طارق حجي
(Tarek Heggy)
الحوار المتمدن-العدد: 2601 - 2009 / 3 / 30 - 09:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
وُلِدَ سعدُ زغلول في سنةِ 1859 وتوفي يوم 23 أغسطس 1927 . ويهدف هذا المقالُ لإبرازِ جانبٍ عبقريًّ من جوانبِ زعامةِ سعد زغلول لم يلتفت إليه المؤرخون بالشكلِ الذي يستحقه . وأعني إختلاف زعامة سعد زغلول عن الزعامات الأُخرى في تاريخِ مصرَ المُعاصر وفي تاريخِ معظمِ شعوبِ العالمِ أيضاً . فقد بلغ سعدٌ (على خلاف هؤلاء) ما بلغه من نفوذٍ طاغٍ على الجماهيرِ وتأثيرٍ يشبه ما يُقال عن أعمالِ السحرِ على الناسِ وهو (أي سعد) مُجَرَد تماماً من كلِ منصبٍ رسمي (مثل المهاتما غاندي) .
ولنتأمل معاً سلوك المصريين عندما عاد سعدُ زغلولٍ لمصرَ في 4 أبريل 1921 بعد نفيه الأول في مارس 1919 .. يصف المؤرخُ عبد الرحمن الرافعي , وهو أحد زعماء الحزب الوطني المشهورين بعداءهم لسعدٍ إستقبالَ الجماهيرِ لسعدِ زغلول يومذاك بقولِه : (وقوبل في الأسكندرية وفي الطريق منها إلى القاهرةِ وفي العاصمةِ بأعظمِ مظاهرِ الفرحِ والحماسةِ بحيث كانت مقابلته سلسلة لا نهاية لها من الزيناتِ والمظاهراتِ والحفلاتِ والأفراحِ مما لا مثيل له في تاريخِ مصرَ الحديث) . أما الدكتور محمد حسين هيكل أحد أبرز شخصياتِ الأحرارِ الدستوريين الأشد عداءاً لسعدِ زغلول فيقول في الجزءِ الأول من مذكراته : (وكان إستقبالُ سعد في ذلك اليوم منقطعَ النظير , فما أحسب فاتحاً من الفاتحيين ولا ملكاً من الملوك حظى بأعظم منه في أوجِ مجدهِ . خفت القاهرةُ كلُها : شبابُها وشيبُها , رجالهُا ونساؤها حتى المحجبات منهن , إلى الطرقات التي سيمر بها يحيونه ويهتفون باسمه هتافات تشق عنانَ السماء , وجاء إلى القاهرة من أقصى الأقاليم وأريافها ألوف وعشرات الألوف يشتركون في هذا الاستقبال الذي جمع بين رجالِ الحكمِ من وزراءٍ ووكلاءِ وزاراتٍ ومن دونهم ومن طبقاتِ الشعبِ المثقفةِ وغير المثقفة) . (ورأى سعدٌ ذلك بعيني رأسِه , فوقف في سيارته التي سارت الهوينى من محطةِ القاهرة إلى داره يحيي بكلتي يديه هذه الجموع الزاخرة الهاتفة , المولية وجهَها إلى الرجلِ الذي إجتمعت فيه آمالُ الأمةِ كلِها) . ثم يضيف الدكتور هيكل : (ترى .. أقُدَّر للأسكندر الأكبر أو لتيمورلنك أو لخالد بن الوليد أو لنابليون بونابرت أن يرى مشهداً أجلَ وأروعَ من هذا المشهدِ ؟ وماذا كان يجول بنفسِ سعدٍ وهو يرى هذا المنظر الرائع يمر أمامه وعيون الناسِ كلهم مشدودة إليه وأفئدتهم متعلقة به وقلوبهم ممتلئة بإكبارِه وإعظامِه ؟) . أما المؤرخ الكبير أحمد شفيق (باشا) فإنه يصف لنا هذا المشهد التاريخي في الجزء الثاني من "الحوليات" فيقول : (لقد روى لنا التاريخ كثيراً من روايات القواد والملوك الذين يعودون إلى بلادِهم ظافرين , فيحتفل القومُ إحتفالاً باهراً بإستقبالِهم, ولكن لم يرو لنا التاريخ أن أمةً بأسرِها تحتفل برجلٍ منها إحتفالاً جمع بين العظمةِ غير المحدودة والجلال المتناهي لم يفترق فيه كبيرٌ عن صغيرٍ , إحتفالاً لا تقوى