|
الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (6)
عبدالله تركماني
الحوار المتمدن-العدد: 2611 - 2009 / 4 / 9 - 11:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(6) - عبد اللّه العروي كان من المفكرين العرب السباقين في مجال بلورة المفاهيم حول المسألة القومية، وذلك من خلال مشروعه الفكري الذي بدأ فيه بكتاب " الأيديولوجية العربية المعاصرة " مرورا بكتاب " العرب والفكر التاريخي " وصولا إلى سلسلة المفاهيم التوضيحية التي أصدرها (مفهوم الدولة، مفهوم الحرية، مفهوم الأيديولوجية). ولا تكمن أهمية العروي فيما أثار من قضايا فحسب، ولا من الاهتمام الذي لقيته أطروحاته في العالم العربي فقط، بل أيضا من الإطار التقدمي لتفكيره. وقد ظلت الإشكالية الرئيسية في تفكيره هي: التحديث الثقافي والسياسي والاقتصادي، أي تجاوز التأخر العربي وبناء الأداة التي تنجز هذه المهمة. لقد تعددت كتاباته واهتماماته حول مجموعة المفاهيم المرتبطة بالمسألة القومية (التأخر، والحداثة، والدولة، والديمقراطية ...)، بمعنى أنه لم يتناول المسألة القومية العربية مباشرة، لذلك فإننا سنتناول كتاباته حول: التاريخانية، التأخر العربي والطريق إلى الحداثة، الأيديولوجيا، الماركسية، الدولة، الحرية. (1) - التاريخانية (Historicisme )، وهي فلسفة نظر إلى الظواهر التاريخية، ورؤية مدى ضعفها وقوتها في سياقها التاريخي/الزمني، وما يرتبط بذلك كله من تأكيدات بأنّ ظواهر الماضي يجب أن تُحَلَّلَ في حدود الماضي فقط، وضمن مناخه وأجوائه وليس في ضوء الحاضر ومقاييسه. وأنّ الظواهر المعاصرة تشكل أنساقا متماسكة يسيطر على كل منها طابع ثقافي خاص، أو نزعة مؤدلجة معينة، وهي منهج محدد في البحث النظري، وقد غدت مبدأ أساسيا في العلم الحديث. ويعتبر عبد الّله العروي أهم مفكر عربي دعا لـ " تاريخانية عربية " من أجل تركيب جديد لفهم عربي جديد لظواهر التاريخ والحياة الحديثة، وهو يقول: " إنّ التاريخانية هي قبول منطق العالم الحديث، الذي هو، مرة أخرى، وبالتحديد، منطق أوروبا الغربية من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر. وإنّ البلدان العربية تطالب بالإصلاح الزراعي والتصنيع والدمقرطة، وهي كلها مفاهيم لا تقبل العقلنة حقا إذا نحن اجتثثناها من السياق الذي أوجدها. فالماركسية، طبعا، ليست هي الفكر التاريخاني فحسب، كما أنّ المجتمعات المتطورة ليست في حاجة إلى التاريخانية ما دام الفكر البورجوازي نفسه مؤرخنا (Historicisme)، لكننا في حاجة إليها كمرحلة تمهيدية...". ويبقى كتاب العروي " العرب والفكر التاريخي " أحد الكتب الفلسفية المبدعة في التفكير العربي المعاصر، فقد عرض العروي فيه توجهه التاريخاني من خلال المحاور التالية: (1) ـ تدعيم أسس الفكر التاريخي بواسطة البرهنة والإقناع العقليين. (2) ـ تحديد مجال التأخر التاريخي العربي، والتفكير في بناء استراتيجية النهضة العربية الحديثة. (3) ـ نقد الأيديولوجيا العربية المعاصرة بأسلوبيها " السلفية " و" الانتقائية ". ويقول العروي بهذا الصدد " إنّ السلفي يظن أنه حر في أفكاره، لكنه في الواقع لا يفكر باللغة العتيقة وفي نطاق التراث، بل إنّ اللغة والتراث هما اللذان يفكران من خلال فكره ". أما الانتقائي " فإنه غالبا ما يفكر في نطاق الثقافة التي استقى منها معلوماته وباللغة التي استعملها لذلك، فتغيب عنه تماما مشكلات اللغة العربية والثقافة التقليدية، أو لا يهتم بهما كثيرا، وبذلك يقوى حتما