منذر بدر حلوم
الحوار المتمدن-العدد: 801 - 2004 / 4 / 11 - 05:31
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
من شأن المتابع لما تعلنه وسائل الإعلام العالمية ولما تكتبه الصحافة العربية عن الانتخابات الروسية أن يلاحظ مدى تبعية الثانية للأولى, في قراءة الواقع الروسي. ولكن, إذا كان من الممكن الوقوع على المصالح التي تجعل الإعلام الأمريكي والغربي, عموما, يعلن النشور, مستنهضا تابعيه المحتضرين من جماعة يلتسين وعائلته, فأين يمكن العثور على المصلحة العربية؟ أفي تل أبيب أم في واشنطن؟!
تنصّب إحدى الصحف الشيوعية السورية بوتين قيصرا على روسيا, فيما تطابق صحيفة عربية أخرى, عبر رسم كاريكاتوري, بينه وبين راسبوتين ذي التاريخ البشع, تاركة لواحدة من مواطناتها الورقيات القول بانتخابات بريجنيفية, وبين هذا وذاك تُنشر ترجمات عن صحف أجنبية فإذا بفراتكوف رئيس وزراء القيصر بوتين, وإذا ببوتين فرعونا وكاهنا أكبر, وإذا بالانتخابات غير ديمقراطية. وهنا يتساءل المرء: متى تبدأ الديمقراطية, بالنسبة للإعلام, ومتى تنتهي؟
تقول التجربة الروسية, للأسف, بأن مفهوم الديمقراطية بالنسبة للإعلام العالمي مفهوم متحرك تبعا لرأس المال الذي يدير هذا الإعلام ويرسم سياسته. فحين كان المطلوب تفكيك الاتحاد السوفيتي لم يثر قصف يلتسين للبرلمان (تشرين الأول,1993) تساؤلات جدّية حول طبيعة الديمقراطية التي يمكن أن تأتي بعد دك معقل البرلمانيين, وحتى الأسئلة التي طرحت حول شيشان يلتسين لم تكن ذات علاقة بالديمقراطية, بل إنّ تبنّي يلتسين لبوتين والمجيء به إلى السلطة مرَّ كأنه فعل لا علاقة له بمفهوم الديمقراطية... أمّا اليوم فتثار هنا وهناك زوبعة من الأسئلة التي تدور حول أحد الأمرين التاليين أو حولهما معا: ميل الشعب الروسي إلى العبودية وميل بوتين إلى الاستبداد. أيكون, فعلا, رقم نتائج الانتخابات الروسية (72%) معبّرا عن عبودية واستبداد أو استعباد, أم عن شيء آخر؟
أولا, لا بد أن يكون ذا دلالة, في غير صالح المشككين بديمقراطية الانتخابات, تطابق الرقم الذي أشارت إليه استطلاعات آراء الناخبين قبل الانتخابات مع نتائجها. علما بأن الاستطلاعات قامت بها جهات لا تخضع للرئاسة, إن لم يكن العكس؛ وثانيا, لا بد من التساؤل عن الأسباب التي جعلت شعبية بعض أهم الأحزاب الروسية كالحزب الشيوعي واتحاد القوى اليمينية تتراجع بشكل كبير, مقابل ازدياد شعبية بوتين, غير المنتمي لأي من الأحزاب, ازدياداً بلغ حوالي عشرين بالمائة(بالمقارنة بين نتائج الدورتين الانتخابيتين)؛ وثالثا, لا بد من الوقوف عند الأسباب التي جعلت الناخب الروسي يصوّت لصالح بوتين شخصيا, أو لصالح غيره؛ أمّا رابعا وأخيرا, فلا بد من النظر إلى البوتقة التي تشكّل فيها الوعي الانتخابي الروسي في السنوات الأخيرة.
أمّا بخصوص أولاً, وعلى الرغم من العينة المحدودة التي يشملها أي استطلاع سابق للانتخابات, فغالبا ما تعبّر النتائج عمّا تقول به العينة المستبينة آراؤها. وبالتالي تكون النتيجة معبّرة عن رأي شريحة أوسع من الناس, بصرف النظر عما ينبني عليه هذا الرأي, وعن الكيفية التي تدار بها الانتخابات. وفيما لا يقال بخصوص نتائج الاستطلاعات ديمقراطية أو غير ديمقراطية, يقال ذلك, عند اللزوم, بخوص نتائج ما تشير إليه, أي الانتخابات. ولمّا كانت ذاكرة حُماة الديمقراطية قصيرة نذكّرهم بانتخابات عام 1996, فحينها فاز يلتسين فوزا مريحا لم يعترض أحد, ممّن يعترضون اليوم, على ديمقراطيته, على الرغم من أنّ استطلاع آراء الناخبين السابق للانتخابات بيّن تدني شعبية يلتسين إلى رقم قياسي مخجل (حوالي 5%). وإذا كان ثمة معجزات قادرة على تغيير عقول الناخبين بهذه السرعة الفائقة فعلى وسائل الإعلام الديمقراطية اكتشافها.
