أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - أي يسار هذا؟















المزيد.....


أي يسار هذا؟


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 2595 - 2009 / 3 / 24 - 08:38
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


(حول اليسار وإنقاذ الرأسمالية)
صديقنا د. شريف حتاتة يريدنا أن نهرع لإنقاذ الرأسمالية بعد الأزمة التي ألمت بها، وبالتالي أن "نمد اليد" لمن كنا نرفض مد اليد له. هذا ما قاله في مقاله "اليسار وإنقاذ الرأسمالية" الذي نشر في جريدة الحياة (28/2/2009) والبديل (2/3/2009) والحوار المتمدن ( 1/3/2009)، وأيضاً في موقع اليسار العربي. وحيث ينهي بالقول أنه يعرف بأنه سوف يتعرض لـ "نيران صديقة"، لكن هذا لا يهمه.
في البدء، أود الإشارة إلى أن ما أورده هنا ليس "نيران صديقة"، بل هو جزء من صراع فكري طويل في إطار الحركة الشيوعية والقوى الماركسية في الوطن العربي، وهو الآن يشتد نتيجة الحاجة إلى الفرز من أجل تحديد رؤية اليسار، خصوصاً رؤية الماركسيين، على ضوء تجربة طويلة من الفشل والتهميش والتفكك، كما من الهامشية. إذن، المسألة تتعلق بخيارات القوى الماركسية، ليس في مواجهة الأزمة الرأسمالية الراهنة فقط، بل في إطار الصراع الطبقي العالمي ضد النمط الرأسمالي ككل.
فبعد توصيفه للأزمة، وإشارة إلى انعكاساتها، يطرح د. حتاتة على اليسار "أن يساهم بتفكيره وسياساته وتحركاته في إنعاش الاقتصاد الرأسمالي"، حيث "أن مصلحة الشعوب في المرحلة الحالية هي أن تحول دون أن يحدث الكساد، من دون أن ينهار النظام الرأسمالي القائم الآن، بل أن يساهم في إنقاذه"، لأنه ليس لنا كشعوب كادحة وكرأسماليين "مصلحة في انهيار الرأسمالية". وهو الأمر الذي يطرح السؤال حول التعاون "مع قوى لم يكن في ذهن اليسار أن يتعاون معها من قبل بما فيها السلطة أحياناً أو أجزاء منها أو مع رأسماليين كبار في بعض مواقفهم؟ هل يعني هذا إقامة تحالفات مع بعض من كان يعارضه؟" والسؤال هنا يحمل الجواب بنعم كما يظهر من سياق النص.
هذا ملخص الدعوة/ المهمة التي باتت ملقاة على اليسار وفق د. حتاتة. وهو هنا لا يخرج عن مسار حركة شيوعية إنتمى إليها، كانت دائماً تميل إلى "التعاون"، و"الإنقاذ"، والتفاهم، وليس إلى الثورة والتغيير. والى الحفاظ على الرأسمالية وليس إلى تجاوزها. إنه هنا منسجم مع منطق الحركة بمجملها، وبالتالي مع تاريخه. لكن عبر التقدم خطوة أبعد، حيث باتت المهمة تتحدد في إنقاذ النمط الرأسمالي بمجمله من السقوط، وليس بناء رأسمالية محلية كما كانت تفعل الحركة من قبل. بمعنى أن على اليسار اليوم أن يتجاوز معارضته السابقة "للرأسمالية الاحتكارية الكبرى"، و"للشركات العابرة للأوطان وسياساتها"، من أجل تلافي الكارثة التي ستعم.
