هناك مفهومان للطبقة العاملة فى المجتمع الرأسمالى الحديث ، الأول يمد حدود الطبقة لتشمل كل المحرومين من السيطرة على مصادر السلطة المادية ، و الذين لا يملكون إلا قوة عملهم البدنية أو الذهنية ، ومن ثم يضطرون لبيعها مقابل أجور، ولا يملكون سلطة اتخاذ القرارات، وهذا المفهوم يغطى الغالبية الساحقة من سكان المجتمعات الرأسمالية على تنوعاتهم ، ومفهوم آخر يضيق من حدود هذه الطبقة فى حدود العمال اليدويين .
والسبب فى الخلاف أن العالم قد شهد خلال القرن العشرين بدايات ثورة تكنولوجية وعلمية جديدة ، كان من نتائجها أن تحولت الطبقة العاملة ، من كتلة متجانسة من العمال اليدويين ، ذوى الأجور المتقاربة ، وظروف المعيشة المتشابهة ، إلى كتلة غير متجانسة تماما ، تضم نوعيات متباينة للغاية من العمالة المأجورة ، من حيث نوع العمل ومستوى الأجور والمعيشة والتعليم والثقافة والوعى والقيم السائدة ، وظروف الحياة والعمل عموما ، فقد أضيفت شرائح أخرى للطبقة العاملة كالمهنيين الذين يعملون بأجر لدى الغير و لا يملكون سلطة اتخاذ القرار ، والذين أصبحوا ينتجون جزءا هاما من القيمة المضافة ، ويخضعون للاستغلال والقهر الرأسمالى و البيروقراطى والاغتراب شأنهم شأن البروليتاريا اليدوية ، إلا أن مستوى معيشة أفراد تلك الفئات المرتفع ، و ثقافتهم و وعيهم البورجوازيان وتعليمهم الرسمى و أصولهم الطبقية والقيم البورجوازية السائدة بينهم فى معظم الأحيان يحول بينهم و بين الامتزاج بالشرائح التقليدية الأخرى للطبقة العاملة. ولاشك أن من مصلحة كلا من الرأسمالية والبيروقراطية الحفاظ على هذا التفتت والتفاوت داخل الطبقة العاملة بين شرائحها المختلفة لتدوم لها السيطرة على الجميع ، ومن ثم لن تتحرر الطبقة العاملة من تلك السيطرة إلا بوحدة كل هذه الشرائح عالميا ، وذلك بالقضاء على هذا التفتت والتفاوت .
سألقى الضوء على واقع العمال فى مصر بشكل خاص كحالة تتوافر لى بشأنها معلومات على نحو أكثر تفصيلا باعتبارى مصريا ، وهو ما سوف أقدمه للقارىء كنموذج للعمال العرب بشكل عام . حيث لا تختلف صورة واقع العمال المصريين كثيرا عن واقع باقى العمال العرب ، و ربما يتشابه كثير من العمال فى العالم فى هذا الواقع ، ففيما عدا عمال المغرب ولبنان والكويت و تونس والأردن و ذلك حسب معلوماتى المحدودة ، يفتقد العمال العرب التنظيمات النقابية والسياسية والاجتماعية المستقلة عن الدولة ، فضلا عن أن العمال المصريين هم الأكبر حجما و الأقدم فى الوجود تاريخيا، والأعرق تنظيميا فىالمنطقة العربية.و من ثم الأسبق فى الوجود كطبقة قبل أن يتدهور وضعهم إلى حالتهم الراهنة.
يأتى هذا المقال بمناسبة عيد العمال العالمى، وإذا كانت وسائل الإعلام ستنقل إلينا مظاهر الاحتفالات العمالية بهذه المناسبة عبر العالم بما فيها المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية، فإن العمال المصريين يكتفون بالحصول على أجازة رسمية ، وانتظار منحة حكومية تضاف للأجر الشهرى ، والاستماع للخطاب السنوى لرئيس الجمهورية بهذه المناسبة .
