|
سيكولوجية الشتم واللعن
صلاح كرميان
الحوار المتمدن-العدد: 2623 - 2009 / 4 / 21 - 09:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تتلاقح الافكار والثقافات بشكل سريع مع التقدم التكنولوجي المذهل في مجال الاتصالات الذي ساهم في تخطي الحواجز والموانع بين الشعوب والدول. بالرغم ما للتطور المشهود في مختلف مجالات الحياة و التقارب الحاصل بين الشعوب وسهولة انتقال المعلومات من فوائد و جوانب ايجابية، فان له اضراره وانعكاساته السلبية على الثقافة وتكوينات المجتمع والقيم الاجتماعية. من هذا المنطلق اريد هنا التطرق الى ظاهرة سلبية تزداد انتشارها بصورة ملفتة للانتباه مع تطور وسائل الاتصال المختلفة كالانترنيت والقنوات الفضائية في عصرنا هذا وبالاخص في المجتمعات الغربية، الا وهي ظاهرة الشتم واللعن Cursing واستخدام الكلمات النابية، حيث اصبحت تلك الكلمات تتداخل مع لغة التخاطب اليومي للناس وخاصة لدى فئات الشباب. وتؤكد استطلاع لوكالة اسوشيتيد بريس اجري عام 2006 بهذا الصدد، زيادة الشتم واللعن لدى الامريكيين بنسبة أكبر مما كانت عليه قبل 20 سنة. وإن نسبة 72% من الرجال و 58% من النساء يشتمون علانية أمام الناس وان 74% منهم يتراوحون بين 18- 34 من العمر و 48% منهم يتراوح أعمارهم من 55 فما فوق. ويظهر هنا إن الرجال يشتمون أكثر من النساء، والشباب بنسبة اكبر من المتقدمين في العمر.
أن استخدام لغة الشتائم ظاهرة قديمة في مختلف المجتمعات، الا أنها غير محبذة عموماً وإن استخدام بعض الكلمات والعبارات كانت ولاتزال ضمن المحرمات Taboo في كثير من الثقافات. فالشتم على العموم يقلل من قدر ومكانة الشخص لدى المجتمع، لانه يهدف الى ايذاء الاخرين والتقليل من شأنهم والحط من كرامتهم وخصوصاً عند التعرض للشرف وتوجيه التهم غيرالاخلاقية الى الاخرين أمام عامة الناس، أو باهانة مقدساتتهم ورموزهم الدينية Blasphemy. لكن رغم ذلك يلجأ الناس الى الشتم واللعن عند الشعور بالاحباط والتعرض الى الضغوط النفسبة وحالات الغضب وغيرها من الحالات التي يفقد الفرد فيها السيطرة على نفسه.
توجد الشتائم والكلمات النابية وما شابهها من الحركات والاشارات في كل اللغات والثقافات والمجتمعات. وإن معظم الافراد بغض النظر عن مستواهم الثقافي والاجتماعي يلجأون الى ذلك عند تعرضهم الى حالات انفعالية معينة ولكن بنسب وأساليب مختلفة. وان الاسلوب والكلمات المستخدمة تختلف من فرد الى الاخر وحسب نوع الحالة والوضع الاجتماعي. ان لجوء الاطفال الى البكاء عند حالات الغضب ورفض تنفيذ رغباتهم يعتبر شيئأً مألوفاً ومقبولاً لدى المجتمع كوسيلة، ولكن البكاء بالنسبة للكبار تعد أمراً غير مرغوباً فيه ومحل استغراب الناس، ولكون الفرد بحاجة الى وسيلة للتعبير عن نفسه أو التخفيف عن حالة الغضب أو الاحباط أو الضغوط النفسية التي يمر بها لذلك يرى من الشتم واللعن خير ملاذ لذلك.