إذن، نحن أيضاً، وأيضاً مع "عقل" الحركة الشيوعية وهو يعالج الأزمة الراهنة للرأسمالية. "العقل" الذي يفكر في كيف يبني الرأسمالية؟ وكيف يحافظ عليها؟ والآن، كيف ينقذها؟ وهذه لازمة ثابتة في هذا "العقل"، كانت ولازالت، وربما ستبقى، لأنه تأسس على تصور "ماركسي" يكرس الرأسمالية انطلاقاً من حتميتها. ويثيره الرعب من التفكير في تجاوزها، أكثر مما تأسس على وعي الواقع، وبالتالي وعي دور الشيوعيين فيه. هذا ما أمدهم به "الرفاق السوفيت"، الذين أخضعوا تطور العالم لسياستهم بالتحديد، وصاغوا الماركسية بما يناسب هذه السياسة، حيث أصبحت مهمتها هي تبرير السياسة وليس اكتشاف الواقع. لقد زرعت هذه السياسة في "عقل" الحركة الشيوعية "مبدأ" عدم الاقتراب من السلطة، عدم التفكير في استلام السلطة، وعدم تجاوز الرأسمالية، على العكس من ذلك، دعم انتصارها على الإقطاع. لهذا تصبح مهمة الشيوعي هي تقديم المقترحات للرأسمالية ومساعدتها.
الآن، يضاف إلى هذا القاموس هدف جديد هو منع انهيارها، الهرع من أجل وقف انهيارها. حيث يستحيل علينا رؤية عالم بدون الرأسمالية. إنها ضرورة مطلقة. ولهذا يجب أن نركض لإنقاذها بعد أن دخلت في أزمة هي أكبر من كل أزماتها المتكررة والمتضخمة. وهذا يفرض "التخلص من مواقف سابقة لا تصلح لمواجهة المخاطر التي أصبحت تلوح من قرب". ما هي هذه المواقف؟ د. حتاتة يطرح –وإن بخجل ربما- التعاون مع السلطة، ومع رأسماليين كبار، وبالتالي يلمح إلى "التشدد" في الموقف من السلطة في السياسات السابقة لليسار (وهو هنا يشير أكثر إلى وضع مصر)، وبالتالي ينضم إلى اتجاه كان منذ زمن يطرح مسألة التعاون مع السلطة، ويدفع لتعميم سياسة "الأسقف المنخفضة"، رغم أن السياسة العامة للشيوعيين لم تكن تطرح، ولا تطرح اليوم، مسألة تغيير السلطة، وهي تنطلق من ضرورة الرأسمالية كذلك.
الانهيار/الكارثة:
لكن كيف يصل د. حتاتة إلى هذه النهاية؟
يصوّر د. حتاتة الأزمة الراهنة للرأسمالية ككارثة. حيث "أن الكارثة ستعم"، ويعتقد بأنها انقضّت علينا هكذا، إنها "الأزمة الشاملة التي انقضّت علينا، والتي يعم تأثيرها علينا جميعاً"، والتي "لا أحد يعلم إلى أين يمكن أن تقودنا".
إذن، إنها كارثة، ولقد انقضّت علينا، ولا نعرف إلى أين ستقودنا. كما أنه "من الواضح أن انهيار النظام الرأسمالي العالمي يجلب الآن، وسيجلب في المستقبل كوارث تشمل جميع سكان الأرض". وإذا كانت الرأسمالية ستصاب بأضرار جسيمة "لكن الشعوب هي التي تتحمل وستتحمل العبء الأكبر للمصائب" نتيجة "تشابك المصالح". لهذا "ليس لنا مصلحة في انهيار الرأسمالية".
في هذه الرؤية جملة تناقضات، لكنها تتسق فقط حين ننطلق من أنها جزء من خطاب أيديولوجي لتبرير الهرع للدفاع عن الرأسمالية ولتخفيف حدة الصراع معها. أن النص يساوي بين الرأسمالية والشعوب المتضررة، ويظهر بأن الكارثة أتت هكذا كقدر. حيث أنها كارثة، لكن على منْ؟ ولقد انقضّت علينا، هل انقضّت علينا من "عالم الغيب"؟
يعيد د. حتاتة سبب الأزمة إلى "السباق المحموم نحو مضاعفة الأرباح"، وهل في هذا ما هو غريب على الرأسمالية التي تقوم بالأساس على مضاعفة الأرباح؟ الربح هو ديدن الرأسمالية كما تقول الماركسية، وبالتالي فإن الأزمة هي نتاج طبيعة الرأسمالية ذاتها ولم تنقضّ علينا من عالم الغيب. إنها بنت الرأسمالية، وهذا ما تحدث عنه ماركس منذ زمن بعيد، وهو ما يرسم الشيوعيون سياساتهم على أساسه. ما الغريب في أمر الأزمة الراهنة إذن؟ إنها أضخم من كل الأزمات السابقة، وهذا تطور طبيعي في الرأسمالية لأن أساس الأزمة سوف يفرض تصاعدها، وإن حلها في السابق كان يعني تفاقمها فيما بعد، وهي الآن تصل إلى الـ "كارثة".
