أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - دندان عبد الغاني - مقتطفات من العلاقات الدولية: العالم التعددي الخلاّق عند بريجنسكي















المزيد.....

مقتطفات من العلاقات الدولية: العالم التعددي الخلاّق عند بريجنسكي


دندان عبد الغاني

الحوار المتمدن-العدد: 2596 - 2009 / 3 / 25 - 09:21
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
    


يتحدث بريجنسكي كثيرا عن العالم التعددي الخلاق الذي يتيح فرصا و يفرض قيودا على سلوكية الدول.
ما هي طبيعة هذا العالم و ما هي هذه الفرص و القيود ؟
يقول هنري كيسنجر عام 1968 : " إن هدفنا يجب أن يكون بناء وعي عام معنوي ، يمكنه أن يجعل العالم التعددي خلاقا"؛ و يقول زبيغنيو بريجنسكي في عام 1977 : " إننا نقطع بثقة أن تعاوننا مع المجتمع الدولي يمكن أن يسرع و يشجع الفرصة، التي تجعل الإنسان، يعيش مستقبله في عالم تعددي خلاق " .
ففي العقد الأخير من الحرب الباردة تحدث بريجنسكي عن قوسين للأزمات ، قوس شمالي هو الاتحاد السوفياتي و أوربا الشرقية ، و قوس جنوبي هو الشرق الأوسط الكبير.
بعد اِنهيار جدار برلين و تفكك الإتحاد السوفياتي مع بعض العمليات المحدودة في يوغسلافيا، يمكن القول أن قوس الأزمات الشمالي وجد الحل مع نهاية الحرب الباردة التي اِنقشعت عن حقائق ؛ أولها : أن اقتصاد الولايات المتحدة يشكل أكثر من ثلث اقتصاد العالم ، كما حدثت به قفزات نوعية أقرب إلى الثورة النوعية ، إذ أصبح يعتمد و للمرة الأولى في تاريخ الرأسمالية على سلع خدمية هي المعلومات و الاتصالات و البحوث و التكنولوجية الفائقة ، إضافة إلى تنامي نشاط السياحة و النقل ، و الأهم من ذلك أن خريطة ذلك الإقتصاد تغطي العالم كله تقريبا، إضافة إلى الفضاء و ذلك يحتاج إلى السلم العالمي و الأمان في ممرات الجو و البر و البحر أكثر من أي وقت مضى. نتج عن هذه الحقائق مفهوم العولمة ذات المركز الأمريكي، و اِزدادت الحاجة إلى تطابق خريطة الاقتصاد و القدرات العسكرية الخارقة مع الخريطة السياسية ، في مقابل تناقص الحاجة إلى مساندة كيانات إقليمية غير منتجة و غير مشاركة في الإقتصاد العالمي بنسبة تذكر تصدر الفقراء و الإرهابيين و ينتج ثقافات عنفية و إيديولوجيات الخصوصية العنصرية المهددة للدورة الحيوية للإقتصاد ، و تحجيم قوس الأزمات الجنوبي، و من تم تفكيكه لاحقا .
حينما توصل بريجنسكي في النصف الثاني من الستينات إلى اِستنتاج صحيح و هو أن الأيدولوجيا البرجوازية قد هزمت أمام الماركسية – اللينينية، لأن الأولى بلا جاذبية فيما الثانية تتمتع بجاذبية قوية في الأوساط الشعبية و أوساط النخب الغربية و في العالم الثالث؛ وجد مناخ جديد في العالم سادت فيه التيارات الدينية و تنحت الماركسية و تراجعت ، و أخذت الأنظمة الشيوعية تواجه هجمات قوية غير مألوفة لأنها لا تنطلق من فكر برجوازي مندحر و مهزوم بل من فكر ديني مشبع برموز روحانية عظيمة القدرة على الإقناع.
يعتبر بريجنسكي نفسه منظّر مرحلة ما بعد الصناعة الإلكترونية، فقد نهج نفس طريق المنظرين باِستناده إلى تنبؤات و اِستنتاجات و ها هو يبشر العالم في عام 1985 أنه من المؤكد سيكون قد تم القضاء بشكل عام على المجاعات العامة و على حالة عدم توفر الوطن للملايين و على الإنتشار المخيف للأمراض .