هناك اساليب مختلفة لتوجيه الشتائم ضمن كل مجتمع، وهي تختلف ايضاً باختلاف المجتمعات او الثقافات. فاما ان تكون بتوجيه الكلمات غير اللائقة و المنبوذة بهدف الايذاء وتشويه السمعة والحط من المكانة الاجتماعية للاخرين سواءاً كانوا افراداً أو مجموعات (عرقية، طائفية، مذهبية، مهنية وغيرها)، أو ربما توجه ضد ظاهرة معينة تعبيراً عن الاحتجاج. وغالباً ما يكون الشتم بالتلميح الى الاعضاء الجنسية للفرد المعنى به أو أحد افراد أسرته من النساء خاصة بقصد النيل من القيم الاخلاقية لديهم، او التشبيه بالحيوانات والافراد المنبوذين من قبل المجتمع، أو باطلاق العبارات العنصرية والالقاب غير اللائقة. وقد تكون الشتائم بالاشارات كاستخدام الاصبع الوسطي أو منبهات السيارات اثناء السياقة أو اية طريقة أخرى يقصد بها اهانة الاخرين والتقليل من شأنهم. وفي حالات معينة يلعن بعض الافراد حظهم أو يوجهون الشتائم لانفسهم عند ارتكابهم لاخطاء أو اخفاقهم في مهامهم أو الفشل في تحقيق اهدافهم المرجوة. وتأتي الشتائم أحياناً بكلمات مجازية لا تعني الاساءة في الحالات الاعتيادية كتقديم الشكر على ابداء موقف سئ او فعل بقصد الاساءة. وتوجه الشتائم اعتباطياً في بعض الاحيان دون تشخيص فرد أو شئ بعينه، أو يتحدث الشخص مع نفسه وهو يكيل الشتائم دون ما يقصد به أحد عند الغضب اوالشعور بالاحباط اوالتعبير عن الاحتجاج والتمرد على وضع يثير انفعاله، مثلما يحدث لدى الكثيرين عند اضطرارهم للامتثال للاشارات المرورية وهم في حالة الاستعجال للوصول الى موعد مهم. وتختلف أساليب الشتم كذلك حسب المكان والزمان. فهما اشتدت الحالة النفسية للفرد، فلن يلجأ الى استخدام الكلمات النابية وغير اللائقة عند وجوده مثلاً في اماكن تتميز بخصوصيتها، كالمواقع الدينية والجامعات والمجالس الاجتماعية والرسمية واماكن العمل، لادراكه بان خلاف ذلك سيكون له انعكاساته على شخصيته ومكانته الاجتماعية. وربما يعوض عنها باستخدام كلمات اكثر قبولاً تعبيراً عن حالته النفسية وشعوره بالتمرد على موقف يثير حفيظته.
مع تزايد تعقيدات الحياة وزيادة متطلباتها أكثر من اي وقت سابق وخاصة في العالم الرأسمالي ونمط اقتصاد السوق الذي يضع تحقيق الارباح في مقدمة الاهداف، ولايرى الانسان نفسه فيه الا روبوتاً مبرمجا يسابق الزمن لتحقيق متطلبات الحياة والوصول الى طموحاته وآماله. وتحت وطأة تلك الاوضاع يواجه الانسان حالات متزايدة من الضغوط النفسية والقلق والاكتئاب ولاحباط ونوبات الغضب والانفعال، فضلاً عن التكرار الممل في اداء الاعمال ومواجهة الصعوبات في التوافق المهني والاجتماعي ومشاكل العمل التي غالباً ما تجعل الفرد يشعر بالارهاق Burnout. بالاضافة الى مسؤوليات الاسرة وتربية الاولاد والمشاكل الاجتماعية الاخرى. وهذا ما يمكن ملاحظتها بوضوح لدى الانسان بصورة عامة في المجتمعات الغربية. وتشكل في مجملها الاسباب الرئيسية والمثيرات الجدية لحالات الانفعال