أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كريم الهزاع - لماذا لست متديناً ؟















المزيد.....



لماذا لست متديناً ؟


كريم الهزاع

الحوار المتمدن-العدد: 2622 - 2009 / 4 / 20 - 10:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


اللورد برتراند راسل ( 1872 – 1970 ) عالم رياضيات , ومنطقي إنجليزي . وأحد المناضلين الإنسانيين في الغرب . رفض التجنيد في الحرب العالمية الأولى وحرض المواطنين الإنجليز على العصيان وقد دخل السجن نتيجة لذلك . وناضل برتراند راسل من أجل حقوق المرأة في بريطانيا , خصوصاً حق التصويت والترشيح والمشاركة السياسية . كما تم سجنه للمرة الثانية في منتصف الستينات وهو في التسعينات من العمر أثر تشكيله لمحكمة حملت إسمه وشاركه فيها مجموعة من المثقفين أمثال كين كوتس و جان بول سارتر و سيمون ديبفوار وجيمس بولدوين وغيرهم , وكان هدف هذه المحكمة إدانة الاجتياح الأمريكي لدولة فييتنام . وألّف برتراند راسل قرابة السبعين كتاباً في الفلسفة والرياضيات والسياسة والأخلاق والاجتماعيات , واعتبرت كتبه العلمية ثورة في المنهج التحليلي والمنطقي . وقد حاز راسل على جائزة نوبل في الأدب عام 1950. هذا المفكر التنويري قام بإلقاء محاضرة في السابع من مارس للعام 1927 وذلك إبان حضوره لأحد مؤتمرات المنظمة العلمانية البريطانية National Secular Society في لندن . وتمت طباعتها في منشور بنفس السنة . وعنوانها " لماذا لست مسيحياً ؟ " ، وبعد أن انتهيت من قراءة هذا النص تساءلت نفس التساؤل وأن كان بشكل آخر وهو " لماذا لست مسلماً ؟ " أو لماذا أكون متديناً أصلاً ؟
يقول برتراند راسل في محاضرته تلك : كان المسيحي القديم يؤمن بالجحيم , إنه يؤمن بنار أبدية كانت تشكل إيماناً أساسياً وجوهرياً لدى كل مسيحي حتى أوقات قريبة جداً . وفي هذا البلد ( يقصد بريطانيا ) وكما تعلمون , أصبح الإيمان بالنار الأبدية شيئاً غير أساسي في المعتقد المسيحي , بعد القرار الصادر من مجلس الملكة . وبعد هذا القرار كان مطران كانتربوري ومطران يورك قد أعلنا معارضتهما لهذا القرار الملكي . ولكن في بلدنا يتم تحريك الدين عبر القرارات البرلمانية , ولهذا فقد كان المجلس الملكي قادراً على أن يسيطر على المسيحية , وأن يتم إلغاء الإيمان بالنار كجزء أساسي من معتقدات المسيحيين . إذاً , سوف لن أصر على اعتبار المسيحي رجلاً يؤمن بالنار ( وكذلك على المسلمين وعلى كل أهل الأديان أن يصروا ويؤمنوا بأن جهنم هذه ليس لها وجود ، هي وضعت لتخويف السذج ومن أجل وضع مبدأ للثواب والعقاب ) – ملاحظة : مابين القوسين أو – الشرطتين - هي هوامش لكاتب الموضوع – وحول وجود الله يقول راسل :
إذا أردنا أن نقترب من السؤال المتعلق بوجود الله فسنجده سؤالاً ضخماً وخطيراً . وإذا كنت أنوي معالجة الأمر بشكلٍ صحيح , فيجب أن تسمحوا لي بمعالجته بإيجاز واقتضاب . إنكم تعلمون أن الكنيسة الكاثوليكية قد وضعت الله كمرتكز إيماني تقوم على أساسه المسيحية , وهذا الإيمان لا يتم التطرق له بالوسائل المنطقية . إن هذه العقيدة تثير الفضول , ورغم هذا تظل عقيدة الكاثوليك الرئيسية . لقد اضطروا إلى أن ينشئوها , لأنه في وقت من الأوقات كان المفكرون المتحررون يدخلون في جدالات شتى كان سببها البحت هو الله ومحاولة هؤلاء المتحررين نفي وجوده , وهم – أي المتحررون – يعرفون في أعماقهم أن الله موجود في الإيمان فحسب , ولقد طالت مدة هذه الحوارات وامتدت لوقتٍ ليس بقصير , وشعرت الكنيسة الكاثوليكية أن الوقت قد حان لإيقاف هذا الجدل . ولهذا فقد أقرّت الكنسية أن إثبات وجود الله يتم عبر أسباب جدلية , وهي الأسباب التي ظنّوها قادرة على إثبات وجود الله , وهناك عدد كبير من هذه الفرضيات , ولكنني هنا سأستعرض القليل منها .

الجدال حول المسبب الأول :