و إن كان قد ثبت بطلان مثل هذه التوقعات بالكامل فإنه أصاب إلى حد كبير بما توقعه من تراجع الإهتمام بالأيديولوجيا أمام الانشغال بالإيكولوجيا . و يؤكد أن أمريكا شيوعية ستظل في كل الإحتمالات منافسة للإتحاد السوفياتي تماما كما أصبحت الصين الشيوعية في 1969 كما أن اِتحادا سوفياتيا ديمقراطيا و مبدعا سيكون على أساس حجمه و قوته منافسا أقوى للولايات المتحدة ، و يقول بريجنسكي ؛ " و من سخرية التاريخ أن الإتحاد السوفياتي يتبع سياسة خارجية شديدة القومية " .
يرى بريجنسكي أنه لا توجد سياسة في أي مجتمع غير المجتمع الأمريكي يتم تتبعها من قبل العالم بهذا الإنتباه اليقظ ، فرغم أن بريق اِقتران أمريكا بالحرية قد أطفأته حرب فيتنام و عوامل أخرى فقد بقيت أمريكا الموزع الرئيسي للثورة التكنولوجيا ؛ فهي بؤرة اِنتباه العالم و أعاجيبه و محاكاته و حقده ، فهو مجتمع ذو إمتدادات في كل المجتمعات الأخرى عسكريا و سياسيا و اِقتصاديا و ثقافيا ، و يتوقع أن يأتي يوم يفرض المجتمع الأمريكي قيمة و مقاييسه على العالم بأسره؛ أي سيجد العالم نفسه مضطرا أن يكيل بالمكيال الأمريكي.
لقد ثبت لبريجنسكي عقم الأديان و القومية و الأيديولوجيا (محاكم التفتيش/ الكراهية و المذابح الجماعية / إخضاع العقل و الجسم للشمولية) و تبقى أمريكا هي المخصبة الوحيدة لأنها بريئة من الدين و القومية و الأيديولوجيا ، فهو يرى أن أسس أية فكرة معناها عرقلة قدرتها على التهيؤ للتغير ، و أن أزمة المعتقدات المؤسسة هي المرحلة هي المرحلة الأخيرة في عملية العلمنة التقدمية للحياة ، أي في اِنفصال الوجود الإجتماعي للمرء عن إطار المعتقدات، و يلاحظ بريجنسكي كذلك أن الشيوعية أصبحت أخر الأفكار الجامدة المطلقة لأنها تستطيع أن تستعمل القوة لتجعل الإفراد يؤمنون، و يتوقع لها أن ترفض كما رفضت الحرب الدينية بعد حرب الثلاثين عاما و معركة فيينا في عام 1683 لما سببته من إرهاق مادي للناس.
إن القرن التاسع عشر يمثل التفوق الفكري لفكرة الحرية ، و لكن القرن العشرين يشهد انتصار المساواة ، و يرى أن الرغبة في المساواة هي التي جعلت معظم القادة في الدول الجديدة (أوروبا الشرقية و العالم الثالث) يتبعون الاشتراكية و لكن النخب الحاكمة هناك حظرت الحرية على أساس أن مثل هذا الحظر ضروري لإنجاز المساواة، و لأن المساواة لا يمكن تحقيقها خاصة في بلدان تعاني من اِنخفاض الإنتاجية بقيت منجذبة نحو الغرب "موطن الحرية"، و لا يبقى هذه الشعوب تحت قيادة نخبها إلا القمع المحلي و السوفياتي المباشر و غير المباشر.
