|
أبو عنتر في ذمة الله
نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 2604 - 2009 / 4 / 2 - 09:29
المحور:
سيرة ذاتية
وسط أحداث سياسية، وتطورات جسام، تعصف في منطقة الشرق الأوسط، وتحولات أخرى ليست أقل إثارة على غير صعيد عربي وإقليمي، وفيما كانت العيون شاخصة، بالذات، لمتابعة أحداث قمة العرب، جاء أمس، وبصمت، خبر رحيل الفنان الكبير ناجي جبر أبو عنتر، ابن شهبا في جبل العرب الأشم، عن عمر ناهز الرابعة والستين عاماً. ويعتبر هذا الفنان الكبير من جيل الكبار والرواد العمالقة السوريين الذين أسسوا لما نشهده اليوم من طفرة درامية سورية متميزة، تحمل عبق سورية وروحها الأصيلة، وكيمياء شعبها الحضاري، ومصطلحاته العفوية البسيطة، إلى العالم قاطبة.
وضم ذاك الجيل، فيمن ضم، كل من الأستاذ دريد لحام، بشخصيته الفذّة والعبقرية الشعبية المحببة غوار الطوشة المشاغب وأبو المقالب الكبار، والمرحوم نهاد قلعي "حسني البورظان" الهدف الاستراتيجي الدائم لاعتداءات ومغامرات غوار وتطلعاته العدوانية بلغة أهل السياسة، وعبد اللطيف فتحي، أبو كلبشة والمسؤول الأمني مطلق الصلاحية في حارة "كل مين إيدو ألو"، والمرحوم الفنان المبدع محمود جبر الذي احترف الكوميديا ووصل لعضوية مجلس الشعب السوري، وأبو صياح رفيق السبيعي الرجل "المعدّل والراكز" وشيخ الشباب، وياسين بقوش " الصبي الذي يجسد شخصية الأبله والأهبل" عديم الشخصية، وزياد المولوي عبدو صبي القهوة الساذج، وفطوم حيص بيص ....إلخ، والذين اعتمدوا في فنهم العظيم على تقمص تلك الشخصيات البسيطة الشعبية المحببة والقريبة من القلوب والتي نصادفها يومياً في الشارع والحارة الشعبية السورية بهمومها البسيطة البعيدة عن تعقيدات العصر ومشاكله، وأزماته الكبرى.
ولا أنسى حين كنت أعمل في التدريس في بداية الثمانينات في تلك الدولة العربية البعيدة، والخارجة من القرون الوسطى، كيف كان الطلاب يسألونني، بكل براءة، أستاذ هل تعرف غوار؟ وهل تعرف أبا عنتر، ويرددون كليشاته المعروفة وجمله الشامية المحببة على القلوب (ناكتة، وعرضية، وما لها فكاهة، وما لها مازية..إلخ)؟ وهل ترى أبا رياح وحسني البورظان يا أستاذ...؟ لظنهم أن سوريا هي حارة صغيرة، وكلنا نرى بعضنا كل يوم من الكبير للصغير. غير أن هذه الأسئلة البسيطة كانت تنم عن شيء آخر أكثر أهمية وإثارة، وهو مدى تغلغل تلك الشخصيات السورية البسيطة في وجدان وعقل وقلب هؤلاء الفتية الصغار، وكيف يوحد الفن المشاعر والعواطف واللغة والوجدان...إلخ؟ ولأن المسلسل البسيط والسهل الممتنع استطاع أن يكون عابراً للحدود الوطنية بلغته البسيطة والسلسة والسهلة وأحداثه العادية التي تحدث في حارة صغيرة ومغلقة تحولت إلى نطاقات عولمية وحاملة لثقافة وناقلة لمنظومة سلوكية ولغوية إلى عوالم أخرى بعيدة.