وأمّا بخصوص ثانيا, فالبحث يستوجب الوقوف عند بعض الوقائع التي جعلت شعبية الشيوعيين تتراجع قُبيل الانتخابات البرلمانية الأخيرة, في وقت لاحق لخسارة اتحاد القوى اليمينية, على ما بين الخسارتين من علاقة وثيقة, نستمهل استغراب القارئ إلى حين إعلانها.
ففي الإعلام الروسي الأوليغاركي, يبدو اتحاد القوى اليمينية حارسا للديمقراطية مدافعا عن مبادئها. ولكن, عن مصلحة من يعبّر هذا الحزب وعن أية ديمقراطية يدافع؟ تربط اتحاد القوى اليمينية علاقة رحم بالأوليغاركية الروسية. فهنا تجد, بصورة مباشرة أو غير مباشرة, من يدخل في (العائلة) التي تشكّلت في أحضان يلتسين بدائرتها الصغيرة والكبيرة. هنا تجد مصالح تشوباييس ونيمتسوف وفولوشين, وهنا تجد الديمقراطية المعنية بحرية أبراموفيتش وبيريزوفسكي وغوسينسكي وخودوركوفسكي وغيرهم من الأوليغاركيين الروس حَمَلة الجنسية الإسرائيلية ومالكي الشبكة الممسكة بخناق الاقتصاد والإعلام, أصحاب رؤوس الأموال الخيالية, رؤوس الأموال التي سنتوقف قليلا عند مصادرها من زاوية علاقتها بنتائج الانتخابات, وهنا تجد سر خسارة اليمينيين والشيوعيين والليبيراليين من جماعة يفلينسكي (يابلكو) وبعضا من سر نجاح بوتين, النجاح الذي بدأ يتصاعد طردا مع وتائر التضييق على هذه الطغمة المالية, قبل أن تأتي على كل ما في مستقبل روسيا من أسباب العيش.
وهكذا, ففيما عاش اتحاد القوى اليمينية, المدعوم من الطغمة المالية والناطق باسمها, انفصالا عن الواقع الروسي, اعتقادا منه بإمكانية استقطاب الناس, إلى ما لا نهاية, حول شعار الديمقراطية وتكرار تجربة الالتفاف حول يلتسين, غاضّا النظر عن الظرف التاريخي الذي جاء بالأخير وعمّا تسببت به ديمقراطيته من نهب لمصادر العيش في روسيا, وإذلال وتجويع واحتقار للشعب الروسي.. فيما عاش الديمقراطيون والليبيراليون هذا الانفصال منتهين إلى خسارة الانتخابات, راح الحزب الشيوعي يعلّق آمالا على فقراء روسيا الذين دفعت بهم عائلة يلتسين, ولن أقول اقتصاد السوق, إلى ما دون خط الفقر, متعاليا على مسؤوليته التاريخية أمام ما هم فيه من بؤس, متخففا من شعاراته وتحالفاته السابقة نحو تحالفات مع ناهبي لقمة هؤلاء الفقراء, طمعا بالمزيد من كراسي الدوما, إلى أن تكشّفت الحملة الانتخابية البرلمانية عن فضيحة أدت, باعتقادي, إلى خسارة الشيوعيين الكثير من أصوات ناخبيهم المحتملين (حوالي 40%). تجلّت هذه الفضيحة, التي تحدّثت عنها قنوات تلفزيونية وصحف عدة, بإرسال زوغانوف من يمثّله إلى لندن للقاء بيريزوفسكي, المطلوب للعدالة الروسية, بيريزوفسكي الذي سبق أن أعلن أنّه سيتخلص من رئاسة بوتين خلال أقلّ من عام, متوعّدا الشعب الروسي بعبودية لصالح رأس ماله ورؤوس أموال أمثاله, مبشّرا بأنّه سيكتري السلطة بالمال حين يشاء, هو نفسه من أرسل إليه زوغانوف رسوله سعيا نحو تمويل حملة الشيوعيين للانتخابات البرلمانية. وما أن افتضح الأمر, وتبيّن عجز الحزب الشيوعي عن تقديم ردود مقنعة, أمام اعترافات من تنعّموا بزيارة لندن, حتى خسر قناعات الكثير من الناس الذين توهّموا وقوف الشيوعيين ضد ناهبي أموال الشعب.
