|
سجون الثقافة العربية السجن الأول : الثقافة الدينية السامة.
طارق حجي
(Tarek Heggy)
الحوار المتمدن-العدد: 2587 - 2009 / 3 / 16 - 09:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سجون الثقافة العربية السجن الأول : الثقافة الدينية السامة.
يهدفُ هذا المقال الطويل لأن يضع أمام القارئ المعني بأمر الإسلام السياسي حقيقة أن الجناح الأكثر تشدداً بين المتأسلمين لا يكف عن محاولةِ الإطاحةِ بكل الأجنحة الأكثر وسطية وإعتدالاً داخل عالم المتأسلمين ، ناهيك عن عداءه غير القابل للإنحسار لغير المسلمين كافة. عندما هزم الإتحاد السوفيتي في أفغانستان بعد قرابة عشر سنوات من الحرب بين المجاهدين والسوفيت الذين غزو أفغانستان في أَواخر السبعينات ، تمكن الجناحُ الأكثر تشدداً على الإطلاق من تصفية باقي الأجنحة وإنتهت أفغانستان لقمةً سائغةً في فم طالبان والملا عمر. وفي إيران (منذ 1979) أسفر الصراع بين المتشددين والمعتدلين بعد ربع قرن عن تقدم كبير للمتشددين وتأخر كبير للمعتدلين. وكانت آخرُ حلقات تقدم المتشددين متمثلة في فوز أحمدي نجاد بمنصب رئيس الدولة – وهو رجل بالغ التشدد انتخبه ناخبون بالغو التشدد أيضاً. ولكنني أُريد هنا أن أعطي القارئ صورة أكثر وضوحاً عن حقيقة أن الجناح الأكثر تشدداً في عوالم المتأسلمين لا يكف عن محاولة طرد وتصفية الأجنحة الأخرى المعتدلة والوسطية (والإعتدال هنا نسبي أي بالنسبة لذروة التشدد وليس بالنسبة للآراء العصرية ومفاهيم وقيم المجتمعات المتقدمة).
في سنة 1744 أسس رجلان هما الداعية محمد بن عبد الوهاب وقاضي الدرعية محمد بن سعود الحقبة السعودية الأولى والتي إستمرت حتى دمرها إبراهيم باشا ابن محمد علي مؤسس مصر الحديثة سنة 1819. وقد قامت الدولةُ السعودية الأولى على آراء ومفاهيم للإسلام بالغة التشدد تستبعد كل مدارس الفقه الإسلامي (مثل المذهب الحنفي والمالكي والشافعي وفقه الشيعة وأهمه فقه جعفر الصادق وسائر المذاهب الفقهية الأخرى) بإستثناء الخط الواصل ما بين الفقيه ابن حنبل والداعية محمد بن عبد الوهاب مروراً بابن تيمية وابن قيم الجوزية. وكان العداءُ للعالم الخارجي (عن نجد) من أبرز معالم هذه الحقبة. وكذلك العداء السافر المبالغ فيه لكل مظاهر التغيير عن الحياة النجدية. وقد ظل الحلفُ السعودي/الوهابي خارج السلطة منذ دمر إبراهيم باشا "الدرعية" عاصمة الوهابين (1819) حتى ليلة 15 يناير 1902 عندما تمكن الأميرُ الشاب عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن سعود (بعد هروبه سراً من منفاه في الكويت وتسلسله في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر الربع الخالي) من السيطرة على الرياض – بادئاً رحلة تأسيس الدولة السعودية الثالثة. وخلال الفترة من 1819 إلى 1902 قامت دولة سعودية ثانية لفترة وجيزة انتهت بهزيمة السعوديين (وقائدهم فيصل بن سعود الجد المباشر لعبد العزيز بن سعود) في أوائل العقد الأخير من القرن التاسع عشر وتحول الحكم إلى آل الرشيد ، وإضطرار آل سعود للهجرة إلى منفاهم في الكويت. وبإختصار ، فإن الأميرَ الشاب عبد العزيز بن سعود (والذي كان في السادسة والعشرين عندما استولى على الرياض بادئاً تأسيس الدولة السعودية الثالثة) شرع في توسعة نطاق دولته. وخلال السنوات من 1902 وحتى تمام استيلاءه على الحرمين الشريفين باستسلام المدينة المنورة في 5 ديسمبر 1925 كان حلم عبد العزيز بن سعود قد وصل (جغرافياً) إلى أقصى مداه. وقد شهدت السنوات من 1902 إلى 1925 العديد من الحروب والتحالفات والصراع الشرس. وخلال تلك السنوات كان عبد العزيز بن سعود يعتمد على ثلاثة أمور أساسية: على جنود متعطشين للقتال تعطشاً لا نظير له ومستعدين للموت إستعداداً يصعب مضاهاته. ثم على حكمته وحنكته وبعد نظره وقدراته نادرة التكرار. وثالثاً وأخيراً على بريطانيا التي كانت اللاعب الدولي الأول والأكبر والأقدر في هذا المكان في هذا الزمان. أَما جنودُه المتعطشون للقتال بشراسة المستعدون للموت دون ذرة تردد فكانوا هم الجماعة التي عُرفت باسم "الإخوان" والذين لا يختلف المؤرخون لتلك الفترة على أن عبد العزيز بن سعود ما كان له أن يتحول من أمير لمدينة الرياض فقط يوم 15 يناير 1902 إلى سلطان نجد والحجاز (فعلياً) منذ 5 ديسمبر 1925 بدونهم وبدون تعطشهم نادر المثال للقتال وللموت في آن واحد.
كان "الإخوان" من أشد المسلمين كراهية للأجانب (ويسمون عندهم كلهم بالكفار) ومن أشد البشر كراهية لكل مظاهر المدنية مثل التليفون والسيارة والإذاعة بل وكانوا يعتبرون إرتداء عباءة مذهبة الأطراف بدعة وكفر ومروق عن الإسلام. تركهم عبد العزيز بن سعود دون صدام معهم طيلة فترة إحتياجه لهم (حتى ديسمبر 1925). ولكن بعد أن أدرك أن حلمه لن يتجاوز ما تحقق قيد أَنمله: فبريطانيا لن تسمح له بالإستيلاء على الأركان المائية الأربعة للجزيرة العربية (الكويت ، عمان ، اليمن وما هو الآن الأردن) .. كما لن تسمح له بإسقاط عرشى الأخوين فيصل (في العراق) وعبد الله (في شرق الأردن) (ابنى آخر شريف لمكة التي تركها في سنة 1925 لتسقط في يد عبد العزيز بن سعود والوهابيين) أصبح عبد العزيز في مواجهة لا يمكن تجنبها مع "الإخوان".
كان الإخوان يكرهون الأجانب. وكان عبد العزيز بن سعود قد أخذ في إحاطةِ نفسهِ بالعديد من البريطانيين إدراكاً منه أن خيوط اللعبة كلها في يد بريطانيا. وكان من أقرب مستشاريه رجل المخابرات البريطانية "جون فيلبى" وكذلك الكولونيل شكسبير كما قرب إليه كثيرين مثل محمد أَسد (يهودي بولندي اعتنق الإسلام وكان مقرباً للغاية من عبد العزيز بن سعود) والكاتب اللبناني الماروني أمين الريحاني وعدد من المصريين مثل حافظ وهبه الذي أصبح سفيراً للسعودية في لندن .. وغيرهم. وقد شعر "الإخوان" أن في وجود هؤلاء على أرض الجزيرة إهانة للإسلام (وهو ما كرره اسامة بن لادن بعد ذلك بعقود). كذلك شعر الإخوان بالحنق من قرار عبد العزيز بن سعود بإيقاف القتال. فهم (حسب مذهبهم) لا يعرفون لنهاية القتال وقتاً قبل إدخال كل أهل الأرض في الإسلام. وثالثاً ، شعر الإخوان بالذهول عندما قال كبارُهم أن عبد العزيز قد تغيّر ، فقد تحرك (في سنة 1925) من الرياض إلى مكة على ظهر جمل ، وعاد من مكة إلى الرياض بعد استيلاءه على المدينتين المقدستين في سيارة – وهي بدعة لا يمكن للإخوان قبولها. وبدأت المشاحناتُ بتمزيق "الإخوان" لخطوط الهاتف وتكفيرهم لوجود الأجانب (الكفار!) على أرض الجزيرة وحربهم ضد التليفون والسيارة والكهرباء ثم الراديو (الذي كانوا على يقين أن الشيطان يسكنه). وهكذا ، أصبح من المحتم على عبد العزيز منذ أوائل 1926 وبعد أن أصبح سلطاناً لنجد والحجاز أن يدخل في مواجهة مع الذين كان منذ سنوات يقول أنهم أبناؤه وجنده. وتصاعدت المواجهةُ إلى حرب وقتال انتهى بإنتصار قوات عبد العزيز بن سعود وهزيمة الإخوان بقيادة فيصل الدويش (مع نهاية عشرينيات القرن العشرين).
ولكن نظراً لأن الحلف القديم (حلف 1744 بين ابن عبد الوهاب وابن سعود) كان سارياً في كل أنحاء جسد الدولة السعودية الثالثة ، فإن "عقلية الإخوان" لم تنته بهزيمة قواتهم بقيادة فيصل الدويش أمام قوات عبد العزيز بن سعود. وإنما تحولت إلى تيارين: - تيار مهادن على السطح وموجود داخل النظام (يذكر Robert Lacey في كتابه الهام – بإلإنجليزية – "المملكة – العربية وبيت سعود" أن أحفاد محمد بن عبد الوهاب الذين أصبح لقبهم "آل الشيخ" والذين يمثلون أحد أربع عائلات تحكم المملكة يحتكرون مناصب وزير التعليم العالي ووزير العدل ووزير الحج ووزير الزراعة إلى جانب وزارات أخرى ومناصب عليا محجوزة لهم في الشرطة والجيش). - تيار لم يتنازل عن "ذرة" من ذهنية الإخوان الذين حاربهم عبد العزيز بن سعود وهزمهم مع نهاية عشرينيات القرن العشرين. وهؤلاء أصبحوا حركة سرية أو حركة من حركات تحت الأرض. وظلت هذه الحركة تبرز من حين لآخر. ومن أمثلة بروزها معارضتها لإفتتاح ثانويات للبنات معارضة انتهت بقتل الشرطة لأحدهم في ستينيات القرن العشرين وكان ابن أخ الملك الذي كان يحكم وقتها (فيصل). وقد قام شقيق القتيل بعد عشر سنوات بقتل عمه الملك فيصل (في 1975). وكانت أكبر أمثلة ظهور هذا التيار كانت في مرتين: - الأولى: عندما استولى رجال من أفراد هذا التيار على الحرم المكي (الكعبة) مع بداية القرن الهجري الخامس عشر (منذ ربع قرن) واستمروا في قتال مع القوات السعودية المدعومة بالقوات الفرنسية لفترة غير وجيزة. - والثانية: عندما تكون من هؤلاء (ثم من آخرين من بلدان إسلامية أخرى) تيار المجاهدين في أفغانستان والذي عاد بعد ذلك ليكفر الدولة السعودية لسماحها لقوات كافرة بالتواجد على ترابها عقب غزو صدام حسين للعراق (2 أغسطس 1990). - وقد اندمجت ذهنية هؤلاء مع فكرة الحاكمية الوافدة من مصر (القطبية كما يسميها الدارسون الغربيون اليوم) وكونوا معاً ما يعرفه العالم اليوم بالقاعدة. والرسالة التي آمل إيصالها لذهن القارئ هي أننا أمام فصيل داخل عالم المسلمين المعاصر لا يعود فقط لإتفاق سنة 1744 بين ابن عبد الوهاب وابن سعود (وإن كان هذا الإتفاق هو بداية المرحلة الحالية لهذا الفصيل) وإنما وجد من البداية (الحركات السرية في الإسلام – مثل القرامطة الذين خطفوا الحجر الأسود وغيرهم ممن كتب عنهم بابداع صديقي المؤرخ الكبير الدكتور محمود اسماعيل عبد الرزاق). ولكن هذا الفصيل كان دائماً فصيلاً هامشياً يوجد نظيره في كل الأديان. ولكن هذا الفصيل وجد خلال نصف القرن الأخير اسباباً أغرته بأن يتقدم الصفوف ويقدم نفسه وكأنه (الإسلام). وكانت أهم هذه الأسباب هي: - تدهور كافة مستويات المجتمعات المسلمة صاحبة التاريخ الطويل من تقديم الإسلام الوسطي المعتدل مثل مصر وسوريا والعراق والمغرب - وقد شمل التدهور كل جوانب الحياة من سياسية إلى إقتصادية إلى إجتماعية إلى ثقافية إلى تعليمية كما شمل التدهور المؤسسات الإسلامية بهذه المجتمعات. - جريمة استعمال الولايات المتحدة لهذا الفصيل في ظل ظروف الحرب الباردة في أكثر من مكان (من اليمن في ستينيات القرن العشرين إلى أفغانستان بعد ذلك بعشرين سنة). - ثم ثالثاً: سطوة البترودولار والتي مكنت هذا الفصيل من نشر ذهنيته وتسويقها في سائر أرجاء العالم من خلال إنشاء المراكز والمعاهد والمدارس الإسلامية ومن خلال المطبوعات وشراء الإعلام والكثير من المؤسسات الإعلامية والثقافية والتعليمية. وأخيراً .. فماذا سنفعل لوضع الأمور في نصابها .. والدفاع عن إسلام قدمناه (أي المجتمعات الإسلامية ذات الماضي الحضاري في مصر وسوريا والعراق والمغرب) لقرون كان خلالها يتسم بالإعتدال والوسطية والتعايش مع الآخرين؟
فقد شهد المسلمون في الماضي مجتمعات شاع فيها التسامح (خارج الجزيرة العربية) في مصر وسوريا والأندلس والمغرب العربي؛ و هوإسلام كان وديعاً (بشكل نسبي و بمعايير العصور التي كان فيها) و قابلاً للتعايشِ مع الآخرين، بل ووفر لمعظم الآخرين في ظلِ الدولةِ العثمانيِة حمايةً لم تحظ بها أقلياتٌ مماثلةٌ في نفسِ الزمن في أي مكانٍ آخرٍ: فقد عاش مسيحيو الشام ويهود البلاد العربية في ظلِ الدولةِ العثمانيِة في ظروفٍ تشبه ظروف المسلمين في معظمِ الأحوال. وحتى عندما كانوا يتعرضون لفتراتٍ من البطشِ، فإن ذلك كان يحدث في فتراتٍ كان يُبطش فيها بالجميع (الحاكم بأمر الله مثلاً). وكما يقول برنارد لويس ، فإن اليهود لعبوا أعظم أدوارهم في التاريخ مرتين:
• مرة في ظل المسلمين (قديماً). • ومرة في ظل المسيحيين (حالياً).
مقارنةُ أحوالِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ اليوم بأحوالها منذ قرنٍ تؤكد أن "ذهنيةَ العنفِ" قد تفاقم وجودُها في هذه المجتمعاتِ. إلاِّ أن الدقةَ في التحليلِ تُملي علينا أن نقول أنه رغم شيوعِ "ذهنيةِ العنفِ" في بعضِ قطاعاتِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ (وليس في كلهِا) فإن "ثقافةَ ذهنيةِ العنفِ" (وليست "ذهنية العنف" ذاتها) هي التي إنتشرت هذا الإنتشار الكبير في قطاعاتٍ كبيرةٍ بعددٍ من المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ. وهذا المناخُ الثقافي العام هو الذي يفرز جنوداً لذهنيةِ العنفِ وللثقافةِ العامةِ لذهنيةِ العنفِ. لقد وجد دائماً أمثال المودودي وسيد قطب وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري ومصعب الزرقاوي في التاريخ الإسلامي ولكنهم كانوا أقليةً.
