظام الداخلي لتبرير قرارات أو لتمرير إجراءات مثل المناشير التنظيمية الخاصة ببعض التشكيلات (نقابات قطاع الإلكترونيك بين جامعة المهن المختلفة وجامعة المعادن...) تأويل القوانين حسب الأهواء والمصلحة مثلما جرى بخصوص الفصل الخاص بإعادة تحوير المسؤوليات في قفصة أو لمنع ترشح نقابي غير مرغوب فيه ...
وفي إطار هذا التمشي عطّلت القيادة اجتماع المجلس الوطني لدورات عديدة (حوالي 7 سنوات) وحتى عندما ألحّ بعض النقابيين على ضرورة انعقاده زج بالبعض منهم في السجن في ما يعرف بقضية العريضة النقابية (ربيع 97). وفي هذا الإطار أيضا جرت مؤتمرات تجديد الهياكل خاصة الوسطى والقطاعية تحت شعار " الاستمرارية وقوائم الأمين العام" لسد الباب أمام المعارضين وكل الذين لم يدخلوا سباق التملق والتبعية له. وأصبح تدليس المؤتمرات والتلاعب بعدد المنخرطين لتضخيم أو تقليص عدد النيابات حسب الحاجة عادة يتباهى بها رموز البيروقراطية. ووصل الأمر إلى اعتماد قوائم منخرطين وهميين أو قوائم أموات أحيانا وكذلك اعتماد أصوات في الهيئة الإدارية الوطنية لهياكل اندثرت قطاعاتها أصلا (ديوان مجردة وعملة الأرض وديوان الصيد البحري ...) أو هياكل لا يتجاوز عدد منخرطيها نقابة أساسية (الشعائر الدينية).
وعرفت هياكل المهن المختلفة والبناء والبريد والقيمين وجهات سوسة وزغوان وجندوبة ونابل أزمات حادة حدت ببعضها إلى عقد أكثر من مؤتمر استثنائي أو إلى تأجيل مؤتمرها أكثر من مرة. وتمت إعادة تنظيم قطاعات بتوحيدها او بتقسيمها في الوقت الذي كان نقابيوها يعارضون ذلك التقسيم أو التوحيد مقابل رفض مطالب توحيد أو تقسيم أخرى (المالية مثلا) كل ذلك في غياب برنامج عام لإعادة هيكلة المنظمة حسب المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والنقابية الجديدة.
وفي هذا الإطار نشطت لجنة النظام الوطنية بصورة غير مسبوقة في تاريخ الاتحاد وقد حصلت تجاوزات وحالات من التعسف ستظل وصمة عار في تاريخ الاتحاد مثل طرد الصحراوي وبن رميلة والكاتب العام لجامعة البريد ونقابيي سوسة وغيرهم كثير.
ومثلما جرى إقصاء الخصوم وتصفيتهم بالاستعانة في أحيان كثيرة بالسلطة والإدارات كافأت القيادة النقابية في عهد السحباني وبعد التصحيح، أتباعها وغلاة التلمق لها – كل حسب العطاء – بالمناصب الإدارية والوظيفية وحتى القنصلية وبجملة من الخدمات الأخرى. ونتيجة لذلك تنامت وترسخت عقلية الولاء الذاتي والجهوي والعشائري وتشكلت داخل الاتحاد " نومنكلاتورا " متنفذة تتمتع بسلطات مؤثرة في القرار النقابي.
هذه المظاهر والممارسات وغيرها كثير لا يمكن حصره تراجعت شيئا ما خلال فترة "التصحيح النقابي" ثم ما لبثت أن عادت إلى الظهور طورا باحتشام وطورا آخر بصورة مفضوحة حالما استقرت الأمور للقيادة الجديدة.
4 - حول نضالية المنظمة :
الرّدِيفُ الثالث لغياب الاستقلالية والديمقراطية هو اندثارنضالية المنظمة وتفسخ الجرأة والكفاحية في الدفاع عن المطالب وفي التعاطي مع الملفات.
لفد تحول الاتحاد إلى نقابة مساهمة بالمعنى المبتذل للكلمة ليس لها من فاعلية إلا في تخريب وعي منخرطيها وجرهم للقبول بالاستغلال والتعسف. وهو أي الاتحاد أصبح اليوم الركيزة الأساسية في ما يسمّى بالاستقرار السياسي والاجتماعي، لصالح الدكتاتورية بالطبع.
