أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - نجيب غلاب - مأزق الواقع الجمهوري .. هل اليسار الليبرالي هو الحل؟















المزيد.....


مأزق الواقع الجمهوري .. هل اليسار الليبرالي هو الحل؟


نجيب غلاب

الحوار المتمدن-العدد: 2605 - 2009 / 4 / 3 - 09:49
المحور: التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية
    


كان إعلان الجمهورية في 1962م أشبه بالصدمة الكبرى التي هزت بنية التخلف بقوة ونقلت اليمن من زمن الظلام إلى زمن جديد يملؤه النور، وهذه اللحظة التاريخية هي البداية الفعلية والحاسمة التي أدخلت اليمن عصر التحديث ومكنته من خوض تجربة ثورية متحيزة للإنسان اليمني الذي حوصر في تقاليد وأفكار عصور الردة، ومع نجاح القوى الثورية في التحرر من الاستعمار وتوحيد المفكك في الشطر الجنوبي أصبح اليمن وجوداً حقيقياً معبراً عن حاجات وطموحات أبنائه، وكانت الثورة في عمقها ثورة على الماضي من أجل مستقبل متنور بنور العصر المتجدد.
لم تكن عملية الانتقال سلسة ومرنة بل أحتاج الأمر إلى تضحيات عظيمة وجهود جبارة، ومازالت المقاومة التي تفكك صخرة الجمود والتخلف تعمل حتى اللحظة، كانت الثورة نتاج نخبوي وحاجة شعبية ولكنها في زخم الصراع من أجل تحقيق فاعليتها وقعت في أخطاء التنظير الإيديولوجي، ومع بروز القوى الثورية المهمومة بمصالحها وفرض هيمنتها، ونتيجة التدخلات الخارجية وقوة القوى التقليدية، فقدت الثورة نزوعها النهضوي التنويري وسقطت في أنفاق انتهازية أضاعت المشروع، وتقهقر التنوير الجمهوري وتم إعادة إنتاج الواقع الذي حاولت الثورة التحرر منه، ويمثل ضعف قوى التحديث واستسلامها للواقع والانخراط في دهاليز المصالح من الإشكاليات التي أفقدت الثورة نزوعها النهضوي المتحيز للشعب.
كانت الوحدة طفرة تنويريه أنتجته القوى الحديثة في صراعها مع الواقع المتناقض مع أهدافها، وكانت هي المنطلق للخروج من الفشل الذي أصاب المشروع الوطني الذي غرق في تناقضات الفكر والمصالح وهيمنة الماضي على روح الثورة وفعلها على مستوى الواقع لا القول المخادع، فالوحدة كمنجز وفاعلية فكرية هي أبرز تجليات التحديث، وظهرت خلاصة النضوج الوطني في إقرار الديمقراطية بمفهومها الليبرالي المتحيز للفرد وللجماعة الوطنية بكليتها. وعبرت التحولات السياسية في بداية الوحدة والصراع الذي فرضته التناقضات النخبوية أن السير في اتجاهات تفعيل قيم التنوير في اليمن هو المحرك الرئيسي للنشاط السياسي في تمظهراته المختلفة.
ولأن التحول كان تجديداً ناضجاً لروح الجمهورية وتحفيزاً للقوى الثورية لترسيخ التحديث وتجاوز للعفن المتحيز للماضي فقد قتل في لحظة يأس من قبل الجميع، فالخوف والرهبة من التغيير أخاف النخب المهيمنة والفاعلة وتمكنت نقائض التنوير الداخلية والخارجية أن تبعث الشر في خلايا النهضة التي بدأت ملامحها تعلن عن نفسها في حراك سياسي واجتماعي غير مسبوق في تاريخ الثورة، وهنا يمكن القول أن القوى الحديثة وقعت فريسة لنقائضها وقادت معاركها دون وعي في مسارات مناهضة لطموحها، فلم تهزم القوى المنتكسة عن الوحدة من أجل حمايتها، ولم تنتصر القوى المقاتلة من أجل الوحدة للحفاظ عليها، بل أنهزم المواطن اليمني ومشروع التحديث وأنتصر أعداء الحرية والوحدة، كانت الحرب أشبه بالخنجر المسموم الذي أضعف التنوير والتمدن، وأفقد القوى الحديثة في اليمن كله فاعليتها التي دشنها العصر الوحدوي في الانتصار ليمن معاصر متجاوز لماضيه الجاهلي المتخلف عن الحضارة المعاصرة.