لربما كانت قضية المسبب الأول هي أسهل وأكثر النظريات قابلية للفهم . وهي تعني أن كل شيء نراه في هذا العالم له سببه , وعندما تذهب إلى أبعد حلقات هذه السببية ستجد المسبب الأول وهو ما يسمى بـ " الله " . إن هذه الفرضية , باعتقادي , لا تحمل مصداقية قوية هذه الأيام , لأنه , وفي المقام الأول , السبب ليس واضحاً كما يتصوره البعض . إن الفلاسفة ورجال العلم خاضوا في هذه السببية , وهي ليست بالصلاحية المرجوة منها والتي كانت تؤتي أكلها في الماضي . ولكن , وبمعزل عن كل هذا , سنجد أن فرضية السببية ليست على مستوى عالٍ من المصداقية . لربما قلت أنني حين كنت شاباً , كنت أجادل بخصوص هذه الأسئلة بكل ما أوتي عقلي من طاقة , ولقد قبلت لوقت طويل بفرضية المسبب الأول , حتى جاء اليوم الذي تخليت عن هذه الفرضية , وذلك بعد قراءتي لسيرة حياة جون ستيوارت ميل , حيث قال فيها : " لقد علمني والدي إجابة السؤال عمّن خلقني . وبعدها مباشرة طرحت سؤالاً أبعد من هذا , من خلق الإله ؟ " . إن هذه الجملة القصيرة , علمتني , إلى الآن , كيف أن مبدأ المسبب الأول هو مبدأ مغالط ومسفسط . فإذا كان لكل شيء مسبب , فيجب أن يكون لله مسبب أيضاً . وإذا كان كل شيء بلا مسبب ، فسيكون العالم هو الله ! لهذا وجدت أنه لا مصداقية في هذه الفرضية . إنها تماماً مثل الفرضية الهندوكية , والتي تقول أن العالم رقد على ظهر فيل , وأن الفيل رقد على ظهر سلحفاة , ثم حين يُقال , وماذا عن السلحفاة ؟ يبادر الهندي بالإجابة : " دعنا نغير الموضوع ! ". إن السببية ليست بأفضل حالاً من السلحفائية . إننا لا ندرك السبب الذي من أجله جاء العالم بلا سبب , وكذلك في الضفة المقابلة , لا نستطيع إدراك لماذا كانت السببية غائبة وغير موجودة على الدوام . إنه لا يوجد أي داعٍ لنفترض من خلاله أن العالم له بداية . إن فكرة وجود بداية لكل شيء سببها فقر مخيلتنا عن هذا العالم . ولهذا , على الأرجح , لن أهدر مزيداً من وقتي وأنا أجادل عن السبب الأول .

الجدال حول القانون الطبيعي

هناك أيضاً جدل شائع يدور حول القانون الطبيعي . لقد كان هذا الجدل هو الموضوع المفضل لدى المجادلين طيلة القرن الثامن عشر , تحت تأثير نظريات السير إسحاق نيوتن وآراءه عن نشوء الكون . لاحظ الناس أن الكواكب تدور حول الشمس وفقاً لقانون الجاذبية , وظنوّا أن الله أعطى الضوء الأخضر لهذه الكواكب كي تتحرك وفق هذه الآلية . لقد كان هذا بالتأكيد , تفسيراً ملائماً ومبسطاً أراحهم من المتاعب التي سيخوضونها – مستقبلاً – في محاولة فهم وشرح القوانين المابعد جاذبية . وفي هذه الأيام , نحن نشرح قانون الجاذبية بأسلوب أكثر تعقيداً عبر آينشتاين ومقولاته . سوف لن أعطيكم محاضرة عن آراء آينشتاين بهذا الخصوص لأن هذا يستلزم وقتاً أطول , ولكن بصفة عامة , لا نحتاج من الآن فصاعداً أن نلجأ لدراسة القوانين الطبيعية وفقاً للميكانيكا النيوتنية ، والتي عبرها , ولأسباب لا يستوعبها الجميع , كان نيوتن يفترض أن الطبيعة تسير بشكل تماثلي وتجانسي . لقد اكتشفنا الآن أن كل ما كنا ندعوه بالقوانين الطبيعية ليست سوى قناعات بشرية . كذلك كان ثمة أشياء كبرى نعتقدها قوانين طبيعية وسرعان ما تلاشت . وعلى الطرف الآخر , عندما نتطرق إلى أية معلومة تتعلق بالذرة وحركتها , سنجد أنها – أي المعلومة – أقل تماسكاً من أن تكون قانوناً , وحال القوانين التي نصل إليها ، تكون ليست بأكثر من كشف لبعض الفرص النظرية . وهناك , كما تعرفون , قانوناً ينص على أنكم لو رميتم نردين فستحصلون على الرقم ستة مرتين بمعدل مرة واحدة في كل ستة وثلاثين رمية , ونحن لا نستطيع اعتبار هذا دليلاً عن أن رمي النرد هو شيء تم التحكم به من قبل الرامي . وعلى النقيض , إذا كانت رقمي ستة يأتيان في كل مرة نرمي بها النردين , فسنقول حينها أنه بالفعل كان هناك ثمة تصميم من قبل الرامي عن عمد . إن قوانين الطبيعة هي على هذا النحو في معظمها . إنها معدلات إحصائية تنبثق عنها قوانين الصدفة , وهذا مايجعل من مسألة القانون الطبيعي أقل إدهاشاً لنا مما كنا نتخيله عنها في السابق . وبعيداً عن هذا , ووفقاً للحالة العلمية المؤقتة والقابلة للتغير من الغد , فإن فكرة القانون الطبيعي تنطوي على مانح لهذا القانون , وهذا يكشف الخلط والاضطراب بين القانون الطبيعي والقانون البشري . إن القوانين البشرية تأمركم بالتصرف بطريقة معينة , أو بأي طريقة تودون أن تتخذوها , أو كيف تودون أن تتخلوا عنها , ولكن القوانين الطبيعية ليست بهذا الحال , فهي تصف لكم كيفية تصرف الأشياء , وتصف لكم الظروف التي على أثرها تعرفون مالذي يحدث . إنكم لا تقوون على الجدال عمّن يأمر هذه الأشياء بالتصرف بطريقتها , لأنه حتى وإن افترضتم وجود الآمر فإنكم لا تلبثون أن ترتطموا بسؤال آخر : لماذا قضى الله هذه القوانين ولم يقض غيرها ؟ وإذا قلتم ببساطة أنه فعل ذلك بمحض مشيئته المزاجية والتي هي بدون سبب , فإنكم وقتها ستصادفون أن هذا الشيء ليست بالموضوع الطبيعي , وسيتم إيقاف قطار القانون الطبيعي . وإذا قلتم كما يقول الأرذثوكسيون منكم , أن الله في كل القوانين التي اقتضاها دون غيرها لأسبابه التي يحتفظ بها - فإن السبب بهذه الحالة – سيكون خلق الكون بأجمل حلة . مع أنكم لن تفكروا بتاتاً بالنظر إليها , إذا كان ثمة سببٍ للقوانين التي قضاها الله , فإن الله سيكون مادة للقانون الطبيعي , وهذا يعني أنه لا مبرر لافتراضكم أن الله وسيط بين الطبيعة وقوانينها . إن لديكم حقاً تصوراً سابقاً وخارجاً عن الإرادة الإلهية , إن الله لا يخدم أغراضكم , لأنه ليس المانح النهائي للقوانين . وباختصار , فإن هذه الجلبة عن القوانين الطبيعية لم تعن بعد الآن أي شيء كانت تعنيه في السابق . إنني أسافر عبر الزمن لأستعرض تاريخ هذه المجادلات , وأجد أنها تقوم بتغيير شخصية الله بمرور الوقت , لقد كان هناك ثمة جدالات فكرية تخوض بهذا المجال , وخلقت من ورائها سفسطات وتصورات خاطئة . وحين نتقدم بالزمان إلى الأزمنة الحديثة فإن هذه الجدالات تذبل وتفقد احترامها , وتسبب التشويش والمزيد من الغموض – ( المناهج الدراسية للمملكة العربية السعودية تقول بأن : خطان مستقيمان يسيران متوازيان لا يلتقيان إلا بأذن الله ، وبالإمكان أيضاً أن نقول بأن الدائرة ليس لها زوايا إلا بأذن الله ، هذا هو ما تذهب إليه الوهابية وفقه أبن باز وتلاميذه من رفض لكل قوانين الطبيعة ) ، وتحت هذا المنطق تتصيد الوهابية وأتباعها في الخليج بعض السذج لكي يعلنوا أسلامهم مقابل كفالة عمل أو قليلاً من المال أو وظيفة مؤذن نشاز ، وسرعان ما تصل حالة المسلم الجديد إلى مد يده لسؤال العابرين :
- بابا أنا مسلم جديد ، ممكن فلوس ؟
ويرد الآخر مقهوراً :
- أنا مسلم قديم وشبعت تبن وتخلف ، ليش ما ظليت على تبنك القديم ) .
وبسبب الأزمات الاقتصادية وسيولة المال لدى اللحية وغياب الوعي والتعليم تتحول مصر من دولة حضارية إلى دولة ظلامية بشرها عبارة عن كائنات تتشح بالسواد والحزن والعنف والموت وضد ثقافة الفرح .