على إقامته بهذا النظام أكبرُ قوى الأرض لولا أن الأمةَ المصرية أرادت أن تأتي العالم بمعجزةٍ لم يعرف لها التاريخُ مثيلاً) . أما أحمد حسين مؤسس حزب مصر الفتاة والذي رغم خلافه السياسي مع الوفد كان رجلاً كبيراً إتسم بالموضوعية البالغة في التأريخ عندما أفاض في تصوير عظمة شخصية وجهاد سعد زغلول الوطني في كتابه "موسوعة تاريخ مصر" معطياً إياه حقه الكامل كأعظمِ زعيمٍ في تاريخِ مصرَ الحديث , يكتب أحمدُ حسين في الجزء الخامس من هذه الموسوعة عن إستقبال سعد زغلول يومئذ فيقول : (وصل سعد زغلول باشا إلى القاهرة يوم 4 أبريل . وفي ختام الجزء الرابع تحدثنا عن الإستقبالِ "الخُرافي" أو فلنقل الأسطوري الذي إستقبلت به مصرُ سعداً حكومةً وشعباً , ولا غرابة في ذلك فقد كان إبرازُ هذه المشاعرِ وإتخاذها سعدَ زغلول رمزاً لها هو أسلوب الأمةِ في التعبيرِ عن إرادتِها, وقد إستمرت الإحتفالاتُ بعودةِ سعد زغلول تتجلى لعديدٍ من الأيامِ في الوفودِ التي هرعت من أنحاءِ البلادِ لتحيةِ سعدٍ ... وإذا كان من نواميسِ الطبيعةِ أن يكون لكلِ فعلٍ ردَ فعلٍ , فلا بد أنه كان لهذا الإستقبال "الخُرافي" رد فعل في مختلفِ الأوساطِ المعاديةِ للشعبِ , وفي الشعب وفي نفس سعد زغلولٍ على السواء . فأما أعداءُ الشعبِ وعلى رأسهم إنجلترا فلا بد أن يكون الإستقبالُ قد أفزعها ورأت ما ينطوي عليه من معانٍ , حيث تضامن الشعبُ وتكتل خلف الرجل الذي أصبحت إنجلترا تعتبره خصماً لدوداً لها . ولا بد أن يكون السلطانُ أحمد فؤاد قد أفزعه بدوره أن يصبح في مصر إنسان بكل هذه القوةِ) .
أما عباسُ العقاد فإنه يصف لنا مشهدَ عودةِ سعد زغلول يوم 4 أبريل 1921 فيتحدث في الفصل الثالث والثلاثين من كتابه "سعد زغلول – سيرة وتحية" فيقول : (ملك سعد ناصية الموقف من ساعة وصوله إلى شاطئ الإسكندرية , وثبت في عالمِ العيان لمن كان في شك من الأمر أن هذا الرجل أقوى قوة في سياسةِ مصرَ القومية , وأن كل إتفاقٍ بين مصر وإنجلترا يتم على الرغمِ من هذا الرجل أو مع إغفالِ شأنه وتهوين خطره مستحيلٌ) . (لقد كان اليوم الرابع من أبريل – يوم وصوله الإسكندرية – يوم الجيل بأسرهِ في العالمِ بأسرهِ , ولك أن تقول وأنت آمن من الغلو أن إستقبالَ سعدٍ في ذلك اليوم وفي اليوم الذي بعده كان أفخمَ إستقبالٍ لرجلٍ من الرجالِ في أوائل القرن العشرين , فقد إنتظمت مصرُ موكباً واحداً للحفاوة به من شاطئ البحر بل من مدخل الميناء إلى عاصمة الديار المصرية وإرتفعت الزيناتُ وأقواسُ النصرِ من سُلَمِ الباخرةِ إلى حجرتِه في فندق "كلاردج" الذي نزل فيه , وكان الناظرُ لا يرى في كلِ مكانٍ إلاّ صورة سعد ولا يسمع إلا الهتافَ وأناشيدَ المترنمين بذكِره . وإنقضى أسبوعٌ قبل وصولهِ والوفود تتزاحم على الإسكندرية من أقصى القطر إلى أقصاه حتى تعذر المبيتُ في الفنادقِ ولجأ الناسُ إلى البيوتِ يسألون أصحابَها أن يؤوهم إلى مكانٍ يسكنون إليه ريثما يحين اليومُ الموعود . ولم تبق شرفةٌ في الطريق إلا غالى المستأجرون بثمنِ الوقفةِ فيها بضع ساعاتٍ حتى نيفت