فكما سبق أن قلنا دعمت القيادة النقابية المخططات الاقتصادية للدولة غيرعابئة بانعكاساتها المؤلمة على العمال وعموم الشعب. لذلك تحوّل شعار "رفض التفويت في المؤسسات العمومية" إلى رفض "التفويت العشوائي" للتنصل من هذا المطلب العمالي. وأمكن بالتالي للدولة خوصصة عديد المؤسسات وإعادة هيكلة أخرى (البريد والسكك والشركات الجهوية للنقل والطريق السيارة ووكالة النقل البري وبعض البنوك وخدمات من تونس الجوية ومعامل الإسمنت ومؤسسات سياحية وإنتاجية صناعية وفلاحية ...) وهي تعد الآن لما تبقى من المؤسسات حتى ذات الطابع الاستراتيجي منها (ديوان الاتصالات والتطهير وشركة الكهرباء والغاز ...). وما كان لها أن تنجح في ذلك لو لا مباركة المنظمة النقابية التي علاوة على ذلك تصدت بكل شراسة للمقاومة التي أبدتها بعض القطاعات مثل ما حصل في البريد.
إن الحديث عن خوصصة المؤسسات يجرنا في الحقيقة إلى الحديث عن مسألة الدفاع عن حق الشغل كركيزة أساسية من ركائز النضال النقابي. ومعلوم أن التفويت في المؤسسات إنما يهدف في الأساس إلى تخلص الدولة من أعباء الأجور وغنم سيولة مالية عند بيع هذه المؤسسات وجني الأرباح لاحقا في صورة نجاح عملية التفويت. هذه الحقيقة لم تعرها القيادة النقابية أية أهمية بل على العكس من ذلك قبلت لا فقط بعمليات تفكيك المؤسسات وإنما أيضا بالدخول في لجان تصفية هذه المؤسسات وتسريح عمالها متظاهرة بالحرص على تأمين شروط إيجابية لعمليات الطرد الجماعي (لجان مراقبة الطرد). وقد لاحظنا أن تمرير هذا الاختيار أدى في النهاية إلى التراجع في مقاييس ومقادير منح الطرد بعد أن أصبح المبدأ مقبولا ووجد الأعراف أعذارا جديدة لطرد العمال دون أدنى تعويضات.
أما المناداة ببعث صندوق تأمين على البطالة فقد جاءت ضمن حملة دعائية تمويهية رفعها السّحباني في وقت من الأوقات لتجديد خطابه النقابي تماما مثلما كان الأمر بالنسبة لشعار "نقابة في كل مؤسسة". ونحن نعلم الآن أنه لم يعد لهذا الشعار أي أثر لا في الخطاب المتداول ولا في برامج العمل إن وجدت.
لم تقف حملات الطرد عند عموم الشغالين بل شملت وتركزت في وقت من الأوقات على المسؤولين النقابيين لتفكيك محاولات المقاومة الجماعية ولاجتثاث بذرة العمل النقابي في المؤسسات وكان موقف القيادة من هذه الظاهرة كموقفها من القضايا الأخرى سلبيا إلى أقصى الحدود مما شجع الأعراف ومسؤولي الإدارات العمومية على تباعه كمنهج عام.
ومن جهة أخرى اعتمدت القيادة منذ مستهل التسعينات حتى اليوم أسلوبا جديدا في التفاوض حول الزيادة في الأجور تباهت به على أنه واحد من أبرز مكتسباتها وهو الزيادات الثلاثية في الأجور. ويقوم هذا الأسلوب من الناحية الشكلية على دخول كل قطاع في التفاوض على حدة لأشهر طويلة يقع خلالها تطارح المقترحات والأفكار والمعطيات ثم وبصورة فوقية يقع حسمها بين القيادة والحكومة ويسحب ذلك الاتفاق على جميع القطاعات وكأن شيئا من المفاوضات القطاعية لم يكن. كما جرى دوما فصل التفاوض المادي عن التفاوض في الجوانب الترتيبية على ألا يكون لهذه الأخيرة أي انعكاس مادي. لذلك منع على القطاعات المطالبة بالمنح الخصوصية والامتيازات العينية الأخرى.