موقف السلفي ". ويحدد العروي أربعة مقوّمات لمفهوم " التاريخانية " هي: صيرورة الحقيقة، وإيجابية الحدث التاريخي، وتسلسل الأحداث، ومسؤولية الأفراد (بمعنى أنّ الإنسان هو صانع التاريخ). كما يحدد أربعة مقوّمات أخرى لتجدد معنى " التاريخانية " هي : ثبوت قوانين التطور التاريخي (حتمية المراحل)، ووحدة الاتجاه (الماضي ـ المستقبل)، وإمكانية اقتباس الثقافة (وحدة الجنس)، وإيجابية دور المثقف والسياسي (الطفرة واقتصاد الزمن). لقد انتقد العروي السياسات الثقافية العربية، واعتبر أنّ " الاعتراب " هو استلاب أكبر من " الاغتراب "، ومن أجل محاصرة الاختيارات السلفية والانتقائية العربية دعا إلى العقلانية والحداثة " لم يستوعب الفكر العربي مكاسب العقل الحديث من عقلانية وموضوعية وفعالية وأنسية ... لكنّ هذا الاستيعاب مهما تأخر سيبقى في جدول الأعمال، كلما تأخر تشابكت الأوضاع وضعفت فعالية المجتمع ككل ". ويبدو واضحا أنّ العروي داعٍ للانحياز إلى الفكر الأوروبي الحديث، إذ يقول " إنّ أوروبا انتهجت منذ أربعة قرون منطلقا في الفكر والسلوك ثم فرضته منذ قرون على العالم كله. ولم يبقَ للشعوب الأخرى إلا أن تنتهجه بدورها فتحيا أو أن ترفضه فتفنى ". كما يبدو أيضا أنّ نصوص العروي ذات نفَسٍ نقدي واضح، ففي كتابه " الأيديولوجية العربية المعاصرة " قال: " إنّ أبرز علامات تأخرنا هو تخلف الوعي عن الواقع. والثورة الفعلية في جوهرها هي رفع الوعي إلى مستوى الوضع، لأنّ في ذلك فهما لذوات الأفراد، وإجابة عن مشاكل المجتمع، وتحقيقا لمرامي الأمة، وفي ذلك أيضا انبعاث الإنسان العربي، أي الاعتراف بانفصاله نهائيا عن إنسان العهد الوسيط ". ويرى العروي أنّ الواقع العربي، بمختلف مستوياته، يستلزم فكرا نقديا صارما، لذلك يوجه اللوم إلى المثقفين العرب، ملاحظا أنه " إذا كان لتجارب الأمم مغزى فإنّ أمرنا لم يصلح إلا بصلاح مفكرينا، باختيارهم اختيارا لا رجعة فيه المستقبل عوضا عن الماضي، والواقع عن الوهم، وجعلهم التأليف أداة نقد وانتقاد لا أداة إغراء وتنويم، وإذا قيل أنّ أوضاع الحكم وأوضاع الحرب لا تساعد على ذلك، فأقول إنّ أوضاعنا ستكون دائما غير ملائمة لأنها لو عادت ملائمة لما احتجنا إلى ثورة على التخلف الفكري ". إنّ النقد عند العروي يجب أن ينصبَّ على الوعي العربي الذي يجب أن لا يرقى إلى تفاصيل الواقع العربي وجزئياته، بقدر ما يتعين أن يتوجه إلى التشكيلة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية وأنماط السلوك التي تحول دون الممارسة الواعية للنقد. (2) - الأيديولوجيا " الأدلوجة "، بنى العروي أفكاره في تقييم التفكير العربي المعاصر في كتاب " الأيديولوجيا العربية المعاصرة "، حيث ميّز فيها بين ثلاثة أشكال: (1) ـ الإيمان الديني المحتفظ بالتعارض الحاد مع الغرب والشرق، في إطار التعارض بين الإسلام والمسيحية، ممثلا بمحمد عبده وعلال الفاسي وغيرهما (مشكل ديني). (2) ـ مشكل التنظيم السياسي بتجاوز السلطة المطلقة المتوارثة وإحلال الليبرالية، ممثلا بأحمد لطفي السيد وغيره (مشكل سياسي). (3) ـ مشكل التقنية والثقافة لدى الدعاة إلى المستقبل، ممثلا بسلامة موسى وغيره (مشكل ثقافي ). لقد نبّهت أفكار العروي العديد من المثقفين العرب إلى كيفيات الخروج من أزمة المطلق، وأثارت الشعور بقيمة النقد المفكر وآليته العاملة للكشف عن الوجه الحقيقي لمغزى التأخر وفحوى التقدم العربي. فقد " تجاوز العروي كل نزعة ذاتية، ما عدا رغبته الملحة في