والغضب التي يجعل المرء يفقد السيطرة على نفسه. وهذه هي الاسباب الرئيسية لتزايد استخدام الكلمات النابية واللجوء الى الشتم واللعن وخاصة كثرة استعمال كلمة (...F) حتى اصبحت تدخل ضمن المحادثة العادية بين الشخصين وخاصة لدى الشباب ككلمة داخلة بين الجمل والعبارات من غير ان يكون لوجودها اي أثر في سياق الكلام، حيث يستخدمها كثير منهم بشكل مفرط حتى عند الحديث مع الكبار دون الانتباه الى ما يبديه بذلك من قلة الاحترام للشخص المقابل. وأصبحت الاغاني الغربية الرائجة المعروفة بـ Rap والمنشرة بين الشباب على نطاق واسع مصدراً كبيراً لافساد سلوك الشباب وعقولهم لما تحتويها من لغة الشتائم والكلمات المقززة. وتتوفر تلك الاغاني في الاسواق على الاقراص المدمجة او ضمن مواقع الانترنيت، فضلاً عن افلام السينما والفيديو وبرامج القنوات الفضائية، وتلعب دوراً كبيراً في تعليم شتى انواع الشتائم التي غالباً ما تكون وسيلة لتعليم الشباب بالمحاكاة والتقليد. وأصبحت كلمات وعبارات تلك الاغاني ظاهرة منتشرة تستخدم كجزء مكمل لاحاديث الشباب الروتينية اليومية، حيث يمكن ملاحظتها حتى ضمن أحاديث الطلاب مع مدرسيهم أو مع ذويهم رغم التنبيه بالابتعاد عن استخدامها.
ورغم شيوع اطلاق الشتائم والكلمات المسيئة بين الناس، الآ انها تظل ظاهرة سلبية لاتستسيغها الناس، وبالاخص عندما تهدف الى والاستهانة بالاخرين.، يرى عالم النفس الامريكي تيموثى جاي Timothy Jay مؤلف (كتاب الشتم في امريكا) بأن هناك فائدة من الشتم، والاّ لاختفت الظاهرة ولا تصبح مالوفة عند الناس. ويضيف جاي بأن الشتم يلعب دوراً مهماً في تخفيف الضغوط النفسية ونوبات الغضب والقلق، وبعكسه سيلجأ المرء الى الاعتداء واستعمال العنف والايذاء الجسدي. وان يشير الشتم الى وجود مشكلة جديرة بالانتباه والى اضطراب الحالة النفسية للفرد الذي يطلقه ويظهر مدى ما يشعر به من معاناة، وخاصة لدى الفرد الذي لم يبدر منه مثل هذا السلوك من قبل مما يجلب انتباه الاخرين نحوه. لذا يمكن القول أن نوع اللغة المستخدمة للتعبير هو انعكاس لمشاعرنا الداخلية.
هناك نقطة مهمة اخرى تستدعى الانتباه اليها هو علاقة الشتم بالشخصية. والشتم كما نوهنا سابقاً له صلة بالضغوط النفسية والانفعالات، ومن الواضح ان ردود الافعال للضغوط النفسية تختلف من فرد لاخر. وعلى وفق البحوث المختصة بسمات الشخصية، فان الذين لايلجاؤن الى اطلاق الشتائم غالباً، يتمتعون بتقدير الذات بنسبة عالية ولديهم قوة السيطرة على المشاعر والتعبير عنها. لذلك نرى ان المدمنين على المشروبات الكحولية الذين يفقدون السيطرة على أفعالهم، تقل عندهم قدرة التعبير عن المشاعر ويلجأون الى الشتم واستخدام الكلمات النابية بكثرة. وحسب نظرية التحليل النفسي فأن الشتم يعبر عن الرغبات اللاشعورية في العدوان الذي يستخدم فيه الشتم عوضاً عن السلاح، كما ان الشتم يعبر عن الرغبات المكبوتة المضادة للمجتمع وما يحرّمه على الفرد.