الجدال حول التصميم

الخطوة التالية من استعراضي للفرضيات لابد أن توصلني إلى جدلية التصميم . إنكم تدركون جميعاً أن فرضية التصميم تقتضي أن كل شيء في هذا العالم تم تصميمه من أجل أن نعيش وفقاً له , ولو أن العالم اختلف قليلاً عن صورته الحالية لما استطعنا أن نعيش فيه . هذه هي جدلية التصميم , إنها تكتسي بحلة من الفضول , ولنفترض فرضاً , أن ثمة أرانب تملك ذيولاً بيضاء كي يسهل علينا اصطيادها , لا أعرف كيف ستتصرف الأرانب وفق هذا النظام ؟ إنه أمر يبعث على السخرية . لابد أنكم تعرفون نكتة فولتير , وهو أن الأنف موجود من أجل الرؤية ! إن هذا النوع من الآراء لم يتحول فقط إلى علامة من علامات القرن الثامن عشر , لأنه منذ مجيء داروين بدأنا نفهم بشكل أوضح لماذا تتكيف الكائنات الحية مع بيئاتها . وهذا يعني أن البيئة ليست هي من تكيف نفسها من أجل الكائنات , لأن الكائن هو من يكيف نفسه وينمو مرتبطاً بظروف بيئته , وهذه هي قاعدة التكيف البيئي , ولا يوجد أي دليل على التصميم فيها .
عندما تلقون نظرة إلى فرضية التصميم , ستجدونها الأكثر جذباً لانتباه الناس حيث يؤمنون بها وتكسو عيونهم وتشرح لهم هذا العالم , وبكل تفاصيل هذه الفرضية , بكل زللها وخللها , ستجدونها الأكثر صموداً وشمولية بين الناس لآلاف السنين . إنني بصدق لا أؤمن بهذا . وإذا كنتم متأكدين من أن الله يحيط بهذا الكون ويبدعه ويحاول تجميله لملايين السنين , فلماذا لم ينجب أفضل من جماعة كوكو كلاكس كان , أو الفاشيون , أو السير وينستون تشرتشل ؟ حقاً إنني لا أشعر بأي جمال في هذا , خصوصاً حين يتقدم أحدهم ويقول لي : " أنظر أي كائن رائع هو أنا , أنا أفضل كائن في الوجود على الإطلاق " . حقاً إنني لا أجد أي شيء مبهر عن جمال هذه الأشياء ، فضلاً عن ذلك , إذا قبلتم بالقوانين العلمية المعهودة , فيجب أن تدركوا أن الحياة على سطح هذا الكوكب هي عرضة للموت بشكل حتمي . إن الحياة ومضة في قعرٍ سحيق , أو طور من أطوار الاضمحلال في النظام الشمسي , وفي نقطة معينة وسط هذا الاضمحلال ، تملكون أن تتكيفوا مع الحرارة , وهي التي تناسب نمو البرتوبلازما وقتياً , ثم لا تلبث أن تزول وتموت , هذه هي الحياة القصيرة التي ننعم بها داخل النظام الشمسي . تستطيعون أن تلاحظوا في القمر صورة الأرض الميتة , والجامدة , والخاوية من أي شيء .
إن هذه الآراء محبطة للكثيرين , والناس إذ يخبرونكم أنهم لن يملكوا القدرة على العيش من بعد , فلا تصدقونهم , إن هذا بلا منطق , فلا أحد سيقلق على مصير الأرض لملايين السنين نتيجة لذلك . حتى وإن تصوّروا أنهم يقلقون كثيراً حيال هذا الأمر ، إنهم حقاً يخادعون أنفسهم , إنهم يقلقون عن أشياء دنيوية وطبيعية , وقد لا تكون إلا هضماً عسيراً للحقائق . حقاً إنه لايوجد شخص واحد أعلن قلقه واستياءه من مصير الحياة لملايين السنين . وعلى الرغم من أن نظرتنا ستكون بائسة حيال الموت بعد أن ندرك حتميته , وفي بعض الأحيان , حين أتأمل وأستبصر في أحوال الناس وشؤونهم , فإنني أراها تعزية وسلواناً لهم . إن القصد من حديثي ليس إسباغ البؤس على الحياة , وإنما تنويه – فقط – من أجل لفت الأنظار إلى مواضيع أخرى متوارية عنا .

