|
المنطق الحيوي للشكل الحيوي
عبد الرحمن كاظم زيارة
الحوار المتمدن-العدد: 2600 - 2009 / 3 / 29 - 09:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تنويه : هذا فصل آخر من مشروع " تأملات على ضفاف الشكل الحيوي " الذي يتعرض لفلسفة المفكر العربي الدكتور رائق النقري مؤسس مدرسة دمشق للمنطق الحيوي والتي يكتشف فيها منطقا جديدا هو " المنطق الحيوي التوحيدي " والذي يوفر مقايسات غير مسبوقة للخطاب الانساني بخاصة والى كل الاشياء والكائنات بوصفها اشكلا لها طرق تشكل باحتمالية ونسبية
(1)منطق الوعي ووعي المنطق
يعيد النقري الترتيب بين الوعي والمنطق بإظهار فرقا حاسما بين منطق الوعي ووعي المنطق ، انطلاقا من حقيقة أن : ( منطق الوعي هو الذي يحتوي وعي المنطق ..وليس العكس )(1) . بمعنى ان الوعي حواءا يشمل كل التحويات المنطقية الممكنة ، والمنطق كمقولة عامة هو ايضا حواءات تشمل منطقيات متعددة ، والفرق بين التحويات المنطقية والمنطقيات المتعددة بدوره واضحا لا لبس فيه . بكلمات أخرى ان وعي المنطق ـ أيا كان ذلك المنطق ـ هو مجموعة جزئية من المجموعة الشاملة التي هي منطق الوعي .ان هذا الترتيب من شأنه ان يعيد للوعي الانساني رياسته وتحرره من كل الاحكام ونظم التفكير المستحكمة وذات الصبغات الاحادية او المسطحة كالمنطق الشكلي والمنطق الجدلي بنسختيه المثالية الهيجلية والمادية الماركسية . فالوعي فضاء يتحوى طرق التفكير وفق منطقه الذي يفيض عن طريقة تشكله ، وهذا يحيل الى رفض التقابل الزائف بين الوعي والمنطق ، لانه يلغي علاقة الاحتواء بينهما ، تلك العلاقة تقرر فاعلية التفكير الانساني واتجاهاته ومصالحه . وعلى صعيد الكائنات الحية غير الناطقة والكائنات غير الحية ثمة دارات منطقية تفصح عن صيرورة تلك الاشياء .(فالوعي القائم على مبدأ الجوهر انما يقوم بذلك لكون منطق الوعي يسمح له بذلك ويتطلب منه التأسيس والتحوي ،حول وعلى مبدأ الجوهر ، ضمن وجود ظروف ومصالح وتقنيات تستلزم ذلك. وعندما تتغير هذه الظروف او يضعف حضورها ، فان منطق الوعي- نفسه- يسمح بالتأسيس على غير مبدأ الجوهر. وفي الحالين فان منطق الوعي يعبر عن مبدأ الشكل)(2). ان اول مايريد التنبيه عليه منطق الشكل الحيوي ، هو خطل الاسس الجوهرية والثنائية والاحادية في تقويم المعتقدات والتصورات السابقة على الاشتغال بأشكال الفكر وقوانينه . تلك الاسس تعتبر احكام قبلية من شأنها ان تخدع الوعي ، وتقصي على نحو متعسف التحويات المحتملة التي يضمها منطق الاشياء والكائنات بأجمعها، وبأختصار : منطق الشكل ذاته .إلا ان منطق الوعي هو شكل يتسع لكل الاحتمالات الممكنة طبقا لصيرورته ،بأبعاده المختلفة وظروفه الزمانية والمكانية المتغيرة . ومن ذلك ان الدلالات التي تفيض عن العبارة ، ومن ثم ، القضية المنطقية هي مجرد احتمال من احتمالات عدة . وان محدودية تلك الاحتمالات لاتعود بنا الى المنطق الارسطي الشكلي ـ او لنسمه "المنطق الصوري" لكي نميزه عن منطق الشكل الحيوي ـ بل تنقلنا الى منطق اشمل في تحوياته، يحايث المنطق الرياضياتي . تتمحور الاختلافات ـ او في الاقل الفروقات ـ بين منطق الشكل الحيوي من جهة والمنطقين الصوري و الديالكتيكي من جهة اخرى حول الرؤية الفلسفية للحقيقة . وان بدا ذلك الاختلاف او الفرق واسع في مداه الى درجة يفرض معها نوعا من الضبابية وربما تماهيا مع ادعاءات تفتقد الى المعيار العلمي والمنهجي معا . ولايمكن بكل تأكيد الوقوف على الفرق بين رؤيتين او منطقين مالم يكونا على درجة تتجه الى ان تكون عالية من التشابه. وليس كذلك التشابه ، فهو يتطلب الفرق وإن كان ضئيلا . لهذا السبب فأن الاختلاف الذي نزعمه يقرر التشابه بين المناهج المنطقية الثلاثة ،وهو تشابه يقترن بتباين ينبثق من طريقة البحث في الحقيقة وعنها. يظل المنطق الشكلي الارسطي" الصوري " محتفظا بفاعليته ومنفعته برغم ظهور منطقيات أخرى ،لا بل برغم التصحيحات التي اجراها كل من "وايتهيد" و " رسل " وآخرون عليه وصيرته منطقا رياضياتيا في مرحلة تالية ، والذي يسمى احيانا بالمنطق الرمزي لاشتغاله بالرمز الدال على الاشياء او العبارات او القضايا البسيطة والمركبة او الكيفيات . ان الصياغة الرياضياتية للمنطق مثـّل نقلة هامة من القضايا الثابتة الى القضايا المتغيرة الامر الذي حرر المنطق التقليدي الصوري من تحكمات الرؤى الفلسفية السابقة على التجربة .فالمنطق الرياضياتي يأخذ بما يسمى بفضاء العينة وهي كل الاحتمالات الممكنة للقضية محسوبة على اساس الاحتمالات الممكنة لصواب او خطأ العبارات. بكلمات أخرى ان المنطق الشكلي يهتم بالتتولوجي فقط ولايهتم بسواه ، في حين ان المنطق الرياضياتي يتحوى ما هو تتولوجي ـ مؤكد ـ ومتناقض في حواءات احتمالية التشكل دون إحالة. لذلك فأن العسف أبعد ما يكون عن المنطق الرياضياتي ، حتى يمكن القول ان المنطق الرياضياتي هو الوريث الشرعي للمنطق التقليدي الارسطي وتصحيحا له. في كلا المنطقين الارسطي والرياضياتي تتواجد قوانين الفكر الاربعة : الهوية ـ الذاتية ـ والتناقض والعكس والبرهان . وكذلك أشكال الفكر : المفهوم والحكم والاستنتاج. إلا ان جبر القضايا اوجد للمنطق الرياضياتي قوانين أخرى وهي على أي حال ليست مقطوعة الصلة عن المنطق الشكلي الصوري برغم ان القسم الاكبر منها مستحدثا وتمثل تجاوزا وليس نفيا للمنطق الشكلي الصوري . ومن هذه القوانين ، القوانين المزدوجة التي تصح عند عمليتي الاتحاد والتقاطع ، مكرسة خاصة المِثلية أو ما يسمى"مبدأ الثنوية "، وهي : قانونا اللانمو ـ وهما تعبيران جبريان موسعان لقانون الهوية ـ وقانونا الدمج (= التوزيع )، وقانونا الإبدال ،وقانونا التوزيع، ووقوانين المحايد،وقوانين المكمل ،وقانون مكمل المكمل، وقانونا دي مورغن . وللحتمية المنطقية في هذا المنطق شروط معروفة وهي وثيقة الصلة بفكرة التكافؤ المنطقي ، إذ ان قضية ما تحتم أخرى ، يعني إنهما يمتلكان قيم الصدق ذاتها ، ما يجعلهما متكافئين .