أمام منافسين, كهولاء, خاسرين بحكم عدائهم للقمة الروس وكرامتهم وقوة بلدهم, فاز حزب (روسيا الواحدة) حليف بوتين بأكثرية المقاعد البرلمانية, مدعوما بإنجازات ملموسة على الأرض. فحسب المحلل السياسي الكسندر رازوفايف " يعود نجاح (روسيا الواحدة) في الانتخابات البرلمانية إلى نجاحات بوتين الاقتصادية في فترته الرئاسية الأولى, كما إلى ضمانته الاستمرار بالإصلاحات " وهنا نتوقف عند بعض الأرقام التي جاء بها رازوفايف, كمثل: انخفاض معدّل التضخّم من 36.5% عام 1999إلى 12% عام 2003, مقابل ارتفاع احتياطي النقد الذهبي من 12.5مليار دولار عام 1999إلى 68.1 مليار دولار عام 2003 (حساب 28/11/2003)؛ ثم ازدياد الناتج الإجمالي المحلي بنسبة فاقت 7%عام 2003 .
وهكذا شكّل فوز حزب (روسيا الواحدة) الكبير مقدّمة لتوقع فوز مماثل لبوتين في الانتخابات الرئاسية, وليس من باب التحالف بينهما, إنّما من باب الأرضية الواقعية الإيجابية التي يقف عليها هذا النجاح وذاك, مقابل أرضية الأحزاب المنافسة, التي رفعت جوقة التشكيك بديمقراطية الانتخابات.
ثمّة أرقام أخرى صبّت في صالح إعادة انتخاب بوتين, أرقام تعكس حجم المُنجَز خلال أربع سنوات من رئاسته. فوفق الأرقام المعلنة رسميا, والتي لم تُدحض من قبل المعارضة, تمَّ انخفاض نسبة من هُم دون خط الفقر من 35% إلى 23.3% (علما بأن برنامج بوتين المعلن يسعى إلى تخفيض هذه النسبة بحيث لا تتجاوز 10-12% في السنوات الأربع القادمة)؛ وارتفاع الرواتب لتتجاوز, بما يزيد عن ضعفين, الحد الأدنى المطلوب للمعيشة (يبلغ متوسط الرواتب اليوم 5524 روبلا)؛ وفيما لم يكن الراتب التقاعدي عام 1999 يتجاوز 70% من الحد الأدنى المطلوب للمعيشة فإنه تجاوز عام 2003 هذا الحد للمرة الأولى بعد الإصلاحات؛ والأهم من ذلك, أنّ نسبة من ينسبون أنفسهم إلى الطبقة الوسطى في المجتمع ارتفعت من 18% عام 1999 إلى 48% عام 2003؛ أمّا التدهور الاقتصادي الذي استمر خلال سنوات حكم يلتسين فقد حل محلّه نمو اقتصادي بلغ, وفقا لمؤشر الناتج المحلي الإجمالي: 9% عام 2000, و5% عام 2001, و 4.3% عام 2002, و7.3% عام 2003 , فيما وصل في الشهرين الأولين من عام 2004 إلى 8.1%. فيما يقول برنامج بوتين بتأسيس القاعدة لزيادة هذا الرقم, خلال السنوات العشر القادمة, ضعفين على الأقل.
مقابل ذلك, يرى اليمينيون الديمقراطيون والليبيراليون قاعدتهم الانتخابية في مواطنين روس مغفّلين, حمقى يحتضنون, مغمضي العيون, الملوك اليلتسينيين قادة عمليات الإصلاح والإفلاس والخصخصة, الممسكين بخناق الاقتصاد والسياسة والإعلام, متغاضين عما جلبته لهم سلطتهم من فقر وذل وهوان. وهكذا, فنتائج الانتخابات التي تُرضي اليمينيين والتي تجعل الانتخابات ديمقراطية بالنسبة لهم ولوسائل إعلامهم ووسائل الإعلام الغربية هي النتائج التي تضمن سلطة رأس المال الذي نورد مثالا عنه, من خلال أبراموفيتش, تدليلا على طبيعته وطبيعة القائمين على دعم سلطة أصحابه, وبالتالي طبيعة المناهضين لما فيه من جريمة, وعلى رأسهم بوتين.