الجدال حول الأخلاق الدينية

والآن سوف نصل إلى خطوة أبعد وهي ما سأسميها التطور الفكري لمجادلات الدينيين , وهو ما يفضي بنا إلى الجدال حول وجود الله بالنهاية . إنكم لتعلمون حقاً , أنه في الأيام الخوالي كانت النقاشات عن وجود الله تتمحور حول ثلاثة أشراط فكرية , وكلها قد تم تنظيمها والتطرق لها من قِبل إيمانويل كانط في كتاب ( نقد العقل المحض ) . وقد خلص إلى ابتكار جدليته الخاصة عن الأخلاق , وقد اقتنع بها أشد القناعة . لقد كان كالعديد من الناس , ففيما يخص المسائل الفكرية كان متشككاً , ولكن فيما يخص الأخلاق فهو مؤمن ضمنياً بالمآثر التي تشرّبها وآمن بها في بداية حياته . وهذا يوضح ما شدد عليه المحللون النفسيون من أن التأثير الرهيب لنشأتنا في الطفولة يمتد إلى المستقبل البعيد .
إن كانط , وكما أقول , قد ابتكر جدلية أخلاقية جديدة تتعلق بوجود الله . وكانت جدليته متشكلة على هيئة صور عديدة من الأفكار التي كانت سائدة بشكل واسع إبان القرن الثامن عشر , وقد كانت على صيغٍٍ شتى . فهناك صيغة تقول أنه لاوجود للخير والشر مادام الله غير موجود , وأنا هنا لست معنياً بالتحقيق عما إذا كان هنالك ثمة اختلاف بين الخير والشر أم لا ، فهذا سؤال آخر , ولكنني معني بطرح السؤال الآتي : إذا كنتم واثقون من وجود الاختلاف بين الخير والشر , فإنكم ستكونون عالقين في موقف وهو : هل هذا متوقف على كينونة الله ؟ فإذا كان هذا متعلقاً بها , فهذا يعني أن الله لا يكترث بالاختلاف بين الخير والشر , ويعني أنه لا يوجد أي فحوى حقيقية عن طيبة الله . وإذا كنتم ستتخذون نفس موقف اللاهوتيين , أن الله طيب , فعليكم أن تعترفوا أن الخير والشر يملكان نفس المعنى وأنهما مستقلان عن كينونة الله , لأن كينونة الله طيبة حسب تصوركم وأيضاً كما خلقها . كما أنكم مجبرون حينئذٍ أن تقولوا أنه ليس بواسطة الله يأتي الخير والشر إلى الوجود , بل يكونان في جوهر منطقهما سابقين على وجود الله . وبالطبع – إذا كنتم ترضون بهذا – ستستطيعون أن تقولوا أن ثمة كائن متعال يقوم بإملاء أوامره على الإله الذي صنع هذا العالم . أو أن تتخذوا نفس موقف اللا أدريين – وهو الموقف الذي لطالما وجدته معقولاً – وهو أن هذا العالم قد تمت صناعته من قبل الشر في اللحظة التي كان الله فيها غافلاً . هناك آراء من الممكن أن تقال دائماً حيال هذا الأمر , وأنا لست معنياً بدحضها .

الجدال حول العدالة والظلم

هناك أيضاً قضية مثيرة لفضولنا فيما يتعلق بإشكالية الأخلاق , وهي أن البعض يقولون بأن وجود الله ضروري من أجل تحقيق العدالة في هذا العالم . في الحقيقة , هناك جزء من هذا الكون نعرف فيه يقيناً أنه يوجد قدر كبير من الظلم و الكثير من المعاناة . وإذا كنتم ترغبون في إحقاق العدالة فعلاً , فإنكم ملزمون بالتفكير في المستقبل وتحديث طرق المعيشة هنا في كوكب الأرض , وكما يقولون عن ضرورة الله , أو كما يقولون عن وجوب افتراض الجنة والنار من أجل تحفيز الناس على تحقيق العدل في الأمد البعيد ، فإنني أرى هذا مثيراً للتساؤل , فإنكم لو حللتم الموضوع بنظرة موضوعية , فستقولون : " بالنهاية .. نحن لا نعي غير هذا العالم . ولا نفقه شيئاً عن بقية الكون . وحتى الآن , مادام أن ثمة شخص قادر على الجدال حول كافة الإمكانيات والاحتمالات , فإنه سيقول أن هذا العالم الصغير هو عينة كافية , وأنه إذا وُجد الظلم هنا , فلسوف يوجد في أي مكان بالكون " . ولنفترض أن أحدهم حصل على صندوق برتقال وقام بفتحه , ووجد أن البرتقالات العليا في الصندوق كانت فاسدة , فإنه لن يجادل , وربما سيقول أن البقية فاسدة , هذا ما سيقوله الشخص الذي يفكر بعلمية لأن هذه البرتقالات عينة الصندوق وتحتل الموقع الأعلى منه . وهذا ينطبق على الكون , إننا هنا نجد قدراً عالياً من الظلم , وهذا سبب أكثر من كافٍ كي نقول أن العدالة لا تحكم شيئاً من هذا العالم . وهذا ما يرد على ادعاءات الألوهيين . وبالتأكيد , لقد كانت النقاشات التي تحدثت بها إليكم هي ليست في الواقع من يتحكم بالناس ويدفعهم للإيمان بالله . إن مايجعل الناس يؤمنون بالله ليس المسائل الفكرية على الإطلاق . إن أغلبية المؤمنين بالله قد تم تلقينهم أن يفعلوا ذلك منذ سن مبكرة , وهذا هو السبب الرئيسي وراء إيمانهم . وأعتقد أن السبب الثاني الرئيسي وراء إيمان البشر بالله هو أمنية الإنسان بالسلامة , إنه الشعور بأن لك أخاً أكبر يقوم برعايتك وحراستك . وهذا يلعب دوراً هائلاً في التأثير على رغبة الناس في إيمانهم بالله .