أضف الى ذلك ، إن الاستقراء الرياضياتي قد الغى ما يعرف بالاستقراء الناقص عبر توظيف قانوني الهوية والاضافة اللذان يصدقان على نمو الظاهرة أيضا ، ما يجعل من الاستقراء تاما وليس ناقصا . ويخطأ من يعتقد ان ذلك تحوّل صوب الاستنباط . ومن الافضليات التي يتمتع بها المنطق الرياضياتي ـ وهذا شأن الرياضيات ككل ـ هي الصياغات المبرهن عليها التي تقصي أثر الدلالة اللغوية المتغيرة لدى المتلقي ، لصالح الحقيقة النسبية . المنطق الديالكتيكي ، بشقيه الهيجلي المثالي والماركسي المادي،يعترف بأهمية المنطق الشكلي" الصوري " . والقائلين بالمنطق الديالكتيكي لايقرون او يزعمون انفصال المنطق الديالكتيكي عن المنطق الشكلي الصوري او تنافيهما ، بل يعدون المنطق الشكلي "الصوري" درجة دنيا والمنطق الديالكتيكي درجة عليا وهما يتمايزان باسلوب مواجهتمها المعرفية للشئ ، وبـ " درجة " المعرفة التي يعطيانه عنه .فهما متلازمان في المبدأ من حيث انهما يقران اشكال الفكر الاساسية . ويبدأ التمايز بينهما بعدم وقوف المنطق الديالكتيكي عند قوانين الفكر الاربعة بل ان "علم الفكر الديالكتيكي "يرتكز على اربعة خطوط اساسية : الاقرار بالترابط العام ، وبحركة التطور ، وبقفزات التطور ، وبتناقضات التطور . بمعنى ان ( الفرق بين المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي ينحصر في واقع انهما يواجهان ، بصورة مختلفة ، المسألة الاساسية للمنطق :وهي مسألة الحقيقة ، فمن وجهة نظر المنطق الديالكتيكي ، ليست الحقيقة شيئا معطى مرة واحدة لاغير ، ليست شيئا مكتملا ، محددا مجمدا ساكنا ، بل الامر خلاف ذلك . فالحقيقة هي عملية نمو معرفة الانسان للعالم الموضوعي خلال كل تاريخ المجتمع ) ( 3). ولعمري ان هذا من وجهة نظر تطبيقية او عملية لهو َخوض وهرس خارج الاناء ، فليس المطلوب من المنطق خلق التصورات الفلسفية بقدر ما هو طريقة سليمة ومنظمة للتفكير، وربما يكون مطلوبه هذا اذا كانت تقاريره وقضاياه من حقل الفلسفة او الايديولوجية ، الا ان ذلك هو ليس موضوعه الوحيد . ولاتوجد حقائق يمكن الامساك بها إلا في لحظة ما ، وما يطرأ من تطور بمعانيه المختلفة انما هي لحظات أخرى للشئ ، تسلتزم العلم بها . وهنا علينا ان نفصل بين الشئ في صيرورته وعن علمنا به ، ففي هذا الفصل الضروري امتناع ضروري هو الآخر لمطابقة الفكر والعالم الموضوعي على الدوام . ان الترابط بين الاشياء والظواهر والقفزات ـ التي نقبلها بوصفها احتمال ممكن من بين احتمالات عدة ـ تصح في معرفة العالم والاشياء من حولنا .. وهنا علينا ان ننظر الى الصلة بين المنطق والعالم الموضوعي بوصفهما سلستين مستقلتين ، منفصلتين عن بعضهما . فالافكار بصفة عامة هي مجرد محاولات للوصول الى الحقيقة بينما الاشياء بذاتها تمثل ،بل تتحوى الحقيقة الكاملة. إذن كيف تكون الصلة بين " التغيرات" التي تصيب افكارنا وتصوراتنا وبين " التغيرات " التي تصيب الاشياء المستقلة عن وعينا . بكل تأكيد ان التغيرين مستقلان عن بعضهما .. ما يقوله الديالكتيكيون حول ثبات وجمود المنطق الشكلي أمر مردود ، ولكن اذا وجه هذا القول الى " فلسفة ما " فأن ذلك فيه نظر وقابل للمناقشة . والا ماهي الاضافة الديالكتيكية لأبسط اولأعقد حقيقة هندسية او جبرية او فلكية مثل : سرعة الضوء ، وتقاطع المستقيمين بنقطة وحيدة ، وجزيئات أي عنصر كيميائي في سبيل المثال لا الحصر ؟. ان الفارق الذي يقول به الديالكتيكيون يمكن قبوله على انه فارق بين تصورين فلسفيين ، او في الاقل بين حزمتين من المعرفة ، تتفاوتان في تحوياتهما . صحيح ان المنطق الارسطي نتاج للفلسفة الافلاطونية ، الا انه المنطق الذي يؤسس لصواب أي منطق آخر دون جدال ، انه اداة يمكن استخدامه حتى لأثبات عدم صحة الاطروحات الافلاطونية نفسها. واذا كنا نريد ان ننظر الى الاشياء والظواهر على انها متغيرة فليس ثمة في المنطق الشكلي ما يمنع ذلك. ان حصر التغيرات والتطورات يمكن استيعابها بحسب مراحلها في المنطق الشكلي، ولايمكن استيعابها دفعة واحدة . فهل قصد الديالكتيكيون انهم بقادرين على ايجاد قوانين منطقية بديلة غير قوانين المنطق الشكلي التي تكرس او تعكس الجمود بحسب نظرهم ؟ يُشبّه "فلاديمير لينين " المنطق الشكلي بالعمليات الحسابية البسيطة ، والمنطق الديالكتيكي بالرياضيات العالية والتي لاتستغني عن العمليات الحسابية البسيطة ! وهذا تشبيه لاينطوي الا على رغبة متعسفة على رد الافكار الجيدة والنافعة الى الفلسفة الماركسية ، حيث ان الفرق المشبه بين المنطقين المذكورين ليس له وجود على الاطلاق .واذا كان المقصود بالرياضيات العالية تلك التي تتناول معالجة وتحليل دوال المتغيرات الحقيقية او المعقدة فأن المنطق الرياضياتي يتحوى القيم والاشياء الثابتة مثلما يتحوى القيم والاشياء المتغيرة . ومرة أخرى ننبه كيف ان الرياضيات المعاصرة قد ذهبت الى معالجة اكثر مما هو كمي ثابت وما هو متغير ، إذ عالجت اشياء كيفية . فلقد وجد ان إبدال المتغيرات باشياء اخرى امر ممكن على صعيد التحليل الرياضياتي . إن مفهوم المتغيربوصفه "شاغل مكان" في الرياضيات ، قد مكن الاخيرة من تحليل ومعالجة موضوعات مختلفة في طبيعتها كاللغة وعلم النفس والنقد الادبي وعلم الاجتماع وغيرها . ان الفارق الذي قال به الديالكتيكيون بين المنطق الديالكتيكي والمنطق الشكلي لاينفي ولايصحح قوانين المنطق الشكلي ، ولم يغنها بشئ اضافي ، وكل ما في الامر ان المنطق الديالكتيكي يقرر نظرية في المعرفة ، عمادها النمو المعرفي طبقا للحركة والتطور ، ويتخذ من الفلسفة المادية التاريخية أساسا وحيدا في التحليل والرؤية .