بلقيس حميد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 796 - 2004 / 4 / 6 - 10:06
المحور:
حقوق الانسان
وهذا عام مر, وعراقنا ينزف , دما وألما , وخرابا, عام من العنف, والخوف, والرجفات , الإنتظار , والفرح المتوجس أحيانا , وبصيص نور يتسرب أحيانا من خلال عتمة ومتاهات, ولازال المجرم قابعا في غرفته يستنشق الهواء ويشرب الماء بعد أن حرم منه ملايين العراقيين , ودفنهم دون أن يرتجف له جفن, مر عام ونحن ننتظر وقبل ذاك انتظرنا 35 عاما , نحلم بفرحة توقض بنا الأمل , الثقة بعدل آت ٍ والرغبة بالحياة, نحلم بيوم يجلس به جميع العراقيين متسمرين أمام شاشات التلفزيون , يرون قتلة أحباءهم يحاكمون ويعترفون بجرائمهم , يرون من دمر بلادهم, مقيدا بالأصفاد لتزغرد الثكالى وتبكي فرحا وحزنا , ففرحنا ليس ككل فرح , وبكاؤنا نحن أبناء العراق المعذب ليس ككل بكاء , انه خليط من أحزان تراكمت وصارت مقابر تفتح بداخلنا كل يوم , نراهم معنا , أحبتنا الشهداء يمدون لنا أيديهم بالتحية ويمسحون دموعنا أحيانا .
نحن أبناء العراق ليس كغيرنا بالحزن , نحن سادته ومعلموه ومنظروه , تفوقنا به على كل البشر, فهو أخونا وأمنا وأبونا, و منذ بدء الخليقة حتى اليوم , هو طقسنا الذي رافقنا, كتبنا له مسرحياته وعبراته , وأسسنا له فلسفة وقواميسا , أرخنا له فواجعه وصنعنا له رثاءاته العظيمة , خصنا الحزن بحميمية دون سوانا , نحن أبناء الندابات في أوروك, وأور, وبابل , ونحن أولى الضحايا بتأريخ البشرية , حيث جلجامش يغرس الحزن والرعب بالمدينة , فلم يترك ولدا لأبيه ولا عذراءا لأمها, الحزن لحمتنا بالشدائد وعكازنا المتثلم , نحن أبناء الحروب الطويلة والدمار وأفلام الرعب الوثائقية والإنتقام المخيف, ونحن ضحايا البعث البشع حد ّ الهلع.
إن لم نتوحد بشيء فالحزن وحدتنا , و دموعنا شعارنا بالحزن والفرح , نحن من نذرف الدموع بكل المناسبات, فلا يعرف الناس منا, هل نحن بعرس أم مأتم؟ .
هكذا أرادوا لنا أن نكون, أرادوا أن لا نعرف الفرح إلا مرورا عابرا, فالحزن هو الأصل بطبعنا, والفرح عابر يمر مرور الكرام, وإن ضحكنا يوما أو فرحنا, نشك بالقادم من الأيام فالفرح عندنا طاريء ودخيل. السواد هو الأصل لأمهاتنا, والوان الفرح عابرة , هم أرادوا لنا ذلك وخلقوا لنا الظروف لنكون هكذا, والإنسان ابن ظرفه وواقعه , فمن أين نأتي بالفرح الذي يهرب من بين أيدينا كطائر الرخ الأسطوري الذي لا يعود الا بين القرون والقرون, هم أرادوا أن لا تزغرد النساء في بلادنا الا وراء الجنازات , أرادوا لنا أن ترتدي نساءنا السواد حتى يمل القماش سواده وتذوي وريدات البهجة والشباب , وردة بعد أخرى , تسير بخطى متعبة الى مثواها الأخير .
لماذا لم يحاكم من قتل أبناءنا وبناتنا وعذبهم واغتصبهم وجردهم حقهم بالحياة وهو أولى وأقدس الحقوق؟
لماذا لم نر واحدا من المجرمين وأقطاب النظام يحاكم ويعترف بجرائمه , ليرتدع القتلة وأعوانهم ويكفوا عن الإيغال بالقتل واستسهال حياة العراقيين بالتفجيرات والإغتيالات وسواها من أساليب القتل والتخريب المتعمد.
لماذا وضعت قوانين العقوبات في العالم إذن؟ إذا تركنا القاتل والمجرم بلا عقوبة ؟
كيف سنؤسس العدل في عراق جديد؟ والأم التي فقدت ستة أبناء لها لا تستطيع النوم , تنتظر أن تبرد لها عبرة ويهدأ لها جفن , فلعلها تعرف شيئا عن أبناءها الذين لم تعثر على جثثهم بالمقابر الجماعية التي لم تكتشف جميعها ولم تعد برقم او تحدد بمكان بعد, علها تسمع من مجرم ما, اعتراف يرشدها لجثة فلذة كبدها , لتزور قبره كبقية الشهداء وهذه هي المواساة الوحيدة لها اليوم .
إننا لا نستطيع بناء عراق جديد يعيد لنا كرامتنا كعراقيين , إلا على أساس العدل, والعدل يتطلب منا محاكمة المجرمين من قتلة وسارقين وعابثين بمقدرات الشعب والوطن.
أما من لم تتلوث يده بالجرائم , وبعد أن يـُبرأه القضاء , فالعفو عما سلف كان طبع العراقيين الذي أشاعه وفعل به الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم , وذلك قبل مجيء البعث للسلطة, وتعميمه طبعه وأخلاقه بالغدر والتدمير والتمثيل بالجثث على شاكلة ما رأيناه قبل يومين في الفلوجة , والذي اهتزت له مشاعر البشر , لقد أخجلونا أمام العالم , نحن الذين نصرخ يوميا أننا أبناء الحضارات الأولى , التي شوهتها تربية البعث وأزلامه.