وبالتالي فإن الأزمة مرادفة للرأسمالية، ولا يمكن أن نعتبر أنها صدفة، أو أتت من سبب مجهول، وبالتالي لا يمكن حلها إلا بتجاوز الرأسمالية ذاتها. وهذه مسألة يجب أن تكون واضحة، رغم أن المسألة لا تتعلق بالربح فقط، بل في التكوين الاقتصادي الاجتماعي الذي أقامته الرأسمالية، والذي جعلها تضخم من تراكم المال (النقود في البنوك) على حساب التوظيف الفعلي في قوى الإنتاج، وعلى حساب التحسين المضطرد للطبقات العاملة. وهذه المعادلة بين الرأسمال الموظف في الصناعة والزراعة، وحتى في التجارة والخدمات، وبين الرأسمال "المالي" المنفلت من كل إمكانية للتوظيف في تلك القطاعات نتيجة "تخمة" التوظيف فيها، وهي التي باتت عبئاً على مجمل النمط. هذه المعادلة التي تميل لمصلحة الرأسمال المنفلت بنسبة 1 إلى 9 حسب كل المؤشرات هي التي أسست للأزمة الراهنة. لكن هذا "المظهر" للأزمة يخفي أزمة النمط ككل، والتي هي نتاج حدود التوظيف في القطاع المنتج (الذي هو وحده ينتج فائض القيمة).
لقد راكمت الرأسمالية من المال ما جعلها تلجأ إلى التوظيف دون حساب المخاطرة عبر التسليف دون ضمانات، كما باتت تزيد من منسوب المضاربات في الأسواق المالية ما يهدد بالانهيار في كل لحظة. كل ذلك إضافة إلى احتدام التنافس في الأسواق، والتسابق المريع على النفط، والطباعة غير المنضبطة للدولار دون سند اقتصادي، كلها كانت نتاج الأزمة وسببها في الوقت ذاته، وهي مرشحة للتفاقم. وبالتالي ماذا يمكن لليسار أن يقدم من نصائح؟ زيادة الأجور، وما يحدث هو العكس. والتوظيف، وما يحدث هو العكس كذلك. وتوزيع المبالغ المخصصة لمعالجة الأزمة على الفقراء، وأيضاً ما يحدث هو غير ذلك. والسبب هو أن مصالح الرأسمال هي غير ما يمكن أن يقدمه اليسار من نصائح، التي يهدف من ورائها تخفيف أزمة الرأسمالية. حيث أن الرأسمالية تسعى لزيادة التراكم المالي وليس خفضه. وهنا سنلحظ بأن كل الحلول "الإصلاحية" التي كان يقدمها اليسار كانت تلقى التجاهل، وأكثر ما فعلته الرأسمالية هو "دولة الرفاه" في بلدانها على حساب الشعوب الأخرى. لكن حتى هذا الحل فشل، لأن الميل نحو الربح الأعلى هو الذي يميز الرأسمالية. وهي لا تقدم التنازلات إلا مضطرة، ولحين تجاوزها "عنق الزجاجة". وإذا كانت الرأسمالية تتسم بفوضى الإنتاج كما وصفها ماركس، فقد باتت تتصف بفوضى المال كذلك. وهي بالتالي سوف تفضي إلى كوارث أضخم وأكثر مأساوية بغض النظر عما ستؤول إليه الأزمة الراهنة.
وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى أن التصور "الكارثي" الذي يقول به د. حتاتة، والذي ستعم آثاره على "جميع سكان الأرض"، مبني على فهم "خاص" للانهيار، وللأزمة، حيث يتصوره في شكل دراماتيكي، كانهيار بناية على من فيها، وبالتالي اختفاء الرأسمالية "عن بكرة أبيها"، وربما العالم. لهذا يهرع إلى طلب التعاون بين مختلف السكان من أجل تلافي الكارثة. وهو هنا لا يربط الأزمة الاقتصادية بالصراع الطبقي فلا يرى منها سوى الأضرار. ويمكن أن أشير –أكثر من ذلك- إلى أن هذا المنطق لا يمت بصلة إلى الصراع الطبقي، حيث الأزمات هي "قاطرات الثورات"، وهي اللحظة التي يتطور فيها صراع العمال ضد الرأسمال من أجل البديل، لأن الأزمة بالضبط تفضي إلى فقدان مئات الآلاف بل الملايين عملهم، والى تفاقم صعوبات المعيشة، من خلال ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وتقلص أو زوال الضمانات والخدمات الاجتماعية، والسلع المدعمة، وانخفاض الأجور، كما يوصف د. حتاتة آثار الأزمة الراهنة محقاً. وهذا ما يجعل الأزمة هي لحظة الثورة، لا أن نهرع لنجدة الرأسمالية من أزمتها. لهذا لا يوجد لدى العمال والفلاحين الفقراء، وحتى الفئات الوسطى ما تقدمه للرأسمالية في هذه اللحظة سوى ذلك، أو أن تقظم جوعها وتقبل كل السياسات التي تمارسها الرأسمالية لإنقاذ ذاتها. وتقبل أن يعبر عنها بعض المثقفين مطالبينها بأن ترحم قليلاً فقط. وسنلحظ هنا بأن انهيار شركات وتبخر ترليونات الدولارات لا يعني نهاية الرأسمالية أو انهيارها الشامل، بل يعني زيادة التمركز الرأسمالي الذي يقوم على دمار قطاعات من الرأسمال ذاته، وتلاشي رأسماليين. ومن ثم إعادة صياغة النمط الرأسمالي بما يحقق هيمنة فئات ربما جديدة، أو تعديل العلاقة بين الفئات القائمة.
يبدو أن التصور حول نهاية الرأسمالية الذي تعمم مع "الماركسية السوفيتية" هو الذي لازال يقبع في "عقل" د. حتاتة، والذي كان المدخل لتحقيق الاشتراكية، التي لا تتحقق إلا بعد تعفن الرأسمالية وانهيارها، أي نهايتها هكذا بفعل الأزمة الاقتصادية ذاتها بعيداً عن الصراع الطبقي، لكن هذه النظرة أصبحت أكثر مأساوية بعد انهيار الاشتراكية، حيث باتت ترى انهيار الرأسمالية دون أن تحلم بتحقق الاشتراكية. لنفيق فنجد العالم حطاماً كمن تعرّض لكارثة طبيعية. هنا بالضبط يأتي تعبير الكارثة الذي يطرحه د. حتاتة. وإذا كان هذا الوضع هو –في المنطق الشيوعي- أساس تحقيق الاشتراكية لأن الرأسمالية هي التي ستتحطم وحدها، فقد ارتدّ الآن إلى خوف من هذا الانهيار لأن الاشتراكية ليست مطروحة إلا في "المستقبل البعيد" كما يشير د. حتاتة، وبالتالي فإن الانهيار الآن هو كارثة تصيب "جميع سكان الأرض".