أجرةُ الشرفةِ على أُجرةِ البيتِ , وضاقت الطرقاتُ عن مسيرِ المركباتِ وأوشكت أن تضيق عن مسير الأقدام من مجاز لمجاز . ولما إستقل القطار من الإسكندرية إلى القاهرة تلاحقت الجموعُ على طولِ الطريقِ تأبى إلا أن تستوقفه مرات في غير مواضع الوقوف ومنهم من كانوا يترامون على القضبانِ في بعض القرى الصغيرة ليغتنموا لحظة من الوقتِ يقف فيها القطارُ ويطل فيها الزعيمُ على المستقبلين . وخرج كل ُمستطيع الخروج في مدينةِ القاهرة إلى الطريق ما بين باب الحديد إلى بيتِ الأمةِ يرقبون الصباح ساعة قدوم الرئيس في نحو الخامسة من المساء فلما لاح لهم في سيارته نسوا أنفسهم أفراداً وذكروا أنفسهم قوماً واحداً لا إختلاف فيه بين صوت وصوت ولا بين دعاءٍ ودعاءٍ وبلغ من نسيان النفس وغلبة الوجدان على الإرادة أن أناساً كانوا يتسلقون الأشجار والأسوار أرسلوا أيديهم يصفقون وهم لا يدرون أنهم معتصمون بتلك الأيدي من خطر الوقوع ... ولا خطر في الحقيقة من الوقوع حيث لا أرض في طول الطرق إلا وقد غشاها ألوف الواقفين) ...
كانت تلك بعض كلماتِ "العقاد" في وصف إستقبال الشعب المصري لسعد زغلول يوم الرابع من أبريل 1921 بعد كلمات "عبد الرحمن الرافعي" و"محمد حسين هيكل" و"أحمد شفيق " و"أحمد حسين" وكل منهم يروى ما عاصره ورآه لا ما حُكيَّ له أو تناقله الرواةُ . ثم نتسائل هل كان سعد ملكَ مصرَ؟ .. أم رئيسَ جمهوريتها؟ .. أم رئيس وزارئها؟ .. أم وزيـراً ؟؟ . والإجابة على كل تلك الأسئلة بالنفي : فلم يكن سعد ملكاً أو رئيساً ولم يكن رئيس حكومة ولم يكن وزيراً ولم يكن يشغل أي منصب رسمي عندما إستقبله شعبُ مصرَ بهذا الإستقبال . وهنا تكمن عبقرية سعد زغلول : فبدون سلطة , حيث كان رأس الدولة هو السلطان فؤاد ورئيس وزرائها هو عدلي يكن , وبدون مؤسسات رسمية تحشد المواطنين في الشوارع , وبدون وزير إعلام يسخر أدوات أجهزة الإعلام لتسليط الأضواء على وجه وإسم رئيسه , وفي ظل الوجود الحربي البريطاني المعادي لسعد زغلول والذي كان قد نفاه قبل سنتين إلى مالطة مما فجر ثورة 1919 , وبدون أي حول ولا طول إلا شخصية سعد زغلول العامرة بمؤهلات الزعامة الحقيقية , إستقبلت مصرُ سعداً كما لم تستقبل أحداً من قبله أو بعده ممن لاحظ لهم من "المناصب الفخيمة". وذلك سر عبقرية هذه الزعامة التي نضجت بدون الإستناد على منصبٍ رفيعٍ تسخر له كل الوسائل والأجهزة . وكم أود أن يُطالع شباب مصر كلمات الصحفي الكبير عبد القادر حمزة والتي يصف فيها عظمة سعد زغلول عندما ألقى الإنجليز القبض عليه للمرة الثانية يوم 23 ديسمبر 1921 ، وسعد زغلول يومذاك على مشارف ِ السبعين من عمره ِ ... يقول عبد ُ القادر حمزة في كتابه "إذكروا سعداً" : (وما مضت دقيقتان أو ثلاث دقائق حتى ضج فجأة كل الذين حولي ، فإذا سعد مقبل وأمامه ضابطان ومن خلفه ِ حاجبه وخادمه ؛ وهم جميعاً يمشون في نطاق ٍ من الجنود ِ . رأيته يمشي بعد أن نزع من أهله ِ وبيته وأحيط َ بالجند ِ والسلاح وفتح أمامه باب التضحية على مصراعيه مجهول الأول مجهول ال آ خر ، فأ ُ قسم