شخصية المسيح

والآن أريد أن أصرح بكلمات قليلة عن موضوعٍ لا أرى أنه لم يتم التطرق له بشكلٍ وافٍ من قبل المفكرين العقلانيين , وهو موضوع المسيح , هل هو أكثر البشر حكمة كما يقال أم لا ؟ لقد تم الأخذ بالاعتبار واليقين دائماً أن المسيح هو الأكثر حكمة وأنه يجب أن نتفق على هذا . ولكنني لا أؤمن بهذا الشيء , ثمة نقاط أتفق فيها مع المسيح أكثر من أي شخص يدعي المسيحية , ولكنني بنفس الوقت لا أستطيع أن أؤمن بكل ما قاله على طول الخط , وسأذهب مع المسيح إلى أبعد نقطة معه أكثر من أي مدعي للمسيحية . سوف تتذكرون أن المسيح قال : " لا تقاوموا الشر , بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً " . إن هذا ليس بالكلام الجديد أو بالمبدأ المسيحي , إنها مقولة استخدمها لاوتسي وبوذا قبل المسيح بخمسمائة أو ستمائة سنة قبل المسيح . وهذه هي الحقيقة التي لن يقبلها المسيحيون . ولا يوجد لدي أي شك من أن رئيس الوزراء الحالي هو مسيحي مخلص , ولكنني بنفس الوقت لا أنصح أياً منكم في أن يذهب ويصفعه على خده ! وأعتقد أنكم ستجدون أن هذه المقالة سيفهمها هو على أنها مصاغة وبتعمد على النمط المجازي .
وهناك نقطة أخرى أجدها ممتازة لأن أتطرق لها , إنكم تتذكرون جيداً أن المسيح قال : " لا تدينوا لكي لا تدانوا " . إن هذا المبدأ سوف لن تصادفوه في المحاكم المسيحية . لقد شهدت في حياتي العديد من المحاكمات المعقودة من قبل مسيحيين مخلصين واضطهدوا فيها خصومهم , وأثناء محاكماتهم لم يشعروا أنهم قد ناقضوا المسيحية بشيء . إن المسيح يقول : " من سألك فأعطه , ومن اقترض منك فلا ترده " . إن هذه أيضاً مقولة نبيلة ، ولقد نبهكم رئيس المؤتمر أنني لن ألج بحديثي عن السياسة , ولكنني في الوقت ذاته لا أستطيع أن أنكر ملاحظتي أنه في الإنتخابات العامة الأخيرة كان ثمة معركة عن الجزء المتعلق بـ " بالاقتراض" فلا أحد يقرض أحداً , ولهذا فإنه يحق لي أن أتأكد من أن الليبراليين والمحافظين في هذا البلد لا يتحمسون لفكرة المسيح بدليل أنهم ألقوا بنصائحه خلف ظهورهم . وهناك أيضاً قول مأثور عن المسيح وهو يحمل مضموناً مهماً , ولكنه لا يلقى شعبية كبيرة لدى أصدقائنا المسيحيين , فالمسيح يقول: " إن أردت أن تكون كاملاً , فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء , ويكون لك كنز في السماء ، وتعال واتبعني " . إن هذه أثر رائع , ولكن كما صرحت , الأغلبية لا تطبق هذا الأثر . إن كل هذه المقولات المنحولة للمسيح هي نبيلة , على الرغم من صعوبة العيش بها ، وأنا شخصياً لا أدعى أنه يمكنني ذلك , ولا أرى أن المسيحي يمكنه ذلك أيضاً .

الخلل في تعاليم المسيح

لقد أكدّت على إيجابية بعض تعاليم المسيح قبل قليل ، إلا أنني سآتي على ذكر بعض التعاليم التي لا يستطيع أحدهم أن يبرهن على حكمتها أو ارتباطها بأي شيء إلهي ومسيحي كما تم تصوير ذلك في الأناجيل , وأعتقد أنه لم يهتم أحد بتحليل السؤال التاريخي عن شخصية المسيح , فمن ناحية تاريخية , يساورنا الشك في وجود المسيح أصلاً , وإذا ما كان موجوداً فإننا لم نكن لنعرف أي شيء عنه , فلهذا لن أحلل السؤال التاريخي نظراً لصعوبته . بل سأكتفي بتحليل المسيح كما ورد في أسفار الإنجيل وإصحاحاتها , متخذاً من الروايات الإنجيلية مصدراً لي , وسأقتطع بعض الحبكات التي لا أجد فيها أي حكمة بالنسبة لي . لسبب أو لآخر , لقد ظنّ المسيح أن قدومه الثاني سيتحقق قبل ممات كل البشر في ذلك الوقت . وهناك الكثير من الآيات تدلل على هذا الظن , منها كما ورد : " ومتى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى . فإني الحق أقول لكم : لا تملكون مدن اسرائيل حتى يأتي بني الإنسان" . وهناك الكثير من الأماكن التي ظنّ فيها المسيح أنه سيظهر فيها حسب التوقيت الزمني للعديد من الأحياء آنذاك . لقد كان هذا إيمان معاصريه الذين آمنوا بقدومه , وكان هذا هو الأساس الأخلاقي لتعاليمه , ولكنه لم يظهر . كذلك قال المسيح : " فلا تهتموا للغد ، لأن الغد يهتم بنفسه " – بلا خطة خمسية بلا تخطيط بلامواعيد ، وحينما تحل أزمة اقتصادية سيكون ذلك غضب ألهي وفق منطق القرضاوي وزغلول النجار - وأشياء من هذا القبيل نجدها في الإنجيل , وهي تبشر بقدومه الثاني متنبأً أنه سيحدث في فترة قريبة آنذاك , ولكنه لم يأتِ في الفترة التي وعد بها , ورغم هذا فمازال العديد ينتظرونه . لقد عرفت بعض المسيحيين ممّن يتوقعون عودة المسيح الثانية قريباً , وأعرف شخصاً كان يرعب الحشود بطريقة وعظية مخبراً إياهم بدنو ظهور المسيح الثاني وكان على سيماه اليقين , ولقد وجد العزاء من قبل الحضور الذين تجاوبوا معه ومع مواعظه . لقد صدّق المسيحيون القدماء هذه التعاليم , وتجنبوا الشك فيها , لأنهم وجدوا أن عودة المسيح قريبة . إن هذا يكشف أن المسيح لم يكن حكيماً حينما بشر بقرب مقدمه , وإنه لم يكن على قدرٍ عالٍ من الحكمة كما هو حال العديد من البشر العاديين , ولم يكن ذكاؤه عالياً أوإلهياً - كل الأديان السماوية تعتبر ظهور المسيح علامة من علامات القيامة .