وفي صراع المصالح التي أنتجته الحرب فقدت الثورة أخلص تجلياتها النورانية الباحثة عن يمن معاصر وعاد زمن التخلف من خلال بروز القوى المشدود إلى الماضي بتجليات قبلية ومذهبية وعرقية وجغرافية، ومع تغلب ثقافة الماضي على ثقافة المستقبل بدأ تمجيد الأسلاف والتكتل لحماية تاريخ الآباء والأجداد وأفكارهم وتقاليدهم وأعرافهم، وكل طرف يسعى لإجبار الواقع وقسره على الرضوخ والاستجابة للماضي وتجاوز الحاضر لتأسيس الماضي في المستقبل، كل ذلك جعل السياسة صراعاً تائه في مشاريع وهمية لتغطية الانكشاف المريع لوعي النخبة المهمومة بمصالحها، وباسم الشعب يتقاتل الجميع على غنائمه في معارك يبدو أنها لن تنتهي ما لم تتوحد القوى الحديثة في كافة التيارات لتشكل كتلة تاريخية قادرة على إعادة الاعتبار للدولة اليمنية وتأسيسها على قيم مدنية واضحة المعالم.
أن النمو المتسارع لوعي القبيلة بمظاهره القبلية والمذهبية والجغرافية أدى إلى تدمير الوعي المدني وإلى انتكاس المشروع الوطني الذي أسست له الثورة وتجلى في الوحدة والديمقراطية. ومع تفعيل الصراع غرقت اليمن في ظلام الفساد وفي انتهازية النخب ومع ضعف الفكر والهروب من التأسيس المعرفي للسياسة أصبح الصراع على الثروة والنفوذ وفق المعايير التي يؤسس لها وعي القبيلة هو الغالب، وهذا فكك المجتمع وشتت قوته وولد صراعاً عصبوياً مخالف لقيم المدنية والتنوير. وعندما يتغلب وعي القبيلة على الفاعلين السياسيين فإن السياسة السلمية تضيع ويتأسس منطق الحرب، وليس مهما أن ترفع شعارات سلمية في الصراع فسطح البركان قبل الانفجار يبدو مكان جميل للسياحة.
الواقع اليمني لا يمكن تغييره ما لم يتم إعادة قراءة المشروع الوطني قراءة جديدة ومعاصرة والتأسيس لذلك معرفيا، فالقراءات الإجرائية والسطحية للمشروع لم تتمكن من تجاوز إشكاليات المجتمع الكثيرة، فالمجتمع مازال متصارع مع نفسه والانقسامات تزداد كل يوم والدولة تذوب في الوجود الاجتماعي للقبيلة لتفرز معها نزاعات اجتماعية واسعة وعميقة ستقود حتما إلى انهيار الدولة.
