|
حيثيات ومفارقات العدالة الدولية
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2590 - 2009 / 3 / 19 - 10:18
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
هل يمكن الاستعانة بنظام محكمة روما لرفع دعوى ضد الجناة “الإسرائيليين” لما ارتكبوه في غزة من جرائم؟ وما السبيل الى ذلك؟ وما الآليات التي يمكن اعتمادها؟ وقد سعت منظمات حقوقية وسياسية مؤخراً لإعلان انضمامها الى حملة مقاضاة المرتكبين “الإسرائيليين”. ولعل أسئلة كثيرة أثيرت حول حيثيات نظام محكمة روما، ولماذا لم توقع أو تصدق عليه سوى ثلاثة بلدان عربية هي الأردن وجيبوتي وجزر القمر؟
وقبل الإجابة عن العديد من الاسئلة المهمة، لاسيما وقد شغلت الإعلام منذ العدوان على غزة وحتى الآن، وكانت منذ زمن ليس بالقصير، ولعله يزيد على 60 عاماً من دون إجابات عملية، بحيث تستطيع العدالة الدولية جلب المتهمين الى قفص الاتهام، وهنا لا بدّ من معرفة نظام المحكمة وفحص أسلوب عملها واختصاصاتها.
في يوليو/ تموز 2002 بدأ العمل بنظام المحكمة الجنائية الدولية، بعد مصادقة 60 دولة، مثلما جرى إعلان ذلك في نيويورك في مقر الأمم المتحدة. والمحكمة التي تأسست في روما في العام ،1998 اتخذت من لاهاي مقراً لها.
وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية International Criminal Court (ICC) أول هيئة قضائية دولية، تحظى بولاية عالمية وبزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الفظائع بحق الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشري. فلأول مرة في التاريخ يتم تكليف هيئة قضائية دولية دائمة لحماية حقوق الإنسان، بما توفّره من إقرار الدول الموقعة عليها وبالتالي المجتمع الدولي، مبدأ العدالة الشاملة وعدم الإفلات من العقاب عن تلك الجرائم الخطرة بحق الضمير الإنساني على المستوى الدولي.
إن وجود قضاء جنائي دولي مستقل ومحايد يمارس اختصاصاته على جميع الاشخاص من دون تمييز لتحقيق العدالة الدولية، أمر في غاية الأهمية في تطور الفقه والقضاء الدوليين على الصعيدين النظري والعملي. لكن وجود مثل هذا القضاء لا ينفي ولا يلغي مسؤولية القضاء الوطني، بل يعني التعاون بينه وبين القضاء الدولي، خصوصاً بشأن الجرائم التي ورد ذكرها، بالتوقيع والمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بما يتطلب تعزيز كفاءة القضاء الوطني من جهة، وتفعيل وتنشيط فكرة السيادة القضائية بأبعادها الدولية من جهة أخرى، ليس كنقيض للسيادة القضائية الوطنية، بل كحقل واحد للعدالة.
ويمكن القول إن العلاقة بين النظام القضائي الدولي والنظام القضائي الوطني “هي علاقة تعاون وتكامل وليس علاقة تنافر أو تعارض”. وهي الدعوة التي يمكن توجيهها الى الأنظمة القضائية العربية للتعاون مع الأنظمة القضائية الدولية المنبثقة من نظام محكمة روما والتسريع بالتوقيع والمصادقة، وهو ما يقتضي الأمر مواءمة وتكييفاً للتشريعات الوطنية مع التشريعات الدولية، خصوصاً عندما تنضم الدولة أو تصبح طرفاً في اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية.
إن جعل ولاية هذا القضاء دائمة سيعطيها فرصة الملاحقة عن الجرائم وإنزال العقاب بمرتكبيها، علماً بأن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم. ومع أن العديد من الدول الكبرى، بما فيها بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين، عارضوا إنشاء نظام المحكمة الجنائية الدولية أو تحفظوا عليه أو لم يصادقوا حين وقّعوا، إلاّ أن إنشاء المحكمة ودخولها حيز التنفيذ، رغم المعارضات الشديدة وبعض النواقص المهمة في نظامها الأساسي، يعتبر بحد ذاته أحد التطورات المهمة في بداية هذا القرن وأحد تحدياته المستقبلية الكبرى.