و يأتي بريجنسكي بمقولة غربية حول الماركسية فيقول: "إن تراجيديا الشيوعية كمنظور عالمي، أنها جاءت متأخرة جدا و مبكرة جدا، متأخرة جدا بالنسبة للغرب الصناعي لأن القومية و المفاهيم الليبرالية و من خلال الدولة الأمة أجهضت الجاذبية الإنسانية للماركسية، و مبكرة جدا بالنسبة للزمن ما قبل الصناعيين، فلم تخلق لديهم حسا أمنيا بل حرك فيهم قومية راديكالية متزايدة، و لأنها كانت متأخرة جدا في الغرب و مبكرة جدا في الشرق وجدت الشيوعية فرصتها لا في الشرق و لا في الغرب، و لكن في موقع وسط هو روسيا و أوربا الشرقية "
لقد سجل بريجنسكي تراجعات الإتحاد السوفياتي في كل المجالات ما عدا المجال العسكري و يركز على أهمية الصراع بين القوميات، و يعيب على الباحثين الأمريكيين في الشؤون السوفياتية تجاهلهم للأهمية السياسية لهذه الظاهرة و يرى أن الاتحاد السوفياتي قد يواجه بمشكلة قومية أسوأ في مضاعافتاها السياسية من المشكلة العرقية في الولايات المتحدة الأمريكية ، و يضع بريجنسكي من جانبه مخطط للتطور السياسي في الاتحاد السوفياتي حسب البدائل الخمس التالية:
1-تعفن الأقلية المستبدة الحاكمة؛ 2- تطور تعددي ؛ 3-تكييف تكنولوجي مع الغرب؛ 4- عودة إلى الأسر النضالية أي العنف ؛5- تفسخ سياسي.
عندما يتحدث بريجنسكي عن العالم التعددي الخلاق فإنه يقصد بذلك المرحلة الثانية من إعادة صياغة و تشكيل النظام العالمي، و يرى أن النمط الأكثر اِحتمالا هو اِنتقالية هامشية في اِتجاه الجمع بين التطور التعددي و التكيف التكنولوجي و يعتبر أن الإتحاد السوفياتي هو أكثر الأنظمة الإجتماعية و السياسية محافظة في العالم الأكثر تقدما، و على ذلك فأقصى ما تسعى إليه أمريكا في حدود المعقول هو زيادة توريط الاتحاد السوفياتي في التعاون الدولي من خلال مشاريع مشتركة في القضاء و أعماق البحار و نظر لمحاولة الجمع بين تعفن الإقليمية القائدة المستبدة و التكيف التكنولوجي، ستخلق قاعدة اجتماعية أعرض للمنشقين أيديولوجيا ، فالتطور الإجتماعي يتطلب تركيزا شديدا للسلطة السياسية.
و يربط بريجنسكي مصير العالم بمصير أمريكا صعودا أو هبوطا فيقول أن فشل أمريكا سيكون نكسة للاتجاهات القائمة في العالم منذ عصر الثورات العظمى في القرن 18، و سيدل على مزيد من الفشل الإنساني، و عليه أنه على دول العالم قاطبة إذا كانت حريصة على تطورها و استقرارها فيجب أن تكون أحرص على تطور و اِستقرار أمريكا بإعتبارها المجتمع القائد العالمي.
كما يرى أنه في هذا العالم التعددي الخلاق؛ على أمريكا الاهتمام بأولويات محلية ثلاث و هي الحاجة إلى إعادة ترتيب مؤسسات الديمقراطية الأمريكية، و الحاجة إلى مؤسسات مشاركة لمواكبة المضاعفات غير المتوقعة للتغيير العلمي التكنولوجي و الحاجة إلى إصلاحات تعليمية للتقليل من أثار النزاعات العرقية، و النزاعات بين الأجيال، وذلك لتطوير القيم الإنسانية في المجتمع الأمريكي الجديد الآخذ بالظهور و باعتبار أمريكا هي الممثل الشرعي و الوحيد للعالم، فإن الحاجات الدولية مماثلة لحاجات أمريكا المحلية و هذا هو الدور العالمي لأمريكا. و يرى أنه على العالم أن يرتب حاجاته و اهتماماته بما يتناسب و حاجات أمريكا لا يسبقها و لا يتأخر عنها فصلاحه بتوافقه معها.
