يبدو أن سرعة إيقاع المتغيرات السياسية في العالم صار منافساً لما تحمله الثورة العلمية من متغيرات، الأمر الذي يوقع المراقبين السياسيين كل يوم في مواقف لا يحسدون عليها. وتشتد المسألة تعقيداً حين يتم تناول القضية العراقية، خاصة في الآونة الأخيرة حيث تحمل لنا وسائل الأعلام يومياً أخباراً جديدة وعجيبة عن ما أصطلح على تسميته " الضربة العسكرية المتوقعة على العراق" مقترنة بتحليلات متباينة لما قد تؤدي إليه من تغييرات سياسية ربما تمتد لتطيح بالدكتاتورية.
هل بات حقاً آيلاً للسقوط؟!
وفيما يذهب كثيرون الى أن جوهر هذه التحليلات يتناقض مع مفصل مهم في سياسة واشنطن والمتمثل في بقاء نظام صدام كأساس لتواصل فرض الهيمنة والتسليح على دول الخليج وإبقاء المنطقة متوترة، وينتظرون بثقة مساومات اللحظة الأخيرة التي تنزع فتيل الأزمة مؤقتاً وتوفر الظروف لتأهيل النظام عبر خطة أمريكية يرتضيها الخليجيون، فإنهم ينسون أو يتناسون بأن مقتل السياسي يكمن في تمسكه باستنتاجات ثابتة . لقد أفرزت أحداث 11 أيلول وما تبعتها من تطورات، سياسات غربية جديدة تجعل موضوع أفغنة القضية العراقية وإقامة نظام جديد مقبول عربياً وإقليميا وذي توجهات شبه ليبرالية على الصعيد الداخلي، موضوعاً متسقاً مع هذه التطورات. ولعل أبرز المؤشرات على ذلك :
[] فقدان الخليج العربي للكثير من أهميته البترولية حالياً لصالح نفوط منطقة القفقاس، وللكثير من أهميته الإستراتيجية جراء ما حققته واشنطن من مكاسب عسكرية ومعاهدات وقواعد داخل المجال الحيوي الروسي وعلى مرمى حجر من الحدود الصينية واليابانية.
[] تصاعد الرفض الدولي والإقليمي لاستمرار الحالة العراقية على ما هو عليه من خراب وموت جماعي للشعب العراقي ، مما يجعل من التغيير أمراً مطلوباً.
[] فشل جهود السلام في حل القضية الفلسطينية، ووصول الأمر لنقطة مقايضة بين إنقاذ "مكاسب" أوسلو أو أعاده تأهيل النظام العراقي !!
إن هذا وغيره يشكل الأرضية التي تطور عليها المخطط الأمريكي الذي أزعم بأنه يتطلب الآن استقرارا نسبياً في المنطقة بدلاً من توترها ، وهو ما أفقد نظام صدام وظيفته وعزز الحاجة لبديل له، مضمون ومرضى عليه. ويبدو أن النظام قد أدرك هذه اللعبة تماماً فأبدى أكثر من أي وقت أخر تنازلات وليونة لا تنسجم وعنترياته المعهودة.
ضعف الإسناد
ورغم إن الأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا تدرك أن لا خلاص لبلادهم المدمرة الا بزوال حاكميها، فإنها انقسمت بين أقلية أمنت بالسيناريو الأمريكي وأكثرية تقاطعت معه، لا لأنه غير مضمون العواقب عسكرياً وسيسبب لشعبنا ووطننا المزيد من الخراب، ولا لأنه يفقدنا السيادة الوطنية " هل بقي منها شيئاً لنفقده ؟ " ، بل وأيضا لأن دروس التاريخ تخلو من أية إشارة الى مخطط أمريكي حمل يوماً ما السعادة والحرية لشعب ما، مهما كان ثمن ذلك. يروى أن فقيهاً ظمأ وهو في زيارة أحد أصدقائه فتناول كوزاً وشرب منه قبل أن ينهيه صاحب الدار عن ذلك حيث كان الكوز مليئاً بالخمر بدل الماء. سأل الفقيه صديقه :
- وكيف تثبت ذلك؟
- لأن غلامي الرومي جلبه من الخمار فلان !
فضحك الفقيه وقال لصاحبه ." إني أنكر أحاديث نقلها صحابة وخلفاء فكيف تريدني أن أصدق غلامك الرومي عن خمار، والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد!