المعضلة الأخلاقية

نحن الآن بصدد التطرق إلى السؤال الأخلاقي , وهناك خلل في شخصية المسيح وجدته , ذلك لأنه وعد بالجحيم للكفار , إنني لا أتصور أن ثمة شخص يملك أخلاقاً إنسانية يمكن له أن يعد بعقوبة أبدية . إن المسيح بالتأكيد يوجد به خلل فاضح في الإنجيل نفسه لأنه يبشر بالعقوبة الأبدية , وسنجد باستمرار أن المسيح يعد بالسعير لكل من لا يصغي لدعواته , لقد فعل هذا بضراوة – وكل الأنبياء فعلوا ذلك - وهذا الموقف لا نجده شائعاً لدى المبشرين الحقيقيين والدعاة , وهذا ينقِص من ألوهية المسيح . وعلى سبيل المثال , لن نجد مثل هذا الوعيد صادراً من سقراط , لأنه لا يعد مخالفيه بالجحيم بل سنجد أن سقراط كان متحضراً وإنسانياً مع الأشخاص الذين لا يوافقونه الرأي , وبتقديري الشخصي , كان سقراط أبعد من أن يكون شخصاً يستاء من مخالفة الآخرين له . إنكم لتتذكرون بعض الكلمات التي قالها سقراط وهو يحتضر , وإنكم لتتذكرون كلماته التي يوجهها للأشخاص الذين يختلفون معه في الآراء . إن المسيح يقول في الإنجيل : " أيها الحيات أولاد الأفاعي ! كيف تهربون من دينونة جهنم ؟ " . إن هذا الكلام الصادر من المسيح كان موجهاً إلى أشخاص لم يؤمنوا بدعوته . إن هذا الكلام بتقديري ليس أسلوباً ملائماً , كما أن هناك العديد من الإشارات في الإنجيل تتحدث عن الجحيم . هناك الجملة الشهيرة التي تتحدث عن الخطيئة تجاه روح القدس , والمذكورة في الإنجيل والتي تقول : " ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له , وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له , لا في هذا العالم ولا في الآتي" . إن هذه الآية سببت مآسٍ وفجائع عظيمة في التاريخ تجاه الأشخاص الذين اتهموا بالإساءة لروح القدس , وكانت العقوبة ضدهم مبنية على أنه لا غفران لهم و يجب عقابهم في الدنيا والآخرة . إن أفقر الرجال إلى النبل لن تصل به الوحشية إلى أن يبتكر هذا النوع من الثأر . كذلك يقول المسيح : " يرسل ابن الإنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم , ويطرحونهم في أتون النار ، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان " . وهكذا يسترسل الإنجيل بوصف العويل وصرصرة الأسنان للكافرين , آية تلو آية , ولسوف يتضح لكل قارئ أن ثمة استمتاع عند الحديث عن عويل الكفار وصرصرة أسنانهم في السعير , وأن هذه اللحظات آتية لا محالة . وإنكم لتتذكرون الآية الإنجلية التي تتحدث عن الخراف والأجداء , وكيف أن المسيح في عودته الثانية سوف يفرق بين الخراف والأجداء , وسيقول للأجداء : " اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية " . ثم يتابع المسيح قائلاً : " النار المعدّة لإبليس وملائكته " . ومن ثم يقول المسيح مرة ثانية : " وإن أعثرتك يدك فاقطعها . خير لك أن تدخل الحياة أقطع من أن تكون لك يدان وتمضي إلى جهنم , إلى النار التي لا تطفأ . حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ " . إن المسيح يردد هذا مرات ومرات . إنني أرى أن أي معتقدٍ يعتمد على التهديد بالنار , لا يسعه إلا أن يكون معتقداً وحشياً , إنه معتقد يزف القسوة إلى هذا الوجود , ويهب الأجيال الإنسانية دهوراً من الرعب والخوف . وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن المسيح هو نفسه الوارد في الأناجيل , فإنه يمكننا تحميله مسؤولية كل هذا الرعب والانحطاط . ثمة أشياء أقل أهمية , مثال على هذا ، قصة الخنزير في الإنجيل , وهي بالطبع قصة ليست باللطيفة مع الخنازير , حيث تمت التضحية بها بعد أن تلبسها لبوس الشيطان لتنجرف إلى البحر ومنه إلى الجحيم . عليكم أن تتذكروا أن المسيح يفترض به أن يكون لامتناهي الذكاء , كان قادراً على أن يقول للشياطين ببساطة ( اغربوا ) فيغربون , لكنه اختار أن يرسلهم إلى الخنازير . وكذلك كانت هناك قصة شجرة التين , والتي لطالما أثارت فضولي , إنكم لتتذكرون ما جاء فيها : " وفي الغد لما خرج من عنيا جاع . فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق , وجاء لعله يجد فيها شيئاً . فلما جاء إليها لم يجد شيئاً إلا ورقاً , لأنه لم يكن وقت التين . فأجاب يسوع وقال لها : لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد " . ومن ثم يقول له بطرس : " يا سيدي , انظر ! التينة التي لعنتها قد يبست ! " . إن هذه القصة فعلاً مثيرة للاهتمام , فالشجرة كانت موسم لا ينبت فيه التين , وبالتالي لا نستطيع أن نلومها لأنها لم تنبت تيناً . إنني حقاً لا أجد أي حكمة ولا فضيلة في شخصية المسيح بالدرجة التي يحاول البعض تصويرها لنا عبر التاريخ . إنني مضطر أن أعتبر سقراط وبوذا أكثر حكمة من المسيح .