لقد سعت الولايات المتحدة الى معارضة تأسيس محكمة دولية جنائية دائمة إلاّ أنها فشلت في ثني المجتمع الدولي عن المضي في هذا الطريق، فاضطرت الى التوقيع في اللحظات الاخيرة قبيل إغلاق باب التوقيع في يوم 31/12/2000 لكنها بعد ذلك امتنعت عن التصديق، وأعلنت أن من غير المطروح أن يتم صرف “دولار واحد” من موازنة الأمم المتحدة لتمويل المحكمة.
وقد عبّر السفير الأمريكي لشؤون جرائم الحرب ريتشارد بروسبر عن معارضته الشديدة تلك امام لجنة من الكونجرس وذلك حين قال “إن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تدعم محكمة لا تملك الضمانات الضرورية لمنع تسييس العدالة”، ثم قامت الولايات المتحدة بخطوة غريبة، حين أعلنت انسحابها من معاهدة روما في رد فعل غاضب يعكس حراجة الموقف الأمريكي (12 ابريل/ نيسان 2002)، خصوصاً أن دول الاتحاد الأوروبي كانت داعمة لتأسيس محكمة روما.
وتعتقد واشنطن أن من الأفضل في كل الحالات اعتماد الهيئات القضائية الوطنية لمحاكمة جرائم الحرب ومساعدتها إنْ اقتضت الضرورة للقيام بمهماتها، وإن لم يتسن ذلك فمحاكمة مثل محاكمات يوغسلافيا ورواندا تصبح ممكنة وولايتها محدودة وزمنها مرتبط بحدث محدد وبقرار محدد.
والأنكى من ذلك أن الولايات المتحدة بعد احتفالية الأمم المتحدة بدخول معاهدة روما للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ بتصديق 60 دولة عليها (ابريل/ نيسان)،2002 أقدمت على خطوة انفعالية بسحب توقيعها من المعاهدة في محاولة لإضعاف دور المحكمة الجنائية الدولية بعد أن سعت في البداية لعدم انشائها، ثم وقعت عليها لكي تساهم في وضع قيود وعراقيل في نظامها الاساسي تمنع انسحاب صلاحياتها واختصاصاتها على الحاضر ووضع سبع سنوات لإمكانية الملاحقة وغيرها، ثم عادت وأعلنت سحب توقيعها.
ورغم مرور أكثر من عشرة أعوام على إنشاء نظام المحكمة، فإن روسيا هي الأخرى لم تصدق عليها، في حين أن الصين لم توقع عليها أصلاً. ويعود أحد الأسباب لهذه المواقف الى الانتهاكات الصارخة التي حدثت في الشيشان وكذلك في التيبت، اضافة الى سجل حقوق الإنسان في كلا البلدين. وكانت “إسرائيل” من الدول التي عارضت إنشاء المحكمة ولكنها اضطرت للتوقيع عليها عشية إغلاق باب التوقيع ولم تصدق عليها، خصوصاً في ظل الدعوات الدولية التي تصاعدت لمحاكمة شارون واعتباره “مجرم حرب”، ليس لأعمال ارتكبت في الماضي، بما فيها صبرا وشاتيلا، بل نظراً للجرائم المستمرة بحق السكان المدنيين العزّل في جنين ونابلس ورام الله وغزة والعديد من المناطق الفلسطينية المحتلة، بما فيها محاصرة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حتى رحيله وعدد من المقاومين الفلسطينيين في كنيسة المهد، فضلاً عن تدمير البنية التحتية وهدم المنازل والقتل العشوائي بما في ذلك للأسرى، والإصرار على بناء جدار الفصل العنصري وبالضد من اتفاقيات جنيف عام ،1949 وبخاصة الاتفاقية الرابعة وملحقها البروتوكول الأول لعام 1977 حول “حماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة”، وحتى بعد صدور رأي استشاري من محكمة العدل الدولية يقضي بعدم شرعية بناء الجدار، فإن “إسرائيل” لم تكترث لأي رأي قانوني دولي، كما أنها لا تحترم قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة أو قراراتها.
ولعل عدوانها على غزة واستخدامها الأسلحة المحرمة دولياً بما فيها الفوسفور الأبيض، باعتراف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، يعيد الى الأذهان الارتكابات السافرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، الأمر الذي يجدد مرة أخرى موضوع الملاحقة القانونية للمرتكبين “الإسرائيليين” والآليات المتاحة لذلك ويجعلها أكثر راهنية وإلحاحاً.