والملاحظ ان الفرد يتعلم الشتم واللعن والكلمات المحرّمة تداولها اكثر من غيرها وبالاخص فيما يتعلق بالافراد الذين يتعلمون لغة جديدة. وهذه الحقيقة يدركها ذوي الاطفال المهاجرين الى دول المنافي ويتفاجأون بهم وهم يتفوهون بكلمات وعبارات غير لائقة بلغات بلدان المهجر قبل أن يتقنوا التحدث بها. وهذه مشكلة كبيرة تعاني منها الكثير من الاسر المهاجرة وهم قلقون بشأن التأثير السلبي لهذه الظاهرة على سلوك أطفالهم. وقد أظهرت احدى الدراسات بأن الطفل يتعلم الشتم اسرع باربع مرات بالمقارنة بالكلمات الاعتيادية. ولهذا صلة بوظائف اقسام المخ وتعلم اللغة وتحليل المفاهيم اللغوية.
وتجدر الاشارة هنا بان شيوع ظاهرة اطلاق الشتائم واستخدام الكلمات غير المقبولة اجتماعياً في الاغاني وافلام السينما والفيديو والتلفزيون والعاب الكومبيوتر والانترنيت والوسائط الاخرى التي تنتج في الدول الغرب الرأسمالية بشكل عام، تعود اسبابها الى السياسات المتبعة لخفض حالات ضغوط الحياة النفسية التي تتفاقم بشكل كبير وتترك اثارها السلبية على النفس البشرية في تلك المجتمعات. وتهدف تلك السياسة الى الحيلولة من اللجوء الى استخدام العنف الذي قد يلجأ اليه الفرد نتيجة تعقيدات الحياة العصرية في ظل الانظمة الرأسمالية، التي تفرز حالات نفسية مختلفة وتؤدي الى حدوث اضطرابات عديدة لدى الناس. فان لم يلجأ الفرد الى تهدئة مشاعره و تخفيف وطأة الضغوط النفسية باطلاق الشتائم فأنه سيضطر الى اتباع سلوك اخر ربما يكون اكثر عدونياً. وتظهرحقيقة ذلك في شيوع الظاهرة لدى طلاب المدارس العامة وعدم اتباع ادارات المدارس الاساليب الرادعة للحد من اطلاق الشتائم واستخدام العبارات السيئة المرفوضة اجتماعياً. وتعد هذه الاساليب نفسها اسباب اضافية لتفشي تلك الظاهرة وشيوعها لدى جيل الشباب.
#صلاح_كرميان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاستاذ الجامعي ودور الواقع السياسي والأجتماعي في سماته الشخ
...
-
الجذور السيكولوجية لجرائم الابادة الجماعية
-
السبيل الامثل لردع تركيا والتصدي لعنجهيتها
-
احتضان مجرمي الانفال الى متى و ما الذي يبرره؟
-
قرارحكومة اقليم كوردستان و المهام الملحة في قضية ضحايا الانف
...
-
حتى انت يا دكتور فائق كَولبي تتمادى في فضح مرتزقة جرائم الان
...
-
تفسيرمفتي أستراليا لاسباب الاغتصاب مابين اللحم المكشوف والمس
...
-
د. كمال سيد قادر يكشف من داخل سجنه عن ملابسات اختطافه ويدعو
...
-
سخط الشارع الكوردستاني يتجلى في قضية كمال سيد قادر يا وعاظ ا
...
-
ردا على المدافعين عن قرار معالجة برزان التكريتي
-
القوى اليسارية والديموقراطية في العراق: اخفاقاتها، مهامها وم
...
-
*الانفال: تجسيد للفكر القوموي لنظام البعث الفاشي
-
الديموقراطية الامريكية وقضايا الشعوب المصيرية في مشروع الشرق
...
-
تفعيل قراراجتثاث البعث والاتجاه الاخر
-
آن الآوان لنتصدى لثقافة العنف
-
أوجه التشابه بين النازية والبعثية العفلقية من حيث الفكر والم
...
-
على هامش مؤتمر اربيل .. بين -المصالحة الوطنية- ومطالبة الجما
...
-
الاعتذارعن جرائم الانفال والابادة الجماعية مسؤولية اخلاقية و
...
-
لم كل هذا الضجيج ...؟
-
اخيرا سأعلق صورتك في مكتبي يا صدام
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|