|
نيسان عيد الطبيعة والآلهة و الإنسان
سليمان يوسف يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 797 - 2004 / 4 / 7 - 10:14
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
الدلالات الميثيولوجية لطقوس احتفالات الآشوريين بعيد (الأكيتو) في الأول من نيسان: يحتفل الشعب الآشوري(سريان/كلدان) في (الأول من نيسان) من كل عام بعيد (الأكيتو)، وهو اليوم الأول من بداية السنة الآشورية، في سوريا وباقي مناطق تواجده ، جرياً على عادات أجداده في ( بلاد ما بين النهرين). حيث يقيم الآشوريون احتفالات شعبية بين أحضان الطبيعة وبحسب الطقوس والتقاليد الآشورية القديمة، مثل تقديم القرابين للآلهة والهدايا للملوك وإقامة طقوس احتفالات عقد زواج جماعي، وإقامة المهرجانات الفنية والتراثية من غناء و دبكات رقص شعبية وغيرها من التقاليد القومية عند الآشوريين والتي تعبر عن عبق الحضارة الآشورية وأريج التراث السرياني الأصيل. لقد كان لـ(الأسطورة) دوراً هاماً وأساسياً في حياة الشعوب القديمة، وفي بلاد ما بين النهرين بشكل خاص، حيث شكلت (الأسطورة) المساحة الفكرية والإيديولوجية التي جرت عليها أحداث(الدراما الإلهية) عند الآشوريين القدماء، بعد أن وجدوا في ظواهر الطبيعة تجسيداً للقوانين الإلهية الخالدة، كما أنهم أعطوها بعداً وظيفياً، من خلال طبع هذه الظواهر بغايات ومقاصد كان الانسان الآكادي( البالي/الآشوري) يطمح إليها، وربطها بالمناسبات والممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع الآشوري. أن التدقيق في الطقوس والشعائر الدينية القديمة التي كان يمارسها الآشوريين قديماً في احتفالاتهم، نجد أنها تنطوي على الكثير من الإرهاصات الفكرية والفلسفية الهامة منها: التصور الآشوري للتاريخ: لا شك أن ضرورات التنظيم وضبط الأحداث والظواهر الطبيعية والاجتماعية ذات التأثير المباشر على الحياة والنشاط الزراعي دفعت الإنسان الآشوري ليضع أول تقويم سنوي(روزنامه). شكل ذلك التقويم مرحلة انعطاف كبيرة وهامة في حياة المجتمعات القديمة ،إذ كان بداية تكون الذاكرة التاريخية للإنسان ،فالتقويم الآشوري لم يكن مجرد تأريخ لوقائع وحوادث تحدث في المجتمع ،أو تدوين لظواهر تقع في الطبيعة ،إنما هو إنجاز علمي هام حققه الإنسان النهريني في مجال العلوم الطبيعية وعلم الفلك. فتحديد بداية (السنة الآشورية)مع تجدد الحياة في الطبيعة وبداية دورتها وخصبها في نيسان وتعاقب الفصول الأربعة يضعنا أمام التصور (الآكادي –البابلي –الآشوري)للتاريخ من حيث هو حركة دائرية مغلقة، وهذا يذكرنا بالمقولة الأرسطية القائلة: (( إن الطبيعة تضمن الخلود للنوع عن طريق العودة الدورية لها)). وهذا يؤكد على ما كان للتقويم ( الآشوري) من وظيفة هامة وكبيرة في الحياة الفكرية والذهنية الآشورية آنذاك. فكرة الخلق والتكوين: لقد تمحورت (الميثيولوجيا الآشورية) الأكادية/البابلية، حول ثلاث محاور أساسية هي: التكوين(الخلق) و (الآلهة) و(الإنسان).تقول الأسطورة الأكادية(اينوما ايليش) - كتبت باللغة الأكادية في أواسط القرن الثاني عاشر ق0م وهي من الطقوس الأساسية لاحتفالات رأس السنة الآشورية (الأكادية)- تقول:بعد أن أجمعت الآلهة على إدانة الإله (كنينو)بصفته مذنبا حكم عليه سيد الآلهة(مردوك)بالموت ذبحا ليخلقوا من دمه ((الإنسان)) 0لو دققنا بهذه الأسطورة والملحمة الأدبية الرائعة نجدها تنطوي على تكوين الإنسان بقرار الهي جاء في إطار تنظيم العالم الجديد الذي نشأ مع اندحار قوى الشر والعماء والفوضى 0وهذه الأسطورة تفصح عن المضامين الدينية والميتافيزيقية لطقوس احتفالات الآشوريين بعيد الأكيتو قديماً في نيسان، عيد راس السنة الآشورية. فكرة الحياة الأبدية والخلود: لقد انطلق الإنسان في بلاد الرافدين منذ القدم باتجاه (الكون ) بأبعاده الثلاث: الطبيعة، الآلهة الإنسان، متجاوزاً ذاته إلى الذات الإلهية التي رأى فيها مصدر كل فعل كوني ، وذهب إليها متسائلاً عن سر (الخلود) والحياة الأبدية. إذ تروي لنا ملحمة ((كالكامش)) البابلية والتي تعود إلى عام 2650ق.