وهذا لايشكل نقطة تصادم بين المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي انما يصح كفرق بين فلسفة تأخذ بثبات المعرفة وأخرى تأخذ بتطورها ، بين فلسفة مادية وأخرى ليست كذلك. اما المنطق الشكلي " الصوري " لم يوضع لمعالجة هذا النوع من المسائل فقط . لذا اذا اردنا الدقة علينا اعادة اطلاق التسميات الدالة على التوصيفات الصحيحة ، فالمنطق الشكلي وكذا المنطق الرياضياتي هما منطق ، بمعنى ان كل منهما آلة للتفكير المنظم والصائب ، ولايوجد منطق ديالكتيكي بالمعنيين الارسطي والرياضياتي بل ثمة منهج ديالكتيكي للتحليل . بكلمات أخرى ان الديالكتيك يتناول الظواهر والاشياء والقضايا المعبر عنها بمنهجية تكشف عن "منطق تحولاتها المتغيرة " باتجاهات مختلفة ومحسوبة ، وهذا الكشف ينطوي على تحديد لقوانين الصيرورة بما في ذلك التغييرات الحتمية . ايضا ، يمكن قبول المنطق الديالكتيكي على انه " منهجا ديالكتيكيا " نافعا لتحليل الواقع الموضوعي إلا انه ليس ذي صلة بالعلوم ، فلكل علم منطقه الخاص غير المتعارض مع المنطقين الرياضياتي والشكلي ، بل ان العلوم اذا احتاجت اداة منطقية فليس امامها سوى المنطق الرياضياتي وادوات رياضياتية معروفة الاستخدام . ان الدعوى القائلة بوجود منطق لتشكل الاشياء ، هي دعوى صائبة بقدر ما تعنيه لفظة منطق من الانتظام وقواعد التشكل . على ان منطق الاشياء شئ والمنطق الصوري اوالديالكتيكي شئ آخر . في الحالة الاولى ؛إعمام لتشكل التفكير من حيث ان المنطق علم الفكر . وفي الحالة الثانية ؛ كشف عن كل ما يختص به الشئ المعين : قاعدة ، قانون ، خصائص العلاقة الداخلية ، ...واذا ما اردفنا هذين بمفهوم ثالث هو "المناهج التحليلية" فتتشكل لدينا ثلاثية قابلة للتحوي وبالتالي فأنها تؤلف شكلا فكريا يستولي على مجموعته الشاملة . إن هذه الثلاثية تمثل الدائرة البدهية ، الاولية .. وبها حاجة الى عنوان جامع لها ، ونجد في اصطلاح النقري " الفكرياء " الذي ذكره ذِكْرَا ً عرضيا ًدون إيضاح ، المصطلح المناسب لهذه الثلاثية . عندئذ يمكن القول بثقة ان : الفكرياء شكل يتحوى المنطق الصوري والرياضياتي ومنطق الاشياء ـ الكائنات أيا كانت ـ والمناهج التحليلية النظرية والامبريقية (= التجريبية ). فالفكرياء توظف كل انواع المنطق والمناهج التي تؤسس للمنطق الحيوي التوحيدي.زد على ذلك ان المنهجيات والاكتشاف المضطرد للقوانين والعلاقات والعمليات والقواعد ، والاكتشاف المماثل لمنطقيات تشكل الاشياء من وجهات نظر مختلفة في قطائع علمية مختلفة تسبغ على الفكرياء بوصفه المنطق الحيوي التوحيدي صفة اللانهائية ، بسبب ان الحقلئق ذاتها لانهائية في نموها وتطورها عبر خطية الزمن والحركة . الامر الذي يتيح للمنطق الحيوي التوحيدي ان يستشف أو يستكشف القوانين الكونية . هل ما ذهبنا اليه من قول بصدد مُؤلِفات الفكرياء ،يمثل تلفيقا لايمكن البرهنة على صوابه ؟ وهل هو محض عملية سطو على المنطقين الرياضياتي والصوري والمناهج المشار اليها ، ومصادرة لها لحساب المنطق الحيوي التوحيدي ؟ نعم يكون الامر كذلك إذا لم تستطع فلسفة الشكل الحيوي ان تضع على نحو واضح منهجها التحليلي في الاقل ، ناهيك عن ما يمكن عدها مُؤسِسات منطقها الحيوي. إذ أن المنطق الحيوي التوحيدي مطالب ان يرينا كيف هي الانتقالة من " وعي المنطق " الى " منطق الوعي " ، وما هي الطبيعة المنهجية لمنطق الوعي. وكيف هي الاختلافات التي يمتاز بها المنطق الحيوي التوحيدي عن المنطقيات الاخرى بحيث يمكن تأسيس منطق يتصف بالبداهة الكونية وينظم منطقه الكلي والشمولي ؟. لاينبغي للمنطق الحيوي التوحيدي ، ان يزيح المنطقيات الاخرى ،ولا المنهجيات العلمية الاخرى ، كما انه ليس مطالب بأن يأتي ببدائل لها لتسد الفراغ في حال رفضها أو نفيها . في الدارات الكهربائية أمكن تطبيق النظام المنطقي المُؤسَس من جبر القضايا ونظام العد الثنائي ، سمي هذا النظام بجبر " بوول " نسبة الى واضعه. وهويمثل إيضاحا للفسحة التي يمكن ان يكون عليها منطق الوعي ، تلك الفسحة التي اعطيناها تعبير التحويات المتعددة والمتغيرة . فجبر القضايا بدوره مؤلف من المنطق الرياضياتي وقوانين نظرية المجموعات . إلا ان جبر بوول ليس وقفا على الدارات الكهربائية ، إنما هذه الاخيرة مثلت قطاعا لتطبيقات جبر بوول اخذت شهرتها هذه في الرياضيات . كما ان توليفة جبر بوول ذاتها يمكن ان تعالج بنيويا ً طبقا الى نظرية البنى ، وتبولوجياً طبقا الى النظرية التي تحمل هذا الاسم . والامر لايتوقف عند التداخلات الخطية بين آلات البحث المذكورة ، بل هي تأخذ منحى تداخل لا خطي ايضا ومن ذلك مثلا التكافؤ بين نظرية المجموعات والمنطق الشكلي والمنطق الرياضياتي. أضف الى ان رمزي النظام العددي الثنائي 1,0 يكافئان خطأ او صواب العبارة على الترتيب ، كما انهما تطبيقيا يمثلان انطفاء المصباح وتوهجه على الترتيب ايضا. كل هذه المعطيات تسمح ببناء منطقي كوني ، أو في الاقل تؤسس لأواليات المنطق الكوني ، وهو عندنا منطق الشكل الحيوي . ويبقى هذا طموحا مؤملا يتطلب خبرات مركبة ، رياضياتية وعلمية ومعرفية وفلسفية . وليس لأي منطق ان يدعي الصواب مالم تصاغ قوانينه صياغة رياضياتية ، إذ لامناص من علم الرياضيات حتى في الفلسفة .ذلك ان التفكير ، به حاجة الى التنظيم الذي يحرره من الخرافة ،والعسف ،والـتأويل ، والاستسهال . وإلا كيف نفسر وجود نظريات متضاربة ومتناقضة في العلاقات الدولية والاعلام وعلم الاجتماع وعلم السياسة . اننا هنا لانشير الى التعددية المنهجية في العلوم على انها أمر غيرمحبذ ، فالتعددية لاتعني التناقض بل هي مظهر من مظاهر الاغناء في العلوم ، وانما الذي نشير اليه هو ذلك التناقض في الرؤى : رؤية الحقيقة الواحدة بحقائق مختلفة ، متناقضة ، احدها ينسف الآخر.