والمشكلة اليوم ، أن دائرة الأقلية إتسعت وأصبح لها من المؤيدين والمتعاطفين أعداداً هائلة. لماذا ؟... ببساطة لأن "الإسلامُ" هو أحد أقوى المؤثرات على "ثقافة" و"عقل" و"طرائق حياة وتفكير وآراء وردود أفعال" عدد كبير من المسلمين.. ولكن يبقى السؤال المهم هو: ما المقصود بالإسلام؟
• النصوص؟ • أم فهم الناس للنصوص؟ • الفقه الإسلامي؟ • وأي مدرسة من مدارس الفقه الإسلامي؟ • التجربة التاريخية؟ • وأية تجربة من التجارب التاريخية؟ • ويضاف أيضاً: وأي إسلام؟ • الإسلام حسب فهم الأمويين؟ .. أم العباسيين؟ • الفقه الإسلامي حسب فهم أبي حنيفة أم حسب فهم مالك أم حسب فهم الشافعي أم حسب فهم ابن حنبل ورجاله (ومنهم ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن الدعاة محمد بن عبد الوهاب)؟ .. أم الفقه الإسلامي حسب فقه الإمامية (وأبرزه فقه جعفر الصادق) أم حسب فقه الخوارج (بفرقهم الأربع وأهمهم الخوارج الإباضية)؟ وهل التجربة التاريخية الإسلامية واحدة؟ .. أم أن ما كان في دمشق الأموية يختلف كثيراً عما كان في بغداد العباسية؟ .. وكلاهما جل مختلف عن تجربة تاريخية أخرى في الأندلس شهدت تآخٍ فريد بين المسلمين واليهود وكان من أكبر عقول تلك الحقبة مسلم عظيم هو ابن رشد ويهودي عظيم هو موسى بن ميمون؟ الحقيقة ، أن النصوص في حد ذاتها لا تدل على كثير بدون "نوعية" و"عقل" و"آفاق" الإنسان الذي يتعامل معها، ويرجعُ كل ذلك (في تصوري) لخمسةِ أَسبابٍ أَساسيةٍ هي الإستبداد السياسي (ذيوع الأوتوقراطية أو إنتفاء الديمقراطية) ثم الإنتشار الكبير لثقافة الفهم الوهابي للإسلام (مقابل إنكماش وتراجع كبيرين لثقافة الإسلام غير الوهابي والتي كانت عبر قرون هي التيار الأساسي) ثم إنتشار القيم القبليةِ التي شاعت مع ثقافة الفهمِ الوهابي للإسلام. وأما السببُ الرابع فهم نظم التعليم منبتة الصلة بالعصرِ وخامساً الفساد العارم والذي هو نتيجةٌ منطقيةٌ وحتميةٌ للإستبدادِ السياسي. إذ أن مجتمعات الإسلام القابل للحياة مع البشرية (مصر وسوريا والمغرب العربي قديماً) قد تدهورت مستوياتُها تدهوراً كبيراً (سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً وتعليمياً) في ظل الإستبداد والفساد والطغيان ، حتى إنفتحت جبهاتها واسعة (مستسلمة) أمام التيار الوافد من نجد.
الفصل الأول إنبعاث المارد
١ أما الإستبدادُ السياسي فإنه ينتجُ آثاراً سلبيةً عديدةً أكثرها خطراً هو "قتل الحراك الإجتماعي" بمعنى توقف حركةِ صعودِ أفضلِ أبناءِ وبناتِ المجتمعِ للمقاعدِ القياديةِ في شتى المجالاتِ ووجودِ سلطاتٍ إستاتيكية وصل إليها من وصل عن طريقِ قبولِ (بل ودعمِ) الإستبداد وإبداء الولاء. وإذا كان الإستبدادُ يؤدي لقتلِ الحراكِ الإجتماعي ، فإن هذا الأخير (قتل الحراك الإجتماعي) يؤدي لشيوعِ عدمِ الكفاءةِ في كلِ المجالاتِ. فالإستبدادُ يأتي بالأتباعِ (The Followers) ولا يأتي بالأكفاء (Competent The) – وهكذا ، فكما أن الإستبدادَ يقتل الحراكَ الإجتماعي فإن إنتفاءَ الحراكِ الإجتماعي يشيع عدمَ الكفاءةِ في كلِ القطاعاتِ والمجالاتِ. وشيوع عدم الكفاءة يثمرُ (لا محالة) مُناخاً عاماً عامراً باليأسِ – ومن مُناخِ اليأس تنبثق ذهنيةُ العنفِ ناهيك عن إنخفاضِ معنى الحياةِ الإنسانيةِ كقيمةٍ – سواء كانت حياة الشخص نفسه أو حياة الآخرين. وقد قادني الإنشغال بشئونِ المجتمعاتِ العربيةِ والإسلاميةِ لأن أرى بوضوحٍ المعادلةَ التي أُسميها "معادلة التدمير": الحكم الأوتوقراطي يؤدي لوقف الحراك الإجتماعي .. وقف الحراك الإجتماعي يقضي على الكفاءةِ في سائرِ مجالاتِ المجتمعِ .. القضاء على الكفاءةِ في سائرِ مجالاتِ المجتمعِ يولد طاقةً شريرةً عملاقةً هي "اليأس" .. طاقةُ اليأسِ تفرز ذهنيةَ العنفِ وإسترخاص الحياة الإنسانية وتولد رغبات هائلة في الإنتقام.
١.1 خضعت مجتمعاتٌ إسلاميةٌ خلال العقودِ الأخيرةِ لأشكالٍ مختلفةٍ من "الطغاةِ" الذين حكموا بلدانهم بيدٍ من حديدٍ وفي ظلِ أتوقراطيةٍ واسعةٍ أدت في كثيرٍ من الأحوال إلى "مسلسل التداعي" الذي وصفته من قبل وهو: إستبداد يلغي الحراك الإجتماعي .. إنعدام الحراك الإجتماعي يشيع عدم الكفاءة في كل المجالات .. ظاهرة عدم الكفاءة عامة تؤدي لإنهيار في كلِ المستوياتِ يولد شعوراً باليأس والغضب ومنهما تنبت "ذهنيةُ العنفِ" لاسيما وأن غير الإكفاء (The non-competent) يجعلون منظومةَ التعليم عاملَ تدهور إضافي لكافة المستويات. وفي كل تلك المجتمعات ما أن تحدث متغيرات تجعل الطاغية يسقط (سوهارتو في إندونيسيا .. صدام حسين في العراق) حتى يبرز على سطحِ الحياةِ العامةِ فجأة رموزُ الفهمِ الوهابي للإسلام وهم يطرحون أنفسهم بمثابة "المخلص"! وينخدع البعض ويقولون: أن هؤلاء هم القوة السياسية الوحيدة التي تفرزها هذه المجتمعات. والخطأ هنا مركب: فالذي أفرز هؤلاء هم "الطغاة" و"طرائق حكمهم الأتوقراطية" التي قتلت الحراك الإجتماعي ومنعت نمو المجتمع المدني وعممت "عدم الكفاءة" وجعلت دنيا السياسة مكونةً من أفقين: أفق فوق الأرض (وعليه الطغاة وأركان نظمهم فقط) وأفق تحت الأرض (وفيه رموز الفهم الوهابي والذين أصبحوا متدربين أفضل تدريب على النمو تحت الأرض في ظل السرية والمطاردة) .. وما أن ينزاح الطغاة حتى تبرز القوى السياسية الوحيدة التي كانت قائمة (تحت الأرض) وفي ظل إنعدام المجتمع المدني وإختفاء الحراك الإجتماعي وشيوع عدم الكفاءة ، فإن المسرح يكون معداً لفريق جديد من الطغاة سيكونون طغاةً وغيرَ أكفاءٍ في آنٍ واحدٍ .. وسيأخذون مجتمعاتهم لدرجاتٍ أشد إنحداراً من التأخرِ والتخلفِ والبعدِ عن معادلةِ التقدم والحداثة والإستغراق في مشكلاتٍ إجتماعيةٍ لا حصر لها. وبإختصارٍ: فإن طغاةَ ما فوق الأرض وطغاة تنظيمات تحت الأرض على السواء من ثمار المعادلة التي أعود لها هنا المرة تلو المرة: نظام سياسي أتوقراطي (إستبدادي) يشل الحراك الإجتماعي ، فيسود غير الإكفاء في كل المجالات ، فتنخفض كل المستويات ، فيشيع اليأسُ وتنبثق وتستفحل ذهنيةُ العنفِ ولا يكون بوسع مؤسستي "التعليم" و"الإعلام" إصلاح تلك التراجيديا ، لأن هاتين المؤسستين قد فسدتا أيضاً على يدِ غير الإكفاء . وإذا قال قائلٌ: لماذا لا ينتشر إلاِّ هذا النموذج كلما سقط طاغية في مجتمع إسلامي أو عربي .. كان الجدير بنا أن نقول له "إن الذي إنتشر هو اليأس الذي هو الثمرة الطبيعية لنظمِ حكمٍ أتوقراطيةٍ لم تبق أحداً فوق الأرض – ولم يعش في ظلها إلاِّ لك المارد "تحت الأرض" .. والعلاج الوحيد يبدأ من بداية السلسلة لا من نهايتها.
۱.2 خلال السنواتِ ما بين 1967 و 1973 (وهي سني دراستي لدرجتي الليسانس في الحقوقِ والماجستير في القانون العام والمقارن) تعرفتُ معرفةً مبدئيةً على "علمِ أُصولِ الفقه". وفي سنواتٍ لاحقةٍ (كنت أقوم خلالها بالتدريس بجامعاتٍ بالخارجِ) عكفتُ على دراسةٍ واسعةٍ لعلمِ أُصولِ الفقه – وخرجتُ عن دائرةِ المذاهبِ السنيِة الأربعِة لشتى مذاهبِ الفقه الشيعي (وأهمها فقه الأمامية) ولسائرِ مذاهبِ فقه الخوارج بفرقهم الأربع الرئيسية (وأهمها فقه الإباضية الذائع في منطقةٍ صغيرةٍ بالجزائر وفي معظمِ سلطنِة عُمان) ومدارسٍ أُخرى في الفقه إندثرت (مثل فقه الطبري صاحب التفسير المشهور باسمه وفقه الليث). وقد أخذني التوغلُ في دراسِة أُصولِ الفقه لعوالمٍ أُخرى لصيقة الصلة بهذا المجال لعل أهمها "علم الكلام" (أو الفلسفة الإسلامية) – إذْ أَوغلتُ في مطالعةٍ متأنيةٍ لما أبقاه الزمنُ من آثارِ المعتزلِة والأشاعرِة …كما كان لصديقٍ مقربٍ (هو الدكتور محمود إسماعيل) أثر كبير في تعريفي على عوالمِ ما يُسمى بالفرقِ الباطنيةِ في التاريخ الإسلامي (وهذا الصديق من أكثر من قرأت له تعمقاً في فكرِ الخوارجِ والقرامطِة وعددٍ كبيرٍ من الفرقِ السريِة "حسب تسميته" في تاريخ المسلمين). فابن رشد يتعامل مع النصوص بطرائق جد مختلفة عن طرائق تعامل ابن تيمية والمودودي وسيد قطب معها. فمجرد التعويل على نص دون آخر ، أداة هدم يمكن أن يستعملها الآخرون. فالدارس الموضوعي للتوراة والتلمود (ولاسيما التلمود البابلي "الجمارة") ، لا يسمح لنفسه بأن يقف عند كلمات قالها يشوع بن نون في موقف معين ذي إطار تاريخي وزمني ومكاني محدد. ولا يستطيع أن يتخذ من "الصداق" (المهر) الذي طلبه الملك شاؤول من داود بن يسي البيتلحمي (الملك داود عند اليهود والنبي داود عند المسلمين) ليزوجه من ابنته ميكال دليلاً على شئ في غير إطاره التاريخي ، بمعنى أنني لا أستطيع أن أقتطفُ نصاً أو نصوصاً كهذه وأعدو بعيداً مشهراً بها على الآخرين بمعزل عن الإطار التاريخي والإنساني والمرحلي للنص.
وبإختصار ، فإنه من المؤكد أنه ليس هناك فهم واحد للإسلام ، وإنما عشرات الأشكال والأنواع. فهناك من يرفض معظم الأحاديث النبوية ولا يقبل منها إلاِّ عشرات (مثل أبى حنيفة النعمان) وهناك من يقبل في كتابه "المسند" عشرات الآلاف (أحمد بن حنبل).
وهناك من يعتمد مصادراً للفقه غير مصادر غيره (الإستحسان عند الحنيفة والمصالح المرسلة عند المالكية .. إلخ).
وهناك من يتجاوز الآفاق الضيقة للتفسير ويفتح بوابات العقل على ما يسميه "التأويل" (ابن رشد).
وهناك من يسمي عقوبة شرب الخمر (حد الشرب) مثل معظم الفقهاء. بينما هناك من يسميه (حد السكر) مثل أَبي حنيفة القائل عن الخمر (لو أَلقوني في النار ما شربتها .. ولو أَلقوني في النار ما قلت أنها حرام). ۱.2.1 منذ قرنِه الأول عرف الإسلامُ مجموعاتٍ متطرفة بمحاذاةِ تيارٍ عامٍ متوسط وبعيد عن العنفِ والتطرفِ وأُحاديةِ النظرة وإحتكار الحقيقة. فمنذ سنة 660 ميلادية (منتصف القرن الهجري الأول) برزت فرقةُ الخوارج والتي إتسمت بالغلو الشديد في التمسكِ بفهمها للإسلامِ وتكفيرِ من يحيد عن فهمهم هذا. وفي القرونِ التاليةِ ظل الإسلامُ يعرف تياراً عاماً وسطياً (معتدلاً) وتيارات جانبية بالغة التطرف والعنف. وقد أعطى الدكتور محمود إسماعيل عبد الرزاق حياته العلمية وجهده العقلي الفذ لدراسةِ هذه المجموعات المتشددة والتي أطلق عليها تسمية "الحركات السرية في الإسلام" وكتب عن فرقها بحوثاً بالغة العمق وخص مجموعةً منهم بدراسةٍ معمقة وهم القرامطة الذين قاموا بخطف الحجر الأسود وأخذوه لموقعٍ بعيدٍ في شرق الجزيرة العربية لأكثر من قرنٍ من الزمان. وإلى جانب كل تلك التوجهات والمذاهب والفرق - ، هناك متشددون من اليوم الأول وحتى هذه اللحظة: من حمدان بن قرمط الذي خطف الحجر الأسود من الكعبة إلى سكّان كهوف وزيرستان ومروراً بسيد قطب الذي قدم للمسلمين نظرية ستبقى سوراً يفصلهم عن الإنسانية والتقدم حتى يهدم هذا السور ، وأعني "نظرية الحاكمية" والتي فحواها أن البشر لا يحكمون البشر وإنما يحكمهم الله (ويبقى السؤال التراجيدي: ومن سيقول لنا على أحكام الله؟ .. والجواب: "نحن العلماء"!! وهكذا ، نكون سجناء لثيوقراطية تجاوزتها مسيرة التقدم الإنساني ونكون أصحاب أكبر طبقة رجال دين بعد أن كررنا مراراً (أنه ليس في الإسلام طبقة رجال دين) ناهيك عن مأساة (وملهاة) تسمية رجال الدين بالعلماء! (أحد هؤلاء العلماء قال ذات يوم غير بعيد (في صيف 2005) رداً عن سؤال: "من هو Bill Gates – قال: "لا أعرف .. وليس من المهم أن أعرف" (وهي إجابة تلخص العزلة والإنفصال عن الإنسانية ومسيرة التمدن).
وإلى جانب التيارات التي كانت تُغالي في التطرفِ والحرفية وإيجاد قواعدٍ تفصيليةٍ لكل أُمورِ الحياة، كان هناك التيار العام والذي يمكن تلخيصه في المذاهب السنية الرئيسية (وأهمها مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعي ومذهب أحمد بن حنبل ومذاهب أخرى اندثرت مثل مذهب الليث ومذهب الطبري) وكذلك المذاهب الشيعية العديدة (وأشهرها الإمامية). وداخل التيار العام كان هناك من يفسح مجالاً للعقل (الرأي) مثل أبي حنيفة الذي لم يقبل من الأحاديث النبوية إلاَّ أقل من الأحاديث الواردة بصفحة واحدة من صحيح البخاري - وهو ما يفسح المجال للرأي. وفي المقابل كان هناك مذهب أحمد بن حنبل الذي يضم كتابه (المسند) أكثر من عشرة آلاف حديث ؛ وهو ما لم يترك شيئاً بدون تنظيم وهو ما يجعل النقل هو السائد والعقل هو الغائب. ولتيار أَحمد بن حنبل ينتمي فقيهان آخران هما ابن تيمية وابن قيم الجوزية وهما مثل أَحمد بن حنبل لا يتركون مساحة تذكر للعقل والرأي وإنما لديهم أحاديث تنظم شتى جوانب الدين والدنيا بكلِ تفاصيلِها. ويضاف لذلك أن العقلَ الإسلامي واجه ما يشبه المعركة بين أبي حامد الغزالي والذي لا يؤمن بأن العقلَ قادرٌ على إدراك الحقائق وبين ابن رشد أكثر مفكري العرب إعلاءً لشأن العقل ؛ وهو ما يتضح من التناقض الواضح بين آراء الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) وآراء ابن رشد في كتابه الفذ (تهافت التهافت). والخلاصة أنه في عالم الفقه (وهو عمل بشري محض) فقد كان التوسع للمدراس التي تحبذ قبول آلاف الأحاديث عن إِعمال الرأي؛ وبمحاذاة ذلك ففي عالم الفكر ( علم الكلام بلغةِ العرب في ذلك الزمان والفلسفة بلغةِ العصر) فقد كانت أيضاً الغلبة لمدارس النقل والحدس (الغزالي) وقلة أثر مدرسة العقل (ابن رشد) (وإن كان الأوروبيون هم الذين إستفادوا من طروحات ابن رشد). وخلال رحلةٍ إستغرقت نحو عشرين سنة تكوّن لدي نفورٌ قويٌ من الذين أُسميهم "عبدة الحرف" و "أسرى النقل" ؛ كما تكون لدي ولعٌ شديدٌ بأصحابِ العقلِ وفي مقدمتهم "إبن رشد" الذي إستفادت منه أوروبا وخسرناه نحن (وخسرنا معه فرصةً تاريخيةً للتقدمِ). ورغم مطالعتي المدققة لكلِ آثارِ ابن تيمية وأعلام مدرسته (من ابن قيم الجوزية إلى محمد بن عبد الوهاب في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي) – فلم تزدن تلك المطالعةُ إِلاَّ نفوراً من هذا التيارِ الكاسحِ وفي نفسِ الوقتِ زاد ولعي من جهةٍ بالمعتزلةِ ومن جهةٍ أُخرى بمن قطعوا رحلةً طويلةً على "دربِ العقلِ" مثل ابن سينا والفاربي …ثم بإمامِ أهلِ العقلِ قاطبةً "ابن رشد". وكنتيجةٍ لتلك الصورة العامة فقد عرف المسلمون نمطين لفهم الإسلام: نمط متشدد شديد الغلو في التحريم والتجريم والتنظيم ، ولم يكن هذا النمط موجوداً إلاَّ في الفرق السرية (وهى قليلة في عِددها وأثِرها) وفي المناطق البدوية بالجزيرة العربية. أما الأماكن الأكثر إزدهاراً عقلياً وذات الجذور الحضارية العريقة مثل مصر والعراق وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع فقد ساد فيها فهم للإسلام يتسم بدرجة عالية من المرونِة والتسامحِ وقبولِ الآخر وعدم تكفير أصحاب الرؤى المختلفة. إن النصوص الإسلامية تحتمل كل التفسيرات. وقد قالها أوائل المسلمين منذ ألف وأربعمائة سنة عندما كرروا (القرآن حمّال وجوه). والعبرة ليست بالنص (أي نص) وإنما بمن يقرأ ويفهم ويقدم النص.