م وتعتبر أقدم نموذج من أدب الملاحم في تاريخ الحضارات: إن كالكامش أنطلق بعد موت صديقه ( أنكيدو) بدافع حبه الشديد له و حزنه العميق عليه للسفر في رحلة طويلة يبحث فيها عن سر هذا الخلود الذي استأثرت به الآلهة منذ اللحظات الأولى للخليقة وحرمت الإنسان منه، لهذا فشل كالكامش في الدخول إلى عالم الآلهة والوصول إلى الحقيقة المطلقة (للموت) والحياة وتحقيق الخلود لبني البشر في العالم السفلي، لكن(كالكامش) لم يفقد الأمل بالخلود، لهذا لم يقطع صلته بالآلهة، بل استطاع أن يقنع ويرضي البعض منها لتهبط بنفسها إلى الأرض والعالم السفلي (عالم الإنسان)- هبوط عشتار وزواجها من تموز- لتشاركه أفراحه وأحزانه أملاً بأن تفصح له عن سر الخلود. إلى أن جاءت الديانات السماوية التي ظهرت فيما بعد لتكمل رسم صورة الحياة الأبدية في الآخرة التي تخيلتها ذهنية الإنسان الآكادي( البابلي الآشوري). جدلية الموت و الانبعاث: اتخذت ( جدلية الموت و الانبعاث) عند البابليين والآشوريين في بلاد ما بين النهرين أشكال إنسانية وحياتية واقعية، وقد عبرت معظم الأساطير والملاحم القديمة في سومر وبابل و آشور عن هذه الجدلية من خلال موت الآلهة وانبعاثها، وجفاف( سبات) الطبيعة في فصل الشتاء وانبعاثها في فصل الربيع من جديد، كذلك من خلال الصراع بين الخير والشر وعلاقات الحب والتزاوج بين الالهة، كما في أسطورة (تموز وعشتار). وتشكل ملحمة الخلق والتكوين البابلية( اينوما ايليش) محور (الميثولوجيا الآشورية) حيث كان لها أهمية كبيرة وخاصة في أحداث الاحتفالات بأعياد (رأس السنة الجديدة) ففي اليوم الأول من الاحتفالات، التي كانت تستمر اثنا عشر يوماً، كانت تقدم هذه الملحمة على شكل( مسرحية الآلام) احتفالاً بذكرى انتصار الإله (مردوخ) على (التنين الهباء) صاحب الجبروت وتخليداً لأحداث موته وقيامته من بين الأموات في اليوم الثالث. وهنا نشير إلى أمر هام وهو (أن احتفالات المسيحية في نيسان من كل عام بذكرى (انتصار السيد المسيح) على (قوى الشر) وقيامته من (القبر)، ما هي إلا استمرار وتواصل لتلك الاحتفالات والطقوس القديمة لشعب ((بلاد ما بين النهرين ))في نيسان. فكرة الخلاص والتجسد: منذ القديم كان (الآشوريين) ينظرون إلى (الإنسان) على إنه يتكون من جسد وروح، لذا فهو يشارك (الآلهة) بقدر ما كانت الآلهة مشاركة للإنسان في إنسانيته ،بصيغة (الإله إنسان) و (الإنسان إله) ذلك من خلال (تأليه) عظماء الملوك وهبوط الآلهة إلى العالم السفلي موطن الإنسان. تحدثنا أسطورة (اينوما ايليش ) في موقع آخر عن احتفالات نيسان وكيف كانت ذروتها تحدث مع تتويج مردوخ ملكا إلها على الكون، هذا الإله الذي عبده الآشوريون في شخص الإله (أشور)الإله القومي لهم. وهو يبرز هنا كـ(مخلصا) عظيما للإنسان.