العامل العاطفي

كما أسلفت سابقاً , إنني لا أعتقد أن العامل الأساسي وراء قبول الأديان هوالمنطق الفكري , بل إن البشر يقبلون بالأديان لعوامل عاطفية بالأساس , لقد قال لي أحدهم أنه يجدر بي أن لا أهاجم الدين , لأن الدين يجعل من البشر طاهرين وفضلاء . إنكم تتذكرون الجلبة التي أحدثتها رواية صامويل بتلر والمعنونة بـ( Erewhon Revisited ) وهذه الرواية تتحدث عن شخصية هيجز الذي يسافر إلى بلدة نائية , وبعد إمضاءه لبعض الوقت هناك قرر أن يهرب بمنطاد مصنوع من البالون , وبعد عشرين سنة , ثاب إلى نفس البلدة , ووجد أن الناس كانوا قد ابتدعوا ديانة جديدة كانوا يعبدونه فيها , ويسمونه " ابن الشمس " . وقد آمنوا أن هيجز قد سافر إلى الجنة , ووجد أن موسم الاحتفال السنوي بصعوده إلى الجنة قد اقترب . وقد استمع خلسة إلى رجلين يتحادثان , وهما الكاهن هانكي والكاهن بانكي , ويقولان لبعضهما أنهما لم يحظيا بالفرصة لمقابلة السيد هيجز , وأنهما لا يرغبان أبداً بذلك ، لأنهما كانا كهنة الديانة . شعر هيجز بالغيظ يملأ صدره , ثم ذهب إليهما , وقال .. سأكشف كل هذه الألاعيب , وسوف أخبر الجميع أنني لست إلا رجلاً سافر بالمنطاد فحسب ولست إلهاً لهم . ثم أجاب عليه الكهنة وقالوا : يجدر بك أن لا تفعل هذا , لأن كل أخلاقيات البلدة تأسست على هذه الخرافة , فإذا عرف الناس هنا أنك لم تسافر إلى الجنة سيجحدون أخلاقهم وينحطون . واقتنع هيجز بما قاله الكاهنان , وقرر أخيراً أن يمضي بصمت عن هذه البلدة – ولهذا يخاف الكهنة ورجال الدين على مصالحهم ويقولون لك : " لا تسألوا عن أشياء أن بدت لكم تسوءكم " ، ومن هنا غاب فن السؤال عن ثقافتنا ، وتم أعلاء شأن التابوهات والمقدسات والشخصيات تحولت إلى أصنام تُعبد - إن هذه هي الغاية من فكرة أننا سنصبح منحطين إذا ما تخلينا عن الدين المسيحي – أو أي ديانة سماوية – يبدو لي أن الأشخاص الذين تدينوا كانوا هم الأكثر ذنباً . ولسوف تجدون هذه الحقيقة على درجة من الخطورة , فكلما ازدادت قوة الدين وصلابته في أي عصر من العصور , ازدادت الوحشية والقسوة وانقطعت الصلة في علاقات البشر . ففيما يسمى بعصور الإيمان , عندما كان المسيحيون يؤمنون قلباً وقالباً بتعاليم المسيح , كان هذا هو نفس الوقت الذي انتشرت فيه محاكم التفتيش ذات الجرائم الشنيعة , وهو نفس الوقت الذي أُحرقت فيه ملايين النساء بتهمة الشعوذة , وهو نفس الوقت الذي مورست فيه كل أشكال البشاعة والعنف ضد الناس وبإسم الدين – والإرهاب وثقافة العنف. إنكم ستلاحظون في كل أنحاء العالم , أن كل دعوة للإنسانية , وكل تطور في مجال القانون ، وكل دعوة لمناهضة الحرب , وكل دعوة لمناهضة العنصرية والعبودية , وكل دعوة إنسانية وأخلاقية حقيقية , ستلاحظون أن كل هذه الدعوات اتقفت كل الكنائس على محاربتها والتصدي لها بضراوة . إنني أصرح – وبكل ما أوتيت من ثقة – أن الدين المسيحي الممثل بكنائسه ومؤسساته , إنه هو الخطر الأكبر الممحق بأخلاق الإنسان .