إن النظر إلى أزمة الرأسمالية ككارثة مجتمعية لا يعني سوى تكرار منطق التعاون معها، لأنها أزموية، أي أنها موحدة مع الأزمة، والأزمة هي نفيها. وبالتالي فما يحدث الآن هو شكل أعمق من الأزمة ذاتها، تلك التي رافقتها منذ البدء، وهي تزيد من حدة الصراع الطبقي، الذي يفرض على اليسار أن يضعه في سياق برنامجي يقود إلى تغيير النظام من أجل بديل يتجاوز الرأسمالية وأزماتها، وليس الركض من أجل إنقاذها، حيث أن الدعوة إلى إنقاذها تعني التكيف مع النهب والإفقار، مع الاستغلال والاضطهاد، دون أن يقود كل ذلك إلى الإنقاذ، لأن "الكارثة" هي نتاج الرأسمالية ذاتها وليست نتيجة ممارسات خاطئة، أو ظرف طارئ، أو "قدر إلهي". نتيجة تكوين الرأسمالية، التي يفرض تفاقم الإفقار والنهب، وبالتالي تصاعد الصراع الطبقي (الذي بتنا نلمسه في كل مكان). هذه بديهيات في الماركسية، وهي أساس رؤية الماركسية لتغيير الواقع وليس التكيف مع ما هو قائم فيه.
"شروط" المساهمة في إنقاذ الرأسمالية:
لكن د. حتاتة يطرح شروطاً لهذه المساهمة في إنقاذ الرأسمالية. وإذا كان يطالب اليسار بـ "التخلص من مواقف سابقة لا تصلح لمواجهة المخاطر التي أصبحت تلوح من قريب"، وكذلك "التفكير في التعاون مع قوى لم يكن في ذهن اليسار أن يتعاون معها"، فهو يطالب بالتالي:
1) "أن يساهم بتفكيره وسياساته وتحركاته في انعاش الاقتصاد الرأسمالي"، و"أن يخرج بسياسات واقتراحات واجراءات تتناسب مع الأزمة الشاملة". وهو هنا يتحول إلى باحث عن الطريق التي تجعل الرأسمالية تتجاوز أزمتها وليس تعميق الأزمة عبر تطوير الصراع الطبقي.
2) أن يقدم كذلك "إقتراحات وخطوات وشروطاً تحمي مصالح العمال والفلاحين والموظفين والحرفيين والمثقفين والفئات المتوسطة في المجتمع". ومنها "أن تتم تعديلات في طريقة سريان الرأسمالية واتجاهاتها في النظم التي تعمل في إطارها". و"فرض القيود اللازمة لتغيير الاتجاه الذي سار عليه".
3)أن تفرض هذه المسائل، التي هي غير واضحة، على الرأسمالية "من طريق التحرك الجماهيري والتشريعي، من طريق الضغوط التي يمارسها المواطنون والمواطنات في كل مكان".
4) لكن السؤال هو: كيف يمكن ضمان التوازن المطلوب بين تحقيق هذه المقترحات وأن "تحول دون انهيار الرأسمالية وحدوث كساد عميق طويل؟"
وهنا نلحظ بأن الشروط، التي هي كما أشرنا غامضة وليست محددة ولا واضحة، هذه مرتبط تحقيقها بألا تؤدي إلى انهيار الرأسمالية أو حدوث كساد. لكن كيف نوفق بين حماية مصالح هؤلاء وإنقاذ الرأسمالية دون أن نقبل بتراجع الأجور وارتفاع الأسعار، ونهب المال العام لدعم البنوك والشركات المنهارة، وأن نقبل البطالة كذلك؟ كيف نوفق بين التعاون مع قوى نحن في تضاد معها وبين أن نقوم بتحركات من أجل الضغط حتى؟ وكيف يمكن أن نعبّر عن مصالح العمال والفلاحين والفئات المتوسطة، وأن نعمل كمستشارين للرأسمالية لإنقاذها من أزمتها؟ هل على اليسار –بالتالي- أن يقنع المفقرين بعدم التمرد على الوضع الذي فرضته الرأسمالية وهي تنهب ثم وهي تحل مشكلاتها على حسابهم؟ وبالتالي أن تكون الاحتجاجات والتحركات "سلمية" و"مدنية" و"حوارية" ...؟
كما يبدو من الطرح أن الهدف الأول هو "إنقاذ الرأسمالية"، وبالتالي تصبح كل الشروط المطروحة هنا ثانوية، ويصبح "التحرك الجماهيري" هو تحرك "تفاعلي" وليس صراعياً، وفي سياق التفاهم والتعاون وليس في سياق التغيير. هذه هي خلاصة الموقف إذن، وبالتالي كل ذلك بدل تطوير الصراع ضد الرأسمالية في لحظة مفاقمتها الفقر والبطالة والتهميش.