الكتابة، هذه الرغبة التي تعكس فهما عميقا، كما تعكس رغبة إنسان ملتزم بكليته في مغامرة النهضة العربية. ومن هنا، فإنّ كتابه يمسُّ العقل لا القلب. إنه ينبّه ولا يؤثّر، وهذا هو هدف الكاتب ما دام قد اختار الموضوعي مقابل الذاتي، العقلاني مقابل الرومانسي، التاريخ مقابل المطلق. إنّ هذا الهدف يحدد كل خطواته وذلك باعتباره اختيارا حاسما ". وفي تعامله مع الأيديولوجيا (أطلق عليها الأدلوجة) بنى أفكاره من خلال ثلاثة معانٍ: أولها، هو بمثابة انعكاس منفصل عن الحقيقة الواقعة بسبب مجموعة الأدوات الذهنية المستعملة. وثانيها، هو النظام الفكري الذي يحجب الواقع، كونه صعب أو مستحيل التحليل. وثالثها، هو بناء نظري مأخوذ من مجتمع آخر ليس مندرجا تماما في الواقع، لكنه يسعى لكي يكون كذلك. ولكي تكون " الأدلوجة " مهمة ونافعة للباحث الاجتماعي، كانعكاس للواقع المعاش لا كحقيقة في ذاتها، يجدر به أن يعرف الواقع، أو على الأقل أن يتجه نحوه. ويبدو واضحا أنّ " الأدلوجة "عند العروي هي الفكر غير المطابق للواقع. إنّ نقد العروي للأيديولوجيات المنتشرة في العالم العربي، منذ مطلع القرن العشرين، والتي جزّأت الغرب، حين أخذت كل واحدة منها جزءا وتركت الأجزاء الباقية. فقد اعتبر هذه التجزئة هي سبب فشل السياسات الإصلاحية العربية، وهو الفشل الذي يستدل عليه بالخيبة التي مُني بها ثلاثة من الزعماء العرب (المهدي بن بركة، وجمال عبد الناصر، وأحمد بن بيلا). وهذه الخيبة تدل على إخفاق الحركات الوطنية في العالم العربي، التي استطاعت أن تحقق النجاح في معارضة الاستعمار، لكنها لم توفق في تحديث مجتمعاتها. ففي هذه التجارب جميعها الثابت هو " العجز الأيديولوجي "، أو بكيفية أدق تخلّف الذهنيات عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. إنّ هذه الحركات لم تستطع أن تحقق الاختزال التاريخي لسيرورة التطور الغربي " عرفت الإنسانية الحديثة ثورة دينية وثورة ديمقراطية وثورة صناعية، كل واحدة منها تعبّر في ميدان خاص وبكيفية خاصة عن تطور المجتمع كوحدة متكاملة. ونتجت عن هذه الثورات انقلابات في الفكر تستحق أيضا اسم الثورات: العلمية والتاريخية والعقلانية، ثم عبّرت عن هذه الثورات أيديولوجيات مختلفة أهمها: الليبرالية والاشتراكية. قد يبدو للوهلة الأولى أنّ العروي يرفض التراث العربي القديم، على أنّ هذا في الحقيقة غير صحيح. فلو تأملنا دراساته بعمق، لأدركنا أنه من أكثر المفكرين معرفة بهذا التراث واحتراما له. إنّ موقفه منه هو موقف " التمرد والثورة " على هؤلاء الذين يتمسكون به تمسكا أعمى ويجترونه اجترارا بليدا. وفي ذلك يقول: " إنّ المنطق الذي أدعو إليه هو أيضا موجود في تاريخنا وفي تجاربنا الماضية ... إلا أنّ الخمول ذهب بنا إلى حد أننا لا نختار من تاريخنا ما يحفّز ويحيي بل نفضل ما يخدّر ويميت، عوضا عن أن نخص بالتحليل تلك النصوص التي تعلّمنا الجدية في السياسة، واعتماد الحزم والقوة واعتبار المصالح وأخذ الحيطة والاستمرار في الهدف، وأن يكون الكلام دون العمل، فإننا عكس ذلك نفضل الكلام عن فلسفة التصوف وأفكار الغزالي الذي لم يكتب كلمة واحدة عندما سقطت القدس في أيدي الصليبيين، مع أنه عاش اثني عشرة سنة بعد سقوطها ". (3) - الماركسية ، أفضت الرؤى الثلاث التي حددها العروي لـ " الأدلوجة " إلى شيء من الماركسية سماها بـ " الماركسية الموضوعية "، التي تفرض نفسها بصفتها النتيجة الضرورية لـ " أدلوجة " كانت شائعة في العالم العربي. وهي