و في نفس السياق يقول بريجنسكي : " في المجتمع التكنوقراطي ، النزعة يجب أن تتجه نحو اِكتمال الدعم الفردي لملايين من المواطنين غير المتعاونين، سهلا ضمن بسط و مد شخصيات مغناطيسية و جاذبة فعليا بإستغلال اتصال حقيقي صاغي تقني للتأثير على العواطف و المراقبة و التحكم في التبريرات ".
يشكل النموذج الأمريكي صورة عن تدهور الحالة العالمية و بؤسها، و عن التناقض الصارخ بين نظامين من أنظمة القيم، بين نظام التوازن الذي ساد الحرب الباردة، و بين التجريبية العالمية المحكومة بما يسمى نظام الفوضى، لقد رسم بريجنسكي منذ نحو ثلث قرن، صورة متوقعة لمستقبل العالم ما بعد الصناعي، فرأى أن الأثر التراكمي للثورة التكنوترونية هو أثر متناقض، فمن جانب الفرص في العالم التعددي الخلاق ما يميز بدايات مجتمع عالمي و من جانب آخر القيود التي تفتت الإنسانية و تنتزعها من مراسيها التقليدية، إن الثورة التكنوترونية تزيد من تنوع الظروف الإنسانية و ألوانها فهي توسع الهوة في الظروف المادية بين بني البشر، حتى و هي تقلص قدرة الإنسان الذاتية على تحمل هذا التباين.
و العالم الثالث برأي بريجنسكي هو ضحية الثورة التكنوترونية. و سواء نمت البلدان الأقل تطور بسرعة أو ببطء، أو لم تنمو أبدا فإن معظمها على الأغلب لا مفر له من أن يستمر و قد سيطرت عليه مشاعر قوية بالحرمان النفسي. ففي عالم متشابك الكترونيا لن يكون التخلف المطلق أو النسبي محتملا، خصوصا عندما تبدأ البلاد الأكثر تقدما يتخطى المرحلة الصناعية، التي ما يزال على البلدان الأقل تطور أن تدخلها.
لقد أدى التطور اللامتكافئ في نظام العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى خلق سيرورات متناقضة، لا يمكن أن تبعث في يوم من الأيام على الطمأنينة العالمية. و في هذه الحالة من البديهي أن يجري إخضاع القيم و البنيات الأخلاقية للمجتمعات، و خصوصا المجتمعات المدنية، ما يسهل ديناميات رأس المال المالي و الالكتروني و الحربي. و الحاصل هو أننا أمام أمر متناقض كل التناقض بل و يتضاعف تناقضه كلما مر وقت إضافي على بفاء عالم ما بعد الحرب الباردة خاليا من أنظمة توازن في الغذاء و البيئة و الاقتصاد و السياسة و الأمن، و هذا التناقض هو أن عالم اليوم يصبح أكثر وحدة و أكثر تفتتا في الوقت نفسه. ففيما تتجه أوربا إلى التوحد الكامل عبر إلغاء الحدود القومية التقليدية، و الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقديم نفسها دولة عالمية، و فيما يجعل نظام المعلومات و الإتصال عبر الأقمار الصناعية و الأنترنت العالم كله مشاركا في مشاهدة و معرفة ما يحصل حتى في الأحياء المغلقة، يبدو العالم متجها أكثر إلى قيم الاستقرار و الولاءات الإيديولوجية.
إن اللإحتقان الذي يعيشه عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم يخلو من اليقين و الأمان الذي يوحده و هذا بديهي مادام التداخل العجيب بين الأنظمة و المفاهيم و السيادات قائما. فالتسابق نحو الإستحواذ و السيطرة هو سمة هذا المشهد اليوم، و إلى مدى غير منظور، و الخطير في هذا المجال من التطور، هو اِعتقاد مؤسسات القوة و الهيمنة التي تديرها بشكل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بأنها في هذا إنما تصنع واجبا عالميا أساسيا، و هو في اعتقادها واجب أخلاقي، تمليه مصلحة الإنسانية بأجمعها؛ الأمر الذي سيؤدي بها إلى ممارسة أبشع الأفعال اللا أخلاقية، و ذلك باسم الحفاظ على الأمن الدولي و الديمقراطية و حقوق الإنسان بوصفها درجة عليا من الأخلاق.