قوى التنوير وهي في الراهن مشتتة وموزعة على كافة التيارات، وهي المعول عليها في مواجهة الواقع لابد أن تفعل من نفسها أينما كانت وأن تتحرر من خوفها وأن تعري وتكشف القوى المناهضة والمتحدية لمصالح الجماعة الوطنية، ولم يعد مهما في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة الالتفات للتناقضات التي تعيشها هذه القوى، فإن لم يتم أخراج اليمن من أزمته في الراهن بمشروع وطني متمدن فإن الجميع سيخسر في الفوضى المدمرة القادمة التي ترتسم في الأفق ويتعاظم شبحها كل يوم ويشعل نارها دائرة الفساد التي تتوسع في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
الخيار الأكثر جدوى هو التوافق بين القوى العصرية في مواجهة نقائض الدولة، والجهاد الفكري والثقافي من أجل تأسيس وعي جديد يحرر الفرد من الهيمنة الإيديولوجية بتجلياتها المعاصرة والتقليدية والتي تستعبد عقل الفرد وروحه في مقولات جامدة وثابتة وتجعل منه ترساً بلا عقل يقوده الآخرون أينما أرادوا، وأعظم عبودية يعيشها الفرد اليمني هي رضوخه للقوى الاجتماعية النخبوية التي حولت الناس إلى أدوات في الصراع على السلطة والثروة، فالفرد في ظل تفعيل وعي القبيلة العصبوي الباحث عن الغنيمة الذي تحميه النخب وتعيد إنتاجه جعلته لا يصارع من أجل حقوقه وحرياته وإنما من أجل الانتماء للهويات الدنيا وهذا جعل القوة تتجمع بيد نخب البعض منها ليس مهموما بالواقع وحاجاته وإنما بالمصالح الأنانية والبعض الآخر تحركه أوهام أنتجها واقع الظلم فجعلها تفقد روحها النضالية في مقولات عصبوية لا تخدم سواء الفساد وأهله.
وضع قوى التغيير الحديثة في اليمن
على الرغم من سوء الواقع وانتكاساته إلا أن الواقع الفعلي ليس جامدا بل هو في حالة من التفاعل والحركة الدائمة، وما يبدو لنا على مستوى النظرة السطحية في الواقع أنه ساكن إلا أن المدخلات الجديدة التي أنتجتها التغيرات المختلفة في الداخل والقادمة من الخارج تغلي في عمق المجتمع كالمرجل لصالح العصر وقيمه الإنسانية، والمقاومة التي يبديها الأفراد هي نتاج لثبات المعرفي، فالفكر التقليدي مهيمن ويعمل على إعاقة التغير الطبيعي في بنية المجتمع أما عبر تزييف وعيه كما هو حال الفعل الأصولي أو قسره بقوة العرف عبر القبيلة أو بالقوة القاهرة للسلطة المهيمنة على أدوات العنف، ومن يتفحص الواقع سيجد أن التغير في بنية المجتمع واضحة وهي بحاجة إلى قوة فكرية معرفية لتقفز بالتغير المكبوت إلى الواقع ليتمظهر بقوة وثقة ولديه الفكر الذي يؤسس لسلوكه ليغدو الفكر الجديد ثقافة لا يمكن مواجهتها أو مقاومتها بالماضي بل الماضي مجبر على التأقلم مع الجديد أو الموت.
وهنا يمكن القول أن القوة الفكرية والطاقات التي يمتلكها اليسار الليبرالي والقوى الليبرالية بكافة امتداداتها في اليمن سواء كانت في الحكم أو كانت في التكوينات المختلفة التابعة للحاكم أو في المعارضة قادرة في حالة التحرك على تحريك الساكن وتفجير السدود المعيقة للتحول، واليسار الليبرالي رغم أنه مستبعد من صناعة القرار الفعلي حتى في الحكم إلا أنه قادر في حالة تفعيله للقيم المدنية وتجاوز قليلا مصالحه وتغلب على إحباط الواقع أن يلعب دورا أساسيا في التأثير على صناع القرار لصالح مواجهة الإشكالات التي تنخر في واقع ومستقبل اليمن.
وهنا لابد من ملاحظة مهمة فالمتابع سيجد أن القوى الحديثة في المعارضة لم تتمكن من تحديد خياراتها المستقلة وتحولت إلى غطاء حاجب لجوهر الصراع الحقيقي وأسهمت في ترسيخ نقائضها، أما في الحكم فهي في بنية النظام الوجه المزين لسلطة تقليدية ينخرها الفساد، الذي توسع دون أن تتمكن السلطة من ردعه بل كأنه قدر لا مفر منه وهذا لا يعني أن السلطة لا تمتلك الأدوات القوية والحاسمة للقضاء عليه، وبدلاً من ذلك تخدعها بعض القوى الخبيرة والتي تلقت معارف عصرية بتحويل الفساد إلى خيار لإعادة إنتاج السلطة والتماسك بشرعية زائفة نتائجها ترسيخ التخلف وما يسهل لها خداعها هو الوعي القبلي الفاعل لدى المهيمنين على القوة، ونشير هنا أن هكذا سلوكاً ينمي مع الوقت نقيض النخبة في الوسط الشعبي الذي سيبتلعها في لحظات الغضب كما يبتلع الوحش الغاضب الجائع فريسته.