ُ ما رأيت فيه وفي مشيته إلا بطلاً عالي الرأس مطمئن النظرات ... وودت ُ أن رآه معي في تلك الساعة ِ كل ُ أبناء ِ مصر َ . إذن لرأوا سعد َ هم أسداً وهو أثبت ما يكون حين تنازله الحادثات ُ . كان يمشي هادئاً منبسط الجبين ليس في خطوه إسراع ولا تثاقل ولا في نظراته ِ ولا في حركات ِ جسمه ِ أثر واحد يدل على قلق ٍ أو إضطراب ٍ , ويده اليسرى في جيب ِ معطفه ِ ويده اليمنى تحرك عصاه حركة ً عادية ً منتظمة ً كأنه لا يرى لكل ما هو واقع ولا لكل الذين محتاطون به وجوداً أكثر من العدم ِ . وما رأيته تلفت يميناً أو شمالاً , ولا وقفت عينه عند واحد من الذين يرافقونه مسلحين , ولكنه لما رآنا نحن واقفين مد نظره إلينا وسرحه فينا) .
(2)
كانت السنواتُ ما بين 1906 و1910 من أسوأ السنين فيما يتعلق بتأزمِ العلاقةِ بين مسلمي مصرَ وأقباطِها . فخلالُ تلك السنوات وكنتيجةٍ لسياساتِ ممثلِ الإحتلالِ البريطاني في مصرَ سير الدون جورست وسلفه اللورد كرومر , والتي قامت على بذرِ بذورِ الحزازات بين المسلمين والأقباط عن طريقِ التناحرِ على المصالحِ بوجهٍ عامٍ والتنافس الدامي على الوظائفِ بوجهٍ خاصٍ , ناهيك عن إذكاء نار التعصب ولا سيما بالإيعاذ للأقلية القبطية أن أبنائها لا ينالون حقوقهم كاملة وأن الفرص لا تتاح لهم كما تتاح للمسلمين , نتيجة لذلك تأزمت العلاقةُ بين مُسلمي مصرَ وأقباطها بشكلٍ لم يسبق له مثيل في تاريخِ مصرَ الحديث . وقد بلغ تأزمُ العلاقةِ حداً بعيداً عندما أخذت الصحفُ اليومية تعبر عن وجهتي النظر في الخلافِ المشتعلِ بشكلٍ زاد من إشتعالِ نارِ الخلاف . وفي أطروحة نال بها الدكتور حسن الموجي درجة الدكتوراة في الإعلام عن موقف الصحافة الشامية من مشاكل الواقع المصري خلال السنوات ما بين 1900 و1914 عرضٌ شيقٌ للغايةِ للكيفية التي إنعكس بها هذا الخلاف على كبرياتِ الصحفِ المصريةِ يومذاك. فقد بلغ التأزمُ أقصَاه عندما قُتِلَ بطرس غالي باشا رئيس وزراء مصر القبطي يوم 20 فبراير 1910 برصاصةٍ أرداه بها شابٌ مصري مسلم هو إبراهيم الورداني . وخلال هذه السنوات كان سعدُ زغلول وزيراً في كل الوزاراتِ التي تعاقبت على حكمِ مصرَ إبتداءً من وزارةِ مصطفى فهمي باشا الأخيرة (1906 -1908) ووزارة بطرس غالي باشا (1908 – 1910) ثم وزارة محمد سعيد باشا منذ 1910 وحتى إستقالة سعد زغلول الشهيرة سنة 1912 . خلال تلك السنوات أتيح لسعدٍ الذي ساعدته طبيعتهُ كرجلِ قانون ومحامي وقاض ذاع صيت عدله كما ساعدته ثقافته التي جمعت بين التراث والثقافة العصرية , أقول مكنه ذلك أن يراقب الأزمةَ ويقف على حقيقتها وبذورِها . أدرك سعدٌ بنظرهِ الثاقبِ وحنكِته التي كونتها تجاربُ السنين الخصبة أن "العدل" بين طرفي الأمة يقضي على أية فتنة طائفية . كذلك أدرك سعدُ زغلول أن مبادرةَ الأغلبيةِ بكفالة الشعور بالأمان لدى الأقلية هو الأمر الطبيعي والذي ستنجم عنه حالة سلم حقيقية لا ظاهرية , وأن الأقباط عندئذ سيكونون أبعد ما يكونون عن التعصب أو الخوف أو القلق على أنفسهم وعلى أبنائهم وعلى أموالهم .