ولعل شخصية أبي عنتر ابن الحارة القبضاي و"الزكرت" المحافظ على الشرف والأخلاق والذي لا يهادن في قضايا الرجولة، والشرف، والإباء والتي جسدها باقتدار الراحل الكبير والتي زرعت البسمة والفرح والتأمل والإعجاب على غير محيا وشفة، وصارت كليشاته يرددها كل لسان، وهي واحدة من أبرز الشخصيات وأكثرها قرباً من القلوب نظراً لما تستجيب لعمق ونوازع ومكنونات لدى المتلقي من ميل غريزي للفتوة والقوة وحب الخير والبطولة ونصرة الضعفاء، ورغم أنها كانت تظهر، أحياناً، جانباً من "الرعونة" والطيش والتهور البريء المضحك، ويتم استغلالها لغايات شخصية وأحياناً شريرة من قبل العاشق المتيـّم غوار في تحقيق هدف سياساته ودبلوماسية المشاغبة والرامية فقط إلى هزيمة البورظان، والفوز بقلب فطوم حيص بيص. واحتلت، لذلك، مفارقاتها وتصرفاتها، مكاناً عزيزاً في قلوب الكبار والصغار في عموم هذه المنظومة الشرق أوسطية الناطقة بالعربية.
ولن ننسى، في أيام تلفزيون الأبيض والأسود، والبث المحصور بساعات معينة، كيف كنا ننتظر بلهفة وشوق، ومن أسبوع لأسبوع، أحداث الحلقة التالية من ذاك المسلسل الرائع، وحيث كنا نتسمر، تاركين اهتماماتنا الأخرى وواجباتنا المدرسية الثقيلة وراءنا، أمام شاشات التلفاز وفق طقوس عائلية، وشخصية خاصة، تغمرها حالة عالية من الاندهاش والترقب والاهتمام، لولا أن لذاك المسلسل وتلك الشخصيات سمات وخاصيات وروح ونكهة مميزة جعلتها تسيطر على العقول والأفئدة والألباب وتستأثر بكل تلك المتابعة و الاهتمام، ولولا تلك العبقريات الفنية التي استطاعت أن تتقمص بحرفية ومهنية واقتدار تلك الشخصيات، وتوقظ بعمق وتنقر على وجدانيات وطنية ومحلية، ومن دون أي تكلف وتصنع، مستبطنة في العقل الباطن للناس.
وحرّي بنا ونحن نعبر هذا الزمن، وفي هذه اللحظات التي تعج بالأحداث الصاخبة، أن نقف للحظات، وقفة تحية وإجلال واحترام، استذكاراً ووفاءً وتقديراً لهذه العبقرية الفنية السورية الفذة التي دخلت في الخيال واللاوعي لطيف واسع وشرائح غير محددة من الناطقين بالضاد، وكل من عرف هذه الشخصية الفنية الفريدة في تلك الحقب الخوالي الجميلة الهادئة، التي أصبح استذكارها مهمة شاقة، اليوم، بين ركام الرثاثات، والابتذالات، والسلفنات الطافية على سطح هذه الجغرافيات، وحلت محل كل ما هو جميل، ورائع حفل به ذلك الزمن الرومانسي الطفولي البديع الطيب الأخـّاذ.
وهكذا هو، دائماً، رحيل العمالقة والعظماء، حياة حافلة مليئة بالعطاء والتدفق والإبداعات، ورحيل بهدوء وصمت، وبعيداً عن الضجيج والأضواء.
للفقيد المغفرة والرحمة، ولآله، ولعموم الأسرة السورية الكبيرة، جميعاً، الصبر والسلوان.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في سجال خطوة إخوان سوريا
-
خرافة الاقتصاد الإسلامي
-
هل تتخلف الدول الدينية؟
-
هل يكره النصارى المسلمين؟
-
أوباما والعودة للشرق الأوسط القديم
-
جوزيف فريتزل: صدمة أوروبا الجنسية
-
هل الحروب الدينية جرائم ضد الإنسانية؟
-
خرافة الفكر القومي والأمة الواحدة
-
العقلاني المستنير بين الخنزرة والتفئير
-
لماذا تقتلون النساء؟
-
التغريبة العيدية من العقلانية إلى الهاويات الفكرية
-
الممانعة والاعتدال: ولادة نظام عربي جيد
-
المحاكم الدولية والشرق أوسطية
-
سُحقاً للثّقافة الَبدويّة
-
لماذا يَسْجِدون؟
-
محاكم وتقارير أي كلام!!!
-
المطلوب رأس العرب فقط
-
هَذه بَضَاعَتُكُم رُدّتْ إِليْكُم
-
هل يتكرر سيناريو العراق في إيران؟
-
سنة إيران وشيعة الخليج الفارسي
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|