مع ملاحظة أن أغلب القوى الحديثة داخل النظام خانعة وخاضعة للقوى الفاعلة في بنيته وهي في أغلبها تقليدية، ولديهم يأس بإمكانية تغيير واقع السلطة وتحالفاتها الراهنة وجزء كبير من قوى التنوير فقدت روحها النضالية وأصبحت مهمومة بمصالحها المتحققة وخائفة ـ بعد أن أصبحت جزءاً من المنظومة ـ أن تعود إلى ذاتها فتعاقب.
ومشكلة السكوت عن الأخطاء داخل منظومة الحكم في وضعنا اليمني مسألة خطيرة فقوة النظام الحاكم والقوة التي يملكها ونتيجة ضعف المعارضة وقدرته على استغلال خوف الناس من الفوضى وحاجتهم للأمن ولو بحده الأدنى يجعل المنظومة الحاكمة في ظل فاعلية مافيا الفساد داخلها تنتج الأزمات كضرورة لبقائها وهذا يتطلب من القوى المتنورة القريبة من الحاكم والموجودة في القلب أن تُفعل من وجودها وتتعاون مع امتداداتها في المعارضة لضرب القوى المرسخة للفساد ولابد من تضحيات في تحدي مافيا الفساد وضربها بهدوء من خلال تفعيل دور الدولة وضرب تحالفات النظام مع القوى التقليدية وتعمير تحالفات جديدة.
اليسار الليبرالي كخيار في المعركة القادمة
اليسار الليبرالي هو الحل، فهو يمتلك منهجاً علمياً وفهمه للواقع يرتكز على عقلانية واضحة ولديه قدرة على استيعاب الثقافات الأخرى دون عقد، كما أن الإنسان في منهجه وفكره له الأولوية وفق معايير العدالة والمساواة والأخوة، وهذا ينفي النزوع الطائفي بتجلياته المختلفة عن أصحابه، وهذا التيار وحدوي ووطني ويفهم القومية ببعد أنساني راق، وهو تيار عصري لا عقد لديه وحاجات الواقع الذي يعمل فيه هي المعيار، كما أن هذا التيار لديه روح متحدية لمستغلي الشعوب في الداخل والخارج بمعنى أن لديه نزوعاً تحررياً مقاوماً للظلم الداخلي والعالمي. وأهمية هذا التيار في واقعنا اليمني أنه يركز على محورين أساسيين فهو يركز على تطوير الجانب السياسي من خلال نضاله من اجل الدولة المدنية وفي الوقت ذاته يركز على التقدم الاجتماعي من خلال التأسيس لوعي اجتماعي عصري وهذا التيار رغم قبوله للثقافة المحلية ببعدها الإيجابي فإنه يسعى لتأسيس ثقافي تحديثي متوائم مع العصر وبما لا يتجاوز الواقع الحضاري الذي يشتغل فيه.
وهو يختلف عن النيوليبراليين فاليسار الليبرالي يتميز بنزعة استقلالية متحيزة للإنسان وللوطن ورؤيته الفكرية تعتمد على النقد المتحيزة للذات الحضارية وهذا يجعله قادرا على تجاوز التقليد الأعمى للمنتج الغربي وفي الوقت نفسه يتجاوز الرضوخ للواقع المحلي المناهض لإنسانية الفرد وحق الجماعة في التعبير عن ذاتها.