(2) الحدسي واللاحدسي
طالما تضمنت الدعاوى التي تدعي العلم بالكليات ، تناقضات وإحالات في منطقها الامر الذي أبقى هدف صياغة فلسفة كلية بعيد المنال .فمن بين الاساليب او التشكلات المتنوعة في مثل هذه الدعاوى ما يعتقده " هيجل " بصدد العلم بالكليات ، فهي عنده حاصل مجموع الحقائق الجزئية . ويُفـْهَم من ذلك ان الاستقراء طريقا وحيدا للعلم الكوني ، وهو خلاف الحدس الذي يذهب مباشرة الى الاحاطة بالبداهة الكونية والتي لاتحتاج في اقرارها لأي دليل برهاني . وقولنا هذا يعيد المشكلة الى نقطة البداية .لم لا ؟ فالعودة الى نقطة البداية شكل من اشكال حرية التفكير والبحث المجرد عن النزوات والسقطات غير المحمودة . ان الحس السليم ، الفطري ، الغريزي ، له مُؤدِيات فاعلة في الفكر الانساني والعطاء العلمي .وان النسبة بين البديهة اوالحدس من جهة والمنطق من جهة أخرى ـ أو إجمالا بين الحدسي واللاحدسي ـ متذبذبة فاذا حضرت احداهما غابت الاخرى ولايجري الاعتماد على احداهما دون الاخرى لحظة الاشتغال العلمي اوالفكري بصفة عامة .وليس ثمة قاعدة مطلقة تقرر متى يكون حضور الحدسي ضروريا ومتى يكون حضور اللاحدسي ضروريا .ولعل من المناسب هنا ان نورد النسبة بين الحدسي واللاحدسي كما جاءت في الموروث الفلسفي العربي (فالبديهة هي قوة تقمع الروية ، وهي ابعد من معاني الكون والفساد ، واغنى من ضروب الاستدلال والاستشهاد . وهي تحكي الجزء الالاهي بالانبجاس ، وتزيد على ما يروض عليه بالقياس ، وتسبق الطالب المتوقع ، وهي ـ البديهة ـ منوطة بالحس ، وان كانت معانة من جهة العقل )(4). ( و الروية والبديهة تجريان من الانسان مجرى منامه ويقظته ، حلمه وانتباهه ، وغيبته وشهوده ، وانبساطه وانقباضه ، فلابد من هاتين الحالتين . ومتى ضعف فيهما فاته الحظ المطلوب من الحياة ، والثمرة الحلوة من السعي . وليس حكمهما في اللسان اظهر من حكمهما في القلب ، لان للقلب بديهة بالسانح ، وروية بالاستقراء . واحداهما في حواء الهيولى* ، والاخرى في حواء الصورة . ولما كان الانسان متقوما بهما ، كانت نسبته فيما يفزع اليه ، على حد حصته فيما تأصل عليه) (5) . وبغض النظر عن الاعتراضات التي تنشأ بصدد النسبة بين الحدسي واللاحدسي ـ المنطقي ـ فأن الحواء الذي يتحوى كليهما هو علم الرياضيات لأنه يقوم على الاساس البدهي الذي يمكن معه تركيب الاستدلالات المنطقية البحتة . وان توسعة الاساس البدهي مَهمَة تقع خارج المنطق ، فمهما كانت المجموعة الشاملة التي يفترض انها تتحوى البداهة الكونية بدرجة او مرتبة كافية من الشمول ، فأنها وبسبب اننا في داخلها ، ستفرض علينا احكاما لايتضح فيه الصواب عن الخطأ . وسأستعين هنا بمفهوم المجموعة الضبابية وهو التعبير الانسب لهذه المعضلة . فالمجموعة الضبابية مجموعة كل الاشياء المرتبة على نحو متصل بدرجات مختلفة لدالة الانتماء التدرجي. نحن هنا نتحدث عن حواءات تصفها ادواتنا التحليلية على نحو تدرجي من التراكم المعرفي والذي ليس بالضرورة ان يلم بكامل الحقيقة ، انما يفترض هامشا وهامشا عريضا من الجهل . ان الاعتراف بوجود مثل هذا الهامش ضرورة اخلاقية وعلمية في آن واحد . ان صفوف الاشياء التي نواجهها في الحياة لايمكن تعريفها بدقة عبر دالة انتماء تفصح عن التحويات ، اضف الى ذلك فأننا في كل يوم نستخدم الخواص التي لانستطيع التعامل معها بقناعة وبساطة بنعم أو لا ، سواء كانت هذه الخواص تشير الى نسبة من الجواب غير المحدد ، كقولنا ابيض أو اسود .ففي سبيل المثال ان صف الحيوانات من المؤكد انه يتضمن الطيور والخيول والغزلان .. الى آخره ، وعندما نستثني بعض الاشياء طبقا لدالة الانتماء كالصخور ،والنباتات ، والسوائل،.. الى آخره ، فأن بعض الاشياء مثل البكتريا ونجم البحر ... ستوضع في مرتبة "غامضة " نسبة الى صنف الحيوانات .وكذلك الحال مع العدد عشرة عندما يوضع في صف الاعداد الحقيقية التي هي اكبر من العدد واحد بكثير ، وايضا صف من النساء الجميلات ـ آخذين بنظر الاعتبار معايير وعوامل وظروف غير محددة على نحو دائم للحكم على جمال أمرأة او صبية ما ـ .. فليس بالامكان تمثيل مثل هذه الصفوف واضرابها بصيغة رياضياتية اعتيادية . في الحقيقة ان مثل هذه الصفوف المعرفة على نحو غير دقيق مثار للسقطات الفلسفية وما تنطوي عليه من عسف رزح الفكر البشري في ظله ردحا طويلا من الزمن ومازال. مرة أخرى ، مثل هذه الصفوف تلعب دورا جذريا في التفكير البشري وفي كيفية الوصول الى الافكار المجردة . ان المعضلة هنا لاتظهر فقط وجهها التصنيفي، بل تظهر ايضا فيما يترتب عليه الحكم الفلسفي المسبق على هذا النوع من المجموعات التي اطلقنا عليها تسمية " المجموعات الضبابية " . هنا ايضا تظهر لنا فاعلية الحدس والبديهة ، فبقدر ما يكونا على درجة عالية من النقاء ، بمعنى تحررها من الاحكام القبلية ، سيكونا الاداة الاكثر فاعلية في توسعة الاساس البدهي للرياضيات ، بوصفها تمثل الصياغة التي ستجمع ما هو معرف الى جانب غير المعرف ، كما تجمع في حواءها المنطقي ماهو معروف الى جانب المجهول ، أي غير المعروف لدينا ولو بأدنى اشارة تدل عليه وبكلمات أخرى : المعدوم ولكن بوصفه حواءا إفتراضيا لأشياء لها وجود افتراضي هي الاخرىوليس لها وجودا عينيا اوحسيا. وهكذا يضحى الادراك متأثرا بالحدسي واللاحدسي ، فهو يفيد منهما في وحدة او علاقة لاتنفصم . والمنطقي لايثير اختلافا كالذي يثيره الحدسي ، فالاختلاف حول المنطقي يدور حول كفاية منطق ما ، كما هي اعتراضات اصحاب المنطق الديالتيكي ـ الجدلي ـ حيال المنطق الشكلي ـ الصوري ـ بينما الاختلاف بصدد الحدسي يدور حول علميته ، وبالتالي عن المدى الذي يمكن ان يعول عليه في اصدار الاحكام . ( ومن أهم الامثلة على الحكم الحدسي الاصيل ذلك المتعلق بكفاية عدد محدود بالضرورة من الاختبارات التجريبية لتأييد صحة توكيد معين . هذا النوع من الحكم يمكن ان يعبر عنه أي فيزيائي ، او أي كيمائي او عالم احياء او طبيب . النوع نفسه من الحكم يمكن ان يعبر عنه قاضي في محكمة اذ يقرر ان الدليل المقدم كاثبات ـ وهو بالمعنى المنطقي الشكلي ليس اثباتا ـ يكون كافيا لحكم معين )(6). ان البرهة التي يتلاحم فيها الحدسي واللاحدسي ، برهة ديالكتيكية "جدلية " ، بمعنى انها برهة تستقطب