نشرت (فينانس) في 16/02/2004 ما يطابق معلومات نشرتها قبلا (فوربس) الأمريكية عن المليارديريين الروس. ومن خلال المنشور هنا وهناك يتبيّن وجود خمسة وعشرين (روسيا) في القائمة تتجاوز ملكية الواحد منهم المليار دولار أمريكي. والمشكلة ليست, طبعا, في أن يملك أحدٌ ما ملايين أو مليارات, مع أنّه يندر أن تخلو هكذا أرقام من الجريمة, إنما المشكلة في الطريقة التي جمعت بها هذه الأموال, وفي الفعل السياسي الذي تؤديه. فثروة الميليارديريين الروس تعود إلى سيطرتهم على قطاع النفط والتعدين الذي كان قبل سنوات قليلة حكوميا (سوفيتيا):(15 ملياردير في قطاع النفط, و9 في قطاع التعدين, و واحد فقط في قطاع الاتصالات). أمّا زعيم هؤلاء المليارديريين الروس فهو رومان أبراموفيتش (مواليد ساراتوف, 1966). تقدّر ثروة أبراموفيتش باثني عشر مليار دولار, وهو صاحب نادي تشيلسي البريطاني الشهير. وأبراموفيتش هذا يملك, حسب(سوبيسيدنيك), 50-60% من أسهم الشركة النفطية (سيب نفط), أمّا باقي الأسهم فموزّعة بين يفغيني شفيدلر و فاليري أويف. إضافة إلى ذلك, تتحدّث (فينانس) عن نشاطه في Millhouse Capital حيث يملك( 26.01% من أسهم يوكوس, و25% من أسهم الألمنيوم الروسي). وعن بعضٍ من قصة إثراء أبراموفيتش, الذي أطلق عليه الكسندر كورجاكوف عام 1998 لقب (جزدان عائلة يلتسين), تنشر (سوبسيدنيك) في 05/03/2003 ما كتبه أوليغ رولدوغين تحت عنوان (دون وجه), وما نأخذ منه ونعلّق عليه: أراد أبراموفيتش أن يصبح ملكا نفطيا, فساعتده معرفته ببيريزوفسكي وبالـ (عائلة)في تحقيق ذلك, حين كانت شركة النفط لا تزال حكومية. استخدم الرجل طريقة المزاد الذهبي للفوز. أُشركت في المزادات الثلاثة التي نظّمت لبيع (سيب نفط)(1975 - 1997) شركات عمرها يوم واحد (وهمية أو تحت اليد أو أسست خصيصا لتحقيق المزاد وضمان نتيجته). وبالنتيجة, تم شراء الأسهم بقيمة تقل بخمسة وعشرين مرّة عن سعر السوق الحقيقي. وبذلك تمّت الصفقة, كما أُريدَ لها أن تتم. لكن يلتسين رحل وجاء بوتين. ومع مجيئه بدأ التساؤل عن قانونية الصفقات. وهكذا, فما أن راجعت مؤسسة الرقابة المالية الصفقة, بتوجبه من بوتين في محاولة لإخراج روسيا من الفقر والتبعية, وأعلنت عدم قانونيتها (عام 2001), العام الذي تهربت فيه الشركة من دفع ضرائب متوجّبة عليها بقيمة عشرة مليارات دولار, حتى صار الأمر يعني لا ديمقراطية بوتين وعودته بنظام روسيا إلى الاستبداد. وسرعان ما تبين أنّ إتمام الصفقة لم يخل من تهديد وإرهاب:" أتذكرون,- يتساءل كاتب المقال-, في كانون الثاني من العام الماضي حين أبدى كاسيانوف (رئيس الوزراء السابق) وستيباشين(رئيس الوزراء الأسبق) انزعاجهما من أن أسهم شركة (سيب نفط) بيعت بنصف قيمتها الحقيقية ثم ما لبثا أن تراجعا مبديين ملاحظة فلسفية:(وماذا في الأمر, المزاد هو المزاد!), ناسين ما أكدته (روس نفط) من أنه لم يكن هناك أي مزاد, فالمزاد كان أشبه بمهزلة. فقد تبين أن العملية تمّت على خلفية من الإرهاب والخطف لإبعاد المنافس الحقيقي, ممثّل الشركة الصينية CNPC. وبالنتيجة انسحبت الشركة المنافسة من المزاد, ففاز به أبراموفيتش. وبالطبع, كان لا بد أن يتحوّل رأس المال المنهوب إلى رأس مال سياسي ليكون بإمكانه اكتراء السلطة, كما قال بيريزوفسكي. وهكذا, وبمساعدة الأخير ترشّح أبراموفيتش لعضوية الدوما عام 1999 وانتُخبَ عن منطقة تشوكوتكي, التي صار محافظا لها, محققا بذلك السلطة, من جهة, وإمكانية المزيد من النهب من جهة أخرى. فقد هيّأ له أصحابه, من متبقيات العائلة في الكريملين, الحصول على رخصة التنقيب عن النفط في منطقة خليج أناديرسكي في بحر بيرينغ, حيث يقدّر المخزون النفطي بستة عشر مليار طن.