في مجالَي الاقتصاد وعلم الاجتماع، أو في تاريخ الأيديولوجيا، فالفكر العربي يفضل هذه الماركسية لسبب وحيد هو أنها تشكل مذهبا أكثر تلاحما ومنطقية، وأكثر انتقادية إزاء الغرب. وبسبب هاتين الصفتين فإنّ هذه الماركسية هي نصف فعلية ونصف افتراضية: نصف فعلية، لأنها في الضمائر الفردية وفي ممارسة الدولة. ونصف افتراضية، لأنها كثيرا ما تظهر تحت أسماء مستعارة (ديكارتية، أو فلسفة الأنوار، أو دارونية). وبهذا كان العروي يختصر ثلاثة في واحد، ويبرر في الوقت نفسه كل الحذلقات الفكرية والنزعات التي أخذت طريقها إلى الفكر العربي، بحجة أنها ستؤول مستقبلا إلى الماركسية، نظرا لكون الفلسفة الماركسية هي الخلاصة المنهجية للتاريخ الحديث. وبالرغم من الانتقادات التي وُجهت إليه، فإنّ العروي أكد على أنّ السلاح الوحيد ضد التأخر هو كسب " الفكر التاريخاني " الذي لا يوجد بكيفية شاملة إلا في الماركسية. فالأمة العربية، حسب العروي، مدعوة ومحتاجة لأن تتعلم على يد " الماركسية التاريخانية "، لأنّ " الماركسية بالنسبة للعرب هي أساسا مدرسة للفكر التاريخي، وهذا الأخير هو مقياس المعاصرة ". وهكذا فإنّ العروي يدعو إلى ماركسية " معرّبة "، هي " الأيديولوجية القومية المعاصرة "، التي " تُستخدم كمنهج ضمني في أبحاث وتحليلات جديدة وجدية حول ماضينا وحاضرنا، تفسر بكيفية مقنعة نقاطا غامضة في التاريخ العربي، مثل قيام الدولة العباسية أو انهيار الخلافة الفاطمية أو انتشار المذهب المالكي في المغرب والأندلس، وأن تلقي الضوء على مشكلات ثقافية عويصة مثل استمرار القصيدة البدوية في شعرنا الحديث وتوغل الازدواجية اللغوية ... الخ، وتكثر هذه الأبحاث إلى حد يستوعب المجتمع العربي المنطق الماركسي كأداة فعالة في توضيح ماضيه وحاضره ". إنّ هذه الماركسية " التاريخانية " بناها العروي على قاعدة تستلهم منجزات الليبيرالية، وقد تساءل: كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب ويستلهم، في إطار الماركسية " التاريخانية "، منجزات ومكتسبات الفكر الليبرالي قبل وبدون أن يعيش مرحلة ليبرالية ؟ لقد اتهم بعض المفكرين العرب " الماركسية التاريخانية " للعروي بأنها " ماركسية تجريدية تعتمد على جدل يكاد أن يكون هيغليا، إنها ماركسية أيديولوجية معلقة في فراغ من التجريدات والتعميمات ". أما الياس مرقص فقد انتقد ماركسية العروي من عدة جوانب: أولها، إما الوضعانية وإما الديالكتيك. وثانيها، إما الليبرالية وإما الديمقراطية، مع الشعب، مع العامة، وحده الموقف الديمقراطي ينصف الموقف الليبرالي، يستوعبه. وثالثها، لا يمكن إقامة أي شيء جدي للفكر ولوعي الأمة، بدون الجمع بين ديالكتيك الماركسية والتيار القومي ـ الشعبي ـ الناصري. ورابعها، ليس من أهمية لـ " الماركسية التاريخانية " إلا على أساس الديالكتيك والمنطق والتدرج والتقدم. (4) - الدولة القومية، يبدو أنّ العروي قد نجح في تنظيره لموضوع الدولة، بحكم دراسته ومقارنته طبيعة الدولة بين العالمين المتقابلين تاريخيا وجغرافيا: الإسلامي والأوروبي " الدولة الحديثة هي مجموع أدوات عقلنة المجتمع "، وقد انتهى في كتابه " مفهوم الدولة " إلى القول بـ " أنّ المفكرين العرب لا يهتمون بالدولة القائمة. وبالتالي، لا يرون فائدة في البحث عن السؤال: ما هي الدولة ؟ كما كان الفكر الكلاسيكي يدور حول طوبى الخلافة، فإنّ الفكر المعاصر يدور حول طوباويات مستحدثة: المجتمع العصري الليبيرالي، المجتمع اللاطبقي الماركسي، المجتمع العربي الاشتراكي الموحد ". ومن جهة أخرى فقد تحدث عن شرعية الدولة العربية القائمة، إذ قال: " إنّ الطوبى المهيمنة على الأذهان هي الدولة العربية الكبرى، بالعروبة يتعلق الولاء، فيها تتلخص الإرادة العامة، بوجود الطوبى ( دولة الوحدة ) تنزع الشرعية عن الدولة الإقليمية. يوجد ولاء لكن غير مرتبط بها، يوجد إجماع ولكن ليس حولها. في هذه الحالة تنفصل السلطة عن الشرعية. كل إنجازات الدولة القطرية لا تكسبها ولاء، خاصة إذا كانت دعايتها تعيد باستمرار إلى الذاكرة أنها مرحلة فقط على طريق الوحدة، فتدفع الفرد إلى الاستخفاف بها ". وبالاستناد إلى المنطق التاريخي في التعامل مع الظاهرات الاجتماعية، يبرز عبدالله العروي أهمية المضمون الحضاري للجماعة العربية، حيث ينطلق من أنّ مفهوم الأمة هو مفهوم تاريخي يتعارض مع التصور الذي يرى في الأمة " وجودا جوهرانيا يتعالى عن الزمن "، ليصل إلى التأكيد على أنّ إعادة بناء الأمة العربية من جديد، وتوظيف ما كان في الماضي، لا يمكن أن يتم إلا على " أسس جديدة تراعي التاريخ واللغة والثقافة "، على اعتبار أنّ مفهوم الأمة العربية لا يمكن أن يكون له اليوم، وبعد أن ضاعت فرصة بناء هذه الأمة بالمعنى السياسي، سوى " مضمون لغوي وثقافي وتاريخي " وهو مضمون لا يتناقض مع مفهوم الدولة القطرية، بل يتضافر معه ويستلزمه، كما أنه لا يتناقض مع الجماعات الجهوية العربية. إلا أنّ المفكر المغربي، إذ يلحظ أنّ ما يواجه العرب اليوم هو احتمال تبلور " أمة أوروبية "، مستندة أساسا إلى " الاقتصاد والثقافة والمرجعية الديمقراطية "، يعتبر، استنادا إلى المنطق التاريخي ذاته، أنّ " انعدام وجود دولة عربية ( واحدة ) الآن لا يعني تجنب التفكير في ضرورة إنشائها من جديد واعتمادا على معطيات قائمة حاليا ". وفي رأي العروي أنّ العديد من المثقفين العرب مازالوا سجناء النظرة الموروثة عن الحكم والسياسة، فهذه لم تغيرها في العمق إصلاحات الجهاز المتوالية منذ أكثر من قرن، بل لم تغيرها الأفكار المستوردة من الغرب، لأنّ هذه لم تهيئ أرضية مناسبة لتجاوز الفجوة الفاصلة بين جهاز الدولة المتزايد النفوذ وبين المجتمع من ناحية أخرى " تلونت المذاهب الغربية عند انتشارها في العالم العربي بالطوبى التقليدية، التي ترى في الدولة عالم القهر والاستعباد، والتي تتحملها على مضض متحينة الفرصة لتقويضها في انتظار الدولة الفضلى ". وهكذا يخلص العروي إلى أنّ الأقطار العربية تعيش مفارقة عجيبة: فالدولة كأداة توجيهية، قمعية، استغلالية، موجودة، وتتمتع بنفوذ، وتبرر سلطتها، بالمنفعة، ولهذه الدولة بعض التنظيمات العقلانية بالفعل، ولكنها أيضا ذات طابع سلطاني مملوكي، وهي في معظم الأحيان متأرجحة بين النمطين . وبالرغم من " الماركسية التاريخانية " للعروي، فمن الواضح أنه قد تبنّى مفهوما هيغليا مخفّفا للدولة، وأسبغ عليها تحليلا فيبريا مؤكدا. ولا يقلل ذلك من الاستنتاجات الهامة التي توصل إليها، خاصة حين دعا إلى ضرورة طرح قضية الدولة طرحا فكريا واجتماعيا. (5) - الليبيرالية والحرية، يعتبر كتاب العروي " مفهوم الحرية " المرجع الأساسي للتعرف على رؤيته حول مفاهيم الحرية، والديمقراطية، والليبرالية. فهو يعتقد أنّ عصر الليبرالية العربية قد انتهى منذ زمن، وبدأ مصطلح " الحرية " يغزو كل مكان " تحت معول النقدين السلفي والماركسي ". والمصطلح غير واضح الأبعاد، ولم يترسخ في الذهن رغم جريانه على الألسنة كشعار في الليل والنهار، ولم يتحقق معناه