اليها النظرية المعرفية بذات القدر والكيفية التي تستقطب بها المنطق الشكلي . على ان المعرفة الانسانية هي ليست انتاجا محتكرا من قبل القطائع العلمية على اختلافها . فللفن والادب دورا لايقل في اهميته بل وفي كميته في انتاج المعرفةالانسانية .. الا انه يمكن القول ان الفارق بين المنتجين في كلا الحقلين العلمي والفني ، هوان الاول يأخذ بالمنطق الشكلي والصياغات العلمية التخصصية لكل علم أضافة الى الحدس خاصة في لحظة صياغة القانون ، فيما يأخذ الثاني بالحدس والبداهة الى حد بعيد جدا . وأن كلا الحقلين وسواهما تتحواهما البداهة الكونية ، وهي ما ينبغي السعي الى الامساك باطرافها ووعيها ومعرفتها . ثمة قضايا وأشياء على غاية من الاهمية قد وجدت في حياتنا بفعل الحدس وفرضت نفسها بطرق واساليب ليس للمنطق فيها أي دور في تأسيسها ، الا انها بدت كما لوكانت أمور مفروغ من صحتها وقابلة للتداول المنطقي ، بل انها اضحت في وعينا مسلمات منطقية . ان الدين والاخلاق يظهران مثالين بارزين في هذه الظاهرة ،إذ ان التشريع الالهي ملزما بالضرورة وادراكه الحدسي يتقدم على أي نوع آخر من الادراك ، وليس كذلك الاجتهاد الوضعي فهو في الاغلب مقيد باللاحدسي ـ المنطقي ـ وبنفس السياق نفهم انظمة القيم الاخلاقية التي لها النشأة الاولية بفعل الحدسي ، ثم يترتب عليها كل ما هو لاحدسي . ويذهب " ي . فينبرج " الى ان التميز عن الادراك اللاحدسي مطلق بينما التميز عن الادراك الحدسي في الحقائق العلمية نسبي ما دام في كلتا الحالتين يكون متعلقا ببصيرة تركيبية ومباشرة بالحقيقة (7). وخلاصة المطالعات السابقة ، لايمكن الركون الى الحدسي لوحده ولا الى اللاحدسي لوحده في السعي نحو تبني منطق توحيدي . كما لايمكن المغالات في المواضع المناسبة لتوظيفهما معرفيا وفي الكشف عن الحقيقة . في الرياضيات مثلا ثمة أمكانية غيرمحدودة للاستعانة بالحدس لبناء الانظمة البدهية وأمكانية محدودة في إيجاد حلول المسائل ، وان يبدو ذلك مفارقة في مثل هذا العلم . والى اليوم لم تحدد الشروط التي تظهر الحدس كطريق مقنع لايجاد الحلول ، ولكن الرياضياتي يعيها جيدا ويمكن له ان يصف تلك الظروف الا ان ادواته العلمية لاتسعفه في بناء تصور نظري للحدسي مقابل ما يوظفه من اللاحدسي في الغالب عند إثبات صحة القوانين والصياغات العلمية . وثمة فرق لايمكن وصفه في الواقع بين الحدسيات والترّهات سوى النتائج الامبريقية المترتبة على كليهما . وتقدم الانظمة البدهية سلسلة من الوقائع المقنعة على صحة حدوس التجربة أيا كانت وفي أية قطيعة علمية أو معرفية . فالصلة بين ما هوحدسي وما هو لاحدسي صلة دائرية ، برغم افتقادنا لمقاييس ملائمة وحاسمة في تقرير نسبة كل منهما في تجربة تسفر عن معطى علمي على قدر ملائم وضروري من الاقتناع . وتحت أية ظروف معرفية ، سواء اكانت شحيحة ام غنية حول قضية ما، لايعد أمرا مبررا ادعاء الحدوس العلمي الا اذا كان المعطى المنطقي حاضرا وبقوة . فليس دائما ظاهرة التكرار وأساليب الاغراق الاعلامي المتكرر ، تؤسس بدهيات لاتحوم حولها الشكوك . ما نملكه من قيم اخلاقية مشتركة على مستوى المجتمع الانساني في سبيل المثال هي ليست نتاج ظاهرة تكرار المواقف وانعكاساتها الشرطية ، بل للضرورة ـ بالمعنى البدهي ـ في بناءها الدور الاكبر . أما على صعيد العلوم الطبيعية والعلوم الصرفة فالتكرار فيها ليس الا حقائق قابلة للاختبار منهجيا ومنطقيا. وليس أمرا جديدا القول ان المنطق الارسطي قداغنى والى حد بعيد الفلسفة الافلاطونية ، بل وجددها . وهذه واقعة تاريخية غير قابلة للدحض تكشف لنا جانبا من الاسفاف في توظيف الحدس في غير مواضعه . أضف الى ان حدوس التجربة الدينية في بعدها الانساني قد ازاحت ركاما من المعتقدات الفلسفية ، لا لضعف اوانعدام صواب تلك المعتقدات حسب ،بل ان التجربة الدينية في استقرارها البنّاء في المجتمع الانساني قد اعادت توزيع الحدسي واللاحدسي في مدركات البشر على نحو اطلق القدرة البدهية في قوى الانسان الخلاقة ، وتحقيق الانعتاق والتحرر الكبيرين على المستوى الانساني الجمعي والفردي . والنقلة الكبرى الاخرى ، والتي لم تكتمل بعد ، تكمن في الحقائق العلمية المكتشفة حول الكون ، من الذرة حتى الفضاءالخارجي الفسيح .هذه النقلة قد انارت مسالك الحقيقة واطاحت بكل الغمام الذي وضعه المتاجرون باسم الدين وبه ، حول البداهة الكونية التي نطقت بها الرسالات السماوية بصفة عامة والرسالة الاسلامية التي خُتمت بها الرسالات بصفة خاصة . ومع كل ذلك فأن إرادة الحياة : الحرية ، بحسب تعبير "النقري " لم تكتمل انطلاقتها الكاملة . تلك الانطلاقة ممكنة ، وملزمة بحكم الضرورة ، عندما يعيد الوعي الانساني كل شئ الى اساسياته البدهية ، بما في ذلك الدين . إن "المنهج العلمي الجدلي التاريخي "، يصح منطلقا للاحاطة ببداهة الاشياء . فهو يتحوى الحدس واللاحدس ، مثلما يتحوى المنطق الشكلي والمنطق الرياضياتي ، ومنطقيات انبناءالاشياء والتصورات والنظريات والمبرهنات ، وانفتاحه على البدهيات والضرورات . فما هو المنهج العلمي الجدلي التاريخي ؟ إنه ببساطة لايقرر منهجية لعلم من العلوم بقدر ما يوظف المعطى العلمي في رؤيته وحل القضايا التي يتناولها ، لا على سبيل التبسيط المفتعل ، بل على صعيد التجربة المعاشة ، وواقعيته ونظرته الشمولية للواقع والوقائع على اختلافها يمثل احد ابعاد سمته العلمية . كما ان جدليته تعني في المقام الاول العلاقات الضمنية للظاهرات والوقائع وليس فقط الاقرار بالترابطات بينها . وان تاريخيته تضمن له رؤية مستمرة وليست متقطعة للظواهر والوقائع المختلفة ، كما تضمن له وعيا مركبا لكل المعطى الانساني في كل القطائع . وبهذا الوصف فأن المنهج العلمي الجدلي التاريخي ليس نظرية معرفية نقدمها بديلا عن النظريات المعرفية الاخرى ، انما هو وعي لايهمل شيئا في الحياة بما في ذلك صيرورة الاشياء وتضمنها وتداخلها وترابطها . كما انه ليس من مهامه تقديم منطقا ما ، بقدر ما يقدم طريقة ناجعة لتوظيف الوعي الانساني ، بكامل قدراته ، انطلاقا من بداهة الاشياء والحقائق والصلات المتعددة والمركبة بكيفيات متعددة هي الاخرى فيما بينها . ومنكل ذلك فأن المنهج العلمي الجدلي التاريخي هو منهج فكري ، يمثل انعكاسا