وعندما كنتُ أعكف على مطالعة أَعمالٍ للغزالي مثل (إحياء علوم الدين) و(معيار العلم) و(معيار العمل) و(المنقذ من الضلال) و (المستصفى من علم الأصول) و (تهافت الفلاسفة) وأُقارن قدر ما بها من "بُعد عن العقل" وما بكتابات ابن رشد من "ثقل عقلاني هائل" كنت أُذهلُ: كيف نالت كتاباتُ "الغزالي" كل هذا التقدير(المبالغ فيه إلى أبعد الحدود) وكيف نالت كتابات "ابن رشد" كل هذا التجاهل (المبالغ فيه إلي أبعد الحدود): ويكفي أَن يعكف قارئٌ جادٌ على مطالعةِ كتابِ (تهافت الفلاسفة) للغزالي ثم يعقب ذلك بمطالعته لكتاب ابن رشد (تهافت التهافت) ليرى البونَ الشاسع في العمقِ وإِعمالِ العقلِ. كذلك ما أكثر ما تساءلت: كيف أخفى مؤرخو الفكر الإسلامي مواقفَ الغزالي المؤيدة للحكام المستبدين بشكلٍ مفرطٍ؟ …وفي المقابل: فقد كان "ابنُ رشد" مصدرَ ألمٍ دائمٍ للحكامِ المستبدين الراغبين في (تنويم العقول) لأن في ذلك الضمانة الكبرى لأمرين: بقاء الأَحوال على ما هي عليه ثم بعدهم عن المسائلةِ، فالعقلُ هو مصدر الأسئلة، والأسئلة تؤدي للمساءلة، وكما يردد صديقٌ من المفكرين المستنيرين: فإن الأسئلة مبصرةٌ – والأجوبة عمياءٌ !
وأكررُ أنه كثيراً ما شغلني هذا السؤَالُ :لماذا إنتصرَ المسلمون لأبي حامد الغزالي (وهو يمثل النقل وتقديس السلف ولا معنى للعلم عنده إلاَّ العلم بالدين ويفتح المجالَ أمام إلغاء العقل كليةً بإنكاره إمكان تحصيل المعرفة (أو إدراكها) بالحواس في مواجهةِ ابن رشد (وهو العامـر بنـورِ العقلِ والزارع لكلِ بذورِ نهضةٍ خسرناها)؟ …ما الذي سهَّل للغزالي هذا الإنتشار، وصعّب على ابن رشـد مثلـه؟ …وقد إستغرقَ الأمرُ سنواتٍ عديدةٍ لأعرف أن العلامةَ الفارقَة كانت هي (الإستبداد). فكيف يمكن لحكامِ المسلمين في زمنِ الغزالي وابن رشد أن يروق لهم فكرٌ إلاَّ فكر الغزالي؟ وكيف لأوروبا التي كانت تحارب معركتها العقلية مع الكهنوت أن تنتصر لأحدٍ كما إنتصرت كليةُ الآداب بجامعةِ باريس في القرن الثالث عشر لأفكارِ ابن رشد؟ …لقد كان الإستبدادُ في عالِمنا سائراً نحو ذروته – فكان الإعجابُ بكتاباتِ من وصل لحدِ إلغاءِ دورِ العقلِ هو الإختيار الواقعي الأمثل. وكان الإستبدادُ في أوروبا قد بدأ يترنح، لذلك فإن قوى التنوير قد نصرت ابن رشد العربي المسلم على توماس الأكويني الأوروبي المسيحي (صاحب نظرية السيفين).
وهكذا يتضح أن " الإستبدادَ" و "الآراءَ المتشددة" و" طغيانَ رجالِ الدين" و "الدعوةَ للحدِ من إستعمالِ العقلِ والإسراف في النقلِ" هي كُلها مجموعة من الأشقاء المتماثلين في ملامِحهم ومادِتهم الخامِ التي صُنعوا منها كما أَنهم متماثلون في الغاياتِ. ومع ذلك، فإن الأمورَ ليست كلها أما "سوداء" أو "بيضاء" : فرغم أن المسلمين لم يتح لهم أن يستثمروا فكر إبن رشد بالكيفيةِ المُثلى والتي كانت قمينةً في إعتقادي بجعلِ المسلمين على طريقٍ تشبه الطريق التي سارت عليها أوروبا منذ القرن الثالث عشر حتى بلغت ما بلغت من رقى في الفكرِ والحرياتِ العامةِ والإبداعِ والآدابِ والفنونِ والعلومِ. إِلاَّ أن المسلمين عرفوا (بنوعٍ نسبيٍّ من التعميم) "إسلامين" : إسلام يمكن وصفه بالإسلام التركي/المصري وإسلام يمكن وصفه بإسلام البداوة. أما الأول، وهكذا فإنه يمكن القول أنه حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي كان هناك فهمان للإسلام (كما ذكرنا آنفاً (: فهم متطرف متشدد يكثر التحريم ووضع القواعد التفصيلية لكلِ أمورِ الدين والدنيا ...وهو الفهم الصحراوي البدوي الذي ساد في مجتمعاتِ كثبان الرمال بشرق الجزيرة العربية. أما الفهمُ الثاني المتسم بالتسامح والمرونة والقبول النسبي للآخر وعدم وضع قواعد تنظيمية تفصيلية لكل أمور الدين والدنيا فهو ما أُسميه بالفهم المصري/التركي/السوري للإسلام والذي شاع في معظم المجتمعات الإسلامية خارج كثبان الجزيرة العربية.
ورغم معرفتي أن هذا الإسلام التركي / المصري لا يمكن وصفه بأنه كان علمانياً، إِلاَّ أنه كان كذلك في جوانبٍ عديدةٍ منه وليس بمعنى إنكار الدين وإنما بمعنى النظر للدينِ كدينٍ وليس كنظريةٍ متكاملةٍ للحياةِ وتنظيمِ أمورِ المجتمع. فلا أملك أن أصفه بأنه كان مشبعاً بدرجةِ النورِ والتقدمِ والحريةِ التي كانت في فكرِ ابن رشد، ولكنه كان بمعايير القرن التي وجد فيها سمحاً بشكل نسبي معقول.
١.2.2 وفي أماكنٍ أخرى، أخذت مجموعاتٌ بشريةٌ فرضت عليها العزلةُ الجغرافية لكونها في مواقعٍ داخلية غير ذات صلاتٍ بالعالمِ الخارجي ولا تعيش على (السواحل) في تنميِة أفكارِ مدرسة إبن تيمية ثم ابن قيم الجوزية حتى وصلنا إلى أفكار محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وهى الأفكار التي يمكن وصفها بأنها سبيكة من الروح النجدية البدوية المتعصبة التي أنجبت "الإخوان" (السعوديين) الذين حاربوا الملك عبد العزيز بن سعود (1870/1953) في عشرينيات القرن العشرين ثم أضيفت لتلك السبيكة ثمارالذهنية القطبية ، مع أموال البترول ، مع أخطاء دولية بلا حساب كما حدث في أفغانستان في أواخر السبعينيات وكما حدث في مصر عندما أحاط رعاة الإخوان المسلمين الكبار ممثلين في أكثر رجال الأعمال وقتئذ ثراءً بأنور السادات وجعلوه يلعب بالشيطان أي يطلق العنان للجماعات الإسلامية في كل مكان ليحاربوا له (ونيابة عنه) التيار اليساري.
لم يكن محمد عبد الوهاب الذي إليه ينسب المذهب الوهابي فقيهاً وإنما رجل دعوة. ولكنه ينتسب (فكرياً) لأكثرِ التياراتِ الإسلاميةِ تأسيساً لمذهبها على "النقل" وأقلها إتاحة مساحة "للعقل". فبشكلٍ ما يمكن نسبة محمد عبد الوهاب لإبن تيمية (ونسبة إستعمال "العقل" عنده قليلة ونسبة "النقل" مطلقة). يُضاف لذلك أثر البيئة الجغرافية. فبينما عرفت مصرُ وسوريا ولبنان والعراق واليمن حضاراتٍ قديمةٍ تركت أثرَها على التاريخ الإنساني .. وبينما عرفت أماكن مثل "دبي" و"الحجاز" تعاملات واسعة (بسبب التجارة) مع "العالم الخارجي" – فإن صحراء "نجد" في القسم الشرقي مما هو الآن "السعودية" لم تعرف (بحكم طبيعتها الصحراوية الموغلة في الشدةِ والجفافِ) أيةَ حضارةٍ قبل الإسلام .. ولم تكن مركزاً لأية حضارةٍ بعد إنتشاره (مثلما كانت عواصمُ الخلافة: المدينة ودمشق وبغداد). ولا يعرف الدارسُ لنجدٍ أية مساهمات لهذه المنطقة في الفنون والآداب والموسيقى إلاِّ الشعر. وأخيراً ، فإن محمد بن عبد الوهاب ليس فقيهاً على الإطلاق وإنما داعية تياره معالم الذهنية النجدية التي يجب أن تفهم من خلال الكلمات التالية : ذهنية / قبلية / بدوية / صحراوية / داخلية. ولو لم يوجد البترول في هذه المناطق لبقت تلك الذهنية أسيرة جغرافيتها الطبيعية أي كثبان رمال نجد التي لم تنتج أي فكر أو فن تشكيلي أو موسيقى أو أدب روائي أو أدب قصصي وإنما إكتفت بإنتاج شعر موضوعه الوحيد الترويج لقيم القبيلة النجدية .
كان ذلك هو وضع عالم المسلمين حتى ولد بصحراء نجد في سنة 1703 محمد بن عبد الوهاب وهو الرجل الذي صارت الأمور في نجد على هواه بعد ذلك ؛ فحدث في عام 1744 حلف بينه (وعائلته) وبين محمد بن سعود قاضي الدرعية (وأهله أيضاً) وهو الحلف الذي يقوم على أن يحكم آل سعود وفق فتاوى آل الشيخ (محمد بن عبد الوهاب وعائلته أي الوهابيين). وهو الحلف الذي أدى لما يمكن أن نسميه الدولة السعودية الأولى والتي سيطرت منذ سنة 1804 على ما يقرب من مليون ميل مربع في الجزيرة العربية حتى استأصل شأفتها وسحقها إبراهيم ابن محمد علي الكبير في سنة 1819 وهو عام تدمير الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى.
وكان من الطبيعي أن يحدث صدامٌ بين "الصنفين" : وهذا ما وقع في سني العقدِ الثاني من القرنِ التاسع عشر وفي شكلِ مواجهةٍ بين التيارين، قاد التيار الأكثر استنارة فيه جيشٌ مصريٌ بقيادةِ طوسون بن محمد علي ثم من بعده بقيادة إبراهيم (أعظم أبناء محمد علي)؛ وانتهت هذه الجولة بإنتصارِ النموذج التركي/ المصري. خلال سنواتِ العقدِ الثاني من القرنِ التاسع عشر أرسل حاكمُ مصرَ محمد علي (والذي قدمها والمنطقة كلها للعصر الحديث) جيشاً كبيراً بقيادة إبنه طوسون ثم بقيادة ابنه إبراهيم بهدفٍ محددٍ هو القضاء على الدولةِ التي كانت قد تكونت في نجد (شرق الجزيرة العربية) وتحكم بناءً على الفهمِ الوهابي للإسلام وتمثل (وهذا هو الأهم) مُناخَ هذه المنطقة الثقافي بالتحديد. وفي سنة 1818 أنجز إبراهيم باشا مهمته إذ ألحق الهزيمة بالطرفِ المقابلِ وحطم عاصمتهم (الدرعية) وأخذ قائدَهم أسيراً (أُعدم بعد ذلك في اسطنبول) . وتجسد تلك الحربُ الصدامَ بين فهمِ المصريين والأتراك (وكان يُشاركهم في ذلك مسلمو الشام بالمعنى الكبير) من جانبٍ والفهمِ الوهابي للإسلام من جانب آخر. ولكن ظروفاً عديدة جعلت الفهمَ الأكثر شيوعاً بين المسلمين (The Main Stream) وهو الفهم الوسطي المعتدل المسالم القابل للتعايش مع الآخرين والذي لا يرفض في تشنج ثمارَ التقدمِ والحداثة. ويمكن القول أن قرارَ محمد على باشا الكبير بإرسال إبنه طوسون لتدمير الدولة السعودية الأولى ثم عهده بهذه المهمة لأبنه إبراهيم باشا المعروف بكفاءته الحربية الهائلة هو قرار له دلالة بالغة الأهمية: إذ يمكن القول أن الفهم المصري/التركي/السوري للإسلامِ قرر أن يذهب إلى الفهم الإسلامي الوهابي بالغ التطرف والتعصب والتشدد في معقله وتدميره – قرار ثقافي وحضاري هو قبل أن يكون قراراً سياسياً أو عسكرياً. إن محمد على الذي كان مولعاً بالنهضة الأوروبية كان لا يرى أي تعارضٍ بين آلياتِ النهضةِ الأوروبية وكونه مسلماً – كما أنه كان يرى التعارض (كل التعارض) بين الفهم الصحراوي الوهابي للإسلام وحدوث النهضة التي كان عقله وفكره منشغلاً بها منذ تولي حكم مصر سنة 1805 (وحتى تنازله عن الحكم سنة 1848 لأبنه إبراهيم باشا). ثم دارت عجلةُ الزمن، وآلت الأمورُ في تركيا لما آلت إليه، وأخذت مصرُ في التراجع. ومع تراجع مصرَ (خاصة إقتصادياً وتعليمياً) وهبوط ثروة أُسطورية لم يسمع بمثلها التاريخ على المدرسة الأخرى (المغرقة في النقل وتجميد العقل) كان من الطبيعي أن يزداد التيارُ النقلي (المتشدد) قوةً ويملك أدوات الذيوع بل ويغزو أرض التيار الثاني ويتغلغل في رجالِ مؤسساتِ هذا التيار. حتى وصلنا لرؤية تجسد التيار النقلي المتشدد في طالبان وأخواتها. ولو كانت الغلبةُ قد قُيضت لإبن رشد أو لو كانت الظروف لم تسمح بتراجع النموذج التركي / المصري، لما كانت الأمورُ قد وصلت إلى ما وصلت إليه خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرة. فإذا أضفنا "فكر محمد عبد الوهاب" الموغل في التشدد إلى أثر البيئة الصحراوية بالغ القسوة ، كنا إمام تفسيرٍ لشدةِ بل وقسوةِ آراء وتوجهات وتفسيرات مذهبه (وأؤكد على أن أثر "ذهنية المنطقة" كان أكبر من أثر "المذهب" ذاته). كذلك يمكنّا ذلك من أن نعرف لماذا حارب الملك عبد العزيز بن سعود حركة الإخوان الوهابية في عشرينيات القرن العشرين. فعندما عاد الملكُ عبد العزيز للرياض بعد أن ضم الحجاز لمملكته الشرقية ، قال "الإخوان" أن عبد العزيز غادر الرياض على "ناقةٍ" وعاد في "سيارةٍ أمريكيةٍ" .. وهو ما اعتبروه إنحرافاً عن "صحيح الدين". وكان ذلك مجرد مثال لصدامات أخرى معه دارت كلها حول كون الإذاعة "حرام" أو كون "التليفون" من عمل الشيطان .. إلى آخر مواقفِ الصدامِ الأصيلِ في تفكيرهم مع ثمارِ الحداثةِ أو التقدمِ. وهذا التوجه لا يفهم إلاِّ بدراسة ما يُعرف بالفرق السرية في الإسلام (وهي روافد جانبية لم تكن أبداً بمثابة التيار الرئيسي Main Stream) وثانياً بدراسةِ دعوةِ محمد بن عبد الوهاب التي هي إبنة أشياءٍ عديدة منها سوسيولوجياً وجيوبوليتيكياً صحراء نجد .. وهي عوامل جعلتهم عندما نجحوا في غزو غرب الجزيرة العربية أي الحجاز يوغلون في فرض فهمهم للدين والذي تمثل في أشياءٍ مثل تسوية القبور بالأرض ومحاربة الفرق الصوفية في مكة وغيرها (بإعتبارها بدعة ضالة من المنظور الوهابي) وتكلل ذلك بالصدامِ المسلحِ مع "المحملِ المصري" فقد كان المصريون يهدون "الكعبة" كسوتها كل سنة ويقومون بنقل الكسوة الجديدة في احتفال (فيه الكثير من ميل المصريين للموسيقى والرقص والمرح) وهو ما اعتبره النجديون عملاً من أعمال الشيطان. وما أُريد تسليط الضوء عليه هنا ، أن الصحراءَ الداخلية للجزءِ الشرقي من الجزيرةِ العربية قد عانت تاريخياً من جغرافيتها معاناةً شديدةً .. فلما جاءت الثروةُ البترولية العظمى (ومن صحراءِها الداخليةِ تحديداً) فقد كان من الصعبِ تصوّر قيام هذا الجزء من العالم بشيءٍ أقل من "تسويق تفكيره" .. وهو ما حدث بالفعل خلال النصف الثاني من القرنَ العشرين .. وكانت الدراما تكتمل بأن "الإسلامَ غير الوهابي" إبان تلك الفترة شهد تراجعاً كبيراً أمام النموذج المدعوم بأموالٍ لا حد لها: ففي الداخل تراكمت المعضلاتُ بسببِ الإستبداد السياسي وإنعدام الحراك الإجتماعي وترك معظم المؤسسات تدار بغيرِ كفاءةٍ مع تدهورٍ مشهودٍ في نظمِ التعليمِ .. ومن الخارج تهب أفكارُ الفهمِ الوهابي المدعوم بطوفانٍ من الإمكانيات .. فكيف لا يتراجع ما كان بمثابة التيار العام Main Stream (وأعني الإسلام غير الوهابي)؟ وكيف لا يبدو الفهم النجدي للإسلام وكأنه هو الإسلام الوحيد رغم أنه كان غيرَ موجودٍ خارج "صحراء نجد" قبل بداية القرن العشرين؟
إن كاتبَ هذه السطور لا يتوقف في محاضراته في أوروبا وأمريكا الشمالية عن تعريفِ العالمِ بما يُسميه (الإسلام المصري) الذي كان حتى أربعينيات هذا القرن مثالاً لا نظير له في السماحة والمرونة وقبول واحترام الآخرين وعدم الإنشغال (بشكل سيكوباتي) بتفاصيلٍ لأحكامٍ لا يمكن إلاَّ أن تكون "إبنة زمانها ومكانها وظروفها" وكل ما يُطرح عليها من القداسة هو "عمل بشري" لأن القداسةَ للدينِ ولكنها ليست أبداً لفهمِ الناسِ للدين : فلا فهمي أنا للدين ولا فهم أي أحد آخر بالمقدسِ، وإنما هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لتكوينِ وظروفِ وبنيةِ المحصولِ المعرفي لكلٍ منا.