أما من ناحية المضمون فإن الزيادة في الأجور لا تأخذ في الاعتبار معطيات علمية دقيقة لتقدير نسب التضخم وتدهور المقدرة الشرائية وإنما يقع تحديد مقاديرها حسب ما تسمح به الموازنات الاقتصادية والمالية العامة للدولة حتى أنها باتت معلومة بصورة مسبقة ويقع اعتمادها في مشاريع ميزانية الدولة حتى قبل التفاوض في شأنها. وقد أثبتت الدراسات سواء التي أعدت أثناء التحضير – الشكلي – للمفاوضات أو التي نشرت (دراسة جورج عدة) أن المقدرة الشرائية للشغالين ازدادت تدهورا رغم الزيادات المذكورة لأن الحكومة استغلت هذه الزيادات لإعلان زيادات مشطة في الأسعار مرتين في السنة الأولى خلال فصل الشتاء والثانية في الصيف بالنسبة للمواد المسعرة أو الخاضعة للدعم (وهي أربع مواد استهلاكية فقط) أما المواد الأخرى كالأدوية والخضر والغلال والملابس والأدوات المدرسية وغيرها فقد أصبحت خاضعة لقانون العرض والطلب.
لقد ألحق هذا الأسلوب من التفاوض أكبر ضرر بالعمل النقابي حيث استغلت الزيادات الثلاثية من جهة لتضخيم مكاسب البيروقراطية من جهة وتبرير السلم الاجتماعية من جهة أخرى. ولم يعد للهياكل النقابية أي نشاط آخر في انتظار العودة لجولة مفاوضات قادمة. كما لم يعد للعمال اهتمام بالنقابة طالما أن "زيادات الحاكم" أصبحت من تحصيل الحاصل.
وأصبح النضال من أجل تحسين ظروف العمل واحترام مقتضيات القوانين الأساسية والترقيات والنقل وغيرها من الجوانب المهنية والاجتماعية موضوع عمل يومي أخذ طابع الحالات الفردية المنهكة والتي تستغل من قبل المسؤولين النقابيين لربط الصلة بدوائر المسؤولية في المؤسسات ومدخلا لكسب الأنصار من جهة وكسب المنافع الشخصية من جهة أخرى.
التعامل مع النضالات :
الإضراب هو السلاح الأساسي عند العمال للدفاع عن مطالبهم وحماية مكاسبهم. ومهما كانت الأشكال الأخرى هامة ومفيدة وناجعة وضرورية فإنها تبقى محدودة وغير كافية لتسوية النزاعات التي يمكن أن تنشب بين العمال وأرباب العمل. هذا لا يعني أن الإضراب غاية في حد ذاته بل سلاح يجب استخدامه على الوجه الأتم حتى يحقق أهدافه. مما يعني انه يجب احترام مقوماته ومستلزماته وضوابطه واستنفاذ الطرق الأخرى قبل اللجوء إليه حتى تسهل تعبئة الشغالين. ويمكن القول في هذا الصدد إن العمال والنقابيين التونسيين راكموا خبرة معتبرة في هذا المجال. والمتعارف عليه في تونس أن الإضراب حق معترف به قانونيا. لكن الدولة عملت الكثير للتراجع فيه بصور ملتوية سواء لحصر مسوغاته القانونية أو للحد من مفعوله في الحياة العملية وكان من نتائج ذلك أن تم التنصيص صراحة على تحجير إضراب المساندة في تنقيح مجلة الشغل لسنة 96 وبموافقة القيادة النقابية.
وقد أصبحت القيادة من جانبها تسمح لنفسها بفسخ قرار الإضراب دون استشارة الهياكل المعنية ومن دون علمها. ونتذكر جميعا سلسلة الإضرابات التي قررت ثم تم التراجع فيها جميعها تقريبا حتى أصبح هذا الأسلوب تقليدا معروفا مس من مصداقية سلاح الإضراب والنقابات والاتحاد ككل. وهو ما تواصل قيادة الاتحاد اتباعه حتى اليوم (إضراب التعليم الأساسي الأخير).
وفي ردها على هذه الحقيقة تحاول القيادة في خطبها الدعائية نفي النقد الموجه إليها بهذا الخصوص مبرزة إحصائيات الإضرابات التي تشن في مؤسسات صغرى عادة ما تمر تحت التعتيم الإعلامي المطلق وهي تعلم علم اليقين أن هذا الصنف من الإضرابات لا يمكن أن يبرر أو يعوض مطلقا إلغاء التحركات القطاعية المؤثرة في العلاقة مع السلطة.