ففي العالم التعددي الخلاق يحاول بريجنسكي بلورة الهدف الإستراتيجي القادم للوصول إلى مرحلة يتم فيها تأثير التكنولوجيا و الالكترونيات في جميع نواحي الحياة؛ و ذلك ضمن مرحلتين كما يقرر بريجنسكي : صناعية و ما بعد صناعية، حيث تكون المرحلة الأولى؛ الإسراع بتقنيات الإنتاج و تحسينها، و ليس المرتبات الإجتماعية سوى النتاج الثانوي المتأخر لهذا الهدف العام. أما المرحلة الثانية؛ فإن المعرفة العلمية و التقنية، تطغى بسرعة لتؤثر في معظم أوجه الحياة مباشرة بالإضافة إلى أنها تقوي إمكانيات الإنتاج في مجتمع يتشكل ثقافيا و نفسيا و اِجتماعيا و اِقتصاديا بتأثير التكنولوجيا و الإلكترونيات.
يبدأ بريجنسكي تحليله من وجهة نظر شاملة في الحديث عن العالم التعددي الخلاق، بالتركيز على ديناميكية و تأثيرات الثورة التكنولوجية و الالكترونية -التكنوترونية حسب مصطلحات الخبير الأمريكي المختص في الشؤون الأوربية؛ بريجنسكي- إذ أن التجديد العلمي سيؤدي إلى اِنقسام العالم إلى ثلاث
معسكرات: البلدان الزراعية التقليدية الواقعة أساسا في آسيا، إفريقيا و أمريكا اللاتينية؛ البلدان الصناعية المتميزة بنظام قيم مرتبط بصناعة وسائل الإنتاج
و الإستهلاك؛ و أخيرا المجتمعات التكنوترونية التي تتلقى تحولات عميقة برفع أدوات التخزين و استعمال المعلومة.
في هذه المجتمعات مبادئ التنظيم السياسي و الاقتصادي و كذا أهداف الأفراد يكونون أكثر اختلاف. نمو قطاع الخدمات، الحتمية الكبيرة للرغبات و ظهور أشكال جديدة للنزاعات الإجتماعية هي مؤشرات للتغيرات الكبرى التي صاحبت قدوم هذا العصر. في الوقت الحالي الولايات المتحدة وحدها فقط اِقتربت من هذه الحالة التكنوترونية، و اِستجاب للثورة الجديدة، لكن في العشرين السنة القادمة، هذا الدور يمكن اِقتسامه مع أوربا الغربية و اليابان.
حسب بريجنسكي، نتائج التطور التكنوتروني هي متناقضة، من جهة حدود العالم تقلصت، و وعي شامل بدا بالإنتشار. لكن-بدقة- هذه الظاهرة ستسبب اِضطرابات أكثر خطورة في البلدان الزراعية، أين تأخذ الشعوب معرفة هذه التطورات بدون استطاعتها لكسب مزايا مهمة أو الانتفاع منها. من جهة أخرى التكنولوجيا هي بالمرة قوة اندماج و عدم اندماج ( intégration et désintégration) ، لأنها لا تضع في الحسبان خصوصية المجتمعات. أزمة المؤسسات الدينية، هجومات الأقلية الراديكالية و الثقافية ضد الدولة القومية و تفكيك العالم الشيوعي يبرر أن الأشكال القديمة تعتبر كونية و لا يمكن أن تتكيف مع الشروط الجديدة.
إن العالم التعددي الخلاق يتيح فرصا و يفرض قيودا على سلوكية الدول، أما القيود فتتعلق بالبيروقراطيات، و الأيديولوجيات الثورية و العقائد المتشددة، في حين أن الفرص تمكن الدول من تحقيق تطور معتبر في بعض القطاعات، فالآلة السياسية تبدو ضرورية لشعوب حيوية و مبدعة و التي تبحث عن عقيدة أو مذهب غير متكيف مع الأحداث، فعلى الدول أن تتطور لمواجهة الحتميات الاقتصادية و التقنية الضرورية لأمنها. لكن و بدون شك لن تصل إلى قيادة متعددة و لكن لن تفعل سوى مدخل، متأخر في المجتمع التكنوتروني. و على العكس؛ الولايات المتحدة تكون في حالة غليان ناقل للأفكار الجديدة و الحلول الجديدة.