ولكن كل ما سبق لا ينفي أَن الذين يتحدثون الآن في الغربِ بوجهٍ عام وفي الولاياتِ المتحدة بوجهٍ خاص عن الخطرِ الداهمِ الذي يمثله "الإسلام المقاتل" عليهم أن يسألوا أنفسهم مجموعةً من الأسئلةِ بالغةِ الأهميةِ: - من الذي أَغمضَ عينيه سنوات عديدة عن المُناخِ العام الذي في ظلِه إستشرى النموذج المقاتل للإسلام بينما ترك النموذج المتحضر والإنساني والراقي (الإسلام التركي/ المصري) ليتراجع في ظل تردي الأوضاع العامة (الإقتصادية والتعليمية بوجهٍ خاص) وأن يصبح أرضاً مفتوحة يغزوها النموذجُ المقاتـل – من الذي أغمض عينيه قرابة ثلاثين سنة كاملة – ثم يجئ اليوم معلناً غضبَه العارم على هذا المُناخ الذي أَفرزَ هذا المارد؟
- من الذي إبتدع في الخمسينيات (وربما قبل ذلك) لعبة إستعمال ما يسميه البعض (الإسلام السياسي) لخلق توازنات إستراتيجية ضد الإشتراكية (وكانت لمصرَ في السبعينيات جريرتها الكبرى في نفسِ المجال)؟…
- هل الغرب لم يدرك أن في مطبخِ النموذج المقاتلِ لا توجد حريات ولا ديموقراطية ولا حقوق نساء ولا حقوق مواطنين إِلاَّ الآن فقط؟…وهل كان هذا "المطبخ" ذاخراً بتلك القيم الإنسانية الراقية في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات؟ - لماذا لا يفتح ملف فترة شهر العسل في علاقة المجاهدين الأفغان بالولايات المتحدة؟ وملف علاقة الإسلام السياسي في إيران بالغرب (فرنسا بالذات) قبل وصوله للحكم سنة 1979؟…وقبل ذلك ملف العلاقة بين الحركة السياسية الإسلامية في مصرَ وبريطانيا (التي كانت تحتل مصر وقتها) ولا سيما في ظل حكومتي محمد محمود (1928 و1938)؟ إن العقلَ النقدي الذي تفتخر به الإنسانيةُ المتقدمة يُملي علينا هذه الأسئلـة وغيرهـا – ويملي علينا أن يَقبلَ كلُ طرفٍ أن يتحمل جزءاً من المسئوليةِ عما حدث ويحدث – والعقلُ النقدي يُملي علينا أيضاً أن ننظر بإمعان في النموذجين الذين أشرت لهما في هذا الفصل ونتساءل: أيهما الذي يملك القدرة على مسايرةِ الحضارةِ والتواصلِ مع العالمِ والإشتراكِ في مسيرةِ التمدنِ (دون التخلي عن الكثيرِ من خصوصياتنا الثقافية الإيجابية)؟ أهو النموذج الذي أفرزه المطبخ الذي أَسسه أهل النقل (وهم ضحية العزلة الجغرافية وراء كثبان الرمال) أم النموذج التركي/المصري (ذو الوسطية والإعتدال والسماحة) أم النموذج الغائب دائماً (نموذج ابن رشد الذي إستفادت منه الحضارةُ الغربية وخسرنا نحن بهجره والوقوف مع المدرسة المناهضة له والتي تفتح البابَ على مصراعيه أمام الخرافةِ والأسطورةِ واللاعلمِ وإمتطاءِ جواد الاقتتال الذي لا يتوقف عوضاً عن العلم والعمل والبناء والتنمية والتآخي. أما الفهمُ الآخر فقد وجد من الوسائل اللازمةِ لنشرِه في شتى بقاع الدنيا ما لا نظير له. كما وجد ظروفاً دولية (وانعدام رؤية) تسببت في أن يصبح الفهمُ الاستثنائي المحدود والذي كان محصوراً بين كثبانِ رمالِ صحراء نجد هو الفهم الذي يفـرض نفسه على خشبةِ مسرح الدنيا ويقول: "أنا الإسلام" .. . وبين المشاهدين (في المسرح) من أمضى سنوات يتغاضى عن كلِ شيءٍ (عوامل الداخل والخارج) لأن الممثل الذي يحمل في يده السيف كان يؤدي الدور الذي كان مطلوباً أن يقوم به – وليحدث بعد ذلك ما يحدث من جراء عوامل الداخل والخارج وانطلاق المارد! ولكن لماذا يتجه عددٌ غير بسيطٍ من الشبابِ المسلمِ إلى تبني العنف كشكلٍ لأداءه السياسي؟ .. هذا هو السؤَال الذي إنشغلت (ولازالت) به جامعاتٌ ومراكزَ بحوثٍ ودراساتٍ ومفكرون وباحثون ومنظرون عديدون في العالم كله بوجهٍ عامٍ وفي الولاياتِ المتحدةِ بوجهٍ خاصٍ. وقد عكست محاولاتُ الإجابةِ عن هذا السؤَال أشكالاً عدة من أشكال التنظير. وليس هدفي في هذا الفصل تفنيد شتى التفسيرات التي قيلت في محاولاتِ الإجابةِ عن هذا السؤَال بالغ الأهمية. وإنما هدفي أَن أَعرض تفسيري الخاص والذي عرضته مؤخراً بعدد من المحاضرات خارج مصر كان آخرها بجامعة فيينا.
يقوم تفسيري لظاهرة تبني أعدادٍ من الشباب المسلم للعنفِ كشكلٍ للعمل السياسي على الركائز التالية: - نصوص القرآن والأحاديث التي يستند إليها دعاةُ العنفِ فهمت من بداية الإسلام فهمين مختلفين: فهم يربطها بظروفٍ وحيثياتٍ معينة ، وهذا هو فهم الأغلبية التي اتسمت طيلة قرون بالوسطية والإعتدال. وفهم يعمم هذه النصوص (فيما لا يجوز فيه التعميم). وكان أصحابُ هذا الفهم من البدايةِ أقليةً هامشيةً.
١.3 إن نظمُ التعليمِ منبتة الصلة بالعصرِ هي حلقةٌ أساسيةٌ من حلقاتِ مسلسل التدمير هذا : فنظمُ التعليم في معظمِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ تكرس العزلة عن مسار الإنسانية (وهو مسار لا جنسية له) وتكرس التعصب وتضع (بشكل غير علمي) أُسساً دينية لصراعاتٍ هي في الحقيقةِ "سياسية بحت" وتقدم من الدين ما هو منزوع من إطاره بحيث يكرس عدم التسامح وقبول الآخر والإيمان بالتعددية كما يكرس "المكانة الدونية للمرأة" .. كما تقوم معظم هذه البرامج على خلق "ذهنية الإجابة" وليس "ذهنية السؤال" (في عالمٍ يقوم التقدم فيه على أساس فعاليات "ذهنية السؤال") .. كذلك تخلو برامج التعليم في معظم المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ مما يرسخ في أذهانِ وعقولِ أبناءِ وبناتِ المجتمع أن "التقدمَ" "عمليةٌ إنسانيةٌ" بمعنى أن آلياتِ التقدمِ "إنسانيةٌ" وليست شرقية أو غربية – والدليل على ذلك أن قائمةَ الدولِ الأكثر تقدماً تضم دولاً غربية/مسيحية (كالولايات المتحدة ودول غرب أوروبا) ودولاً أخرى تنتمي لخلفياتٍ يابانية أو صينية أو مسلمة (مثل ماليزيا). وفي الإنسانيات والعلوم الإجتماعية ، فإن الإنسلاخَ عن مسارِ الحضارةِ الإنسانيةِ يتفاقم. لقد ذكرت في محاضرةٍ لي بجامعة اكسفورد (يوم 16 أكتوبر 2003) أنني طالعت (في الستينيات) معظم كلاسيكيات الإبداع الإنساني من هوميروس (قبل الميلاد) إلى "سارتر" (ومروراً بعشراتِ الأسماءِ واللغاتِ والخلفياتِ) .. طالعتُ كل ذلك (مثل آخرين من أبناء جيلي) باللغةِ العربيةِ .. وهو ما أثمر تواصلاً بيننا وبين الإنسانيةِ وإبداعاتها لا يتصور وجوده اليوم والساحة الثقافية في المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ شبه خالية مما كانت ذاخرةً به من ترجماتٍ فذةٍ لروائعِ الإبداعِ الإنساني. لقد ذهل جمهور المحاضرة عندما قلت لهم أنني (مثل آخرين من أبناء جيلي) قرأنا اسخيلوس وارستوفان ويوروبيدوس وسوفوكليس وفيرجيل ودانتي وشكسبير وراسين وموليير وفولتير وجان جاك روسو وجل الأعمال الروائية الروسية وفلوبير وبلزاك وبرناردشو وبيرانديللو والبير كامو وستاينبيك وفوكنر وعشرات غيرهم وعيون الفلسفة الألمانية بالعربية في كتب كان مترجموها في الأساس من مصر وسوريا ولبنان وناشروها في الأساس لبنانيين أو مصريين. والرسالةُ هنا أن الفجوة بين "عقولِ" أبناءِ وبناتِ المجتمعاتِ الإسلاميةِ والعربيةِ وبين روائع الإبداع الإنساني قد ازدادت إتساعاً كما أن هؤلاء أصبحوا "محليين" بدرجةٍ كبيرةٍ جداً ، وهو ما يدعم ثقافة التباعدِ عن الإنسانيةِ وهو ما يناسب للغاية "ذهنية العنف" و"ثقافتها".
١.4 توجد إحصائياتٌ تقول أن رُبعَ المنخرطين في العملية التعليمية / الدراسية في مصرَ اليوم من تلاميذٍ وطلابٍ إنما يدرسون في مؤسساتٍ تعليميةٍ دينيةٍ (مدارس ومعاهد وكليات أزهرية) . كما أن هناك إحصائياتٍ أخرى تنخفض بهذا العدد إلى الخُمس . وأخيراً فقد رأيت إحصائيات تنخفض بهذا العدد إلى السُدس . وبإفتراض أن الإحصائية التي تُعبر عن الواقع هي السُدس (أكثر قليلاً من 16%) (وهي أقل الإحصائيات) فإن ذلك يعني أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين تلميذ وطالب يتلقون تعليمهم من البداية إلى النهايةِ في مؤسساتٍ تعليميةٍ دينيةٍ . وقد يزداد هذا الرقم إلى أربعة ملايين أو خمسة ملايين إذا أخذنا بالإحصائيات الأخرى . ولا شك أننا هنا أمام ظاهرة تعليمية (ذات أبعادٍ وإنعكاساتٍ ونتائجٍ إجتماعيةٍ وسياسيةٍ وإقتصاديةٍ) تستحق التأمل والتحليل (بل والدراسة) .
وهذة الحقيقة تُملي على الناظر فيها سؤالاً بالغ الأهمية : "لماذا!" ... وأعني لماذا يقوم مُجتمعٌ مثل المُجتمع المصري بتوجيه هذه الأعداد الكبيرة لمؤسسات تعليمية دينية ؟... ومع السؤال "لماذا؟" يبرز سؤال آخرٌ : مالذي أوصلنا لهذا الحال !... أهي خطة موضوعة !... أم تداعيات لواقعٍ لا يحكمه التخطيطُ الإستراتيچي وإنما وجود واقع أملته ردود الفعل و البيروقراطية ؟ .
أما عن "لماذا؟" ... فمن الواجب أن نعرف أنه بإستثناء السعودية وإيران وأفغانستان وباكستان والسودان واليمن السعيد , فإن باقي دول العالم (أكثر من مائتي دولة) لا توجد فيها مثل هذه الظاهرة ولا مثل 10% منها . وبالتالي فإن السؤال يكون : إذا كنا نفعل ذلك , فهل معناه أننا لا نريد أن نكون (تعليمياً وبالتالي ثقافياً) مثل اليابان وسنغافورة وفرنسا وكندا وأسبانيا وإنما نريد أن نكون (تعليمياً وبالتالي ثقافياً) مثل السعودية وإيران وأفغانستان وباكستان والسودان واليمن ؟ . هل هذا ما نريده ؟ وهل هذا ما صغناه في سياسةٍ إستراتيچيةٍ للتعليم نُدرك معناها ومغزاها وإفرازاتها ؟ .
أغلب الظن أننا لم تكن لنا سياسة إستراتيچية تعليمية تهدف لأن يُصبح "ربع" أو "خمس" أو "سُدس" المُنخرطين في العملية التعليمية لدينا من تلاميذ وطلاب المؤسسات التعليمية الدينية . بل أكاد أُجزم أنه لم تكن لدينا مثل هذه السياسة الإستراتيچية التعليمية : لا هي ولاغيرها . وأكاد أُجزم بأننا وصلنا لهذا الحال بفعل تداعيات الأمر الواقع والبيروقراطية . فقد أوجدنا تلك الغابة الواسعة الشاسعة من المؤسسات التعليمية الدينية كرد فعل عشوائي لمشكلات مثل: إيجاد مؤسسات تعليمية قريبة من أبناءِ وبنات سكان المدن الصغيرة والقرى والنجوع ... وأيضاً كمكانٍ لإواءٍ (تعليميَّ) للتلاميذ الذين لم يكن بوسعهم (مادياً) أو (تعليمياً) الإنخراط في التعليم العام . وإذا كان الأمر كذلك (وأظن أنه كان كذلك) فإننا نكونُ هنا مُنسجمين مع طريقتنا في التعامل مع أشياءٍ أخرى عديدة .
لقد تكونت لدي (وأنا أُعد لكتابة هذا الفصل) مجموعة من الحقائق المُخيفة . من أهمها أننا أنشأنا تلك الشبكة من التعليم الديني فيما يمكن وصفه بالحل الأدنى لمشكلات الطبقات الأدنى في المجتمع والطوائف الأقل نجاحاً في التحصيل والتعليم . وإذا كان ذلك كذلك , فمعناه (إستراتيچياً) أننا نضخ أعداداً كبيرة من المطحونين إقتصادياً وإجتماعياً والأقل في القدرات التحصيلية داخل منظومة تعليمية دينية ديناصورية الحجم . وأغلب الظن أننا فعلنا ذلك دون أن نبذل أي جهد لإستقراء ودراسة النتائج الإستراتيچية (السياسية والإقتصادية والإجتماعية) لمثل هذا الخيار على كل مُجتمعنا وعلى حالِ ومُستقبل هذا المجتمع .