مما لاشك فيه إن معرفة قصة النشوء والتطور ثم التدهور الذى أصاب الطبقة العاملة المصرية يعطينا دروسا يمكنا أن نستفيد منها إذا شئنا أن نحدد الوسائل الملائمة لكى تشهد هذه الطبقة نشوءا و تطورا جديدا فى طريق تحررها النهائى ، ولاشك أن ما ينطبق على العمال المصريين ينطبق على العمال العرب خصوصا فى البلاد التى مرت بتجارب فاشية وشبه فاشية شبيهة بالتجربة المصرية، مثل سوريا والعراق وليبيا والسودان والجزائر واليمن .مع ملاحظة أن العمال المصريين والجزائريين قد تحررو نسبيا من قيود تلك التجارب الفاشية الآن .
ظهرت بدايات الطبقة العاملة فى مصر فى آوائل القرن 19، وأقدم ماتم تسجيله من إضراباتها كان فى آوائل ثمانينات نفس القرن ، ومع نهاية القرن 19ظهرت أول نقابة عمالية على إثر إضراب عمالى عام 1899، وتوالت الاضرابات العمالية وظهرت النقابات ، و بدأت محاولات احتواءها من قبل كل من الحزب الوطنى القديم ، والحلقات الاشتراكية المختلفة ، و مع انتهاء الحرب العالمية الأولى و فى أثناء الصراع الوطنى من أجل الاستقلال الذى اشتعل بعدها ، تكون أول اتحاد للعمال فى مصر ،و الذى كان يسيطر عليه الشيوعيون اللينينيون ، و ذلك على إثر حركة عمالية احتجاجية واسعة الانتشار ، وصلت فى بعض الأحيان إلى حد احتلال المصانع ، و لكن فى عام 1924 تم حل الاتحاد وسحقه من قبل حكومة الوفد الوطنية الليبرالية .
وبعد سحق الاتحاد العمالى القديم بدأت محاولات الأحزاب الرأسمالية المختلفة ، الإصلاحية و الليبرالية والمحافظة والفاشية ، لاحتواء الحركة العمالية طوال الثلاثينات لمصلحة تلك الأحزاب وفى إطار أفكار التعاون الطبقى لا الصراع الطبقى، و مع الأربعينات تصاعدت الحركة العمالية مجددا ، ووصل الأمر لتكون جماعة سياسية عمالية علنية باسم لجنة العمال للتحرر القومى ، و قد انتهت تجربة الصعود الثانى للحركة العمالية بتكون اتحاد عمالي ديمقراطي مستقل كانت تسيطر عليه المنظمات الماركسية الستالينية المختلفة فى ذلك الوقت ، وبعد انقلاب 23 يوليو 1952 الفاشى، فقدت التنظيمات النقابية العمالية استقلاليتها عن الدولة كما فقدت طريقة تشكيلها الديمقراطية بعد فترة من القمع الدموى للحركة العمالية المستقلة ومنظماتها .إلا إن الصعود الثانى و إن كانت طورته وقادته المنظمات الماركسية المتنافسة ، فإنها شوهته بالخلط ما بين الصراع الوطنى والصراع الطبقى فى أحسن الأحوال ، بل و إعلاء القومى على الطبقى فى أسوأها. و هو ما مهد الطريق للخلطة الفاشية الناصرية ، و مثيلاتها فى المنطقة العربية . وهو الأمر المستمر حتى الآن بتلوينات مختلفة .
تم تأميم الحركة العمالية فى 1957 عبر إنشاء اتحاد عمالى بيروقراطى واحد ينظم كل شئونه القانون الذى ضمن سيطرة الدولة وأجهزة أمنها عليه ، حتى أن رئيس الاتحاد كان يعين تلقائيا وزيرا للعمل. و العضوية في النقابات إجبارية لكل العاملين بالمنشئات التى بها لجان نقابية ، والنقابات محرومة بحكم القانون وطريقة تشكيلها من تنظيم أى عمل احتجاجى أو تضامنى ، ومجردة من إمكانية التفاوض و الضغط الجماعى ، ولا تقوم فكريا على أساس تمثيل العمال فى صراعهم الطبقى ضد الإدارة وأرباب العمل ، بل تقوم فلسفتها على أنها مؤسسة توفير خدمات للعمال ، و فى سبيل ذلك تتعاون مع الإدارة و أرباب العمل لتحقيقها ، كما تجمع النقابات العمالية ما بين العمال والإدارة فى المنشئات المختلفة مما يعطيها طابع المنظمة النقابية الفاشية بوضوح ، فقانون النقابات العمالية يتشابه مع قوانين النقابات فى الدول الفاشية عموما،.وهو اتحاد تسيطر عليه تماما القوى الموالية للحكومة والمرتبطة بأجهزة الأمن فى قياداته العليا والوسطى على عكس الاتحادات والنقابات السابقة .