وإذا كان موقف “إسرائيل” مفهوماً، ولكن غير المفهوم هو مواقف الدول العربية، باستثناء الأردن وجيبوتي وجزر القمر التي لم تصدّق على نظام المحكمة الجنائية الدولية، كما لا تزال ثماني دول عربية خارج نظام التوقيع، أليس في الأمر غرابة أو مفارقة أو التباس، بل وعدم قدرة على فهم طبيعة الصراع الدولي، وبالتالي إيجاد مواقف متوازنة، منسجمة مع التطور الدولي من جهة ومن جهة أخرى، حماية مصالح دولنا وشعوبنا والاستعداد للتعاطي مع المتغيرات والمستجدات، وتوظيفها بشكل مناسب خدمة للمصالح العربية والإسلامية العليا؟
وتظل هذه المسألة تثير تساؤلات كبيرة حول جدية الحديث عن العدالة الدولية بالنسبة للعديد من البلدان العربية، وهو الأمر الذي أعيد طرحه ما بعد العدوان على غزة. ولذلك ظل التفكير في إقامة نظام قضائي دولي يؤمن محاكمة مرتكبي الجرائم على نحو قانوني أمر في غاية الأهمية، مع أنه مسألة صعبة المنال في الوقت الحاضر، لاسيما في ظل هيمنة الولايات المتحدة على القرار الدولي، رغم أنها ليست مستحيلة، لكن حلم العدالة الدولية يبقى قائماً طالما هناك انتهاك للحقوق وتجاوز على الحريات، من منظور العدالة الدولية، وهو ما كان موضوع حديث معمّق ومهني في إطار ندوة أقامها مركز الدراسات القانونية والقضائية في الدوحة مؤخراً، لبحث آليات وسبل ملاحقة مرتكبي الجرائم “الإسرائيليين”، والذي هو بحاجة الى جهد جماعي ومعرفي متخصص وباحثين متفرغين ودعم مادي ومعنوي وإشراك منظمات المجتمع المدني، واستراتيجية طويلة المدى على جميع المستويات السياسية والقانونية والدبلوماسية والإعلامية وغيرها.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البحرين و الوطن الأم !
-
لماذا لا تلجأ “إسرائيل” إلى القضاء الدولي؟
-
كلمات عتب مملح إلى منظمة العفو الدولية
-
كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً!
-
انهاء الاحتلال عسكرياً او تعاقدياً يتطلب تعهداً من الدول دائ
...
-
الطيب صالح.. شرق غرب
-
لا بدّ من بغداد ولو طال السفر
-
ما الذي تبقّى من “اليسار الإسرائيلي”؟
-
حصاد غزة والبروتوكول الأمريكي - “الإسرائيلي”
-
أطياف روزا الحمراء : ماركسية واغتراب!
-
محاكمة منتظر الزيدي ولحظة الحسم
-
عبدالحسين شعبان: خمسة خيارات لمقاضاة مسؤولي إسرائيل
-
بروموثيوس و متحفية الماركسية!!
-
ثلاثة مخاطر أساسية تهدد الإعلاميين! (2-2)
-
السفير مختار لماني والمواطنة العراقية!
-
قمة الكويت والمجتمع المدني
-
الأكاديميون العراقيون: أليس في الصمت شيء من التواطؤ؟
-
ثلاثة مخاطر أساسية تهدد الإعلاميين!
-
غزة من شارون إلى أولمرت: حسابات الحقل والبيدر!
-
عملية «الرصاص المنصهر»: غزة و«الثأر المبرر»!
المزيد.....
-
الجنائية الدولية تصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو وجالانت لارتكا
...
-
الجنائية الدولية تصدر أمر اعتقال بحق قائد كتائب القسام محمد
...
-
حيثيات تاريخية لإصدار أمر اعتقال نتنياهو وجالانت لارتكاب جرا
...
-
وزيرة إسرائيلية تصف مذكرات الاعتقال الدولية الصادرة ضد نتنيا
...
-
بن غفير يدعو إلى فرض السيادة على الضفة الغربية ردا على مذكرا
...
-
قيادي لدى حماس: مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت تؤكد أن العدال
...
-
المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ويوآ
...
-
المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الجنائية الدولية: توجيه تهم ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية ل
...
المزيد.....
-
التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من
...
/ هيثم الفقى
-
محاضرات في الترجمة القانونية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة
...
/ سعيد زيوش
-
قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية
...
/ محمد أوبالاك
-
الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات
...
/ محمد أوبالاك
-
أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف
...
/ نجم الدين فارس
-
قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه
/ القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ اكرم زاده الكوردي
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ أكرم زاده الكوردي
-
حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما
...
/ اكرم زاده الكوردي
المزيد.....
|