بريجنسكي يأخذ في الحسبان العوامل التي تهدد المجتمع الأمريكي لكن يستنتج بتفاؤل كبير تبخر اللبرالية البراغماتية، و الإنسانية يمكن إن تسمح للأمريكيين بتوجيههم التجديد innovation نظرا لأولويتها على بلورة نوعية حياتهم. بريجنسكي يعتبر أنه بالرغم من تجربة الفيتنام، إلا انه يجب على الولايات المتحدة اخذ مبادرات أساسية في السياسة الخارجية.
لكن جيمس كورث (أستاذ العلوم السياسية في الجامعات الأمريكية) ، يقدم انطباعا مخالفا عما يذهب إليه بريجنسكي من خلال العالم التعددي الخلاق فيرى:"إن الدور الذي تلعبه أمريكا في الصراع الهائل بين المنظمات الكبرى و وسائل الإعلام العالمية و الشركات متعددة الجنسيات... سيتوقف على نتيجة صراع أكثر إيلاما، ذلك لان الفترة الأولى من تاريخ ما بعد العصر الحديث ستتضمن صراعا موازيا، و حربا أهلية داخل الولايات المتحدة بين المؤسسات متعددة الثقافات و التسلية الجماهيرية من جانب و الثقافة القومية و التعليم الجماهيري من جانب آخر، و منذ الآن يبدو معسكر ما بعد العصر الحديث هو الذي سيسود و إذا حدث ذلك فان الولايات المتحدة بالمعنى التقليدي للشعب الأمريكي و حكومة الولايات المتحدة، لن تكون هي الممثل، بل المتفرج-بل حتى المسرح- لعالم ما بعد العصر الحديث، و ستصبح متلقيا للتاريخ لا صانع له..."
و أخيرا يمكن القول أن العالم التعددي الخلاق ما هو إلا تكريس للهيمنة و الريادة لأمريكا كقائد للعالم، فهو ليس عالم تعددي في الأدوار و لكنه متعدد في توريط دول كبرى أخرى لخدمة المصالح الأمريكية، و خلاق لأنه تحتوي على برنامج لتعزيز الديمقراطية و حماية حقوق الإنسان و مختلف الشعارات الخلاقة، و على عكس نظام الفوضى الخلاقة فالولايات المتحدة ستلعب هنا دور الضابط لكل العمليات. هذا العالم الذي يفرض قيود على الدول المناهضة لأمريكا أو العالقة في طريق تحقيق أهدافها –إن لم نقل العالم الإسلامي و بعض الدول المارقة- و هو يتيح فرصا عديدة لدول انتهجت مسار الليبرالية الأمريكية. و باِختصار و بكل بساطة هو عالم أمريكا يعمل كنسق حديث بمبدأ من ليس معنا فهو ضدنا.



#دندان_عبد_الغاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إستمرار في الإنتقال أم إنتقال في الإستمرار: الجزائر في مفترق ...
- السياسة العامة بين الخبرة النظرية و الواقع العملي
- العقلانية الديمقراطية تتأرجح بين اليمين و اليسار


المزيد.....




- هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب ...
- حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو ...
- بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
- الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
- مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو ...
- مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق ...
- أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية ...
- حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
- تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام


المزيد.....

- افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار ... / حاتم الجوهرى
- الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن / مرزوق الحلالي
- أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا ... / مجدى عبد الهادى
- الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال ... / ياسر سعد السلوم
- التّعاون وضبط النفس  من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة ... / حامد فضل الله
- إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية / حامد فضل الله
- دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل ... / بشار سلوت
- أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث / الاء ناصر باكير
- اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم / علاء هادي الحطاب
- اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد ... / علاء هادي الحطاب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - دندان عبد الغاني - مقتطفات من العلاقات الدولية: العالم التعددي الخلاّق عند بريجنسكي