بعد خمسين عاما من الترويض بالعصا والجزرة وغسل العقول بالدعاية الديماجوجية من قبل الفاشية الناصرية و ما تلاها من تطورات وتنويعات أكثر ليبرالية نسبيا ، فقدت الطبقة العاملة تماما قدرتها على الانتظام سياسيا ونقابيا واجتماعيا بعيدا عن جهاز الدولة البيروقراطى ، حيث يحظر القانون إنشاء مثل هذه التنظيمات الديمقراطية و المستقلة عن جهاز الدولة ، و يرفض الساسة السلطويون المهتمون بقضايا الطبقة العاملة انتزاع هذا الحق الدستورى و الإنسانى بتشكيل نقابات بديلة ، بناء على حجج شتى منها أن العمال يستفيدون بما تتيحه لهم النقابات الرسمية من مزايا خدمية ، و من ثم قد يفضلونها عن النقابات البديلة ، فضلا عن أن هذا يهدد الوحدة العمالية كما يزعم بعضهم ، و من ثم يصرون على الاشتراك فى لعبة انتخابات تشكيلات هذا الاتحاد السلطوى ، ودفع العمال للمشاركة فى مهزلتها ، فى حين تبتعد عن هذا التنظيم النقابى ومهزله تشكيله ، الحركة العمالية العفوية تماما ، تعبيرا عن عدم ثقتها بهذا التنظيم فكل الاضرابات خلال الأربعين عاما الماضية تمت بعيدا عن بل و فى مواجهة النقابات الرسمية .
ولم يواجه أحد بجدية خطورة التفتت الفعلى للوحدة العمالية ، لمجرد جموع من العمال غير المنظمين وغير الواعين طبقيا ، و الذين يفتقدون غالبا لفهم واقعهم الاجتماعى من منظور كونهم طبقة متميزة ذات مصالح مشتركة فى مواجهة كلا من الرأسمالية والدولة .و هم فى غالبيتهم الساحقة يفتقدون الحس والوعى الطبقى ، و يتطلع الكثير منهم للصعود إلي الطبقات الرأسمالية والالتصاق بها ، كما يتعلقون بقيمها و أيديولوجياتها المختلفة ، بل تنتشر بينهم الأفكار المعادية للطبقة العاملة والمتعالية عليها . كما تسود بينهم عامة تشكيلة واسعة جدا من الأفكار والقيم المحافظة والرجعية ، و فى أحسن الأحوال الإصلاحية . بما يتجلى فى المفاهيم المتخلفة للعملية الديمقراطية فيما يتعلق بالترشيح والانتخاب سواء للنقابات أو للجمعيات. والنظرة المتخلفة لتلك المؤسسات على أساس أنها هيئات للخدمات وتلبية الاحتياجات الشخصية و تحقيق المصالح الفردية ، وليست منظمات يتم النضال من خلالها من أجل تحقيق المصالح المشتركة للطبقة العاملة لتحسين ظروف حياتها . و ينحصر وعيهم الطبقى فى فهم أطنان القوانين واللوائح التى تنظم علاقات العمل التى تقررها أجهزة الدولة ، باحثين عبر رفع الدعاوى القضائية والتظلمات المستندة لتلك القوانين و اللوائح ، على ما قد تحققه لهم من مكتسبات .