كل هذه الميزات الإيجابية سوف تمكن التيار في حالة تحرك بشكل منظم وتخلص من خوفه من تأسيس الحداثة وقيمها في اليمن وفق حاجاتنا الوطنية مع ملاحظة أن الفكر الحداثي الذي يؤسس له اليسار الليبرالي سوف يجعل من الولاء الوطني ولاء للإنسان أولا، وهذا يجعله يتجاوز النزوع العنصري ويمكن الأفراد من التفاعل الخلاق مع الآخر من خلال رؤية فكرية واثقة ومنحازة للقيم الإنسانية والتي من خلالها يتم مواجهة الاستغلال الأجنبي وامتداداته الداخلية.
اليسار الليبرالي في اليمن خلال تجربته بكافة تياراته أصبح وطنيا في العمق وأكثر التصاقا بالحاجة المحلية، فالنهوض اليمني خلال تجربة الثورة تدهور في المقولات الجامدة للإيديولوجيات المختلفة، ووقعت الثورة فريسة للمناهج المستوردة التي خنقت الإبداع وركزت على البعد السياسي دون الاجتماعي ولم تعمل من أجل التأسيس الثقافي، وهذا سهل للقوى التقليدية محاصرة القوى الحديثة وخنقها من خلال تكفيرها ونزع الوطنية عنها وممارسة العنف المادي ضدها، وفي لحظات الهزيمة والتي مازالت حتى اللحظة قائمة استخدمت القوى الحديثة أدوات القوى التقليدية في مغالبتها فأصبحت رهينة لفكر التقاليد ومرسخة لشرعيته وهذا أضعفها وجعلها ملحقة بالواقع المنهزم.
والتجربة الطويلة للقوى الحديثة وتواجدها في التكوينات المختلفة للمجتمع صقلتها وجعلتها أكثر واقعية، فالتيار اليساري مثلا أصبح أكثر نضجا ولديه قوة معتبرة في الساحة اليمنية وهو متواجد في كل المراكز المؤثرة فهو في المعارضة الفاعل الأساسي في صناعة الإستراتيجية المستجيبة لحاجات الناس وهو القوة التي تمتلك الأدوات الصانعة للمستقبل الجديد في المعارضة، وفي الوسط المستقل لديه تواجد كبير وهو ممتد في كل القطاعات الفاعلة في المجتمع المدني، وتواجده في المنظومة الحاكمة قوي رغم خفوته الظاهري وهو يتحرك بأشكال لا توحي بحقيقته ولا بطبيعته.
وهذا التيار بحكم امتلاكه قيم التنوير والتمدن وتوائمه مع الحاجات المحلية ونتيجة تحديه للقوى الغربية وتركيزه على الاستقلال ورفضه لمشاريع الهيمنة فإن القوى الشابة التائهة والباحثة عن مشروع بعد أن فشل التيار الأصولي في إقناعها بأنه البديل هي القاعدة الاجتماعية لهذا التيار مع ملاحظة أن أغلب السكان في اليمن تحت سن 25 سنه وهذه الطاقات الشابة هي المجال الذي سوف يجعل اليسار الليبرالي قادراً على صناعة التاريخ في اليمن، وهذه القوى الشابة بحاجة إلى فكر جديد يؤسس للمستقبل بعد أن يستوعب واقعها الاجتماعي بكل تكويناته، فكر لديه إمكانات تؤهله لفهم النسق الثقافي المعاصر وإدخاله كقوة دافعة لتقدم المجتمع بعد دراسة وتفكيك الموروث الاجتماعي وإعادة بناءه لصالح الإنسان، فكر متمكن من عقلنة التراث الديني وأنسنته، وهذا الفكر في تصوري هو المرتكز الذي يتحرك في مجاله اليسار الليبرالي.