كاملا ومتكاملا للوقائع أنّا كانت . مثلت ومازالت كل من الاسطورة والفلسفة والعلم والفن والآداب، محاولات انسانية حثيثة نحو اكتشاف الحقيقة أو الحقائق والظواهر التي تفرض نفسها على المجتمع الانساني ويتعامل معها . وفي كل هذه القطائع ثمة خصيصة مشتركة تجمعها فيما اطلقنا عليه بـ " منطق الوعي " . وتتمثل هذه الخصيصة بـ " الاشارة الدالة " على شئ ما يحظى بأهتمام العقل البشري وحسه . أن الاشياء التي يتعامل معها الانسان مازالت محتفظة بخواصها وشيئيتها النمطية وستبقى كذلك ،وهذا لاينفي تغيرها المستمر ، بل ان " التغير والتحول " وغيرهما ،هي في الاساس معنى آخر للتنوع من جهة واكتشاف مستمر للعلاقات والعمليات المتنوعة والمختلفة بين الاشياء من جهة أخرى . انما المتغير هو نتاج انساني محض : عقلي تارة ، وتقني تارة أخرى ،ومركب تارة ثالثة ، وبكيفيات ليست قابلة للحصر ، تجد حضورها الدال في الاسطورة والفلسفة والعلم والفن والآداب . لذلك ان "الاكتشافات " في أي من هذه القطائع تمثل بمجموعها ما تيسر للانسان من معرفة الحقيقة ، وليس كذلك " الاختراع " ، فهو بمعنى ما ؛ استثمار امثل للمعطيات في الطبيعة وفي الحياة الانسانية والكائنات بأجمعها حية او غير حية بالمعنى البايلوجي ، وفي منطق الوعي. ما يلفت نظرنا هنا ، ان كل القطائع المعرفية المذكورة قد لامست الحقائق من حيث انها ظفرت بوجودها في مواضعها ولو على مستوى الاشارة الدالة ، وبغض النظر عن الدرجة العلمية التي يقرر منحى وطبيعة وفاعلية تلك الاشارة على مستوى التداول المعرفي وصلته بالحياة . فعلى سبيل المثال ، بغياب الالات المكبرة "المجاهر " وسواها من التقنيات العلمية الاخرى ، ورَدَت على العقل الانساني إشارات متكررة تدل على ما اسموها بـ " الهيولى " التي هي " قوة منفعلة". ان اهمية هذا الاكتشاف لايتعلق من اسمه او من خواصه التي وضعت له بوصفها محاولة الاقتراب الى ماهيته . مرة أخرى " الهيولى " إشارة دالة على شئ ما ، موجود ، استدل عليه العقل البشري ، وقد يحل ـ او حل بالفعل ـ بدلا عنه مفهوم او مفاهيم متعددة اوضحت وفكت رموز تلك الاشارة الدالة عليه بأعادة ترتيب تحوياته وصلاته عبر سلسلة من الكشوفات المستقلةعنه بوصفه مفهوما اتخذ اسم الهيولى. الا ان تلك الكشوفات قد أ ُعملت في الموضع او الحواء الذي أشير اليه بهذه الاشارة الدالة . وهذا يقودنا الى ان نفهم كيف ان المجموعات الضبابية موجودة ولايمكن التعبير عنها بدالة الانتماء ، إلا انه من الممكن اضفاء الاشارة الدالة عليها حيث يمكن الاستدلال عليها ، حدسيا . ان الفرق بين كتلة ذرة نظير مستقر و مجموع اوزان النويات والالكترونات التي تتكون منها ، مثـّل اشارة دالة على حوية ما قد تكون شيئا ما ، من شأنه الغاء الفرق، اوربما خطأ في الحساب ، فكان اكتشاف تحول الكتلة في جزء منها الى طاقة لضرورة كونية . ان المثالين السالفي الذكر ربما لايسعفاننا على نحو كاف لايضاح ما قصدناه بـ " الاشارة الدالة " على حوية تكتنفها الضبابية ، فهما بسياقين مختلفين وقابلين للتأويل بتأويلات عدة تحيد عن المفهوم الذي اقترحناه . ولكن ما يرفع من درجة تفاؤلنا في امكانية ايضاحه تلك المقاربات الممكنة بين تحويات الاسطورة مثلا والمعطى الابستمولوجي " المعرفي" المعاصر وكذلك بين المفاهيم الفلسفية وما يقابلها من معطى علمي وهكذا ..
( 3 ) منطق الشكل الحيوي يعرّف "رائق النقري " المنطق التوحيدي للشكل الحيوي بأنه (الصيغة التي يمكن أن نتتبع فيها صيرورة الكائن بأبسط صيغة تعبر فيها عن وحدة صيغ ظهوره وتنوعه وزواله ، بوصفه حركة ،و صيرورة احتمالية ، ونسبية) (8).فهل هو مجرد " صيغة " للتتبع حسب ؟ماهي هذه الصيغة على وجه التحديد ؟ ام ثمة ما يمكن عده اشكال وقوانين للفكر تطرحه فلسفة الشكل الحيوي ، بديلا عن المنطقين الشكلي والديالكتيكي ؟ لانكاد نعثر على اجابات محددة لهذه الاسئلة الاستفاهمية ، في كتابات مدرسة دمشق للشكل الحيوي وهي صاحبة الامتياز في اكتشاف مفهوم الشكل الحيوي والمنطق التوحيدي الذي يكرسه هذا المفهوم . وتضحى عملية تحديد هوية واركان وقوانين منطق الشكل الحيوي ابعد منالا مع اعتبار وجود صيغ متعددة وليس صيغة واحدة ينبغي تتبعها حيث ، والقول للنقري (ان منطق توحيد الشكل الحيوي يشمل جميع صيغ و اشكال التكون ويحتوي كل الظواهر الفيزيائية والميتافيزيائية ويتحوى نقديا كل الصيغ والحواءات المنطقية وغير المنطقية، الخاطئة والمتناقضة والمشروطة والصائبة وغير المشروطة وغير المتناقضة. وسواء كنا نعرفها ام لانعرفها ، سواء كنا قادرين - كبشر - على تحويها ووعيها واحتوائها والبرهنة عليها ام لا، وبوصفها لحظات منطقية تعبر باختلاف مصالح طرق تحويها عن وحدة تشكلها المنطقي واحتوائها وتحويها جميعا في المنطق التوحيدي للشكل الحيوي)(9). فمع النصين المذكورين فنحن مازلنا عند مقولة منطق الوعي بعموميتها التي تمهد الى امتلاك المنطق الكلي والشمولي للمعرفة الانسانية .. دون ان تتوافر فيها تحديدات توضح من خلالها آلة الفكر الملائمة والتي تجعل من وعينا ذا طاقة منهجية ،ذات صياغة كلية هي الاخرى .كما نلمس ملمحا ديالكتيكيا في تحويات منطق الشكل الحيوي ،ولكن دون التوقف عند ماديته ... وبذات القوة نلمس ملمحا براغماتيا ، دون تكريس مقابل لاعلاء شأن الغاية بصفة عامة أو المصلحة بصفة خاصة على حساب المضمون الاخلاقي الايجابي للوسائل المتاحة .. لذلك ان المنطق التوحيدي يتأسس من البدهية العامة من أن كل شئ ناتج عن طريقة تشكل ، ويتحوى تحويات متعددة ومتغيرة ،فهوكينونة او بتعبيراعم هوصيرورة احتمالية ونسبية . بمعنى ان الحقائق ليست معطى نهائي ، وليست ثابتة. كما ان صواب أية قضية من المحتمل ان لاتكون صوابا مطلقا بل ان لها الصواب النسبي بسبب حالات التغير ، ما يستتبع ذلك تأثرها بشروط مسبقة او متولدة اثناء الصيرورة . وبضوء هذه الحقيقة يمكن تقريض قانون الهوية ( أ هي أ ) على انها ذات مركبتين : " أ " الاولى بوصفها واقعة ما ، شئ ما ، او بتعبير أدق شكل حيوي . أما " أ " الثانية فهي تصور دال على الواقعة " أ " الاولى ، وهو ما يشتغل به منطق الوعي . وبكلمات أخرى ان قانون الهوية ليس مكافئا لخاصة الانعكاس كما هي في جبر القضايا . ويترتب على ذلك ان الواقعة " أ " هي