لسنواتٍ طويلةٍ كنتُ أسألُ العشرات بل المئات من صغار الموظفين والعاملين : "هل يذهب أولادكم للتعليم الأزهري؟"... وكان الجواب عادةً ما يأتي بالإستنكار والإستنكاف والرفض . وهو ما أعطاني شعوراً قوياً (وقد أكون مخطئاً) بأن التعليم الديني لدينا هو ملجأ من لم يكن أمامه (من حيث القدرات الإجتماعية أو الذهنية) إلا هذا الملجأ الأخير . ومرة أخرى أقول : إذا كان الأمر كذلك , فإن النتائج الإستراتيچية ستكون وخيمة العاقبة . فهل درسنا تلك العواقب أم أننا تركناها لثقافة الإرتجال السائدة منذ عقود .
وإذا كان مُجتمعنا قد ضربته خلال العقود الأخيرة موجةٌ عاتيةٌ لفهم بدائي وماضـوي للديـن ... فهل قام بعضنا بدراسة العلاقة بين هذه الموجة وبين الفلول الكبيرة التي درست في المؤسسات التعليمية الدينية وكانت - من الأساس – مؤهلةً للإنضواءِ في هذه الموجة من الفهم المحدود والبسيط والماضوي للدين؟
وهل نظر أحدٌ من الدراسين الإستراتيچيين لدينا للظاهرة من زاوية أخرى وتساءل :... ما هو أثر إنخراط تلك الأعداد الهائلة من المصريين والمصريات في التعليم الديني على أحوالنا العلمية والتكنولوچية والصناعية والتجارية ؟ وإذا كانت دول أخرى قد توسعت في التعليم الديني بما أوجد في النهاية كادر من رجال الدين يَحولون دون إنخراط المجتمع في مسيرة التقدم , فإن السؤال يكون : هل نرى كم أصبحنا غير بعيدين عن تلك الحالة ؟ .
وهل تأملنا التعليم الديني لدينا من المنظور التالي : إن قيم التقدم هي مجموعة من القيم التي لا يخلو منها مجتمع ذو حظٍ طيبٍ من الإزدهار , ومن أهمها الإيمان بالتعددية والإنسانية والغيرية وعالمية المعرفة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة . وقد قضيت عشرات الساعات أُراجع المقررات والبرامج الدراسية للتعليم الأزهري سيما في مجالات النصوص والثقافة والأدب واللغات , فوجدت هذه البرامج والمقررات إما خالية من عملية بذر وغرس تلك القيم خلواً تماماً , وإما إنها تُقدم وتغرس قيماً مناقضة. فهل درسنا حجم المشكلة التي نخلقها بأيدينا لأنفسنا عندما نُفرز خريجين وخريجات قد غرست في ضمائرهم وعقولهم قيماً تناقض قيم التقدم التي كان علينا أن نعمل على غرسها ؟ ومن المهم التذكير بأن التقدم هو أمرٌ مرهون بمجموعةٍ من القيم قبل أن يكون مرهوناً بإمكانات وموارد مادية .
وهل درس أحدٌ (من المنظور السياسي الإستراتيچي) إحتمال أن نكون (بتبني هذا الحجم الكبير من المؤسسات التعليمية الدينية) إنما نخدم في النهاية توجهات تُعلن الدولة (وهي في هذا مُحقة تماماً) أن هذه التوجهات هي أعدى أعداء المجتمع المدني لدينا – وأعني أن نكون نعمل في خدمةِ أعداء المجتمع المدني وأعداء التقدم وأعداء الإنخراط في مسيرة إنسانية بل ونقوم كمجتمع - وكدولة - بتمويل كل ذلك . وهل نظر أحد في مجتمعنا لعواقب وجود هذا الحجم من المؤسسات التعليمية الدينية على المناخ الثقافي العام وعلى السلام الإجتماعي وعلى طبيعة مُجتمعنا المصري كمجتمع من مجتمعات البحر المتوسط؟... أم أن كل ذلك لم يحظ بأي إهتمام من أي أحدٍ ومن أي جهةٍ .
١.5 ومن الغريبِ ، أن كلَ الكتاباتِ التي تعرضت خلال العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ للعنفِ المتنامي في عددٍ غيرِ قليلٍ من المجتمعاتِ الإسلامية والعربية لم تستعمل مصطلح (الكفاءة) أو مصطلح (عدم الكفاءة) في تحليلِها لهذه الظاهرةِ. ويستوي في ذلك أن يكون الكاتبُ أستاذاً بجامعةٍ عريقةٍ مثل صموئيل هانتنجتون (الأستاذ بجامعة هارفارد) أو صحفي: فلم يحدث أن طالعت هذه الكلمة المفتاح (Key word) في كل ما طالعته. ويذكرني هذا بما قلته في محاضرةٍ منذ عدة سنوات (لطلاب الماجستير في الإدارة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة) ، إذ ذكرت أنني دونت مائة حديث بيني وبين آخرين عن شخصياتٍ عامةٍ محليةٍ ودوليةٍ عديدةٍ – ولاحظت أيضاً أن كلمة "كفاءة" لم ترد بأي شكلٍ من الأشكالِ في أحاديثِ التقييم المائة - رغم أن صنعَ المشكلاتِ (عند رجلِ إدارةٍ مثلي) ينبع من (عدمِ الكفاءةِ) وأن صنعَ النجاحِ بشتى صورِه ينبع من (الكفاءة). وفي إعتقادي أن يأسَ وقنوطَ أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمعات الإسلامية والعربية والذي يوّلد "الغضب" ثم "العنف" في حالاتٍ كثيرة يكون بسبب أوضاعٍ نجمت من كون مجتمعاتهم تدار بكوادرٍ بشريةٍ اختيرت لولائها وانصياعها وليس لكفاءتها ، إذ أن الكفاءةَ (بالمعنى المعروف في علوم الإدارة الحديثة) لا تشغل بال أي نظامٍ سياسي أوتوقراطي.
************ بين أتباعِ كل دينٍ مساحةٌ للتشددِ وداخل مساحةِ التشددِ هامشٌ للتطرفِ وداخله مساحةٌ للغلو في التطرفِ. ويمكن لمؤرخي الأديان أن يعرضوا على القراء هذه المساحات والتي تتصل بالطبيعةِ البشريةِ أكثر من إتصالِها بالأديان في حدِ ذاتِها: فلا يوجد دين يحضُ على العدوانِ على الآخرين ولا يوجد دين يشجع العنفَ وإستعمالَه في حقِ الأبرياءِ ولا يوجد دين يعطى البعضَ حقوقاً لا يمكن تصور أن تكون لبشرٍ. ويمكن لعددٍ من المؤرخين المصريين أن يعرضوا للقراء صوراً من أتباعِ عددٍ من المذاهبِ الباطنيةِ التي أفرز بعضُها صوراً بالغة التطرفِ، فمن بين أتباع الصحابى الجليل المشهود له بعظيم الخلق والعلم على بن أبي طالب خرجت مجموعةٌ تؤثمه لرأيٍّ سياسيٍّ رآه وهو قبول التحكيم في معركةِ صفين، وهؤلاء هم أَصل فرقةِ الخوارج التي تشعبت في التأثيم والتجريم والتحريم. وهناك القرامطة الذي قاموا بخطف الحجر الأسود وإبعاده عن مكانه المقدس عند كل المسلمين لسنين عديدة. وفي أواخرِ القرنِ الثامن عشر الميلادي وأوائل القرن التاسع عشر وجدت فرقة أخرى أصبحت رمزاً للتشددِ والتضييقِ والتأثيمِ والتجريمِ والتحريمِ إكتست توجهاتُها بثقافةِ البداوةِ مع ثقافةِ القبليةِ الموغلةِ في المحافظةِ. وفي مواجهةِ هذه الفرقة كان هناك (إسلام مصر) المعتدل والراقي وصاحب التراث العتيد في قبول التعددية وآثارها. وكانت النتيجةُ أن قامت مصرُ خلال سنواتِ العقدِ الثاني من القرن التاسع عشر بمواجهةٌ حربيةٌ عارمة بين (مذهب الغلو الصحراوي) و (إسلام مصر) عندما أرسل محمد على جيشهَ بقيادةِ ابنه طوسون في البداية ثم بقيادة ابنه العظيم إبراهيم بعد ذلك ليقوم بتصفيِةِ دولة الغلو والتطرف وذيوع التأثيم والتجريم والتحريم. ولم تكن هذه المعركة بين جيشين وإنما كانت في حقيقتها حرباً بين (فهمٍ صحراويٍّ متطرفٍ للإسلام) و (إسلام مصر الحضاري العظيم) ... وانتهت المعركة بهزيمةُ نكراء لقوى التعصب والغلو والتطرف... والتي نزلت إلى (ما تحت الأرض) لتعود بعد ذلك في أدبيات تيارٍ سياسيٍّ يزعم أنه (الإسلام) ويرى معظم المصريين أنه (فهم محدود وضيق ومتطرف إلى أبعد الحدود للإسلام).
وهدفُ هذا الفصل هو دعوة المصريين قاطبةً لأن يعتزوا بالنموذج الذي قدمته مصرُ للإسلام: نموذج السماحة والإيمان بأن التعدديةِ هي ملمحٌ من ملامحِ الحياةِ والقبول بآثارِ ونتائج الإيمان بالتعددية... وعدم إطلاق صفة الكفار على المسيحيين واليهود لأن هؤلاء ببساطة (أهل كتاب) حسب التعبير القرآني، والإيمان بأن العدوان على الآخرين "جريمة" مثل العدوان على المسلمين... وهدف هذا الفصل أن يدعوا كلَ مصريٍّ ومصريٍّة لعدم خلط الأوراق : فالمصريُّ المعتدل بطبيعته لا يمكن أن يدفعه إستنكارُه للعدوان على الفلسطينيين ولا يدفعه الغضبُ من عدمِ عدالةِ عددٍ من سياساتِ الولايات المتحدة لكي يكفر بنموذجه الحضاري للإسلام ويؤمن بالنموذج المخالف لركائز طبيعته الحضارية والثقافية: فالعنف وقتل الأبرياء والعدوان على أرواحهم وأموالهم وإستحلال العنف غير المبرر على الآخرين والرجوع بالمجتمع لظلام عصور ما قبل التاريخ ... ومعاملة المرأة كالدواب... وتحريم منتجات العلم والحضارة الإنسانية كل ذلك يخالف كليةً التوسطية المصرية والإعتدال المصري وبإختصار فإنه يخالف إسلامَ مصرَ ومسيحيتها في نفسِ الوقت وبنفسِ القدر (وهنا، فإنني أدعو القراء لتأمل الفارق بين موقف طالبان القائل بأن المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين يعتبرون (كفاراً) بل ان طالبان تجزم بأن "الشيعة" كلهم أيضاً (كفار)... وليقارن القراء هذا الموقف بفهم المصريين المعتدل أن المسيحيين واليهود (ولا شك أيضاً الشيعة) ليسوا (كفاراً) وإنما المسيحيون واليهود (أهل كتاب) أما (الشيعة) فأخوة في الإسلام وإن أختلفت الآراء معهم في مسائل ولكن من المستحيل وصفهم بالكفار...
إن أهم مهامنا الثقافية في الحاضر والمستقبل أَن نعمل جاهدين على الرجوعِ الكليِّ لفهمِ المصريين للدين والذي أستمر قروناً طويلة والعودة بالكلية لإسلام مصرَ الذي ينفر من كل نماذج التطرف والغلو (وأهمها الفكر الذي أنتج الدمار الأفغانستاني) بقدر نفورِه من العنفِ والظلمِ والفظاظةِ التي تأتى من جهاتٍ أخرى قد تكون متقدمةً علمياً ولكنها بحاجة لمزيدِ من الرقى إنسانياً ... وفي كل الأحوال : فإنه لا يوجد مبررٌ واحدٌ يجعل مصرياً واحداً أو مصرية واحدة تقبل النموذج الأهوجَ لفرقةٍ من فرق الإسلام السياسى هي التجسيد الواضح لما في الطبيعة البشرية من قدرةٍ (في ظل أي دين أو ثقافة أو حضارة) على إفرازِ أشكالٍ بالغةِ الغلو من الفظاظةِ والتطرفِ والميلِ الجارفِ للعنفِ والرجوع بالمجتمعاتِ لدرجاتٍ بالغةِ الغرابةِ من التخلف والبدائية.
وإذا كان التطرفُ من طبائعِ البشرِ وليس من طبائعِ المسلمين (إذ أنه وجد تاريخياً في كل الأديان وفي ظل كل الحضارات والثقافات) فإن الحقيقة تبقى متجسدةً في أن المجتمعاتِ التي تعمل على خلقِ طبقةٍ وسطى واسعةِ وذات شروطٍ حياتيةٍ (سياسيةٍ وإقتصاديةٍ وثقافيةٍ وإجتماعيةٍ ) طيبةٍ تكون أَكثرَ تحصناً أمام التطرف الذي يمكن أن تقل معدلات تواجده ولكنها لا تختفي مادامت البشريةٌ موجودةً على ظهرٍ الأرضٍ.
كذلك ينبغي على أبناء الوجه النبيل للإسلام المصري (والموجود أيضاً في العديدِ من المجتمعاتِ الأخرى) أن يدركوا أن استعمالَ أسمِ الإسلام هو "حيلةٌ سياسيةٌ" لا أكثر ولا أقل: فعندما يقول أسامة بن لادن أنه لن يتوقف طالما بقت الأحوالُ في فلسطين على ما هي عليه، فإن العاقلَ لا يملك إِلاَّ أن يوافق على رد الفلسطينيين العقلاء عندما قالوا: ومنذ متى كانت فلسطين هي قضيته؟ إنه باختصار شديد يضفي بعداً نبيلاً على "حركةٍ سياسيةٍ بحت" … ونفس الشئ يقال على العديد من التوجهات داخل "معسكر التطرف" الذي يسمى أصحابه أنفسهم بالإسلاميين، وهم في الحقيقة أصحاب مشروع سياسي صرف ركائزه خلطة من القبلية والبدائية والبداوة – وان هذا المشروع يحتاج لأداةِ ترويجٍ …ولن يجد أصحابُ هذا المشروع أَداةَ ترويجٍ أفضل من مصطلح (المشروع الإسلامي)… والحقيقة أن كلَ مجموعاتِ التطرف والتي تتسمى باسم الإسلام هي مجموعاتٌ سياسيةٌ هدفها الوصول للحكم وتنفيذ مشروعها القائم على ركائز من القبلية والبدائية والبداوة وكراهة سيكوباتية للعلم والتقدم والحضارة (وكل ذلك الذي يكرهونه "إنساني" في المقام الأول). ومرة أخرى: فإن الظروف الإقتصادية والإجتماعية المتدنية لا تخلق هذه المجموعات ولكنها تعطيها فرصاً أعظم وأكبر للترويج لمشروعها (السياسي) الذي سيعيد أي مجتمعٍ يُنكب بها لظروفِ ما قبل التاريخ كما أعادت "طالبان" أفغانستان إلى ما هو أسوء من ذلك بكثير: فالظروف الحياتية للشعب الأفغاني أكثر من بائسة… ونظم الخدمات العامة والصحية شبه منعدمة ، ووضع المرأة مزري ومؤسف وخلال عقد واحد من الزمان سيكون كل نساء أفغانستان "أُميات" ، والتعليم العصري للأطفال شبه غائب، وعدد الأفغان الذين قتلوا أو شوهوا على يد الأفغان (خلال ربع قرن للآن) أضعاف الذين قتلوا أو أصبحوا من ذوي العاهات على يدِ أيةِ قوةٍ أجنبيةٍ … وأي خلافٍ في الرأي يقود للإعدام…ونظرة واحدة لظروف الحياة المعيشية في أفغانستان تنبئ بما ستؤل إليه أمور وأحوال أية أُمةٍ يحكمها متطرفون جمعوا خلاصة التطرف والجهل والظلامية والفظاظة في سبيكة واحدة هي سبيكة يشمئز منها المصريُّ المسلم قبل غير المسلم لتعارضها الكلي مع فهمِه للدينِ والإنسانيِة والحضارِة.