وبعد, فإن أبراموفيتش, مثالنا, الذي يجعل اليوم تدقيق تاريخه المالي, إلى جانب خودركوفسكي, بوتينَ مستبدا ويخرج انتخابه عن الأصول الديمقراطية, كان, وفقا لوثيقة مأخوذة عن مصادر غربية نشرت على APN في 29/06/1999, قد صدرت بحقه, عن النيابة العامة في موسكو في 19/07/1992 , مذكرة توقيف بتهمة سرقة وقود ديزيل بقيمة أربعة ملايين روبل, وكان آنذاك لا يزال مديرا صغيرا لمؤسسة صغيرة هي(ABK). لكن مضمون المذكّرة لم ينفّذ, طبعا. وإذا كان مثال سرقة وقود الديزل يجيب جزئيا عن مصدر المال الأولي الذي استخدم في السيطرة على ورثة الاتحاد السوفيتي, فمن حق المرء أن يتساءل عن مصادر خارجية, قد تكون في تلك الدولة, الخارجة عن القانون الدولي, التي سرعان ما يتحصّن طواغيت المال بحمل جنسيتها, وبخروجها عن القانون. وفي جوهر غير بعيد عن طبيعة هذا الانتماء تجد خطة محكمة, يُنسَبُ إلى تشوباييس-(أحد أفراد العائلة البارزين والذي يرأس اليوم منظومة الطاقة الموّحدة, التي أُريِدَ من خلالها الإمساك بخناق قطاعات الإنتاج جميعها, وفكرتها تنسب إليه, وقد انضم إليه منذ أيام قلائل فولوشين مدير إدارة الرئاسة, فولوشين الذي شكّل عزله, بصفته واحدا من عتاة العائلة, تحديا كبيرا لبوتين)- دور مهم في تصميم بعض مفاصلها, خطة تم بموجبها تجريد المواطنين الروس من مدخراتهم, خطة قامت على تأسيس شركات وهمية جامعة للأموال تحت إغراء فوائد مرتفعة, ثم إعلان إفلاسها, من نمط (MMM) والكثير من المصارف الخاصة؛ وعلى إعلان إفلاس الدولة, وضياع مدخرات المواطنين في مصارفها؛ وتوزيع ما يشبه السندات المالية (فاوتشرات) على المواطنين لتعويضهم عن بعض من مدخراتهم التي ابتلعها التضخم؛ ثم بعد تأكيد استحالة صرف هذه الأوراق في أي مكان, تم شراؤها بأرقام تقل كثيرا جدا عن قيمتها الافتراضية, وجمعها من قبل عملاء من صاروا لاحقا في العائلة واستبدلوا بها المصانع والشركات الكبرى.. وعلى الرغم من ذلك كلّه يستغرب اتحاد القوى اليمينية والليبراليون المدافعين عن هكذا رأسمال منهوب, يستغربون ألا ينتخبهم المنهوبون المستضعفون, وحين لا يفعل الضحايا ذلك, يُتَّهمُ مثقفوهم بضعف الوعي السياسي وعامتهم بالعبودية.