وقد إختزن سعدُ زغلول كل خبراتهِ في الحياةِ سواءً إبان الثورةِ العرابيةِ التي شارك فيها أو أيام السجنِ القديمةِ أو تجارب الحياةِ إبان إشتغاِله بالمحاماةِ ثم القضاء ثم وزيراً ثم نائباً منتخباً عن الأمةِ في الجمعيةِ التشريعيةِ (1913 – 1914) ثم سنوات المخاض الأخير خلال سني الحربِ العالميةِ الأولى , فقد إختزن سعدُ زغلول الدرس الأعظم المستفاد من مراقبةِ تلك التجربة . وعندما وضعته مؤهلاتهُ الفريدة فى موضع القائدِ الأوحد لثورة 1919 فإن سعداً وظَّف خلاصةَ تجاربهِ فى الحياةِ ومن بينها تجربة تأزم العلاقات بين مسلمي مصرَ وأقباطِها خلال السنوات ما بين 1906 و 1912 أكمل توظيف . فإذا بقيادتهِ الروحيةِ الفذة للثورةِ تجعل من فُرقاء الأمس الألداء رُفقاء الثورة المشتعلة الأصفياء وجنودها الأوفياء . ورغم إعتقادي أنه لا توجد أية حاجة لتقديم الأدله على إئتلاف مسلمى مصرَ وأقباطها إئتلافا بالغ الروعة منذ إشتعال ثورة 1919 بسبب القبض على الرجل الذى اجتمعت ثقةُ عنصرى الأمة فيه ، حيث أن جميع المؤرخين قد أوفوا هذه الظاهرة حقها ، فإنني أودُ أن أقتطف فقرات من كتاب "موسوعة تاريخ مصر" (الجزء الرابع – صفحة 1567) للأستاذ / أحمد حسين حيث يقول فى وصف مظاهرة الشعب الكبرى يوم 17 مارس 1919 (ولعل أروع ما أبرزتة هذه المظاهرةُ الكبرى هو هذه الظاهرة التى سيطرت على الأحداثِ من اللحظةِ الأولى ، وهى ظاهرة التضامنِ الوثيقِ بين المسلمين والأقباط بعد أن تصور الأنجليز أنهم نجحوا فى التفرقةِ بين عنصرى الأمة ، فإذا بالمفاجأة وكم لثورة 1919 من مفاجأت ، تظهر كيف ساد التلاحمُ بين المصريين فى لحظة وأصبحت الكلمة التى تتردد على الشفاة "الدين لله والوطن للجميع" وظهرت الأعلامُ فى هذه المظاهرةِ الكبرى وقد رسم عليها الصليب مع الهلال).