أين المثقفون؟
وضعف الإسناد الذي دفع بالعديد من القوى الوطنية لرفض فكرة السيناريو الأمريكي هو ذاته الذي حفز العديد من مبدعي شعبنا للدعوة من أجل حوار شامل بين المثقفين يخلص لموقف مناسب لهم من كل ما يجري وما ينتظر حدوثه. ولم تجد هذه الدعوات حتى الآن ما يحيلها واقعاً جراء غياب أي شكل من أشكال التنسيق ناهيك عن التنظيم بين المثقفين المنتشرين في شتات غطى اليابسة جميعها تقريباً ، الأمر الذي يستدعي وقفة عاجلة وجادة من قبل المثقفين أنفسهم لمعالجة هذا الخلل الكبير والمتمثل في تغييب صوتهم ورأيهم ودورهم في مستقبل البلاد ، وهو تغييب يتعمده البعض ويتجاهل أو لا يدرك خطورته البعض الأخر.
عدم الحياء !!
وإذا كان لهذا التغييب أسبابه المعروفة في الداخل حيث تسود أمراض القمع الفاشي والتي ليس أقلها خنق صوت المبدع الحقيقي وسيادة طواطم لا شغل لها سوى مديح الطاغية والصلاة بحمده وتمجيد القتل وتجميل الخراب، فإن التشتت في الخارج وغياب التنظيم كان المسبب الأرأس لهذا التغييب وترك الساحة أحياناً لأنصاف الأميين ليضخوا ما يشاءون من نتاجات هزيلة ولينسبوا لأنفسهم ما يشاءون من أمجاد زائفة !!
ورغم قسوة الحال هناك فإن وضوح صور الضحايا والجلادين يجعل القدرة على المقاومة أيسر ربما من الحال هنا في المنافي، حيث تتكامل عوامل عديدة لتنشأ هذه الصورة البغيضة، الى الحد الذي صار فيه شروط زعامة البعض امتلاكهم لـ " موهبة عدم الحياء " – علىحد تعبير صديقي العزيز مجيد الأمين – مقترنة بغطاء سياسي مقبول جماهيرياً، وبمدخرات تكفي لطباعة أية ترهات، وبنقاد يبادلون مديحهم للمهازل بكؤوس مترعة وثريد دسم، وبصحف تنشر ما يردها ما دام قادراً على تسويد الصفحات بلا مقابل ! وبديهي أن تستدعي هذه الحالة جهداً استثنائياً لبناء مؤسسة أو مؤسسات ثقافية، حرّة وديمقراطية الهدف والمضمون، تقي ثقافتنا وتجعل صوت مبدعينا مسموعاً ومؤثراً وتتواصل مع الداخل وترفده وتعزز صموده وطهارته.
والسياسي أيضاً !!
وكما تمنح موهبة عدم الحياء لبعض المتثاقفين هيبة زائفة فإنها تمكن بعض السياسيين من مواقع لا يستحقونها. ولعل أبرز دليل على ذلك قدرة بعض " أقطاب المعارضة العراقية " على إطلاق تصريحات فريدة في تضاربها، إذ تصل سعة هذا التضارب أحيانا لتشمل الجهة نفسها، حيث تبرر في الصباح الضربة العسكرية الأمريكية وتشبهها بالتحالف العالمي ضد الهتلرية وتتهم معارضيها بالعمل لصالح حكام بغداد وبالقسوة على شعب مظلوم وبالسلبية، لتسارع في المساء لأدانه الضربة باعتبارها تدخلاً في الشؤون الداخلية واعتداء على السيادة الوطنية متهمة مؤيديها بالارتزاق لواشنطن والاستهانة بطاقات شعبنا الكامنة!
صوت الذين لا صوت لهم !!
وكما زعمت بأن تفعيل دور مبدعي شعبنا يأتي من بناء مؤسسات ثقافية لهم في هذا الشتات، فأن قيام مجالس منتخبة للجاليات العراقية في مدن المنفى المختلفة خطوة هامة لإيصال صوت مئات الآلاف من المنفيين المستقلين ، شريطة أن تكون هذه المجالس مختارة في انتخابات ديمقراطية وبأشراف القضاء في البلدان الديمقراطية التي لجأنا اليها اضطراراً والى حين !
مالمو أيار 2002