وهكذا, فرأس المال السياسي الذي تقوم عليه القوى الخاسرة في الانتخابات الروسية هو من نمط رأسمال أبراموفيتش وطبيعته, ومن طبيعة رأسمال شريكه خودركوفسكي, الموقوف قيد التحقيق الآن, خودوركوفسكي الذي يملك 44% من أسهم الشركة النفطية (يوكوس) والذي حين أُعلن عن تجميد أرصدته في المصارف السويسرية, أَعلنَ شريك له من إسرائيل, فاتني أن أسجّل اسمه حين سمعته في ندوة تلفزيونية:(ليست مشكلة! لن يفقرنا ذلك, فهذه ليست آخر نقود لدينا), خودركوفسكي المطالَب اليوم بتسديد قرابة خمسة مليارات دولار أمريكي من الضرائب التي تهرّب من دفعها, خودركوفسكي نفسه الذي ما انفك منافسو بوتين يرون في ملاحقته استبداد الأخير, - ولست أدري إن كان يفاجئ أحدا أن يتقدم الحزب الشيوعي, دون غيره, بمذكّرة إلى الدوما للإفراج عنه- ؛ وهو أيضا من طبيعة رأسمال غوسينسكي الهارب من العدالة الروسية والذي يتنقّل في تخفيه بين إسرائيل وأوروبا, ورأسمال بيريزوفسكي الهارب المتخفي من العدالة الروسية في أحضان الديمقراطية الإنكليزية, الديمقراطية التي ترى في مساءلته القانونية لاديمقراطية بوتين؛ وكذلك رأسمال بروخوروف, وزيوزين, وبوتانين, وديريباسكا, وليسين, وفريدمان, وهيرمان خان, وكثيرين غيرهم ممن يندر أن تجد بينهم كنية روسية واحدة, ناهيك عن الجنسية الإسرائيلية التي يحملها الكثير منهم (وربما كان ذلك أحد الدوافع التي جعلت الدوما الروسية تتبنى في 19/03/2004 تعديلا يحصر منصب رئيس الوزراء بمن يحمل الجنسية الروسية وحدها)..وعلى الرغم من ذلك كلّه تجد من يبحث في علم نفس العبودية الروسية, وليس في علم نفس التمرّد, عن الأسباب التي جعلت الروس لا ينتخبون مُستَعبِديهم. أمّا أنا فأتساءل مرّة أخرى عن مصلحة الإعلام العربي في مهاجمة بوتين وفي التكرار الببغائي لما يروّج له أصحاب المصلحة في إقصائه. ولمن لا يجهل خطورة الحلف الذي يشكّله رأس المال, الباحث عن قاعدة انتخابية شعبية في روسيا, أورد بعضا مما كتبه اليكسي سيدوروفيتش في (كوميرسانت) تحت عنوان (مستشار الرئيس في خدمة العائلة) (20/12/2002)" تربط بينهم, (أي بين أعضاء العائلة), علاقات متينة ومعقّدة تسمح بالحديث ليس فقط عن توافق في الأهداف بل عن تأسيس تكتّل مالي وصناعي وسياسي.. فهذا الحلف,- وهو يعني الحلف الجزئي المؤلف من محمودوف (رئيس شركة الأورال للتعدين), وأبراموف (مالك أوروهوليدينغ), وديريباسكا, وأبراموفيتش, وميلنيتشينكو-, يتحكم بالزراعة من خلال تحكّمه الكامل (100%) بإنتاج الأسمدة الآزوتية وبنسبة كبيرة من إنتاج الأسمدة الفوسفورية؛ ويتحكم بصناعة السيارات من خلال امتلاكه لشركتي (غاز) و(أورال) وجميع المعامل التابعة لهما؛ كما يتحكّم بصناعة الطيران, من خلال امتلاكه مصنع (آفياستار) في أوليانوفسك, ومصنع(آفياكور) في سمرقند, ويتحكم بشركة(آيروفلوت) بما يملكه من أسهم فيها؛ وهو يتحكّم أيضا باستثمار الغابات وصناعة الأخشاب من خلال امتلاكه لمعامل كثيرة كمثل(أوست إيلينسكي) و(بايكالسكي)و(أرخانغلسكي)..الخ؛ أمّا الأمور المصرفية فيتحكم بها من خلال امتلاكه (م.د.م بانك)و(كونفيرس بانك), و(إنفوستراخ سيوز),و(أوتوغاز بانك)و(سيبدريجين بانك)و(مصرف التوفير الشعبي), كما يتحكم الحلف بشركات تأمين ضخمة, مثل( إينفوستراخ)و(ريكو غارانتيا)..الخ؛ وأمّا حقل الإعلام فيوليه الحلف اهتماما خاصا. فهو يتحكم بوكالة النشر (فيك إينفورماتسيا) و(روس بيتشات), وبمحطة ORT, فيما يملك أبراموفيتش وحده 15% من أسهم القناة التلفزيونية TBC , إضافة إلى محطات التلفزيون المحليّة كـ (تلفزيون سيبيريا)..الخ. وبامتلاكهم وسائل الإعلام يقوم الأوليغاركيون بالتأثير في العملية السياسية والتأثير في نتائج الانتخابات, وإيصال مرشحيهم إلى السلطة التشريعية".