لا في الخطاب السياسي ولا في السلوك الاجتماعي، وهو يعتقد " أنّ أيسر مدخل إلى روح أي مجتمع هو مجموع شعارات ذلك المجتمع ". لقد ركّز العروي كلامه حول " مفهوم الحرية " على أربع ظواهر لخصت الوضع العربي المعاصر: (أ) ـ انتشار الدعوة إلى الحرية على مستوى العراك السياسي اليومي، وتكتسي تلك الدعوة أشكالا متنوعة حيث يناسب كل شكل فئة معينة. (ب) ـ تركيز البحث الفلسفي على مفارقات الحرية عند التطبيق، وضرورة إناطة الحرية البشرية بحرية مطلقة، ويتزعم هذا البحث أعداء الحرية الليبرالية والمتبرمون من مغزى حرية الفرد. (ج) ـ إهمال ازدهار الشخصية العربية وتكاملها، بعرقلة انتشار نتائج العلوم النفسية السلوكية. (د) ـ تداخل القيم الضرورية لنشاط وتطور المجتمع العربي المعاصر: التنمية والأصالة مع قيمة الحرية. لقد ركز العروي على " الحرية الفردية " كأساس للحريات الجماعية، والمهم في قضية الحرية عنده هي " أن تبقى دائما موضوع نقاش، بوصفها نابعة من ضرورة حياتية، لا بوصفها تساؤلا أكاديميا ". وفي سياق ذلك يقول العروي بـ: أنّ مكاسب الليبرالية لم يتم قبولها ولا هضمها من طرف الشخصية العربية، الشيء الذي يستلزم أنّ هذه لا يمكن لها تجاوز تلك المكاسب لاحقا. وهكذا فإنّ العروي يرفض أن يقف من التراث موقفا تقديسيا جامدا، وقد دعا في بعض كتاباته إلى موقف انتقائي منه، على أنه يدعو بحسم إلى استيعاب الفكر الغربي في إطار ايديولوجية " الماركسية التاريخانية " التي تقوم بها نخبة مثقفة تتحرك أيديولوجيا فحسب، في إطار الثغرات الموجودة في الأبنية السياسية والاجتماعية العربية، وتمهد السبيل للبناء الاقتصادي الذي تتحقق به الحداثة، ولذلك فهو يرى أنّ الليبرالية مرحلة لا بد من المرور بها في طريق بناء واقع ثوري جديد. وباختصار، فإنّ منطلقات عبد الله العروي قومية، وبرنامجه يمكن تحديده على الشكل التالي: نخبة مثقفة واعية، متحررة من الأوهام السائدة، تعيد النظر في التراث، وتعرّب الماركسية في آن واحد (التاريخانية). نخبة تضع نصب عينيها المعركة والجبهة الأيديولوجية لا السياسية في البداية، إلى أن تنجز مهمة التحديث الثقافي، فتعمل على انتزاع السلطة والتحديث الاقتصادي والسياسي.
#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (5)
-
الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (4)
-
الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (3)
-
أسئلة ما بعد - انتصار - حماس
-
الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (2)
-
الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (1)
-
أي سلام مع حكومة نتنياهو ؟
-
موسم المصالحات العربية
-
المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (6)
-
زمن المحاكمات الدولية
-
آفاق التحول الديمقراطي في العالم العربي
-
المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (5)
-
القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية
-
المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (4)
-
المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (3)
-
المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (2)
-
توجهات السياسة الخارجية التركية
-
المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (1)
-
الاتحاد المغاربي .. إلى أين ؟
-
الأسس النظرية لأهم قضايا المسألة القومية (4)
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|