وهنا لا أطرح "الصراع" بديلاً للتعاون لأنني –فقط- مغرم بالصراع، بل لأن لا خيار للطبقات المفقرة والشعوب غير ذلك. فالأزمة القائمة لا حل لها لأنها نتاج موضوعي لطبيعة الرأسمالية كما أشرنا من قبل. وكل الحلول الممكنة سوف تكون على حساب الفقراء والمهمشين والشعوب. وكما أشرت أيضاً للتو فإن الأزمة ليس مقدراً لها أن تفضي إلى نهاية الرأسمالية، أو إلى كارثة تطال جميع سكان الأرض، كما يتصور د. حتاتة وطيف من الشيوعيين (والشيوعيين السابقين) الذين فطروا على "الأزمة العامة للرأسمالية" التي سوف تفضي إلى انهيارها، بل سوف تفضي إلى إعادة تموضع الطغم الرأسمالية المسيطرة، بخسارات كبيرة لبعضها، وربح لبعضها الآخر، أو على الأقل خسارات أقل لهذا البعض، وربما تحول في وضع المراكز المهيمنة، لكنها ستعني أكثر إفقار واسع في المراكز الرأسمالية وخصوصاً في الأطراف. وما تهدف إليه الرأسمالية هو أن تتحقق إعادة التموضع هذه بأقل الخسائر، لهذا ستلقي عبء الأزمة على الطبقات العاملة وعلى شعوب الأمم في الأطراف. وليس من حل رأسمالي لأزمة الرأسمالية غير ذلك، كما ليس من الممكن أن تقبل الطغم الرأسمالية حلاً غير هذا الحل. وهنا ماذا تفيد مقترحاتنا وتعديلاتنا وكل السياسات والإجراءات التي نقترحها؟ هل ستزيد الرأسمالية من خساراتها من أجل تقليل عملية الإفقار التي تلقي بها على كل هؤلاء؟ بالحتم لا، وبالحتم أن ليس هذا هو الحل في كل الأحوال، لأن المفقرين سوف يتمردون دون استشارتنا، ولن يفيد كل نصحنا لهم بالتعاون والتفاهم، على العكس سوف نلقى في "سلة المهملات"، أي سوف نهمش أكثر من تهميشنا الراهن. وربما كانت هذه المفارقة تظهر كيف أن اليسار لم يراجع بعد السبب الذي أفضى إلى أن يتهمش، ولم يطرح السؤال حول سياساته التي جعلته ينعزل عن الطبقات التي يقول بأنه يمثلها. وكيف كانت مهادنته للنظم أو تحالفه معها، أو لعب دور "المهدئ" لتمردات الطبقات الشعبية، كلها تفضي إلى تقلص وجوده في هذه الطبقات، وتحولها إلى دعم قوى "راديكالية". وهذا أمر طبيعي لمفقرين ليس أمامهم من خيار سوى المقاومة والتمرد، كما يجري في مصر الآن خصوصاً.