التحديث لا علاقة له بالتغريب مع اليسار الليبرالي
والتحديث الذي يحرك اليسار الليبرالي لا علاقة له مطلقا بالتغريب فالقيم التي تؤسس لها الحداثة لدى اليسار الليبرالي هي قيم إنسانية لابد من استلهامها وتطويرها بما يوافق واقعنا المحلي ولا يمكن ذلك إلا بنقد الواقع الاجتماعي بتكويناته المختلفة وإعادة بنائه، وبنقد الفكر السائد وتفكيكه بمناهج نقدية مطورة قادرة على استيعاب واقعنا الاجتماعي، وهذا ما تقدمه لنا الحداثة، فالقبيلة ووعيها المنتج الفعلي للتخلف كبنية اجتماعية كمثال لابد من دراستها لا بما يرسخ وجودها المناقض للتقدم كما هو حال الكثير من الدراسات بل بإعادة بنائها وتجاوز القيم المناهضة للقيم المؤسسة للدولة المدنية وتحويلها إلى قوة اجتماعية تحمي حقوق وحريات أفرادها ولا تستعبدهم بالقيم العصبية الثأرية وتحولهم إلى أدوات متخلفة في وعي القبيلة التاريخي الذي جعل من القبيلة قوة سياسية معسكرة تقاتل الآخر الوطني وتقاتل الدولة وتدمر قوانينها لصالح النخب القبلية وتحالفاتها المنتجة للفساد.
وما يسهل نجاح استيعاب الحداثة مقارنة بالماضي الجمهوري أن الواقع في تجلياته المختلفة يتطور بشكل مذهل لصالح القيم الإنسانية، وفي حركته الراهنة تنمو في أحشائه نخب عصرية لم تعد قادرة على العيش في ربقة التقاليد التاريخية للواقع اليمني مما يجعل الواقع في حالة تمكن النخب من تفعيل قيم الحداثة بإرادة صادقة متجاوزه نزوعها الأناني في توظيف الواقع التقليدي لخدمة مصالحها قادرة على صناعة التغيير وإعاقة القوى المسكونة بالتخلف المدعومة بمافيا الفساد والتي تراكمت لديها الثروة والنفوذ وتدرك أن التحولات العصرية كبناء الدولة المدنية وتحرير الفرد من أوهامه هي المقدمة للقضاء عليها، فالحداثة بقيمها الإنسانية تؤسس لثورة عميقة في السياسة وفي الواقع الاجتماعي ولديها طاقة جبارة لتجاوز القيم المؤسسة للظلم.
وعلينا أن ندرك أن عقداً واحداً في هذا العصر كافي لإحداث تحولات حقيقية في الوعي لصالح قيم الحداثة، والقول بأننا بحاجة إلى زمن يوازي التجربة الأوربية في تأسيس الحداثة هي مخادعة لإعاقة التحول فأوربا لها تجربتها الخاصة ونتيجة ظرفها الموضوعي ظلت قرونا حتى رسخت تلك القيم، وتجربتها الطويلة أثرت كثيرا على الواقع العالمي وعجلت في تحديثه، وفي واقعنا الراهن وتحولاته المختلفة والطموحات الكبيرة لم يعد بحاجة إلى المرور بالتجربة الأوربية بل بحاجة إلى إرادة سياسة قوية ونخبة متماسكة حاسمة في نضالها، والعائق الأكبر في اليمن أمام التحولات هي القوى الدينية الرافضة لأي إصلاح ديني لصالح العصر، والقوى القبلية النخبوية المستعبدة لأبناء القبائل بمحاصرتهم في ثقافتهم المخالفة ليس للعصر فحسب بل وللدين الإسلامي بتجلياته الراقية الداعية للأخوة والإنسانية، ولكرامة الفرد المرتبطة بالتقوى والحرية وبالمساواة والعدالة والإخوة.