************ ٢
وإذا كانت "ذهنيةُ العنفِ" في نظري هي ثمرةَ عواملٍ داخليةٍ ، فإن إقحامَها في موضوعِ "صراع الحضارات" هو (في إعتقادي) من قبيل "أدب الخيال" أكثر من كونه "تحليلاً فكرياً أو سياسياً"… ولا أستبعد من ذلك عمل ذائع الصيت مثل كتاب صموئيل هانتنجتون . ولابد هنا من كلمة عن هذا الكتاب لإرتباطه الوثيق بموضوع "ذهنية العنف" . لقد طالعت المقالَ الذي نشره هانتنجتون في أكتوبر 1992 بعنوان "صدام الحضارات؟" ثم جعله كتاباً أصدره في العامِ التالي (1993) بنفس العنوان ولكنه بدون علامة استفهام (والمعنى في غير ما حاجةٍ لشرحٍ). وقد حقق الكتابُ من الانتشارِ وإثارةِ الجدلِ
والحوارِ ما لم يحققه كتابٌ آخر خلال تلك الفترة (وأستثني بالطبع الأعمال الروائية ذائعة الصيت) . ورغم استحالة أن أُصدر أحكاماً مثل التي صدرت (على نطاقٍ واسعٍ في العالم الإسلامي والعربي) عن المؤلفِ ونواياه وأهدافِه ودوافعِه - رغم إستحالة إصداري لأحكامٍ كهذه – إلا أن ذلك لا يحول بيني وبين القول بأنني وجدتُ في الكتاب ما أعتقد أنها ثلاث غلطات كبرى: أما الأولى ، فهي أنه تكلم عن "الإسلامِ وفق الفهم الوهابي" وكأنه "الإسلام". والحقيقة أن الفهمَ الوهابي لم يكن تياراً أساسياً في الإسلامِ حتى إبرام الحلف الذي أُبرم بين محمد عبد الوهاب ومحمد بن سعود في النصف الثاني من القرن الثامن عشر . وقبل ذلك كانت هناك أفكار مماثلة للفهمِ الوهابي للإسلام ولكنها كانت هامشيةً بكل ما تعنيه الكلمةُ من معانٍ . أما التيارُ الأساسي في الإسلام (Main Stream Islam) فكان بعيداً كل البعدِ عن الفهم الوهابي للإسلام وثقافة هذا الفهم – وإذا كانت الدولةُ العثمانية قد مثلت الإسلامَ سياسياً (وكقوةٍ عظمى) لعدةِ قرون – فإن الدولةَ العثمانية والفهمَ الوهابي للإسلام لم تكن بينهما أية صلة أو علاقة إلا "العداء المطلق". . وقد كنت على إستعدادٍ لقبولِ معظمِ ما قاله هانتنجتون عن الصدام قوى الإحتمال بين "الغرب" و"الإسلام" لو أنه استعمل كلمة "الإسلام الوهابي" عوضاً عن "الإسلام" . وأميل للاعتقاد بأن هانتنجتون غيرُ ملمٍ بتاريخِ وعواملِ وظروفِ تعاظم النموذج الوهابي لفهمِ الإسلام . أما الثانية ، فهي أنه لم يقدم أية أدلة قوية عن الصراع المرتقب بين "الغرب" والمجتمعات المنتمية للكونفوشيوسية – وكان هنـا يكتب مـا هـو أقـرب للأدب (وأدب هـ . ج . ويلز بالتحديد) منـه للتحليـلِ والفكرِ السياسي . كما أنه هنا يشبه نعوم تشومسكي الذي يقيم نظريةً سياسيةً على فرضيةٍ لا يوجد دليل واحد على صحتها – فهو يقول (أي تشومسكي) أن الولاياتِ المتحدة الأمريكية لا تستطيع أن تعيش من غير عدوٍ واضحٍ تتعرف على نفِسها من خلالـه ومن خـلال العداء معه – ويضيف أن هذا العدو كان (ما بين 1945 و1990) الكتلة الشرقية (أو الشيوعية) وان الإسلامَ هو المرشح اليوم لهذا الدور (المسرحي!) . ولم يسأله أحد: وكيف نمت الولايات المتحدة الأمريكية نموها الأعظم ما بين 1500 و1900 دون أي انغماسٍ في الصراعاتِ الخارجيةِ ودون وجود أي عدو واضح لها خلال فترة تكوين واكتمال "الحـلم الأمريكـي"؟؟ وكيف وصل ونستون تشرشل لحافةِ اليأسِ وهو يحاول إقناع الولايات المتحدة (خلال السنتين من 1939 إلى 1941) بضرورةِ دخولِ الحربِ العالميةِ (في جانب الحلفاء) ولم يحقق له النجاح إلاِّ ضربة اليابانيين لبيرل هاربور في سنة 1941 – كيف لم تر الولاياتُ المتحدة العدو (وهو مجبولة حسب تنظير تشومسكي على الإستفادة من وجوده) إلاِّ بشق الأنفس؟!! ...: نحـن هنـا ببساطـة بصـدد "أدباء" لا "مفكرين" … وأما الثالثة ، فهو أنه لم يُفرد للحربِ العالميةِ الثانيةِ أيةَ مساحةٍ لائقةٍ في كتابه. رغم أن الحربَ العالمية الثانية (والتي هي أكبر حالة صدام في تاريخ الإنسانية) كانت بين أطرافٍ معظمهم من بوتقة حضارية واحدة (الحضارة الغربية) كما أنها كانت داخل "العالم المسيحي" ولم يذكر أحدٌ (قط) أن "الدين" (كما يعتقد هانتنجتون) كان عاملاً من عوامل هذا الصراع الكبير (والذي كان في الأساس صراعاً بين الفاشية الأوروبية والديمقراطيات الأوروبية). أوضح دليل على خطأ الزعم بأن التيارات والجماعات العنيفة (المخاصمة للعصر والحداثة والداعية لعودة درامية للقرون الوسطى) هي"الإسلام" – أوضح دليل على خطأ هذا الزعم هو صورة عدد من المجتمعات الإسلامية الأساسية في مستهلِ القرنِ العشرين مثل مصر وسوريا الكبرى (وكانت تشمل وقتئذ لبنان) وتركيا. كانت تلك المجتمعات "مسلمةً" إلى حدٍ بعيدٍ ولكنها كانت أيضاً من أكثرِ المجتمعاتِ قبولاً للأقلياتِ ، وكان بعضها يذخر بعدد لا مثيل له من الأقليات (الإسكندرية وبيروت والقاهرة مثلاً). وكان "قبول الآخر" وقبول "الحداثة" والإقبال على ثمارِ الإبداعاتِ الإنسانيةِ الكبرى واضحاً. في هذه البلدان (يومذاك) كان المثقفون يترجمون هوميروس وروائع المسرح اليوناني القديم وروائع الآداب الأوروبية الحديثة وعيون الفكر الإنساني (مثل ديكارت وجان جلك روسو وفولتير وديدرو ولوك وهوبز وكانط وهيجل وشونبهور ونيتشة .. وغيرهم) وكان الإنسجامُ مع موجةِ الحضارةِ العظمى التي بدأت بعصر النهضةِ (الرينيسانس) كاملاً. ومع ذلك، كان مصريو وأتراك وسوريو تلك الفترة المسلمون لا يشعرون بأي تناقضٍ بين كونهم مسلمين وشغفهم بالحداثةِ وإبداعاتِ الحضارةِ الغربيةِ الماديةِ والثقافيةِ على السواء. وفي هذا الدليل القاطع (المستمد من واقع كان موجوداً وحياً) على أن الإسلامَ ليس هو جماعات العنف وحملة السيف (الذين يرجعون لنقطةِ إنطلاقٍ جيوبوليتيكية شرحتها من قبل) بل وفي هذا الدليل الواضح على أنه التيار الذي كان بمثابة التيار الأساسي في الإسلام Main Stream كان أَبعد ما يكون عن "الإسلام المحارب" Militant Islam الذي يعود عقلياً للفهمِ الوهابي للإسلام وإنتشاراً لظروفِ التدهورِ في عددٍ من المجتمعات الإسلامية (نظريتنا التي أوضحناها: "نظام سياسي أوتوقراطي" يؤدي لشلل كلي للحراك الإجتماعي .. بما يؤدي لشيوع "عدم الكفاءة" .. بما يؤدي لإنخفاض كل المستويات .. بما يؤدي لليأس والذي في ظلِ نظمٍ تعليمٍ وإعلامٍ متخلفةٍ ينتج "ذهنية العنف" ومناخ ثقافي عام يقبلها هو ما سميته "ثقافة ذهنية العنف". وبإختصارٍ شديدٍ ، فبينما كان الإسلامُ غير الوهابي يسمح بوجودِ مجتمعاتٍ تعيش عصرها في مصر وسوريا ولبنان وتركيا ويتفاعل فيها المسلمون مع المسيحيين واليهود ومستحدثات العصر ، فإن الفهمَ الوهابي للإسلام لا يتصور أن يسمح بوجودِ مجتمعاتٍ مثل الإسكندرية والقاهرة واسطنبول وبيروت ودمشق وحلب كما كانت تلك المدن في سنة 1900 على سبيل المثال. وعلى النقيض ، فإن هذا الفهم النجدي للإسلام يجعل المسلمين (من أتباعه) في "حالة تصادمٍ دائمةٍ" مع الآخرين والعصرِ والحداثةِ .. ولا يُفهم لكلمةِ "الجهاد" معناً إلاِّ حمل السيف في كلِ وقتٍ – رغم أن المسلمين غير الوهابيين كانوا عبر قرون عديدة يفهمون أن مصطلحَ "الجهاد" يعني إستعمال القوة لدرءِ عدوانٍ عليهم. ناهيك عن أن المصدرَ اللغوي للكلمةِ لا علاقة له بالعنفِ المسلح. كذلك ، فإن تصورَ إندماج المسلمين في الإنسانية وارد عند الفهم غير الوهابي للإسلام (لاسيما قبيل الذيوع الواسع للثقافة الوهابية خلال القرن الأخير) .. أما حسب الفهم الوهابي (وثقافته) فإن هذا الإندماج "مستحيل" و"مرفوض" ومرادف لمصطلحِ "التبعيةِ" الذي يروجه كلُ من سيطرت الثقافة الوهابية على تفكيرهِ. وإذا كان لنظريةِ نعوم تشومسكي أن تكون صائبةً ، فإنها تكون كذلك بالنظرِ لأصحابِ الفهمِ الوهابي للإسلام – فهم لا يستطيعون الوجود بمعزلٍ عن "عدوٍ كبيرٍ" يكون وجودُهم مرهوناً بوجوده! وفي كل هذا ما يدحض أن "المنظومة الإسلامية" تؤدي حتماً للعنفِ والصدامِ مع الآخرين – فتلك (من جهةٍ) خاصية "فصيل واحد" لم يكن له وجود يذكر (خارج صحراء نجد) منذ قرنٍ واحدٍ من الزمان ، وتلك من جهة أخرى ليست من نسيج تيار الإسلام غير الوهابي الذي كان هو التيار الأساسي Main Stream في المجتمعات الإسلامية قبل حدوث الزلزالين: زلزال إنتشار النموذج العنيف .. وزلزال تدهور مستويات الحياة في عدد كبير من المجتمعات الإسلامية بالكيفية التي جعلت المناخ العام مناسباً لفكر النموذج العنيف للإنتشار.
********** ٣
إن إيماني بأن جذورَ "ذهنيةِ العنفِ" في الأساسِ "داخليةٌ" لا يمنعني من التطرقِ لعاملٍ مهمٍ في إستفحالِ أمرِ ذهنيةِ العنفِ ، وهو عامل خارجي وإن بقى "عامل إنتشار" لا "عامل وجود". وأعني الإستعمال السياسي قصير النظر للتياراتِ النابعةِ من ذهنيةِ العنفِ. فقد كان مكتبُ المخابرات البريطانية (MI 6) بالهند وراء الحلف الذي كان يسعى وقتئذ (أوائل القرن العشرين) لتوحيد الجزيرة العربية تحت نظامٍ سياسي يستمد شرعيته من الفهم الوهابي للإسلام. وقد كانت الحركةُ النجدية المعروفة بالأخوان خلال عشرينيات القرن الماضي نموذج واضح لغلاةِ هذا التيـار – وهو ما حدا بالملك عبد العزيز بن سعود (مؤسس الحقبة السعودية الثالثة) للدخولِ في حربٍ معهم لا تهامهم إياه بالخروجِ عن صحيحِ الإسلامِ بسببِ قبولهِ لبعضِ مظاهرِ الحضارةِ الغربيةِ (الإذاعة .. السيارة … التليفون) وإئتلاف الإنجليز والقصر في مصر بهدفِ خلقِ كيانٍ سياسي (يستمد شعبيته من شعبية الدين في مصر) يحدث توازناً استراتيجياً مع "الوفد" الذي كان يمثل ويقود (بأغلبيةٍ كبيرةٍ) النضال المصري من أجل الدستور والحياة البرلمانية والإستقلال – هذا "الإئتلاف" هو أمرٌ معروفٌ لدارسي تاريخ مصرَ المعاصر. وهذه اللعبة (لعبة بعض الساسة بعفريت "ذهنية العنف") هي ما تكرر في مصرَ في سبعينيات القرن العشرين وما كررته الولاياتُ المتحدة الأمريكية في أفغانستان .. وكلها أمثلةٌ واضحةٌ على "عاملٍ خارجي" ساعد "ذهنية العنف" على أن تصل لدرجةٍ من النمو السياسي والعسكري ما كان بمقدورها أن تصل إليها لولا أن البعضَ قد ظن (تحت تأثير ظروفِ الحربِ الباردةِ) أن اللعبَ بهذه الورقةِ مربحٌ لا محالة .. فكما يقول المثل العربي "لا يفل الحديد إلاِّ الحديد". واليوم: فإن الصورةَ تبدو شبه مكتملة: إن نشوءَ ذهنيةِ العنفِ هو أمرٌ مرهونٌ بعواملٍ داخليةٍ هي الأوتوقراطية وشلل الحراك الإجتماعي وإختفاء الكفاءة وشيوع اليأس وتدعيم كل ذلك بأدواتِ نظمٍ تعليميةٍ وإعلاميةٍ منبتةِ الصلةِ بالعصرِ .. ثم جاء عاملٌ خارجي هو "أكبر غلطة حسابات في القرن العشرين" لتعطي ذهنيةَ العنفِ فرصةَ النمو السياسي والعسكري لحدود ما كان لها أن تبلغها لو لم يقرر البعضُ أن يستعملها في صراعاته إستعمالاً كان يفتقر للحكمةِ وبعد النظرِ ودقةِ الحسابِ في كلِ الحالاتِ. وهكذا: وجد العالم نفسه بعد القضاء على الفاشية والنازية ، ثم القضاء على الشيوعية أمام مجابهة جديدة نجمت عن إنتقال مقعد القيادة في عالم المسلمين من التيار الوسطي المعتدل (المصري والسوري والتركي والمغربي قبل قرن من الزمان) إلى سبيكة الوهابية/القطبية/البترودولارية الجديدة التي لا يمكن أن تنخرط في مسيرة الإنسانية والتقدم والتمدن كلاعب ضمن آخرين. وعندما إغتالت مجموعةٌ متطرفةٌ الرئيس أنور السادات كان ذلك رمزاً من رموزِ ذيوعِ وشيوعِ ونفوذِ وإنتشارِ نموذج الفهم الوهابي للإسلام وبنفس القدر تراجع الفهم المصري/التركي/السوري للإسلام. ثم توالت أحداثٌ مماثلة تكرر الدليل بعد الدليل على أن الفهمَ السعودي للإسلام أصبح متسعاً ومنتشراً ومؤثراً في معظمِ المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة من نيجيريا إلى الجزائر إلى مصر إلى الجزيرة العربية إلى باكستان وأفغانستان وإندونيسيا.
وفي صباح 11 سبتمبر 2001 قام مجموعةٌ من المنتمين للفهمِ الوهابي للإسلام بهجماتهم في نيويورك وفيرجينيا وغيرهما في أعمالٍ تمثل موقف الفهم الوهابي للإسلام من الآخر بوجهٍ عام ومن الحضارةِ الغربيةِ بوجهٍ خاص.