دالة التصور " أ " ، هذه الدالة متغيرة وبذات الوقت متعددة : متغيرة لأن الاشياء لها صيرورة حيث يمكن الوقوف عليها والتعرف اليها طبقا الى الاستدلالات المتوفرة لدينا في العلوم والفنون والاداب وفي كل ما يندرج تحت عنوان الخطاب الانساني ايضا ، وهي متعددة لأنها متحولة القيم ، وبتعبير أدق أن " أ" متغير وبتعبير مكافئ "شاغل مكان" قابل لتحوي قيم لحظية عبر حركته في ازمنة وامكنة مختلفة . ما يتغير في تصورنا " أ ـ الثانية من قانون الهوية " ، هو على الدوام تغيّر مركب : • تغير على صعيد الواقعة " أ ـ الاولى في قانون الهوية " ، وهو ما يكون بعلمنا او لايكون . • تغير على صعيد الدالة " أ ـ الثانية في قانون الهوية " ، وهو لاينفلت اطلاقا عن التغير على صعيد الواقعة ، الا ان الخطأ الانساني قد يتدخل في انتاج هذا التغير بمجانبة بدهيات الصيرورة . ان اللحظة التي يصدق فيها قانون الهوية عندما يقارب مفهوم الدالة الثابتة ، هي لحظة منطقية عبر خطية الزمن . كيدروف يعتقد غير هذا ، في اثناء شرحه للديالكتيك الماركسي يقول بأن ( أ هي أ ) ليس ما يقابلها في الواقع ، فهو يخلط بين دلالة وهوية أ ـ الاولى ودلالة وهوية أ ـ الثانية .إذ لاحاجة بي لأن أؤكد ان الكرسي الذي اجلس عليه الآن هو كرسي ، انما الحاجة تلزمني الى التعبير عن الكرسي بكل تحوياته : مادته أو مواده المصنوع منها ، تركيباتها ، طريقة تشكله ، تسويقه ، دلالته الوظيفية ، دلالته على المستوى المعاشي للمستخدم ، ذوق المستخدم ، عمره الاستعمالي ، كفائته ، مريحا بقدر او مزعج بقدر ،وظيفته المحفزة للذكريات ، .. فـ " أ ، الاولى " هي ليست أ ، الثانية كواقعة ، فكلاهما واقعتان على صعيدين مختلفين . قال كيدروف ما سبق ذكره بسبب انه يأخذ بمفهوم الجوهر الذي هو " مقلوب الشكل " بحسب تعبير النقري . ان الادلة التي يُعبر عنها بالقيم المطلقة : صائبة ، خاطئة ،هي ادلة " طـَرَفية " ، أي تعبر عن مدى دالة الحكم بقيمتيه المتطرفتين. ولايدخل في حسابها امكانية ان يكون الدليل او العبارة او القضية ، هي صادقة بقدر احتمالي ما ، وغير صائبة بقدراحتمالي ما أيضا . ولكن كم هي عدد القضايا التي تتسع لمثل هذه الاحكام النسبية ، وكم عدد تلك التي تتسع للاحكام المطلقة . لايمكن بطبيعة الحال تنظيم احصائية عددية ولو بطريقة الصفة المميزة لتعريف المجموعات الا بقدر مقارب للحقيقة وليس الحقيقة كاملة .. في العلوم الطبيعية نجد صنفي الاحكام حاضرا بقوة ، ذلك ان الاحكام المتعلقة بمعايير الطاقة ازاء الكتلة المتحولة في سبيل المثال هوأمر احتمالي وبمثل ذلك يقال على القياسات الحسابية للفوتونات . ولكن في جبر بوول وكذلك في المنطق الشكلي ، يكون لاضاءة المصباح أو انطفائه تعبيران مطلقان طالما ان الوهج وانعدامه هما المعياران اللذان يستوليان على اهتمامنا في الدارات الكهربائية .أما في الصنف الثاني الذي يظهر فيها الخطاب الانساني مثلا نقيا فيها، فأنها اكثر طواعية لقبول الاحكام الاحتمالية بتعابير وقيم نسبية قابلة للقياس. مرة ثالثة تتأكد هنا نجاعة وفاعلية مفهوم المجموعات الضبابية على نحو جلي . فهل ان الاقرار بالاحتمالية والنسبية في المنطق التوحيدي يدل على عجز علمي ، أو جهل في العلم لايمكن معه الوصول الى رؤية كلية كمستوى متواضع من المطلوب ؟ كلا بالطبع . ان الاحتمالية والنسبية تقرران طرق متعددة لتشكل الاشياء ،كما تفصحان عن تعددية التحويات بذات الوقت .أن الجهل الافتراضي هنا يبدأ من انكار البدهيات التي تؤسس لمفهوم الشكل الحيوي ، وهي تلك البدهيات التي تفترض من بين ما تفترض حواءات لانهائية تنعكس معرفيا في عقولنا ووعينا ، فهي تفتح أساليب لانهائية صوب الحقيقة الكلية . ولايعد جهلا إنعدام او ضعف القدرة على تعريف ماهية تلك التحويات كوقائع ملموسة او كوقائع مفترضة بأفتراض تحويات يمكن تحديدها عند ادنى مستوى معرفي من خلال " الاشارة الدالة " التي تترك اثرها دوما في تحويات الوعي المتضمنة في منطق الوعي .ولهذا لاغرابة في ان منطق الشكل الحيوي في الخطاب الانساني بخاصة وفي المدركات بصفة عامة ، يشمل الصواب والخطأ في الوعي من حيث انه طريقة تشكل. وكذلك فيما نعتقده حول مناولاتنا من الاشياء بالاجمال. إن معاييرالخطأ والصواب من وجهة نظر الشكل الحيوي ، هي كل ما توصل اليه العقل البشري من بدهيات كونية ، وأساليب منطقية ، وقوانين علمية ،وانظمة قيم، في لحظة تاريخية ما. ومنظورا اليها "عند" و "خارج" لحظتها التاريخية ،وعدم التوقف عندها .نظرة كهذه ، مركبة بابعادها الزمنية تجعل من منطق الشكل الحيوي ، تساميا متفردا على ترددات موجات الادراك في وعينا . مثلما تسمح والى ابعد الحدود بأعادة تشكيل مدركاتنا بالتساوق ليس مع المعطى العلمي المبرهن على صحته حسب ، بل مع الافاق القصية لاحتمالات التشكل على مسار "الوقائع ـ العلم " .إذ أن والقول للنقري :(من المسلم به بداهة ان وعي الظاهرة وتسميتها يختلف عن كينونة الظاهرة نفسها)(11).ويعد هذا القول إختزالا لقول " غرانجر": ( من المؤكد ان المفهوم ، ليس شيئا ، لكنه ليس ايضا مجرد وعي بمفهوم. المفهوم اداة وتاريخ ، أي أنه حزمة من الامكانات والعوائق في العالم المعاش )(12).وفي كلا القولين نلحظ حضور قانون الهوية ، ولكن حضورا متفاوتا في اقتراناته الدالية . اقتصرت تطبيقات المنطق الحيوي التوحيدي ، كما تفصح عنها اعمال الدكتور النقري ، على الخطاب الانساني : نص ، صورة ، فيلم ، كلمة ... وهي مقايسات تكشف عن شكل الخطاب الانساني فيما اذا كان شكل كلي ،أو شكل جزئي ،أو شكل جوهر جزئي ، أو شكل جوهر كلي . فهي على الدوام أربعة احكام محتملة ليس بها حاجة الى مقدمة ،بل هي احكام تستنتج من جذور أو أنماط أو أطوار أو أحوال أو أزمان أو فئويات أو رموز المصالح . وما يعطي المنطق الحيوي التوحيدي في الخطاب الانساني استقلاليته توافره على تقنية مربع المصالح . وهذا ما سنغيطه لاحقا . وما دمنا نتحدث عن استقلالية هذا المنطق فلنذكر بم َ يختلف عن المنطق الشكلي : 1ـ المنطق الأرسطي لايعطينا أي شيئ جديد او هام فيما يتعلق بمنطق المصالح لم يتضح مسبقا في المقدمة التي نقيس استنتاجاتها ،حيث الاستنتاج في القياس الأرسطي لايكشف اي جديد غير متضمن في المقدمة موضوع القياس ويركز فقط على ترابط المقدمات مع نتائجها . ولكن الاستنتاج في القياس الحيوي يكشف جديدا غير واضح - مضمر - في المقدمات والنتائج بصرف النظر عن ترابطها. 