لنأخذ تجربة الحزب الاشتراكي وتحولاته كنموذج لليسار الليبرالي لتتضح الرؤية ففي برنامجه السياسي أكد على أن الإسلام عقيدة وشرعية وهذا لا يعني أنه أنخرط في رؤية أصولية، أو انه تخلى عن مشروعه التحديثي، هي لفتة عبقرية لتجاوز المنظور المادي للحداثة الغربية، وتجاوز للتجربة التاريخية الأوربية في صراعها مع الدين باعتباره أداة استغلال، فالدين في واقعنا قوة محايدة في صراع المصالح ويمتلك طاقات تحررية جبارة أن تم تحريره من أوهام الأصوليات التي تحاول أن تقوم بدور الكنيسة في استغلال الدين، فالإسلام السياسي الموظف للدين في صراع السياسة يعمل بلا وعي على تحويل الدين إلى كنيسة مهيمنة على الواقع من خلال تجميد الدين في مقولات أصولية والتحكم بالناس من خلال الفتوى وتعبئة المجتمع من خلال الدين لصالح قوى محددة وهذا هي الوظيفة التي قامت بها الكنيسة، أخذين بعين الاعتبار أن الإسلام السياسي لن ينجح في مسعاه لأن الإسلام قوة إنسانية وفاعلية اجتماعية تمنح الفرد معنى لوجوده دون أن تنتهك عقله.
وعلينا أن ندرك أن مشكلة الحداثة الغربية أنها بدأت بالإنسان وقدسته وجعلت له الأولوية ولكنها حولته في صراعها من أجل الربح إلى سلعه، وفي تطرفها الفكري فقد الفرد معنى وجوده بتجاوز الدين من خلال العلمنة الشاملة، وتجاوزها للدين خاضع للشرط التاريخي الأوربي بسبب تجربتها، فالدين كان طاقة سلبية قاهرة للإنسان وقوة استغلال جبارة أعاقت تقدم الإنسان وأجبرته على الخضوع واستعبدته في مقولات خرافية قتلت عقله وروحة، الحداثة الأوربية بتطرفها ونزوعها المادي أفقدت الإنسان معنى وجوده ليصبح لدى بعض تجلياتها كائناً اقتصادياً أو جنسياً، إلا أن الحداثة في تفاعلها مع الواقع ومخاضاتها المختلفة تمكنت من إعادة الاعتبار للإنسان وتمكن العقل الذي أنتج حقوق الإنسان في صراعه مع القوى المنتهكة لحقوقه في الأرض من تحرير الفرد من كل القوى التي تستغله وتزيف وعيه..
وهنا نؤكد أن الإسلام قد منح معنىاً عظيماً لوجود الفرد، فالإنسان أكرم من في الكون بمعنى محورية الإنسان في هذا الكون، وتفضيل العقل للفرد وحرياته ينسجم كليا مع التفضيل السماوي للإنسان بتكريمه على كل المخلوقات في هذا الكون، ورغم أن التقوى هي معيار التكريم الرباني إلا أنه تكريم لا علاقة له بالحقوق الأرضية فالناس في الأرض سواسية كأسنان المشط لا فرق بين امرأة ورجل ولا أبيض وأسود ولا يهودي ولا مسلم ولا عربي وعجمي، فالحقوق والحريات لكل إنسان، والتفضيل والتكريم بالتقوى والدين مرتبطة بالله لا بالقانون الأرضي، فالعدالة والمساواة تنال الجميع بلا استثناء.
ونشير هنا إلى المقولات التي يطرحها الأصولي في التشكيك بالقيم التي أنتجتها الحداثة من خلال توظيف التحولات الفكرية لمابعد الحداثة لنفي الحداثة تعبر عن نقص في فهم تلك التحولات، فهذه التحولات لم تتجاوز الإنسان رغم تشييئه في بعض تجلياتها، والتشكيك بالعقل في أفكار مابعد الحداثة هي محاولة لنقد الوثوقية المطلقة للحداثة بقدرات العقل في فهم واقعه، والفكر المابعد حداثي في جوهره لم ينف العقل، بما يعني كما يعتقد الأصولي العودة إلى النقل باعتباره مطلق نهائي وعلى العقل أن يتواءم معه، دون إدراك ان النقل بدون العقل لا قيمة له، وبما أن العقل في حالة من التحول حسب الزمان والمكان لذا فإن النقل تتغير تفسيراته وأن ظل جوهره ثابت، ولأن العقل هو أساس الفهم للدين لذا فإن النقل خاضع كليا للعقل لا العكس، ما بعد الحداثة في العمق هي محاولة للتأكيد أن الإنسان بحاجة إلى تحفيز دائم للتفكير لتجديد الفكر فما ينتجه العقل في أي لحظة ليس مطلقا بل هناك مؤثرات كثيرة تعيق العقل عن التفكير لذا فالحقائق متعددة.