***********
٤ شهد المسلمون خلال القرون الخمسة الهجرية الأولى نشاطاً فكرياً هائلاً فى سائر مجالات الفكر الإسلامي - علم أصول الفقه وعلم الكلام والتفسير والتأريخ - وهو ما تمخض عن ثروة في الآراء والإجتهادات من أقصى اليمين المحافظ كالمدرسة الحنبلية لأقصى درجات التوسع فى التأويل وإعمال العقل بنفس درجة إعمال النقل – وربما أكثر (مثل المفكر العظيم إبن رشد) ؛ وبين هذا وذاك شتى أنواع المدارس . ساهمت نظم الحكم الأوتوقراطية المغلقة مع نظم التعليم منبتة الصلة بالعصر وكذلك وسائل الإعلام الموجهة ومناخ ثقافة الفهم المتزمت (وأحياناً المتطرف) للدين لنشوء حالة تحفز بين عقول أعداد كبيرة من المسلمين والعرب وكلمات مثل "التقدم" و"الحداثة". بل يمكن القول أن العوامل التي ذكرتها (وهي عوامل داخلية) مع عوامل أخرى خارجية (مثل مرض "الطفولة الثقافية" في بعض الدول بالغة التقدم) قد أدت بالعقل المسلم والعربي للإعتقاد بأن الدعوة للتقدم والحداثة هي دعوة للتبعية وفقدان الخصوصية الثقافية. ويزيد من تفاقم الحالة ، ما يشعر به مسلمون وعرب كثيرون من أن قيم الحضارة الغربية السامية هي للداخل لا للكل. وقد بذلت جهوداً هائلة لأوضح لقرائي في مصر ومنطقة الشرق الأوسط أن "التقدم" ظاهرة إنسانية في المقام الأول. وإن "روشتة التقدم" لا جنسية أو دين لها: وكان دليلي الأول دائماً أن الولايات المتحدة واليابان وماليزيا وتايوان وكوريا الجنوبية هي مجتمعات متقدمة ، وبعضها غربي بحت وبعضها صيني وبعضها مسلم وبعضها ياباني. وقد أفردت العديد من كتاباتي لأوضح لأبناء وبنات مجتمعي أن الزعم بأن التقدم والحداثة هما مقابل حتمي لضياع الهوية والخصوصية الثقافية هو خلط مروع للأوراق. وما أكثر ما رددت: "إنني كرجل مارس تقنيات الإدارة الحديثة على نطاق واسع أعلم يقيناً أن هناك "إدارة ناجحة" و"إدارة فاشلة" ولكنني لا علم لي بإدارة عربية أو صينية أو إفريقية أو فرنسية". لقد تقدمت اليابان تقدماً مذهلاً خلال خمسين سنة ، ولا يزال المجتمع الياباني (لاسيما خارج العاصمة "طوكيو") يابانية صرفاً. والذي ينكر أن التقدم ظاهرة إنسانية وأن آلياتها أيضاً إنسانية هو إنسان لم تر عيناه "آليات التقدم على أرض الواقع" (وربما يكون ذلك تفسير عدم إهتمام معظم الأكاديميين بهذه الجزئية). ولا شك أن نظم الحكم الإستبدادية يلائمها المواطن المحلي الصرف والمنبت الصلة بالعالم الخارجي والذي يعتقد أن "الحداثة" هي الوجه الآخر "للتبعية" : فمواطن كهذا لن يؤمن أيضاً أن "الديمقراطية" ثمرة الإنسانية وأنها "منتج إنساني" و"حق إنساني" وليست بضاعة غربية "للغربيين" – كما أنه سيدرك (وهو أمر غير مرغوب فيه) أن القول بأن لكل مجتمع "نوع خاص من الديمقراطية يناسبه" هو "كلام مغرض إلى أبعد حد" : فمن المؤكد أن هناك صوراً عديدة للديمقراطية .. ولكن من المؤكد أيضاً أنها كلها تتضمن آليات محاسبة تهبط بالحكام من "أفق السادة" إلى "أفق خدمة المجتمع". ولكن المسلمين إرتكبوا جناية كبرى فى حق أنفسهم وفى حق دينهم عندما توقفوا عن البحث عن مفاهيم وحلول جديدة عندما أعلنوا "قفل باب الإجتهاد" والإنكباب على ما أنتجه السابقون من مفاهيم وحلول - رغم أنها كانت إبنة زمانهم وثمرة ظروف عصرهم . وهكذا ؛ فإن المسلمين منذ نحو ثمانية قرون فى حالة إجترار لأفكار رجال آخرين إجتهدوا لزمانهم لا لزماننا . وبينما كان رجال الدين - منذ ثمانية قرون – من نوعية إبن رشد الذي كان بقامة مثل قامة أرسطو ؛ فإن رجال الدين اليوم لا يقرأون إلا بالعربية ولا يعرفون علوم ومعارف العصر كما أنهم من بيئات إجتماعية لا تسمح لهم ظروفها بالإنفتاح الفكري على إبداعات الإنسانية فى سائر مجالات العلوم الإجتماعية والإنسانيات .
٤.1 إننا بحاجة لجيل جديد ممن إستوعبوا علوم وثقافات ومعارف العصر بقدر معرفتهم بتراث المسلمين السابقين . منذ سبعين سنة ؛ كان شيخ الأزهر فى مصر - الدكتور مصطفى عبد الرازق - أستاذاً سابقاً للفلسفة - وأين ؟ ليس فى جامعة الرياض أو جامعة صنعاء ؛ وإنما فى جامعة السوربون !! لقد جمعتني الظروف بعدد من رجال الفاتيكان ؛ وكنت دائما أتحسر : لماذا يحفل الفاتيكان برجال دين على هذا المستوى التعليمي والثقافي والمعرفي الموسوعي في شتى مجالات المعرفة ؛ بينما رجال الدين عندنا لا يعرفون أى شىء عن الثمار العظيمة للإبداع الإنساني فى عشرات المجالات التي تنضوي تحت فروع العلوم الإجتماعية والإنسانيات المختلفة . فى مؤتمر منذ بضع سنين رأيت من يعتبره البعض أكبر الفقهاء والدعاه الإسلاميين المعاصرين (وهو المصري المتجنس بالجنسية القطرية والذي هرب من مصر إبان أزمة صدام الإخوان المسلمين مع جمال عبد الناصر في سنة 1954) وهو يستعمل أكثر من مترجم ولا يدخل فى أي نقاش يتعلق بالأفكار والتيارات الحديثة فى العديد من المجالات ؛ بينما كان رجال الفاتيكان يصولون ويجولون بأربع أو خمس لغات وفى كافة المجالات المعرفية - ولا أكتم القول أننى شعرت يومها بالخجل منه فقد كان بدائياً فى كافة المجالات والتصرفات وكأنهم أتوا بإنسان بداءي من أحراش جزيرة بورنيو . نريد جيلاً من رجال الدين درس الأديان الأخرى والتاريخ الإنسانى والآداب العالمية والفلسفة وعلم الإجتماع وعلم النفس ويجيدون عدداً من اللغات (لغات الحضارة) ... وحتى يحدث هذا ؛ فسيظل مستوى رجال الدين عندنا على ما هو عليه الآن من البدائية والسذاجة والضحالة والإنعزال عن مسيرة التمدن والإنسانية ... قبل أن أبلغ العشرين علّمني المسرح اليوناني والفلسفة اليونانية القديمة راهب كان يرأس الدير الدومينيكي فى العباسية بالقاهرة وهو الأب جورج قنواتي ؛ وعلّمني راهب آخر ما جعل البعض اليوم يظن - وهو غير حقيقي - أنني متخصص أكاديمياً في الديانة اليهودية . ولم أر فى حياتي رجل دين إسلامي موسوعي المعرفة . والخلاصة ، أنه كما أننا متخلفون فى سائر العلوم والمجالات ؛ فإننا متخلفون لأبعد آماد التخلف فى علوم الدين الإسلامي وحالنا فى الدين الإسلامي كأحوالنا فى الطب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات وأبحاث الفضاء - إننا لسنا سوى "عالة" على البشرية - حتى السلاح الذى يستخدمه رجال الجماعات التي تسمي نفسها بالجهادية هو من صُنع الآخرين الذين يعملون ونتكلم نحن فى تفاهات الأمور .
إن عدم ظهور رجال دين من الطراز الذي وصفت معالمهُ فيما سبق من هذا الفصل أي رجال يجمعون بين ذروة علوم الإسلام وذروة علوم العصر ، بدون ظهور جيل من هؤلاء ، فإن المسلمين ستزداد عزلتهم عن ركب البشرية وستزداد حملات الهجوم عليهم والتخوف والحذر منهم بل وأتصور طرد أعداد كبيرة منهم من المجتمعات الأوروبية ومجتمعات أمريكا الشمالية كما قد تتكرر مصادمات مثل صدام الغرب مع طالبان في أفغانستان وسيصبح المسلمون (أو بالأحرى : ستصبح قطاعات كبيرة من المجتمعات الإسلامية) العدو الأول للحضارة الغربية بل وربما للإنسانية .
٤.2 ومن المستبعد أن يحدث التطوير المنشود داخل المؤسسات الدينية. فأكبر المؤسسات الدينية الإسلامية في العالم حالياً (في السعودية وفي مصر بالتحديد) تطرد عناصر التجديد والتغيير البسيط ، فما بالك بالتغيير الشامل المنشود . لقد طردت إحدى الجامعات الإسلامية الدكتور / أحمد صبحي منصور لمجرد رفضه لأن تكون الأحاديث النبوية مصدراً للأحكام الفقهية . وكان الجدير بها أن تختلف معه إختلافاً علمياً لا يخرج عن دائرة الحوار والجدل ومقارنة الحجة بالحجة . وهو أمر غريب ، فقد كان أبو حنيفة النعمان غير بعيد عن هذا الموقف الذي إتخذه الدكتور / أحمد صبحي منصور . فبينما قبل بعض الفقهاء الأحاديث النبوية، فإن أبا حنيفة قد رد معظم هذه الأحاديث وإكتفى ببضعة عشرات منها – وبكلمات أكثر تحديداً فإننا لو كنا قد وضعنا أمام أبي حنيفة كتاباً مثل صحيح البخاري لكان قد رفض أكتر من تسعين بالمائة من محتوياته ، ولكانت الجامعة الإسلامية قد حكمت بتكفير أبي حنيفة الذي هو أول الفقهاء الأربعة والملقب في التاريخ الإسلامي بالإمام الأعظم . والخلاصة أن أحوال المؤسسات الدينية الإسلامية المعاصرة لا تشي بقدرتها على إفراز رجال من نوع أبي حنيفة النعمان وإبن رشد، فهى تزداد إنغلاقاً وإنكباباً على المراجع الصفراء ويقتصر دورها منذ قرون على الشرح على المتون ولا يكاد يوجد بين رجالها من طالع ولو كتاب واحد بأية لغة غير العربية . وعليه ، فإن التغيير المنشود مرهون بإرادة سياسية تستند على حس تاريخي وإستشراف مستقبلي ، وهى مؤهلات غير متوفرة بكثرة في المجتمعات الإسلامية . ولكن بدون إرادة سياسية تهدف إلى إجراء عمليات كبيرة داخل بنية الفكر الإسلامي وجعل هذا الفكر منسجماً مع العصر ومع العلم ومع مسيرة المدنية ، فإن المسلمين سيكونون في طريقهم لمواجهة مع البشرية تشبه إصطدام الأجرام في الأفلاك السماوية .
الفصل الثاني التعامل مع المارد
وإذا كان من السهل على أي مواطن أوروبي أو أمريكي غير متعمق في تفاصيل ما جاء بهذا بما سلف أن يظن أن الإسلامَ والعنفَ والإرهابَ هي أمورٌ ملتصقة ببعضها البعض، فإن الدارس لهذا الموضوع يعرف أن كل ما حدث أن فهماً محدداً للإسلام كان بلا شأن ولا تأثير قبل إنهمار الثروة البترولية قد أصبح في ظل ظروف شرحتها في فقرة سابقة من فصل سابق قادراً على أن يجعل ( بفعاليات البترو/دولار) العالم يظن أن فهمه للإسلام هو (الإسلام) ، والحقيقة أنه فهمٌ ضيقٌ وصغيرٌ ولم يكن له أنصار بين المسلمين قبل حلول الثروة البترولية ، وأن ملايين المسلمين في مصر وتركيا وبلاد سوريا بالمعنى الواسع والعراق وإندونيسيا وغيرها كانوا لا يزالون بعيدين كل البعد عن حدةِ وتشددِ وتطرفِ وعنفِ ودمويةِ هذا المذهب الصغير في قيمته الفكرية والذي لولا البترودولار وغفلة العالم ما وصل لما وصل إليه اليوم حيث أصبح بالغ الخطورة على سلام البشر وعلى الإنسانية وأضيف وبكل الصدق "على الإسلام والمسلمين" ، وأعني هنا المسلمين الذين عرفهم العالم في مصر وسوريا ولبنان والعراق وتركيا منذ نصف قرن كنموذج للتسامح والتواصل مع الآخر والتعايش مع الديانات والثقافات المختلفة– ولكن هؤلاء المسلمين هم الذين أصبحوا بفعلِ حكامٍ طغاةٍ مستبدين (وفاسدين) في ظروف معيشية متدنية تجعلهم فريسةً سهلةً للفهمِ الوهابي للإسلام المدعوم بشلالات البترودولار.
أيضاً ، فلست بحاجةٍ لأن أُلفت إنتباه القارئ المحايد إلى أن وجودَ نصوصٍ في القرآن يمكن أن تستعمل كدليلٍ على عنفِ الإسلام هو أمرٌ لا أهمية له : فمن جهةٍ فإن هناك تفسيرات مستنيرة تربط هذه النصوص بظروفٍ وملابساتٍ معينةٍ ، فالعبرةُ ليست بالنص وإنما بالعقل الذي يتعامل مع النص . كذلك فإن هناك نصوصاً قرآنية أخرى عديدة تدعوا لنقيض العنف والعدوان على المختلفين ديناً ومذهباً بل وتحض على التعامل معهم بعدلٍ وإنسانيةٍ . كذلك فإن التركيز على النصوص سيسمح للمتطرفين على الجانبِ الآخرِ أن يقولوا أن في أسفار التوراة بوجه عام وقي سفر يشوع بن نون بوجهٍ خاص ما يحض أيضاً على العنفِ والدمِ – وهو ما لا ينبغي أن تتجه إليه العقول . إن المهمةَ السامية في هذا المجـال هـي مناصرة المستنيرين وتأييد المعتدلين والوقوف إلى جانب الفهم الإنساني للإسلام والذي كان هو دائماً "الأغلبية" ومقاومة الفهم المتشدد والمتطرف بل والدموي الذي أنتجته (وهذا أمر طبيعي) العزلةُ وراء كثبان رمال صحراء الجزيرة العربية وإختلاط هذه العزلة بنزعة قبلية يستحيل معهما (العزلة الجغرافية والنزعة القبلية) أن يكون الموقف من الآخر إنسانياً ومتسامحاً وإيجابياً . وسيكون من أوجب واجبات الحكومة السعودية أن تدرك أن الحلف السعودي/ الوهابي لم يعد من الممكن له أبداً أن يستمر فهو حلف يرسخ فكراً ظلامياً متطرفاً معادياً للتقدم والإنسانية والحضارة والتواصل بين الثقافات والنفع من أهم طبيعة من طبائع الحياة وهي التعددية. على كل، فأنا ممن يدعون أنه لا توجد ظواهرٌ إجتماعيةٌ مؤبدةٌ .. فالظواهرُ الإجتماعية ثمرةُ ظروفٍ وعواملٍ. لذلك فإن الخوفَ على الإسلامِ غير الوهابي (خوفاً جوهره إحتمال إنزواء هذا الفهم والذي كان الواجهة والأغلبية والتيار الأساسي في المجتمعاتِ الإسلاميةِ لعدةِ قرونٍ) هو خوف له أسبابه. فما لم تتم معالجة عناصر معادلة الإنهيار الداخلي التي شخصتها (من الأتوقراطية إلى ذهنية العنف مروراً بعدم الكفاءة وإنهيار المستويات الحياتية واليأس وتدني نظم التعليم) وما لم يميّز العالم الخارجي بوجهٍ عامٍ والقوى العظمى الوحيدةِ بوجهٍ خاص أن إتخاذ مواقف عدائية من الإسلام والمسلمين بشكلٍ مطلق وجزافي ستؤدي لردودِ فعلٍ لا يمكن أن تكون إلاِّ سلبية – لاسيما وأن العالم الخارجي (والقوى العظمى بالتحديد) كانت شريكاً لأولئك الذين تسببوا في تعاظم "معادلة الإنهيار الداخلي" كما كانوا شركاء في الظروف الخارجية التي سمحت لتيارِ العنفِ بأن يستفحل أمره وينتشر ذلك الإنتشار الكبير. إن عدم إنشغال "الإنسانية" كلها بدعم "الإسلام غير المحارب" (والي كان بمثابة الـ Main Stream حتى وقت قريب) وذلك عن طريق الإشتراك في إزالة الألغام الداخلية والخارجية سيكون جريمة من الإنسانية في حق نفسها وستكون عواقبها مروعة وثمنها فادحاً – وأخشى ما أخشاه أن تتسبب في ذلك "الطفولة الثقافية" للقوى العظمى الأولى في العالم اليوم: وأنا أعني ما أقول: فإن الولايات المتحدة رغم إنجازاتها العملاقة في عشرات المجالات تعاني مما أطلق عليه في محاضراتي "الطفولة الثقافية للسياسات الأمريكية" في غير قليل من الحالات. إن العمود الفقري للإنسانية هو "جسم ثقافي" أكثر من أي شئ آخر – وهذا ما لا يحوزه معظم المواطنين الأمريكيين ونسبة كبيرة جداً من كبار مثقفيها .. وتفسير ذلك عندي هو الفجوة بين "التقدم المادي/العلمي/التكنولوجي" وبين "الثراء الثقافي".. وكذلك الخلط الشديد في مراكز الفكر والثقافة في الولايات المتحدة بين "المحصول المعلوماتي" و"المحصول المعرفي" .. ولعل مقارنة بين كتاب "دراسة في التاريخ" لأرنولد توينبي ومؤلفات معظم مشاهير الكتابة في السياسة وصراع الحضارات الأمريكيين المعاصرين توضح ما أقصده هنا.