و من ثم أصبح العمال عموما فاقدي القدرة على الضغط لتحسين ظروف حياتهم وعملهم منتظرين ما تجود به عليهم كلا من البيروقراطية والرأسمالية من منح ومكتسبات ، و أصبحوا فى ظل الظروف الاقتصادية العالمية الجديدة التى نزعت يد الدولة من الإنتاج والتدخل الاقتصادى والاجتماعى ، كاليتامى على موائد اللئام ، فمن ناحية فقدوا قدرتهم على انتزاع المكاسب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المختلفة أو المحافظة على ما فى أيدهم من تلك المكاسب التى تم منحها لهم خلال ربع القرن المجيد الذى أعقب الحرب العالمية الثانية من قبل حكومات الوفد الليبرالية أو الحكومات الناصرية الفاشية ، ولم يقاوموا سحب بعض تلك المكاسب منهم مع انتهاء تلك الفترة ، عندما تغيرت الظروف الاقتصادية مع بدايات مرحلة الرأسمالية الكوكبية فى السبعينات ، ومن ناحية أخرى فهم يواجهون كل هذه الظروف غير المواتية لهم حاليا ، و هم منزوعى سلاح الوحدة العمالية المنظمة ، و وسائل النضال العمالى و الوعى الطبقى . فضلا عن أنه من المعروف أنه فى ظل أزمات البطالة و التهميش ، و المتوقع تصاعدها بعنف عبر العالم كله، يفقد العمال عموما قدراتهم على الضغط على أصحاب العمل من أجل تحسين ظروف الحياة والعمل ،بل ويصبحون مضطرون أكثر فأكثر لقبول شروط أصحاب العمل، بل و يصبح المناخ مواتيا أكثر فأكثر لتصاعد الفاشية و المحافظة و الرجعية .
كانت هذه هى الأسس المادية فى تحويل الوعى لدى العمال من التضامن الجماعى فيما بينهم لتحسين ظروف عملهم وحياتهم ، إلى وعى الحل الفردى على حساب التضامن الجماعى الذى هو جوهر القوة العمالية فى صراعها ضد الرأسمالية سواء من أجل الإصلاح أو الثورة .
أدى انتشار الفردية فهما وسلوكا ، و سيادة الحل الفردى فى أوساط العمال ، وضعف ميلهم عموما للعمل الجماعى المنظم ، و افتقادهم لخبراته و مميزاته ، إلى سعى معظم العمال لتحسين ظروفهم المعيشية على نحو فردى ، سواء بالعمل الإضافى أو الالتحاق بعملين أو ثلاثة فى نفس الوقت بحيث قد تصل عدد ساعات العمل اليومى للعامل إلى ستة عشر ساعة أحيانا لتعويض ضئالة الأجر المدفوع مقابل يوم العمل الرسمى ، أو الهجرة لبلاد النفط أو أوروبا ، أو الاستثمار فى المشاريع التجارية والحرفية الصغيرة كبيع بعض السلع لزملاء العمل وأعمال السمسرة والوساطة ، و ينخرط الكثيرون منهم فى أنشطة الاقتصاد غير الرسمى المختلفة بما فيها الأنشطة غير المشروعة ، ولعل كل هذه التحايلات على ظروف الحياة الصعبة ، تفسر كيف تعيش تلك الملايين من العاملين بأجر و أسرهم بهذه الأجور الرسمية التى لا تكفى أحيانا لشراء الخبز ، حتى أننا لو أخذنا بالبيانات الرسمية للأجور والأسعار لعرفنا أن العمال المصريون يموتون جوعا فى حين أن واقع الحال لا يشير لذلك مطلقا .
كل هذا أضعف الوحدة العمالية فى النهاية ،و أخل بطبيعة البروليتاريا و أضعفها، وقد ساعد فى استفحال الأمر حرمان العمال من أى امكانية للنضال النقابى المستقل ، وحرمانهم عموما من الانتظام كطبقة مستقلة نقابيا وسياسيا و اجتماعيا، وحرمانهم من حقوقهم السياسية كطبقة وعلى رأسها حق الاضراب و الحرية النقابية .
تقيد الدولة النقابات العمالية بسلاسل من القوانين التى تفقدها أى استقلال عن كل من الدولة و رأسالمال ، وتفقدها خصائصها ووظائفها الأصلية ، وتحولها فى النهاية لمرفق من مرافق الدولة ذات طابع متميز شكليا عنها، كما تمنع بحكم القانون واللوائح تشكل مثل هذه النقابات العمالية بعيدا عن سيطرتها و بيروقراطيتها و أجهزة أمنها ، و تغض الطرف عن فساد قيادتها الذى يصب فى مصلحتها الاستراتيجية ، فهذا الفساد والتبقرط السائد فى تلك النقابات يدفع العمال بعيدا عنها إلا فيما ينفعهم بشكل فردى من خدمات و مزايا تقدمها تلك النقابات دون مشاركة إيجابية فى أنشطتها و إدارتها متروكة دون رقابة للمحترفين والبيروقراطيين ، وهذه هى حدود العلاقة بين هذه النقابات والعمال. وهو ما يفقد كل تلك المؤسسات طابعها الديمقراطى .