وخلال سنواتِ الكفاح الوطنى ما بين 1919 و 1924 كان سعدٌ مُحاطاً دائماً برفاقهِ المخلصين وفى مقدمةِ الصفوفِ صفوةٌ وفيةٌ من الشخصيات القبطية أمثال واصف غالى وويصا واصف وسينوت حنا وفخرى عبد النور ومكرم عبيد وغيرهم . ولعل معظم القراء المهتمين بتاريخ مصر يذكرون أن سعداً عندما أُعتقل يوم 23 ديسمبر 1921 من قبل قوات الإحتلال البريطانى فى مصرَ ونفى ، فقد كان إثنان من أصحابهِ الخمسة الذين قررت سلطاتُ الإحتلالِ نفيهم من كبارِ الشخصيات القبطية (مصطفى النحاس، سينوت حنا ،مكرم عبيد ، فتح الله بركات ، عاطف بركات) . وبعد قليل أُلقى القبض على مجموعةٍ أُخرى من رفاقِ سعد زغلول حاكمتهم سلطاتُ الإحتلال وأصدرت حكما بإعدامِهم فى 11 أغسطس 1922 وهم (حمد الباسل ، ويصا واصف، مرقص حنا ، واصف بطرس غالى ، علوى الجزار، جورج خياط ، مراد الشريعى ) وواضح أن هناك أربعة أقباط من بين مجموعِ رفاقِ سعد زغلول السبعة . وبعد إعتقالِ هذه المجموعة الثانية من زعماءِ الوفد تكونت مجموعةٌ جديدة أضحت هى الزعامة الثالثة للوفد وقد ضمت عبد الرحمن فهمى ومصطفى القاياتى ومحمود فهمى النقراشى ومحجوب ثابت ومحمد نجيب الغرابلى وفخرى عبد النور ونجيب إسكندر وعبد الستار الباسل وحسن يس. وبعد إعتقال هذه المجموعة الثالثة تشكلت زعامة جديدة رابعة للوفد من المصرى السعدى وحسين القصبى ومحمود حلمى إسماعيل وعبد الحليم البيلى وراغب إسكندر وسلامة ميخائيل . وتظهر الأسماء بكلِ وضوحٍ أن الشخصياتِ القبطية كانت متغلغلة فى تكوينِ الوفدِ بكافةِ مستوياته تطبيقاً لروحِ وسياسةِ ومنهجِ سعد زغلول فى هذا الصدد . وعندما إكتسح سعدٌ وحزبه أولَ إنتخاباتٍ حقيقية فى تاريخِ مصرَ ، وعندما ألف أول وزارة شعبية حقيقية فى تاريخ مصر الحديث خلال شهر يناير 1924 ، إذا به يخالف العرف الذى كان يقضى بتعيين وزير قبطي فى كل وزارة ، وإذا بسعدٍ يعّين وزيرين قبطيين فى وزارته التى كانت تتكون يومئذ من رئيس وتسعة وزراء فقط ، وكان هذان الوزيران هم مرقص حنا وواصف غالى .
وهكذا يتضح جلياً أن سياسةَ سعدِ زغلول فى هذا المضمار إنما كانت تقوم على إلغاءِ التعصبِ من الجانبين وذلك عن طريقِ إشاعةِ روحِ الوطنية المصرية وبث روح الأمان والأطمئنان بين أفراد الأقلية القبطية وجعلهم جزءاً لا يتجزء من بنيةِ حزبهِ السياسى الكبير ، وتوزيع الأدوار فى هذا الحزب على أساس الكفاءة لا الدين . ومن جانب أخر فإن روحَ التآخى والإخلاص والوفاء والولاء كانت هى معالم إتجاه الأقباط المصريين ومواقفهم ، ذلك الإتجاه الذى تمثل ذات يوم فى أعظم المواقف عندما هم أحد الجنود بطعن مصطفى النحاس زعيم الوفد والأغلبية المصرية بحربة مسمومة إبان وزارة إسماعيل صدقى فى مطلع الثلاثينيات ، فإذا بواحد من أكبر الشخصيات القبطية فى الوفد يلقى بنفسه على النحاس لفدائه فتصيب الحربةُ المسمومة سينوت حنا بجرح غائر يموت – بعد أيام – بأثره وقد قدم مثالاً لا تمحوه الأيام للمعادلة العبقرية فى ربط عنصرى الأمة برباطِ الائتلافِ والتآخى والوطنيةِ والمحبةِ الذى لا تنفصم عراه إلا عندما ينخر التعصبُ فى بدن الأمة – بعنصريها – سواء فى شكلِ فكرٍ رجعى لا يصلح لهذه الأمة ذات العنصرين ولا يصلح لهذا الزمان ، أو فى شكل تعصبٍ مقيتٍ من جانب بعض شخصيات الأقلية التى تجهل أن السلام الوطنى فى مصر هو المنجى الوحيد من طوفان التخلف وإعصار العصبية المقيته الذى هب منذ أكثر من ثلاثين سنة على هذا الجزء من العالمِ الذى توجد مصرُ في قلبهِ .
#طارق_حجي (هاشتاغ)
Tarek_Heggy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