إن "الحس السليم" لدى الطبقات المفقرة هو الذي يدفعها إلى التمرد، لأنها تعاني من النهب والاضطهاد والسحق، والإفقار والبطالة، وليس مهمة اليسار أن يقنعها بالتخلي عن حسها السليم، أو حتى إتباع طريق "التفاهم" و"التعاون" مع مضطهديها. هذا ليس يسار وماركسي، بل هو فعل فئات وسطى لا تريد تطور فعل الطبقات المفقرة، وبالتالي وصولها إلى السلطة، لكنها تستفيد من تمرداتها من أجل تحسين موقعها هي كفئات وسطى، وهو الأمر الذي يجعلنا نقول بأن الحركة الشيوعية، رغم كل التضحيات التي قدمتها، لم تمثل أكثر من فئات وسطى، تخشى الثورة والتغيير، وتعشق المطالبة والترشيد، والتحسين التدرجي للأوضاع (أوضاعها هي) بشكل منضبط ومسيطر عليه وسلمي، أو عبر احتجاج "حضاري"، أو حتى مظاهرات من أجل الضغط وليس من أجل التغيير.
إن طبيعة الفهم الذي يكتنف الأزمة ينطلق من أن الرأسمالية يمكن أن تنهار وحدها، وبالتالي يجري الفصل بين الأزمة كأزمة اقتصادية والآثار التي تولدها على العمال والفلاحين والفئات الوسطى، والتي تفرض تصاعد الصراع معها، وتحوّله إلى صراع طبقي حقيقي، هو وحده يمكن أن يقود إلى نهاية الرأسمالية عبر تجاوزها. الأزمة الاقتصادية هي التي تولد الدفع من أجل تطوير الصراع، لكي يتحول إلى صراع طبقي، وبالتالي ليس من مهمة الشيوعيين أن يسهموا في حل الأزمة الاقتصادية بل تكمن مهمتهم في تطوير الصراع الطبقي، ووضعه في سياق برنامجي لكي يوصل إلى التغيير.
وهنا ينفرض تجاوز "العقل" الذي حكم الحركة الشيوعية عقود طويلة، والذي كان لا يرى ضرورة لتجاوز الرأسمالية، وبالتالي كان يقصر نشاط الطبقات المفقرة على قضايا مطلبية واحتجاجات جزئية وهامشية. وهو الأمر الذي كان يدفع هؤلاء إلى دعم قوى أخرى كانت تستفيد من حراكهم من أجل تحقيق مكاسب معينة.
شكراً للصديق د. شريف حتاتة على دعوته هذه، لكن نرى أنها مهلكة، ليس لأننا لا نقدر على ذلك نتيجة طبيعة الأزمة ذاتها فقط، بل لأننا لا نريد ذلك، فمهمتنا كماركسيين تتحدد فقط في تطوير الصراع ضد الرأسمالية لتجاوزها، حيث حينها يمكن تخليص البشرية من شرورها.






#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن المقاومة من منظور الماركسية
- حول مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية
- أوباما: لون البشرة هل يغير طعم السياسة؟
- المنطق الصوري في السياسة (ملاحظات حول تناول الحرب على غزة)
- المقاومة من منظور اليسار
- حوار في المبادئ مرة أخرى- 3 أخيرة (من أجل توضيح الاختلافات)
- حوار في المبادئ مرة أخرى- 2 (من أجل توضيح الاختلافات)
- حوار في المبادئ مرة أخرى- 1 (من أجل توضيح الاختلافات)
- الميل نحو اليسار: لكن أي يسار؟
- عن غزة والوضع العربي
- عن أهداف الحرب على غزة
- حوار في المبادئ-4أخير (على هامش الحوار حول الحرب في غزة مع د ...
- حوار في المبادئ-3 (على هامش الحوار حول الحرب في غزة مع د.كاظ ...
- حوار في المبادئ-2 (على هامش الحوار حول الحرب في غزة مع د.كاظ ...
- حوار في المبادئ -1 (على هامش الحوار حول الحرب في غزة مع د.كا ...
- حول تناول الحرب على غزة: ملاحظات في أسس النظر
- الحرب على غزة من منظور العقل الليبرالي- حوار مع د. كاظم حبيب
- حول تحالف قوى اليسار في العراق
- ليست نهاية الرأسمالية
- عن أفول -الوطنية الفلسطينية- وصعودها


المزيد.....




- الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
- عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و ...
- في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در ...
- حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
- تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا ...
- تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال ...
- الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - أي يسار هذا؟