وإلغاء الإضرابات كان دوما يجري بتعلة أن الطرف المقابل أبدى استعدادات في آخر لحظة تحتم مزيد التفاوض وقد تفضي إلى حلول مرضية. ثم وبصورة تدريجية أصبح اللجوء إلى رئيس الدولة حتى في أبسط الملفات – حتى الحالات الفردية – هو أكثر الأساليب إقناعا لحمل الهياكل النقابية على القبول بحل قرار الإضراب ولزوم الانتظار. وبهذه الصورة قبلت القيادة تدريجيا مبدأ تعطيل هياكل الحوار وتمييع معنى التفاوض الثنائي أو متعدد الأطراف وبالتالي التضييق على حق العمال في الدفاع عن مطالبهم بالطرق القانونية أي الإضراب.
وفي السنوات الأخيرة تكثف العمل بالندوات التي عوضت الأنشطة الأصلية. وقد وجدت القيادة في هذا التقليد الجديد وسيلة للتعويض عن حالة الركود السائدة وبث الوهم حول عودة الحركية داخل الاتحاد. وفي ذات الوقت أصبحت الندوات من الطرق المتبعة لربط الصلات وكسب الأنصار والأتباع ولكن أيضا للتمعش المادي. كما وجد فيها النقابيون منابر للثرثرة والبرمجة والتخطيط لأهداف وأعمال لن ترى النور أبدا ومتنفسا للنقد اللفظي. ولئن كان ذلك يزعج القيادة أحيانا فإنها وجدت فيه سبيلا للبروز بمظهر القيادة الديمقراطية المتقبلة للنقد ما لم تنجر عنه قرارات عملية تهدد المواقع أو تشكل خطرا على الامتيازات.
ما من شك اليوم أن اللامبالاة والخنوع والتعويل على الطرق الانتهازية والفردية لتحقيق الأغراض الخاصة والشخصية عوضت على نطاق واسع روح النضال والتكاتف الجماعي لدى القواعد العمالية. لكن أن تتعلل القيادة بهذا الواقع لتبرير عرقلة التحركات وفسخ الإضرابات بحجة عدم استعداد القواعد وغياب ما ينبئ بنجاح التحرك وما إلى ذلك فهو محض نفاق سياسي لأنها تغض النظر عن مسؤولياتها في الأسباب الحقيقية لهذا الواقع ولأنها تريد أن تلقي المسؤولية على الهياكل الأساسية والقواعد متناسية ما اقترفته من أعمال تخريب ودمار طوال عشرية كاملة كان لا بد أن تفضي إلى مثل هذه الحالة.
هذه الحقائق والمعطيات والوقائع تجعلني أقول –ولعل الكثير من النقابيين يشاطرونني الرأي– أن الاتحاد اليوم فقد الكثير من قوته وتحول إلى جهاز بيروقراطي ضخم في ظاهره، مفرغ من الداخل عاجز عن الفعل والتأثير في مجريات الحياة العامة، إطار يعيش على صدى صراعاته الداخلية من أجل المصالح الخاصة التي لا تمت للعمال ولمبادئ العمل النقابي بصلة.
إن تخطي هذه الحالة في واقع الأزمة الحالية بات أمرا صعبا ومرتهنا بما يمكن أن يشهده الوضع السياسي العام من تحول في الوقت الذي كان من المفروض أن يضطلع الاتحاد بدور ريادي في تطوير معنويات بقية مكونات المجتمع المدني نظرا لتجربته وإمكانياته ووزنه الاجتماعي والسياسي.
ومن البديهيات المسلّم بها أن البيروقراطية التي تتحمل مسؤولية الأزمة عندما ننظر للأمر من زاوية الأوضاع الداخلية، لا يعقد عليها أدنى أمل في إنقاذ المنظمة مما تردت فيه. ولا أظنني أجازف بالقول أن البيروقراطية في نسختها الحالية تشارف على استهلاك نمطها وتجربتها وتكاد تستنفذ نفسها أصلا. ويبقى الأمل معقودا على القوى النقابية الأخرى وفي مقدمتها اليسار في احتمال إنجاز هذه المغامرة الكبرى.