وإن كان الدستور يكفل حرية التجمع والتنظيم بشكل عام فأن أحدا لم يهتم بجدية بممارسة هذا الحق الدستورى والإنسانى . والدخول فى معركة من أجل الاستقلال الفعلى للنقابات العمالية عن كل من الدولة و رأسالمال والبيروقراطية .
هذا عن واقع العمال المصريين ، ولأننى لا أومن بالحتمية فى التاريخ ، ولست متفائلا على نحو ساذج ، فأنه لا يسعنى سوى القول بأنه لا أمل فى تغيير هذا الواقع الذى يهدد بما هو أسوء منه بمراحل ، إلا بحركة عمالية ديمقراطية ومنظمة ومستقلة تماما عن كل من الدولة والبيروقراطية و الرأسمالية و الساسة السلطويين ، حركة تنخرط فى الصراع الطبقى فى مواجهة هؤلاء جميعا لتحقيق مصالح الطبقة العاملة الجماعية ، و يبقى السؤال كيف؟.
المأزق الذى نحن بصدده يحتمل الكثير من الابداعات النضالية على مستويات متعددة ، و إذا اتفقنا على هدف الاستقلال التام لكل النقابات العمالية ،عن كل من الدولة و الرأسمالية والساسة السلطويين والبيروقرطيين ، باعتبارها خطوة هامة وحيوية فى طريق التحرر النهائى للطبقة العاملة .
فأنى أتصور محواران أساسيان ومتوازيان للخروج من هذا الوضع
الأول :_ نضال سياسى يهدف لتحرير النقابات من الارتباط بالدولة و رأسالمال ، وذلك بإسقاط كافة القوانين والقيود التى تعيق حرية تكوين وعمل النقابات ، بإسقاط حق الدولة تماما فى وضع القواعد والقوانين المنظمة لتلك النقابات ليصبح حقا مطلقا لأعضاءها .
وبالطبع يقع على عاتق العمال أنفسهم مهمة اسقاط تلك القوانين التى تحوى الكثير من المواد غير الدستورية والمتعارضة مع مبادئ واتفاقيات حقوق الإنسان ، سواء عبر الطرق القانونية للطعن بعدم دستورية تلك القوانين و موادها ، أو عبر المؤسسة التشريعية ممثلة فى مجلس الشعب او عبر ضغوط العمال الفعالة للتأثير على صانعى القرار . و لا يمكن أن يتم هذا إلا بتنظيم العمال سياسيا للنضال من أجل هذا الهدف تحديدا. و لا معنى لطرح أى أهداف أو أى مهام نضالية أخرى ، إلا بعد إنجاز هذا الهدف. ليعود لهم سلاحهم بعد أن تم انتزاعه منهم ، فيمكنهم عندئذ إنجاز أهداف أخرى.
وتظل العودة لأحكام القانون المدنى بشأن تنظيم النشاط النقابى حيث تكفل هذه المواد الحد الأدنى اللازم لمراقبة أداء النقابات سواء من خلال جمعيات عمومية تملك صلاحيات فاعلة فى محاسبة مجالس إداراتها المنتخبة على أساس ديمقراطى ، أو من خلال الرقابة القضائية التى تتيح الفرصة لأعضاء النقابة أو لكل ذى مصلحة فى الطعن على القرارات المتخذة من جانب النقابة إذا ما تعارضت مع القانون او إذا ما خرجت مجالس إدارتها عن قواعد الشفافية المحاسبية .