أن مابعد الحداثة منحت الإنسان في الأرض الحرية الكاملة في صناعة فكره المستجيب لحاجته وتجاوز النزعة الحداثية العنصرية التي جعلت من أوربا مركز للحضارة الإنسانية وهذا لا يعني تجاوز للقيم الإنسانية التي أصبح كقيم مطلقة والتشيك بها لا ينفيها بل يعيد ترسيخها وجوهر النقد للقيم المقدم يساعد تلك القيم لتتموضع في الواقع كما يفهمه العقل في واقع معين، الفكر الما بعد حداثية لم ينف للعقل بل فاعلية أكثر نضجا حسب تصوري لجعل العقل في حالة من الحركة الدائمة لتطوير أدواته وأطروحاته لتصبح القيم متوافقة مع الزمان والمكان، فالواقع المتعدد ينتج أفكار متعددة، والحقيقة الجديرة بأن تكون مطلقة هي أن كل شيء نسبي في هذا الوجود.



#نجيب_غلاب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار والرئيس .. تلاميذ الترابي وتنحية البشير
- الليبرالية الديمقراطية في الواقع اليمني وانتهازية المثقف الغ ...
- محاولة في تفنيد بعض أوهام الإرهاب الأصولي
- شراكة النخبة الحاكمة للاشتراكي ترعب مافيا الفساد والقبلية ال ...
- تدمير الإسلام من الداخل .. أوهام الإرهاب الأصولي
- هل يمثل الإخوان المسلمين الخيار البديل للنخب الحاكمة؟
- الأخوان المسلمين وأحلام ابتلاع الدولة
- الإسلاموية وأوهام امتلاك الحقيقة
- المصالح التركية وأوهام الأصولية المسيَّسة
- الحزب الاشتراكي بين يأس القيادة وتوحش الحراك
- اليمن آخر معاقل الإرهاب الآمنة
- الاختطاف ..بين «جيهان الله» والهجوم القاهر!
- المسكوت عنه في الهجوم على غزة
- تجاهل الأحزاب لحقوق النساء..هل يقودهن إلى تأسيس حزب سياسي؟
- اليمن والصراع الدولي على القرن الإفريقي
- انتصرت الحرية وانهزم المحافظون الجدد
- الإيديولوجية الدينية ومصالح إيران الوطنية
- عندما تصبح الأزمات قوتا لبقاء الحزب المؤدلج
- الفوضى والملاذ الآمن للقاعدة ..ما هي الحلول الصهيونية والإير ...
- القاعدة منتج أصولي والإرهاب ينتج نفسه


المزيد.....




- بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
- فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح ...
- الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
- على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
- الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان ...
- مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
- مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
- الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
- عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و ...
- في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در ...


المزيد.....

- نَقْد شِعَار المَلَكِيَة البَرْلَمانية 1/2 / عبد الرحمان النوضة
- اللينينية والفوضوية فى التنظيم الحزبى - جدال مع العفيف الأخض ... / سعيد العليمى
- هل يمكن الوثوق في المتطلعين؟... / محمد الحنفي
- عندما نراهن على إقناع المقتنع..... / محمد الحنفي
- في نَظَرِيَّة الدَّوْلَة / عبد الرحمان النوضة
- هل أنجزت 8 ماي كل مهامها؟... / محمد الحنفي
- حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى ( المخطوط ك ... / سعيد العليمى
- نَقْد أَحْزاب اليَسار بالمغرب / عبد الرحمان النوضة
- حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى - ضد رفعت الس ... / سعيد العليمى
- نَقد تَعامل الأَحْزاب مَع الجَبْهَة / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية - نجيب غلاب - مأزق الواقع الجمهوري .. هل اليسار الليبرالي هو الحل؟