لكن، وهاهنا بالذات دعنا نتكلم بمطلق الصراحة، فاليسار ما عاد يسار السبعينات والثمانينات ولا نخال أن مواصفاته الحالية تؤهله للقيام بالدور المطلوب منه. إن شرائح منه تحوّلت هي نفسها إلى بيروقراطية ناشئة في جوهرها حتى وإن استمرت تتغلف بالقشرة اليسارية والثورية. فقد تنكرت لقناعاتها الأصلية وتخلت نهائيا تقريبا عن رؤاها السياسية المتصلة بتغيير المجتمع وقبلت بالاحتماء بسقف النقابوية كمعبر لتحقيق مآرب مادية ضيقة ومحدودة مرتبطة في أحيان كثيرة بمصلحة رموزها أو رمز من رموزها.
إن الكثير من مناضلي اليسار دخل للاتحاد بهدف المساهمة في تغييره من الداخل وتطوير رؤاه ومواقفه وللضغط من أجل الحد من المنهج البيروقراطي في تسييره فكانت النتيجة عكسية ، إذ اندمج هؤلاء في الجهاز قلبا وقالبا. دخلوه لتغييره فغيّرهم.
ومن المميّزات المرضية لمناضلي اليسار أيضا التناحر والتعامل الفئوي وتضخيم الاختلافات الجزئية والثانوية إلى درجة التغاضي عن التناقضات الجوهرية مع السلطة والبيروقراطية بل وإلى درجة الاستعانة بالبيروقراطية لتصفية "خصم يساري" آخر. والهدف ليس غير الفوز بموقع في هذه التشكيلة أو تلك. ورغم أن جميع فصائل اليسار تقر اليوم بسلبية هذه الذهنية وخطورتها وتعلن لفظيا تحمسها لضرورة معالجتها لم تظهر بعد مؤشرات جدية على تجاوزها فعليا على أسس موضوعية وبمضامين مبدئية واضحة.
إلى جانب هذه العوائق الداخلية للحركة تنضاف مصاعب موضوعية يواجهها العمل النقابي وهي عوائق لا تختص بها بلادنا. فالطبقة العاملة في العالم قاطبة تمر بتحولات عميقة في تركيبتها وفي ذهنيتها. ونحن في تونس نواجه منذ سنوات انعكاسات الليبرالية الاقتصادية والعولمة. فأشكال تنظيم المؤسسة وتغير نمط علاقات الشغل واتساع دائرة أشكال العمل الهشة ( العمل بالمناولة والعمل الوقتي والعمل بنصف الوقت والعمل الخاص...) وظهور قطاعات إنتاج جديدة تشكل كلها عناصر مناخ جديد لعلاقات الشغل تقوض في الأساس تمركز العمل وروح التكافل الجماعي وتغذي أنماط تفكير جديدة قائمة على الفردانية والانتهازية والوصولية. وبطبيعة الحال تجد النقابات في مثل هذا المناخ صعوبات جمة في استقطاب المنخرطين الجدد بل وحتى الحفاظ على المنخرطين القدامى. وفي ظل هذه المصاعب المزدوجة، الموضوعية منها والذاتية، أجد نفسي أميل للاعتقاد بأن إنقاذ المنظمة اليوم من الأزمة الراهنة مهمة محفوفة بكثير من الشك واحتمالات الفشل.
غير أن كل ذلك لن يمنعنا من التشبث بالأمل في أن تتمكن حفنة المناضلين المتواجدين هنا وهناك على تماس الجهاز المتآكل سواء كانوا في الهياكل أو خارجها، من مختلف التيارات والمشارب، من كسب التحدي وتحقيق المعجزة.
إنه لمن المستحيل أن يخرج الاتحاد من الوضعية الراهنة بالاستمرار في الخيارات السائدة الآن وباعتماد تنظيم قديم عفى عليه الزمن أثبت ويثبت كل يوم أكثر عدم تلاؤمه مع متطلبات المرحلة. فعلاوة على وضع مسألة الدفاع عن أرضية العمل النقابي التي بلورتها فترة 26 جانفي 78 والتي لم تفقد من راهنيتها شيئا، الاستقلالية والديمقراطية والنضالية، على رأس الأولويات مع تجديد مضامينها بالجرأة اللازمة، على الاتحاد أن يوفر لنفسه الإمكانيات الضرورية لذلك.
من هذه الإمكانيات لابد من مراجعة نمط التنظيم الممركز وفي هذا الإطار يبقى تحويل الاتحاد إلى كنفدرالية هو الحل الأمثل لإطلاق مبادرة القطاعات والجهات مع تمكينهم من كل شروط العمل القانونية والمادية والعملية (حق تقرير الإضراب وممارسته، الإمكانيات المالية، رفع الوصاية على هياكل القرار القطاعية خاصة).