كيف أعاقت الكنيسة التطور ؟

قد تظنون أن كلامي مليء بالمبالغات عندما أقول أن الكنيسة مازالت على حالها الاستبدادية , وأنا لا أعتقد أنني بالغت بشيء . سوف ألقي عليكم هذه الحقيقة , ويجب أن تكونوا صبورين حين أذكرها . إنها ليست بالحقيقة التي تجلب الفرح والحبور لكم , والكنيسة أحوج ما تكون لسماع مثل هذه الحقائق : تخيلوا أنه في العالم الذي نعيش في ظلاله اليوم كان ثمة فتاة يافعة تريد الزواج برجل مصاب بداء الزهري , في هذه الحالة ستقول الكنيسة الكاثوليكية : " إن هذا الزواج مقدس وأبدي , لهذا يجب أن تبقيا متزوجين للأبد " . ولن يحق للمرأة وفق المعتقد الكاثوليكي بأن تمنع نفسها من إنجاب أية أولاد من هذا المريض بل الواجب أن تنجب دون التفات للأضرار الصحية . هذا هو رأي الكنيسة الكاثوليكية , إنني أرى هذا التشريع في غاية الهمجية . فكل شخصٍ لم ترتبط عواطفه بالعصاب الديني ولم تمت أحاسيسه ومشاعره سوف يجد أن مثل هذا التشريع يجب أن يوقف وأن لا يستمر . لقد ضربت لكم هذا المثال , وإن هناك الكثير من الممارسات الحالية للكنيسة تتذرع بما تسميه الأخلاق وتمارس عكسها ضد أشخاص يفترض بهم أن لا يعانوا من كل هذا . وبالطبع , وكما نعلم , ماتزال الكنيسة هي المعارض الأكبر لكل مشروع إنساني يحاول تقليص المعاناة البشرية .

الخوف كقاعدة صلبة للدين

الدين مؤسس في صميمه على الخوف أولاً وأخيراً , إنه الخوف من المجهول والغامض , وكما قلت , الدين يوهمك بأن لك أخاً كبيراً يراقبك ويرعاك ويقف معك في مشاكلك وأزماتك . إن الخوف هو أسّ الدين , الخوف من الغموض , الخوف من الهزيمة , والخوف من الموت . إن الخوف هو أبو الوحشية , ولهذا يجب أن لا نتعجب لماذا سار الدين والوحشية يداً بيد – الخوف يصنع الديكتاتورية - ذلك لأن الخوف هو أساس هذين الشيئين ( الدين والوحشية ) . إننا بهذا العالم بدأنا نتعرف للتو عن أشياء جديدة , وبدأنا نسيطر عليها بمساعدة العِلم . والعلم انفصل عن المسيحية وقرر مواجهتها , كما قرر أن يواجه الكنيسة , وقرر أيضاً أن يواجه كل المقولات والآثار التراثية . إن العلم قادر على مساعدتنا على تخطي هذا الخوف الذي سيطر على عقول البشر لأجيال طويلة . إن العلم هو من سيجعلنا نتخطى عقدة الخيالات والبحث عن حلفاء وهميين في السماء . إنه وحده القادر على تحفيزنا بالعمل – هنا في الأرض – وجعل هذا الكوكب مناسباً لنا كي نعيش فيه , بدلاً من ذلك المكان المفترض الذي بشرتنا به الكنيسة طيلة قرون .

ماذا يجدر بنا أن نفعل ؟

نريد أن نقف على أقدامنا وأن ننظر للعالم بعيون واسعة , وأن نقول أن هذه حقائق جيدة , وتلك حقائق سيئة . ذاك قبيح وذاك جميل . أن ننظر للعالم كما هو وأن لا نخاف شيئاً . وأن نقهر الصعاب عبر الذكاء وأن لا نتخذ من الخوف النابع من الدين سيداً لنا . إن التصور الإلهي بكامله مستوحى من الدكتاتورية الشرقية القديمة . إنه إيمان لا يليق بالرجال الأحرار . ففي الكنيسة نسمع أشخاصاً يحتقرون أنفسهم وينتقصون من قدراتهم ويصفون حالهم بأنهم مذنبون وخطاءون , إن هؤلاء الأشخاص لا يستحقون مني أي احترام . فنحن نستحق أن نقف بشموخ وأن نشاهد وجه العالم بوضوح , إننا نستحق أن نقدم كل الجهود الممكنة في هذا العالم , وإذا لم تتكلل هذه الجهود بالنجاح المرجو منها , فإن هذا بالنهاية أفضل بكثير مما اقترفه الأقدمون طيلة القرون الماضية . إن العالم الإنساني يحتاج المعرفة والتسامح والشجاعة . ولا يحتاج للتباكي والحسرة على ما فات . كما لا يحتاج عالمنا إلى تكبيل العقل وتصفيده من أجل بضعة كلمات جمعتها بعض العقول الجاهلة في الماضي السحيق . إن عالمنا هذا يتطلب شجاعة كبيرة في النظر إلى ماهو خفي وغامض عبر العقول الذكية والمفكرة . إنه يحتاج الأمل من أجل المستقبل , وليس النظر إلى ما هو ميت ومتلاشي مما مضى . فالماضي يتجاوزه الحاضر الذي تصنعه العقول النابغة - لذا علينا أن نعرف نشوء و ارتقاء الأفكار ، ومقارنة الأديان لكي نعرف مصبها الرئيسي وعلاقتها بالأسطورة وبمشروع غسيل الأدمغة وتحالف السياسي والكاهن وشاهبندر التجار ضد الديمقراطية ، من كل ما سبق وسواه يعلن الإنسان : لماذا لست متديناَ ؟












#كريم_الهزاع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفرنكفونية
- الإرادة العامة .. أو السياسية
- القانون وعلم الأنماط
- حرقة الأسئلة .. أو قراءة في المشهد الثقافي الكويتي
- القولون السياسي
- نريد حلاً
- في البحث عن لحظة انعتاق
- الرقابة والتطرف
- ما هو شكل الطبخة القادمة في الكويت ؟
- الدين أفيون الشعوب الفقيرة
- الديمقراطية في العراق
- حوار مع الروائي العربي الكبير ... احمد إبراهيم الفقيه
- ذهنية فتغنشتاين
- أمنياتنا في القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية
- حنا مينه : مصداقية الخطاب السياسي تتراجع
- عروس السفائن .. لن ينطق الحجر
- في فهم التناقض والدعوة للحوار
- محاولة فهم للمرونة الاقتصادية
- إسماعيل فهد إسماعيل : الرواية العربية عالمية متجاوزة .. مشكل ...
- إلى متى سنظل خارج التاريخ؟


المزيد.....




- كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
- “التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية ...
- بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول ...
- 40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
- المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كريم الهزاع - لماذا لست متديناً ؟