2ـ المنطق الأرسطي - كما هو معروف منذ ظهوره - لايمكن تطبيقه الا على النصوص ولكن المنطق الحيوي يمكن تطبيقه على النصوص والصور والاحداث. 3ـ المنطق الأرسطي لايملك أي قدرة على التطبيق إلا على نص يتضمن مقدمة واضحة . بينما المنطق الحيوي يملك قدرة على التطبيق على اي تعبير حتى ولو كان مجرد كلمة. سواء اكانت واضحة ام غير واضحة ، وسواء كانت في جملة مترابطة ام غير مترابطة . 4ـ المنطق الأرسطي لايستطع تقييم حيوية المصالح في اي نص او تعبير او صورة او حدث . بينما المنطق الحيوي يستطع تقييم حيوية المصالح في اي نص او تعبير او صورةاو حدث . 5ـ لا يمكننا - في المنطق الارسطي - من تأكيد وجود او عدم وجود عنصرية في النص المقاس. في حين يمكننا في المنطق الحيوي التمييز في منطوق النص او الفعل او الصورة او الحدث بحسب كونه منطوقا عنصريا او توحيديا. 6ـ المنطق الارسطي يهتم بصدق اوكذب القضايا ، والمنطق الحيوي التوحيدي لايهتم بصدق التعابير او كذبها بل بحيوية منطقها ومصالحها (14). وهنا تتضح أكثر الفروقات الحاسمة بين المنطق الحيوي التوحيدي من جهة والمنطقين الشكلي الارسطي والمنطق الرياضياتي والمنطق الديالكتيكي ـ الجدلي ـ من جهة أخرى . كما تتضح فرادته في استنتاج الاحكام السريعة على الاشكال النصية واللغوية والفنية والادبية والخطابية . واذا اردنا ان نتم تكوين خلاصة وافية حول المنطق الحيوي التوحيدي ،فلابد من الوقوف قليلا على دعوى لم توضحها كتابات مدرسة دمشق للمنطق الحيوي تلك القائلة (( بأن الاشكال / الاشياء لها قانون تشكل واحد )) .مع العرض اننا نعلم ان لها طرق متعددة تتشكل وفقا لها . فما هو ذلك القانون التوحيدي ؟ وما الفرق الحاسم بينه وطرق التشكل ؟ إن طرق التشكل لاتثير أية إشكالية ، فهي طرق احتمالية ونسبية وهذا ما لادفاع فيه . وينبغي الكشف عن طريقة تشكل الشئ طبقا لما يتحواه من تحويات ،هي في الخطاب الانساني جذور او فئويات او اتجاهات أو .. أو .. فأي قانون هذا الذي يستقطب اليه ـ بل يتحوى ـ كل الطرق المحتملة للتشكيلات وصيرورتها ؟ ان لانهائية الشكل الحيوي تفرض الظاهرة التناوبية في ماهو " داخلي " وما هو خارجي " من طرق التشكل . بكلمات أخرى ان طرق التشكل الخارجي التي تعبر عنها سلسلة العمليات الثنائية بين التحويات في لحظة ما ستضحى في وعي الظاهرة او الواقعة صيرورة هي في الاساس استطرادا ـ وإفصاحا ايضا ـ لطرق التشكل الداخلي . وهذه الحقيقة المعرفية تسمح لنا بالقول ان التناوب بين قوانين التشكيل الخارجي وقوانين التشكيل الداخلي التي تمتاز بخاصة الترتيب ، لهي أحد ملامح القانون الموحد للشكل الحيوي . وعلى فرض وجود حوائين مختلفتين ، لكل منهما قيم مختلفة عن الاخرى ، ولكل منهما علاقة داخلية تختلف عن الاخرى . أن علاقة الحواء الاول تنتج عناصر ، هي أصلا داخل الحواء، بمعنى انها ذات طبيعة مغلقة . وكذلك الامر مع علاقة الحواء الثاني . فاذا كانت العناصر التي تنتجها العلاقة الاولى لها صور ، هي عناصر تنتجها العلاقة الثانية فان التطبيق الدالي من الحواء الاول الى الحواء الثاني ، يكون تماثلا ، واذا كان التماثل متباينا فيدعى عندئذ بـ " التشاكل " (15). ويمكن إعمام هذين القانونين عندما نفترض حواءات لانهائية للشكل الحيوي .علما ان كلا منهما يمثل تطبيقا له مجال ومجال مقابل ، وليس بالضرورة أن يُملأ المجال المقابل بكامله ، وفي هذه سينصب اهتمامنا على المدى وهي صور(= قيم) تنتجها طريقة التشكل عبر تغذيتها بقيم المجال . وتأسيسا على ما تقدم من القول : إن " التماثل المتباين " ، بمعنى التشاكل حسب التعريف ،هوالقانون الموحد للشكل الحيوي ، سواء في صيرورته او في لحظة تعالقه مع اشكال اخرى قابلة للتحوي معه. وان هذا القانون يغطي القوانين العلمية في القطاعات المختلفة وليس في الخطاب الاعلامي او عند تحليل مضمون الرسالة الاعلامية حسب . وله من المتعلقات والتطبيقات ما يضيق عنه مجال هذا الفصل . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) النقري " المنطق التوحيدي للشكل الحيوي " ، موقع دمشق للمنطق الحيوي . (2) النقري : المصدر السابق . (3) كيدروف " المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي " ، بيروت 1959 ، ص 9 . (4) عبد الرحمن كاظم زيارة " مقابسة المقابسات " : 25 * الهيولى هي " قوة منفعلة " ، وان مطالعة النصوص التي ورد بها هذا الاصطلاح يكرس هذا المعنى ، اضافة الى معاني أخرى مجاورة له : كالعلاقة ، والقوة الرابطة ، والعملية الثنائية . انها تعبير اجمالي لكل هذه المعاني وهو الى الضرورة اقرب . قارن مع المباحث ذات الصلة في " مقابسة المقابسات " وبشكل خاص معجم الثاء الفلسفي ، ومبحث الصورة . (5) المصدر السابق : 161 . (6) ي . فينبرج " الفن والادراك " مجلة الثقافة الاجنبية العدد 2 ، 1988 ، ص 34 . (7)المصدر السابق: 41. (8) ، (9 ) النقري : م. س. ذ (10) كيدروف :م.س.ذ (11) النقري : " منطق الشكل الحيوي " : م.س.ذ (12) النقري : المصدر السابق (13) " غرانجر " في رولان بارث " مبادئ في علم الادلة : 30 . (14) راجع النقري : المصدر السابق . ( 15) حول التماثل والتشاكل قارن " عبد الرحمن كاظم زيارة " ـ علم البنى ـ التأصيل الرياضياتي للبنيوية ، الفصل الاول : مقدمة في علم البنى ، المنشور في موقع "الحوار المتمدن "وفي موقع "فلسفة". ومن المناسب ان نذكر هنا ان مفهوم الشكل الحيوي بالرغم من عدم اشتغاله بنظريتي المجموعات والبنى الرياضياتية ، ناهيك عن البنى التبولوجيا حتى الان فأن ذلك لايمنع من الكشف عن توافقه مع المفاهيم البنيوية ، وليس بالضرورة تطابقهما . ان امكانية الاشتغال بهذه النظريات تبرهنها هندسة الشكل الحيوي وهي موضوع الفصل القادم .
#عبد_الرحمن_كاظم_زيارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الادب الفلسفي في المقابسات
-
مبادئ في التحليل البنيوي
-
التوازن في مقالة المقابسات
-
مقدمة في علم البنى
-
البنية الزمرية
-
الاناسة اوعلم تالاجتماع
-
التباديل واحصاءات البنية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|