وينبغي أن تتم مراجعة نمط التنظيم في ضوء التحولات التي شهدتها القطاعات إذ لا مجال للاستمرار بتركيبة كالتركيبة الحالية للهيئة الإدارية الوطنية الموروثة على أكثر من ثلاثة عقود من الزمن. وبمعنى آخر لا بد من التوجه إلى تنظيم القطاع الخاص باعتبار وزنه الاجتماعي الآن والوزن الذي سيصبح عليه في مستقبل منظور.
وفي غضون ذلك لا بد من القضاء وبصورة عاجلة على عدد من التقاليد البائدة التي استقرت في حياة المنظمة وإرساء تقاليد عمل جديدة ستساعد على تحقيق التجاوز أذكر منها :
إرساء قاعدة التداول على المراكز القيادية من فوق إلى تحت. تحجير القبول بتعيين المسؤولين النقابيين في وظائف رسمية وتمثيلية بسبب مسؤولياتهم النقابية. مراجعة مسألة التفرغات التي تحولت إلى وسيلة لاجتثاث المناضلين من أوساطهم العمالية وحتى تكف التفرغات عن كونها امتيازا. مراجعة التوزيع المالي بين الهياكل. إرساء قاعدة العمل بالتناصف في بعديها النساء والرجال من جهة والقطاع العام والقطاع الخاص من جهة أخرى.
إن جملة هذه الإجراءات التمهيدية من شأنها أن تمكن الهياكل والمناضلين من بوابات للانصهار بالقواعد وخلق حوافز وآمال جديدة تعيد للعمال الثقة بالعمل النقابي ولو تدريجيا وتوفر للاتحاد قاعدة مادية لاسترداد مصداقيته.
أما إذا لم يجد النقابيون الطريق لإجراء مثل هذا التغيير فإن الحركة، والاتحاد بمعنى أدق، سيؤول إلى مزيد التهرئة والتردي وظهور الحاجة إلى لانشقاق والتعددية النقابية.
وأعتقد أن دور اليسار النقابي في هذا الأمر سيكون محددا وحاسما إن بالإيجاب أو بالسلب.
(*) نص مداخلة ألقيت في منتدى الموقف يوم 25 جوان 2003.
#حزب_العمال_التونسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليسار النقابي : واقع التشتت ورهانات المستقبل
-
الأنظمة العربية : الدكتاتورية والعمالة
-
الشيوعيون والعائلة
-
ضد الرأسمالية، دفاعا عن الاشتراكية
-
حول الوضع الدولي الراهن - من أجل جبهة عالمية معادية للامبريا
...
-
حول الوضع العام بالبلاد - لنكسر العزلة عن الحركة الاجتماعية
...
-
المقرر السياسي للندوة الأممية للأحزاب والمنظمات الماركسية ال
...
-
على هامش القمة العربية المزمع عقدها يومي 29 و 30 مارس 2004 ب
...
-
القانون الأساسي لحزب العمال الشيوعي التونسي
-
بلاغ
-
الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا- الجزء الثالث - -حركة
...
-
الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا - الجزء الثاني- في عل
...
-
الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا - الحزء الاول- النّقـ
...
المزيد.....
-
تاريخ صرف رواتب المتقاعدين في العراق لشهر ديسمبر 2024 .. ما
...
-
وزارة المالية العراقية.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر نوفمبر
...
-
يوم دراسي لفريق الاتحاد المغربي للشغل حول: تجارة القرب الإكر
...
-
وزارة المالية العراقية.. تأخير صرف رواتب الموظفين شهر نوفمبر
...
-
الهيئة العليا للتعداد العام للسكان تقرر تمديد ساعات العمل لل
...
-
واشنطن توسع عقوباتها ضد البنوك الروسية و العاملين في القطاع
...
-
وزارة المالية العراقية تُعلن.. جدول رواتب المتقاعدين الجديد
...
-
The WFTU statement on the recent development in the Ukraine
...
-
بيان اتحاد النقابات العالمي حول التطور الأخير في الحرب الأوك
...
-
مزارعون يغلقون ميناء في فرنسا احتجاجا على محادثات مع ميركوسو
...
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|