و هذه إشارة ودلالة واضحة على أن فكرة (الخلاص ) التي تقوم عليها (العقيدة المسيحية) هي فكرة آكادية (آشورية)قديمة. في إحدى المخطوطات الآشورية التي تعود إلى القرن السادس ق0م نجد إن الملك (أشور بانيبال) يتوجه إلى الإله(ادد) إله السماوات والأرض ملتمسا:( يا من خلقت البشر بكلمة نطقت بها، أسألك إن تمكنني من الدفاع عن نفسي وتمنحني حكمك العادل 000بك أتوسل 000فتقبل تضرعي وابتهالي 000استجب لصلواتي 000واغفر لي خطاياي ونجني من الشرور التي تهدد حياتي ) هذا الرجاء الديني يلخص قصة الخلق من جهة، وطبيعة العلاقة بين الإنسان و الآلهة من جهة أخرى، ويذكرنا هذا الدعاء بصلاة (أبانا الذي في السماوات) والتي تعتبر من أهم الصلوات التي أوصى بها السيد المسيح. هكذا نجد أن طقوس هذا العيد تنطوي على دلالات فلسفية عميقة وإرهاصات فكرية ذات أهمية كبيرة تركت بصماتها على معظم الفكر الديني (المثيولوجيا)في الشرق القديم، وقد جاء التقويم الآشوري تعبيرا عن ضوابط الفعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني (الأيديولوجي) في المجتمع الآشوري القديم من هنا تبرز أهمية الأول من نيسان بصفته رمزا ضخما وعظيما في المجتمعات الآشورية القديمة والاحتفال به كعيد قومي آشوري هو بحق عيد (الطبيعة ولآلهة والإنسان) معا، فهم ثلاثة اقانيم في واحد هو(الوجود)الكون، عمل الإنسان الأكادي (البابلي الآشوري)على مد الجسور بينها، مفصحا عن العلاقة التاريخية بين الله والإنسان أولا، وعن العلاقة العضوية بين الإنسان والطبيعة ثانيا. هكذا فقد تميز الفكر الأسطوري الأكادي بنزعة تجمع بين الفكر المادي والمثالي، بين النظرة الموضوعية والرؤية الميتافيزيقية للكون والإنسان. إذا كان الأول من نيسان قديما وبما يحمله من دلالات (دينية –فلسفية –علمية -)ملحمة آكادية وأسطورة بابلية تلخصان قصة الخلق والتكوين، فهو اليوم بما ينطوي عليه من قيم إنسانية ودلالات حضارية ولما له من خصوصية تاريخية واجتماعية آشورية، عيدا قوميا آشوريا كبيرا يحتفل به الشعب الآشوري في سوريا وباقي مناطق (بلاد مابين النهرين) بين أحضان الطبيعة بعيدا عن معابد الأوثان، ليجعل من هذه المناسبة ملحمة قومية ووطنية حقيقية يؤكد من خلالها على اعتزازه بانتمائه لتاريخه (الأكادي البابلي الآشوري السرياني) ولوطنه سوريا ليجعل من الطبيعة منبرا حرا يعلن منه عن وجوده القومي، وهو يتطلع لمستقبل زاهر مشرق لجميع شعوب المنطقة في دول تنعم بالأمن والاستقرار، تحل فيها مسألة (القوميات) على أرضية الوحدة الوطنية والديمقراطية، وعلى قاعدة التساوي في الحقوق والواجبات في وطن حر كريم، تحترم فيه الحريات وحقوق الإنسان. سليمان يوسف يوسف.... القامشلي.... كاتب آشوري سوري... مهتم بمسالة الأقليات. [email protected]
#سليمان_يوسف_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يوم ديمقراطي في حلب
-
قراءة من الداخل... للمشهد السياسي السوري
-
معركة الحجاب ... وخطر تحولها لحرب دولية
-
المنظمة الآثورية الديمقراطية تقيم حواراً حول إشكالية الهوية
...
-
المشكلة القبطية في مصر
-
الآشوريون في سورية
-
المجتمع المدني بين قلم المثقفين وسلطة الدولة
المزيد.....
-
مصر.. حكم بالسجن المشدد 3 سنوات على سعد الصغير في -حيازة موا
...
-
100 بالمئة.. المركزي المصري يعلن أرقام -تحويلات الخارج-
-
رحلة غوص تتحول إلى كارثة.. غرق مركب سياحي في البحر الأحمر يح
...
-
مصدر خاص: 4 إصابات جراء استهداف حافلة عسكرية بعبوة ناسفة في
...
-
-حزب الله- يدمر منزلا تحصنت داخله قوة إسرائيلية في بلدة البي
...
-
-أسوشيتد برس- و-رويترز- تزعمان اطلاعهما على بقايا صاروخ -أور
...
-
رئيس اللجنة العسكرية لـ-الناتو-: تأخير وصول الأسلحة إلى أوكر
...
-
CNN: نتنياهو وافق مبدئيا على وقف إطلاق النار مع لبنان.. بوصع
...
-
-الغارديان-: قتل إسرائيل 3 صحفيين في لبنان قد يشكل جريمة حرب
...
-
الدفاع والأمن القومي المصري يكشف سبب قانون لجوء الأجانب الجد
...
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|