لكن, هذه الخلاصة التي انتهى إليها سيديروفيتش لم تتحقق في الانتخابات الأخيرة. فما اعتاد الحلف عليه في زمن يلتسين, وما بدا له سهلا ومضمونا بل أبديا, استعصى في زمن بوتين. فقد اكتشف الحلف أنّه أعجز من أن يقرر نتيجة الانتخابات البرلمانية والرئاسية هذه المرّة. لذلك لم يعد غريبا أن يقول بلا ديمقراطية انتخابات خرجت عن سيطرته. أمّا عجز الحلف, الذي لا يزال مدعوما بالمال وبوسائل الإعلام, عن إيصال مرشحيه إلى الدوما, ثم عن التأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية, مقارنة بقدرته الكليّة في زمن يلتسين, فيعود إلى أمرين:
أولهما, تبلور القوى المناهضة لانهيارِ روسيا, المناهضة لتحويلِ روسيا إلى مزرعة يديرها رأس المال الصهيوني, وامتلاك هذه القوى وسائل دفاع وتوعية أكثر فاعلية, ثم امتلاكها القدرة المؤثرة على فضح طبيعة رأس المال الذي يملكه الأوليغاركيون, رأس المال الذي لم يكن الروس يعلمون عنه, قبلا, إلا أقل من قليل. وبالتالي افتضاح دور رأس المال هذا في الفقر الذي عانته روسيا ودوره في رسم تبعيتها المذلة في السياسة الدولية. مما أدى, بالنتيجة, إلى تراجع الناس عن الأحزاب المتحالفة مع الطغمة المالية, وإعادة النظر في طبيعة الطروحات التي يتبناها الإعلام الغربي ومثيله الروسي المملوك صهيونيا, بل وضعها موضع التشكيك, بحيث صار العداء لبوتين, كافيا لدى الكثيرين من الروس للقول بوطنيته؛ أمّا ثاني الأمرين, فهو اختبار الواقع لمصداقية بوتين, بدليل الأرقام التي ذكرنا بعضها, وسنضيف.
وبذلك يكون الناخب الروسي, الذي صوّت لصالح بوتين, قد صوّت ضد المزيد من نهب روسيا وإفقارها وإضعافها وتبعيتها, بل صوّت لحلم يتوخّاه في بوتين, بتحقيق العدالة, وإن كان يعي أن لا عودة إلى الوراء وأن بوتين نفسه لا يرى إمكانية إعادة النظر بالخصخصة وما يرتبط بها من ملكية. ليس لأنه لا يريد ذلك, إنما لأن ذلك يشكّل خطا أحمر, ليس داخليا بمقدار ما هو خارجي, خطا يتحدد بمن يساندون قوى الداخل الروسي المناوئة لبوتين اليوم. ومن هنا, بالذات, تأتي أهمية حصول بوتين على ما يزيد عن 72% من أصوات الناخبين, فقد كان بوتين بحاجة إلى قوة ناخبين بحجم التحديات المستقبلية الممكنة, وبحجم رؤوس الأموال التي يطاولها التساؤل و, ربما, بحجم القوة المسيطرة على العالم والتي من مصلحتها أن تبقى روسيا ضعيفة. وأمّا الـ (72%) فكان يمكن أن تكون أكثر لولا أنّ الناس اطمأنوا إلى أنّ بوتين لن يحتاج إلى إعادة فرز الأصوات من أجل بضع مئات من الأصوات توصله إلى البيت الأبيض, عبر ولاية أخيه.