والمؤكد إن إطلاق حرية تكوين النقابات على أساس ديمقراطى هو المدخل الطبيعى لتفعيل دور العمل النقابى واستعادة الطاقات الكامنة داخل الطبقة العاملة التى انفضت لعدة عقود بعد ان نجح إنقلاب 23 يوليو 1952 فى تقويض استقلال النقابات وتحويلها بصورة أو بأخرى إلى مؤسسات ملحقة بالسلطة التنفيذية .
الثانى:_ هو المبادرة الجماعية من قبل العاملين بأجر فى تشكيل تلك النقابات بعيدا عن الدولة و بيروقراطيتها و بما تسمح به الظروف الراهنة فيما يمكن أن نسميه بالنقابات البديلة ، ، فالقادرين على التحايل فرديا على ظروف حياتهم الصعبة بالنشاط الاقتصادى غير الرسمى، و بعض أشكال التضامن الجماعى البدائية ، قادرين بلاشك وعبر التحايل جماعيا ، على ممارسة تضامنهم الجماعى الأرقى و الأجدى عبر النقابات البديلة ، والأمر ليس بالصعوبة التى يتخيلها ويزعمها الغارقون فى احترام النضال الشرعى والقانونى واحترام الدولة ومؤسساتها ، وليس بالانتهازية التى يتخيلها المهوسون الذين لا يتخيلون العمل الثورى إلا فى النضال العصبوى السرى المكرس لعبادة النظرية والتنظيم على حساب الحركة الفعالة فى الواقع.
و الأمر فى بدايته لا يحتاج فعليا إلا لبعض المبادرات بتشكيل عدد من تلك النقابات المستقلة ، تقدم نماذج للعمال قابلة للانتشار والتقليد ، فلا يوجد ما يمكن أن يمنع الناس من التضامن والنضال سويا من أجل تحقيق مصالحهم المشتركة ،و أن يبدعو فى هذا الإطار وفق الظروف الواقعية، فليظل العمال أعضاء فى نقاباتهم الخدمية الرسمية مادمت مجرد مؤسسات تقدم لهم الخدمات ، إلا أن هذا لا يمنع من انضمامهم لنقابات نضالية حقيقية تقوم على أساس إدارة صراعهم الطبقى ضد الرأسمالية والبيروقراطية ، و تنظمهم من أجل انتزاع المكاسب أو المحافظة على المكاسب فى طريق معركتهم الطويلة من أجل الحرية ، و الأمر كله متروك للإبداع والمبادرة الجريئة والمرونة .
ففى بولندا استطاع العمال تشكيل نقابة تضامن بعيدا عن الدولة الستالينية بكل جبروتها وفى مواجهتها ، و قد كان نضالها بدايات انهيار الستالينية، و أنه حتى الفاشية فى اسبانيا و إيطاليا واليابان و ألمانيا لم تستطع منع العمال من النضال الاقتصادى عبر نقاباتهم السرية ، وللحق فالمصريون يتمتعون الآن بدرجة من الحرية لم يتمتع بها آخرون تحت نير الفاشية والستالينية .بل أن السلطات المصرية تسمح بعلنية النشاط الغير خاضع لإشرافها وقوانينها أحيانا فى حدود و شروط معينة بالطبع ، مثل نشاط اللجنة الشعبية المصرية للتضامن مع انتفاضة الشعب الفلسطينى والجماعة المصرية لمناهضة العولمة الرأسمالية، واللجنة التنسيقية للدفاع عن حقوق العمال.
و المشكلة هنا فى اعتقادى ليست فى الدولة وقوانينها وأدوات قمعها بل المشكلة فى العقليات التقليدية والمحافظة والمتحجرة السائدة لدى المناضلين ولدى الجماهير أيضا، عقليات تقدس الشرعية والدولة والسلطة والشكليات و البقرطة ، و لا تتخيل أن تقديسها عائق أمام العمل الفعال.
وأعتقد أن الظروف المادية الراهنة والمستقبل المرعب للطبقة العاملة بمفهومها الواسع والحديث فى ظل المرحلة الحالية من الرأسمالية الكوكبية ، قد تدفع لصعود جديد فى الحركة العمالية كما قد تدفع بصعود الفاشية قومية كانت أو دينية سواء بسواء.فهل تجعلنا هذه الظروف نفكر و نسلك بشكل مناسب ؟هذا ما سيجيب عنه المستقبل.