ولا أبرأ ُ هنا الأمريكان من أفعالهم وأسلحتهم المرعبة التي أحرقوا بها العراقيين, وقطعوا أجسادهم أبان الحرب , ولا هم بريئون من الإشعاعات التي لازالت آثارها وكوارثها لم تتبين بحجم خطورتها بعد , ولاهم بريئون من كوارث وجرائم لحقت بنا بسبب عدوانهم وطمعهم بالسيطرة على العالم, لكننا ننعتهم دائما بأنهم بلا حضارة, وأن دويلاتهم لقيطة , بنيت على جثث اكثر من 50 مليون من الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين , فكيف نسمح لأنفسنا أقتفاء أثر المجرم وتقليده؟ كيف نسمح بتكريس صورتنا المشوهة في أذهان العالم , الصورة التي شوهها نظام صدام بأساليبه الوحشية وبطشه بالجنس البشري في العراق وإيران والكويت؟
فليشاهدوا أخوتنا العرب من المدافعين عن صدام وحزبه هذه الممارسات , وليشهد العالم أن هؤلاء الوحوش من البعثيين , قد مثلوا بجثث العراقيين بأكثر ما مثلوا بجثث الأمريكان , ليرى العالم كله من أي طينة جبلوا وعلى أي مبدأ تربوا, علـّه يصدق ما تراه الأعين, من وحشية وخراب روحي تدربوا وتربوا عليها طوال حكمهم, ولن يلومنا بعد الآن لائم , وليعلموا أن من دمر العراق وقبر الملايين من أبناءه, قد ماتت بداخله كل القيم والمعاني البشرية , فهم قتلة محترفون خطرون , وبقائهم طلقاء خطر كبير على المجتمع الراغب بالسير نحو الرقي الروحي والقيم الإنسانية النبيلة.
ماذا أتذكر لأتذكر , إن الهول كبير , والذكريات تزدحم برعبهم وبطشهم المنقطع النظير , أتذكر قتل الطفل الرضيع ربيع ابن السنة والنصف الذي عذبوه أمام أعين أمه حتى الموت ثم أعطوها سم الثاليوم لتموت , أتذكر تعذيب الشهيد أبو كريم (مزهر هول الراشد ) حيث عرف الوحوش أن لديه مشكلة بالكليتين ليركزوا عليها ضرباتهم حتى الموت بعد أن حرموه من الماء, وهو أب لستة أطفال, أتذكر تعذيب بعض المناضلات بطرق رهيبة من الألم واللاإنسانية , طرق , أخجل أن أكتبها بل أرتعب حين أتذكرها, ولا تخطر حتى على بال الشياطين , وأتذكر كيف يرشون الملح على الجروح بعد أن يفتحوها بأجساد المناضلين الوطنيين وكيف يقطعون أيدي الشهداء والمناضلين ويضربونها بوجوههم كما فعلوا مع آلاف المناضلين بالسجون والمعتقلات , هل أنسى آلة الفرم التي يفرمون بها أجساد العراقيين المعارضين من كل القوميات والأديان والمذاهب التي يزخر بها العراق؟ و(المنككنة) وهي آلة حديدية يسحقون بها العراقي حتى الموت, وهم يضحكون ويطفئون السكائر بجسده, ولا أعتقد أن علي أن أقول أكثر فأشرطة الأفلام والصور التي تملأ المواقع والتلفزيونات شاهدة على ذلك .
هؤلاء هم تربية صدام ونجله عدي الذي يربي الذئاب الكاسرة ليطعمها أجساد الوطنيين والمعارضين أحياءا ليتلذذ هو برؤية هذا المشهد, فما ذا ننتظر منهم أكثر؟
ماذا نتوقع منهم وقد استشرسوا الآن أكثر, بعد أن فقدوا السلطة والمال وكل ما نهبوه عبر اعوام حكمهم الجائر ؟
ماذا ننتظر منهم وقد لبسوا جبة الإسلام وبدأوا خدعة أخرى يمررون بها جرائمهم المرعبة, وأسلوبهم البهيمي بالتعامل مع الحياة, وباسم المقاومة والجهاد يقتلون أبرياء الوطن وشرفاءه؟
لا بد من محاكمة سريعة لهؤلاء القتله , مفجري المراقد والفنادق والمستشفيات والمنازل الآمنة, لابد من محاكمة توقف قتل الأبرياء من العراقيين وتردع أعوانهم عن تشويه صورة الإنسان العراقي وانتماءه للإنسانية .
وليحاكم من يدعي الإسلام زيفا ودجلا وطمعا, وباسم الإسلام يحمل الراية المفزعة التي تنادي بالقتل والإكراه والتكفير والتمثيل بالجثث , وأن تكون محاكمتهم أولى المهام الوطنية العراقية , ليصبح العراق نقيا , خاليا من تقاليدهم وأعرافهم المتوحشة بالانتقام والغدر والبطش والدماء, وليبدأ المجتمع العراقي خطواته الأولى نحو الإستقرار والأمن والعودة للحضارة التي دمرت, وبناء وطن, خال من العنف والوحشية والحروب وتقاليد البعث الهمجية, عراق يحكمه قانون العدل والمساواة لكل العراقيين من الشمال الى الجنوب, إمرأة ورجل , عراق خال من التخلف وإغتصاب الحقوق.
لاهاي
1-4-2004
*شاعرة وناشطة حقوقية عراقية مقيمة في هولندا
#بلقيس_حميد_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