إضافة إلى العامل الاقتصادي الذي لعب, من خلال هوية المتحكمين به وافتضاح معادله السياسي دورا في استنهاض الوعي الوطني الروسي, فثمة عامل آخر شكّل عنصرا فاعلا في استنهاض الوعي الوطني, هو التحدي الخارجي الذي تعاظم دوره على خلفيته الضعف الذي أصاب روسيا في الصميم, في عهد يلتسين. ولذلك, فلا يجوز الحديث عن خيار الناخبين الروس بمعزل عن ثلاث تجارب, في أقل تقدير: حرب البلقان وعجز الروس عن التأثير في مصير يوغوسلافيا, حيث استهين بأخوتهم الصرب السلافيين؛ وحرب العراق التي جعلت الروس يتحسسون النار ويشعرون بقرب لهيبها منهم مع فقدان دولتهم هيبتها؛ وحرب الشيشان في إسقاطاتها الخارجية, على كلا الحربين؛ وأبعاد ما يسمّى بـ(الإرهاب الشيشاني) الأفغانية وبالتالي الأمريكية الصنع, الأمر الذي كثيرا ما يتحدّث عنه الروس.
ولذلك يأتي التصويت لبوتين تصويتا لروسيا قوية تستعيد هيبتها الامبراطورية. وأمّا بوتين فقد استطاع إقناع المواطنين, بصفتهم روسا, قبل أن يكونوا ناخبين, بحرصه على وحدة روسيا وقوتها. فإذا كان قد رُوّج لرؤيةِ دعايةٍ انتخابية في ترافق مجيء بوتين إلى السلطة مع الحملة العسكرية الكبيرة الثانية على الشيشان, فإن هذه الدعاية فقدت قدرتها على الفعل, من حيث أن الروس باتوا يرون في انفصال الشيشان بداية تفكك روسيا الاتحادية, الأمر الذي لا يغفرونه لأنفسهم أو لرئيسهم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ولذلك وُضع الموقف من الشيشان في تضاد كلي مع الضعف والانهيار, (وربما لهذا السبب حافظ الاتجاه القومي بقيادة جيرينوفسكي على عدد مقاعده البرلمانية). وإذا كانت الشيشان قد شكّلت, في زمن يلتسين, مصدرا للاختلاف, مدعوما باحتجاج الروس وخوفهم على أبنائهم فإنها راحت, في زمن بوتين, تشكل دافعا للوحدة الوطنية وتلمّس الشعور بالقوة. وأما الخطوات العملية التي تجعل الروس يصدقون الأحاسيس الوطنية التي يلمسونها في بوتين, فيناصرونه, فتتثمل في أمرين: أولهما, التزام الرئاسة الروسية بما تعلنه حيال المسائل الخارجية, ومثال ذلك, النجاح الذي تحقق بفضل الموقف الروسي الصارم, والذي كان من نتائجه تشكيل حلف مع أوروبا ضد حرب أمريكا على العراق, خلافا لما لمسه الروس من ضعف يلتسين, زعيم عائلة الأوليغاركية التي تبكي خسارتها اليوم, وتهديداته الفارغة أثناء حرب البلقان؛ أمّا ثانيهما فاهتمام بوتين بتعزيز القدرة الدفاعية الروسية, الأمر الذي يلمسه الروس من خلال جملة أرقام واقعية, منها, ارتفاع ميزانية الدفاع, في فترة بوتين الرئاسية الأولى بمعدل 2.92 ضعفا. فبينما كانت الميزانية 140.8 مليار روبل عام 2000 , وصلت إلى 411.47 مليار روبل هذا العام (2004), كما ارتفعت الميزانية المخصصة لتموين الجيش أكثر من أربعة أضعاف. فيما ازداد الطلب على الصناعة الحربية بين عامي 2000 و 2004 بمعدل خمسة أضعاف ونصف (341.2 مليار مقابل 62 مليار), وبلغت قيمة الأسلحة المصدرة عام 2003 خمسة مليارات ونصف المليار دولارا أمريكيا. وترافق ذلك كلّه, وما زال, مع تحويل الجيش إلى جيش محترف, في خطة يُتوقع الانتهاء منها مع حلول عام 2007.
أخيرا, لعل فيما ورد أعلاه من مقومات اختيار بوتين في الواقع التاريخي الذي تعيشه روسيا الاتحادية اليوم, ما يفضح الهدف من رفع جوقة الزعيق في وجه نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية, التي جاءت, كسابقتها البرلمانية, في غير صالح ممولي القنوات الإعلامية المتباكية على الديمقراطية. فأين تكون مصلحة القنوات الإعلامية العربية التي راحت تُلبس بوتين ثوب القيصر حينا وثوب راسبوتين حينا آخر؟ أتكون مصلحتها في واشنطن أم في تل أبيب؟ أم تكون مصلحتهما فيها؟
#منذر_بدر_حلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