وبعد ثلاثة عقود من تكوين المملكة العربية السعودية وإكتشاف البترول كانت أشياءٌ كثيرةٌ في الدنيا قد تغيرت:
- أولاً : تحققت ثروة هائلة سمحت بالإنفاق ببذخٍ على الفهم الوهابي للإسلام في الداخل والخارج. وهو ما أدى لحدوث تأثيراتٍ لا تنكر على فهمِ الكثير من المسلمين المعتدلين أصلاً للإسلام ؛ إذ إقتربت عقولُ العديدين منهم لنموذج الفهم الوهابي للإسلام. - ثانياً : تعرضت مصرُ لتراجعٍ كبيرٍ في كل مستوياتها منذ الستينيات بما في ذلك تراجع مُناخها الثقافي العام وتغلغل النفوذ الوهابي داخل مؤسسة الأزهر العريقة ؛ ثم جاءت هزيمةُ يونيه 1967 لتفتح المجال واسعاً أمام المجموعات المتأثرة في مصرَ بالفهم الوهابي للإسلام لكي تتحول إلى تياراتٍ سياسيةٍ نشطة ذات توجهات متشددة بل ومتطرفة بل وحاملة للمدفع والبندقية. - ثالثاً : إرتكب الغربُ بوجهٍ عام والولاياتُ المتحدة الأمريكية بوجهٍ خاص أخطاءاً عديدة بسبب ظروف الحرب الباردة من بينها غض النظر عن تنامي الفهم الوهابي للإسلام في العالم العربي والإسلامي والتعامل مع تياراتٍ تنتمي للفهم الوهابي للإسلام بغرضِ تحقيق أهدافٍ محددة مثل طرد القوات السوفيتية من أفغانستان. وهكذا يكون السؤال حول "مستقبل العقل المسلم" هو ذات السؤال حول "مستقبل المجتمعات المسلمة" – هل هو مستقبل في ظل الحريات والديمقراطية والإزدهار والتقدم .. أم مستقبل سيشهد نقيض كل ذلك؟ .. والإجابة عن هذا السؤال تحدد الإجابة عن السؤال حول مستقبل العقل المسلم : أهو طريق الإسلام الوسطي أم طريق الإسلام الوهابي؟ إن الإسراع في عملية الإصلاح السياسي والإقتصادي والتعليمي هو الضمانة الوحيدة للتقليل من الشعبية غير العقلانية لفكر الجماعات الإسلامية في العالم. فإذا شعرت شعوب المجتمعات الإسلامية بمتعة الحرية والمشاركة وواكب ذلك تحسن ملحوظ في الإقتصاد والظروف الحياتية مع إصلاح تعليمي ملموس – فإن شعوب المجتمعات الإسلامية سينخفض إعجابها غير العقلاني بالجماعات الإسلامية وستدرك تلك الشعوب أن الخير والصواب لا يمكن أن يتوفرا على يد أشخاص مثل قادة هذه التيارات بذهنيتهم المتسمة بالتعصب والبداوة وضيق الأفق وعدم المعرفة بمعظم معطيات العصر. إن اليأس وسوء الظروف الحياتية والشعور بالظلم وقسوة الحياة والفساد هي مكونات البيئة المثلى لإزدياد شعبية التيارات السياسية الدينية. إذ أننا نكون في حالة يتواجد فيها "أمل" (وإن كان مستحيل التحقيق) في مواجهة "يأس كبير". والحقيقة أن المتأسلمين لا يمكن أن يكونوا على درجة عالية من الكفاءة. فهم أصحاب "حلم" (وهم؟!) ووعود كبيرة وإعتقاد (لا أساس له) أن لديهم وصفة "فيها البركة" (!؟؟) ولكنني كقائد إداري لمؤسسة كبيرة لسنوات عديدة لا أعرف ما هي مصادر كفاءتهم. إن "التقدم" ظاهرة إدارية عصرية تتحقق للمسيحي واليهودي والمسلم والبوذي إذا توفرت عناصرها – وعناصر التقدم سياسية/إدارية/إقتصادية/تعليمية إنسانية بلا دين ولا جنسية. و كنتيجة لليأس وسوء الظروف الحياتية والشعور بالظلم وقسوة الحياة والفساد يعيش العقلاءُ في منطقتنا اليوم وبين أرجلهم ومن حولهم قطعاناً من المخربين. أما العقلاء ، فتعريفهم عندي أولئك الذين يريدون أن يعيشوا وأن يحسّنوا نوعية الحياة لأنفسهم وللآخرين معهم ومن بعدهم . أما المخربين ، فهم أولئك الذين يصرون (تحت شعارات يرفعونها وتبدو للسذج نبيلة) على إعاقة الحياة وعملية تواصلها وتواصل تجويدها وتحسين نوعيتها . وأول المخربين ، هم أولئك الذين يخلطون (بخبث لا بحسن نية) الدين بالسياسة ، فيدعون أن الله معهم وأنهم – لذلك- يملكون وصفة (روشتة) علاج لإمراض واقعنا كلها . وهو زعم ساذج وبدائي ولا أساس له من المنطق أو التجربة التاريخية . فالتاريخ الذين يصفونه بالمجيد لم يكن أكثر من تاريخ إنساني كان عامراً بالصراعات والدم (مقتل ثلاثة من أربعة خلفاء راشدين ... وجرائم بني أمية بدءاً من مقتل الحسين وأنصاره إلى آخر السلسلة المعروفة من حكامهم وحكمهم الذي وصفه إبن خلدون بأنه ما كان إلا ملكاً عضوضاً) ... ثم جرائم معظم الخلفاء العباسيين بدءاً من أوليهما – السفاح وأبي جعفر المنصور اللذين قتلا من ساعدهما على الوصول للحكم – إلى هارون الرشيد بطل مجزرة البرامكة... إلى المأمون الذي أمر بضرب أحمد بن حنبل "ضرب التلف" لإختلافه معه في قضية فلسفية محضة (قضية خلق القرآن أم أبديته)... إلى لحظة سقوط الخلافة العثمانية...
ولا يضحكني شيء أكثر من زعم "أول المخربين" أن نهجهم سيأتي بالبركة الإلهيـة ... فتنجح أعمالهم . وقد تناسى هؤلاء أن البركة (كل البركة) لم تفد المسلمين يوم موقعة أحد حيث إنهزموا رغم وجود أقوى أسباب البركة وسطهم وهو الرسول (ص) . وهى حادثة فارقة في تاريخ المسلمين إذ تثبت أن الله (كما كتب الوليد بن رشد بروعة) وضع قوانين الحياة وجعلها تعمل ... ومن بين قوانين الحياة أن ينتصر في الحروب من هو أكفأ ، ليس من "يتخيل أن البركة معه" .
ولولا أمية الكثيرين من أبناء مجتمعاتنا وضحالة علم معظم المتعلمين ، لكان من الجلي للكل أن "أول المخربين" لا يمكن أن يكونوا أكفاء . فللكفاءة مصدران هما "العلم" و "الإدارة الحديثة" ... ومن غير المتصور أن يتحلى "هؤلاء" ببعض (ناهيك عن الكثير) من مقومات الكفاءة هذه ... ويكفي أن ننظر إليهم ونسمع (ونقرأ) كلامهم ... (يقول أرسطو : "تكلم حتى أراك") .
وإلى جانب "أول المخربين" يقف حسن نصر الله الذي يصر على تدمير لبنان (أحد أجمل بقاع عالمنا العربي) بسبب تبعيته المطلقة والعمياء لنظام حكم القرون الوسطى في إيران . ومن أكثر ما يحزنني أن يكون معظم الأحياء على سطح الأرض يرون جسامة وفداحة خطأ حسن نصر الله يوم 12 يوليو 2006 (بل ويقر هو أيضاً بذلك الخطأ في حديث له من واحد من أكثر المثقفين العرب إمعاناً في التخريب) ولا يعني ذلك عند شعوبنا وضع هذا الشخص على رأس قائمة المخربين . إن النتيجة العملية الوحيدة لحرب حزب الله لإسرائيل في صيف 2006 هى إنتقال "ميليشيا حزب الله وزعيمها" من القتال مع إسرائيل إلى القتال مع لبنان ولبنانيين آخرين أكثر إنتماء للعصر من ميليشيات "السيد" المستند بالكلية على "حائط طهران" .
وإلى جوار من ذكرت من المخربين ، تأتي "حماس" (الإخوان المسلمون فرع غـزة – كما كانوا يسمون منذ عشرين سنة) . فمن لحظة مجيئهم للسلطة أكدﱢوا للبشرية خطورة هذا الفصيل بتصرف غاية في قصر النظر . جاءت حماس بسنةٍ جديدة هى عدم إحترام الحكومات الإسلامية لما سبق وأن أقرته حكومات سابقة . ويزيد من فداحة الخطأ – هنا- معرفتي (المؤكدة) أنه لا يوجد زعيم من زعماء حماس إلاَّ ويؤكد في أحاديثه وحواراته الخاصة أن وجود إسرائيل حقيقة مؤكدة . فلما أذن إيذاء ملايين الفلسطينيين من أجل "وهم" ليس إلاَّ ؟! الجواب : لأننا بصدد "مخربين" لا "رجال حكم مسئوليين" .
وفي طهران , يحكم مخربون قد يأخذوا البشرية لحرب كونية بسوداوية فكرهم وإنعزالهم عن حقائق الواقع ورفعهم شعارات لا تمت للعصر ولا للحضارة ولا للمدنية بصلة . ومخربوا إيران طغمة لا ترى أن من أهم مهامها العمل على تحسين ظروف حياة الشعب الإيراني ، وإنما التحول الذي لا تتوفر أيَّ من شروطه لقوة عظمى !.. هل إكتملت قائمة المخربيين ؟ .. قطعاً لا .. ففي واشنطن مخربون لم يجيدوا عملاً واحداً بدأوه منذ سنة 2001 . وبصرف النظر عن صواب أو خطأ ما أقدموا عليه , فإن ما أقدموا عليه مورس بأشد درجات الغلط و الخطأ وإنعدام المعرفة والرؤية . وفي القدس وتل أبيب مخربون آخرون لم يدركوا قط أن الزمن (الذي يحاولون كسبه) إنما يعمل ضدهم ... كما أنهم لم يدركوا قط حجم مساهمتهم في إطلاق مارد المتأسلمين من قمقمه ...وربما يدركوا ذلك – بعد فوات الأوان .
عالم مجنون هو الذي نعيش وسطه ... عالم حاشد بالمخربين الذين يحملون نار حقد هائلة في منطقة كلها مواد قابلة للإشتعال : البترول والدين .
الفصل الثالث التغلغل
١
أُطلقت تسميةَ الإرهابِ على عدةِ ظواهرٍ خلال نصف القرنِ الأخير . فمثلاً أَطلق البريطانيون وصفَ الإرهابِ على عملياتِ الجيشِ الجُمهوري الأيرلندي كما أُطلق نفس الوصف على العديدِ من الحركاتِ مثل الحركةِ التي تَستهدف إستقلالَ إقليم الباسك بين أسبانيا وفرنسا كما أُطلق نفس الوصف على عملياتِ مُنظماتِ الألوية الحمراء (إيطاليا) وبادرماينهوف (ألمانيا) وحركات مماثلة في اليابان وأمريكا اللاتينية . أما اليوم , فعندما يُستعمل مصطلح الإرهاب فإن أولَ ما يتبادر للأذهانِ (خارج المُجتمعات العربية والإسلامية) أَن عرباً أو مُسلمين قاموا بعملٍ عنيفٍ . وقد تصاعد خلال السنواتِ منذ كارثة 11 سبتمبر 2001 الربطُ ما بين المسلمين والعمليات الإرهابية ، وهو الربط الذي أدى إلى ظهورِ ظاهرةِ الخوفِ الهوسي من الإسلام (الإسلامو فوبيا) . والذي لا شك فيه أن مُسلمين أو عرب يكونون عادةً منخرطين في العملياتِ التي يَصفها العالمُ اليوم بالإرهابِ . وبغض النظر عن أكبر مدرستين في تفسير ذلك وهما مدرسة تدين المسلمين بشكلٍ مُطلقٍ ومدرسةٍ (إسلامية) تبرر ذلك بما تعرض ويتعرض له المسلمون ، فإنني أودُ في هذا القصل أن أتناول منابعَ أو مصادرَ أو أعمدةَ تلك الظاهرة بشكلٍ قد يكون مُختلفاً عن مُعظم التناولاتِ السابقة لهذا الأمر الذي أصبح بمثابةِ الشُغل الشاغل لمئاتِ الباحثين والدارسين في العالم .
رغم تسليمي بإختلافِ ظاهرة الإرهاب التي ينخرط فيها عربٌ ومُسلمون عن غيرهِا من ظواهرِ الإرهابِ فيما يتعلق بالحجمِ ، أي كَون الظاهرة في حالتِها الإسلامية أكبر حجماً وأكثر إتساعاً من أي ظاهرةٍ أُخرى وُصفت بالإرهابية (مثل الظاهرة الأيرلندية) ، إلا أنني أرى أن الإختلافَ يتعلق بحجمِ وعددِ الأتباعِ في المقامِ الأول . وأعني أنه بينما يُعتَبَر عدد الدعاة قليلاً ومُشابهاً للدُعاةِ في أنساقٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ أُخرى فإن أعدادَ الذين ينجذبون لأفكارِ الدُعاةِ في الحالةِ الإسلاميةِ أكبرُ بكثيرٍ جداً .
وفي إعتقادي أن الذين يتعاملون سياسياً وأمنياً وكذلك الذين يَدرسون ما يُسمى بالإرهاب الإسلامي يبدأون من نقطةٍ تتجاوز هذه التفرقة بالغة الأهمية بين "الدُعاةِ" و"الأتباعِ" . بينما يميل كاتبُ هذه السطور للإعتقادِ بأن هذه التفرقةَ هي كلمةُ السرِ التي تفتح أبوابَ الحلولِ والتعامل الناجع مع تلك الظاهرةِ التي يرى البعضُ خارج المجتمعات الإسلامية أنها تمثل التحدي الأكبر للبشريةِ وللإنسانيةِ وللمدنيةِ في القرنِ الحادي والعشرين . فالدُعاةُ الذين يكتبون كُتباً ويَلقون محاضراتٍ ويحاولون التأثير في الناسِ بشكلٍ إيجابي أو سَلبي لا يَستطيعون جذب أتباع بأعدادٍ كبيرة إلا إذا كانت الحالةُ الذهنية والنفسية والظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية تجعل الأتباعَ في حالةِ إستعدادٍ لتلقي الدعوة . في كل الأديان والطوائف والمِلَل دُعاةٌ يحاولون الترويج لأفكارٍ بالغة التشدد وأحياناً بالغة العدوانية . ولكن حجمَ وأعدادَ الأتباعِ يتفاوتون . وعلى سبيل الِمثال ، فإن هناك من القادةِ الدينيين اليَهود والمَسيحيين من يدعون لأفكار بالغة التضاد مع الإنسانية والتسامح وقبول الآخر (بل ولقتل بعض الآخرين) . ولكن يبقى أن أعدادَ هؤلاء لا تشكل ظاهرةً تعكس إتساع وكثرة أعداد أتباع بعض الأفكار والدعوَات الإسلامية المُتشددة . وتتجه نظمٌ سياسيةٌ عديدةٌ (وللأسف ، تُؤيدها قِطاعاتٌ من المُثقفين) للتعاملِ الأمني مع أعضاءِ الدائرتين : دائرة الدُعاة ودائرة الأتباع ؛ ومن هنا تبدأ ثم تتوسع ثم تتفاقم الكارثةُ .
ففي إعتقادي أَن الدُعاةَ قد يُشكلون بعض الخطورة ، ولكنها خطورةٌ نسبيةٌ أو مَحدودةٌ لا توصل المُجتمعات إلى ما وصلت إليه عدةُ مُجتمعاتٍ إسلامية مُعاصرة، وأَزعُم أن التعاملَ الأمني مع مُعظم الدُعاةِ لا يؤدي لأية نتائجٍ إيجابية . فقتلُ مُفكرٍ مثل سيد قطب على المشنقة سنة 1966 لم يَنتجُ عنه أي إنحسارٍ لأفكارهِ التي تعُد (في إعتقادي) بعد إندماجها مع التيار الوهابي بمثابةِ المصدرِ الفكري الأول لمعظمِ تياراتِ الإسلامِ السياسي العنيفةِ والرَاديكاليةِ . إن الطريقةَ الوحيدة للتعاملِ مع الدُعاةِ هي صحوةٌ فكريةٌ وثقافيةٌ تنخرط فيها النُخبُ المثقفة بمعنى أن يُقارع الفكرَ بالفكرِ والرأي بالرأي والكتابةَ بالكتابةِ. وهنا ، فإن فئةَ المثقفين الرسميين تكونُ غيرَ ذاتِ قدرةٍ على التأثيرِ بشكلٍ إيجابي لكون أفرادها "موظفين" أكثر من كونهم "مفكرين أو مثقفين" . ناهيك عن دلالات عدم المصداقية بالنسبةِ لمعظمهم .
وفي كل الأحوال , فإنني لا أظن أبداً أن الدُعاةَ هم حجر الأساس لظاهرةِ العُنفِ السياسي الموصوم بالإرهابِ الإسلامي .
إن الداءَ كله يكمن في "الأتباع" . وبداية الحلول تكمن في الإجابة عن السؤالِ التالي : ما الذي يجذب الشباب (بوجهٍ خاصٍ) في مُجتمعاتٍ إسلاميةٍ عديدةٍ للسيرِ وراء هؤلاء الدُعاة الذين صاغوا أفكاراً راديكالية تسوّغَ العُنف والإبتعاد عن مَسيرةِ المدنيةِ الإنسانيةِ . وفي إعتقادي أن مُجملَ الأسباب التي تُغري الشباب في المُجتمعات الإسلامية بإتباع الدعوات الراديكالية يمكن أن تنضوي تحت كلمةٍ واحدةٍ كبيرةٍ هى "الغضب" . وهو في إعتقادي غضب متعدد المصادر ، كما أنه في إعتقادي غضبٌ علينا أن نفهمهُ لا أن نَستهجنهُ ، ولا يهم إن أدى "الفهم" للتعاطف , فالتعاطف (عند العُقلاء أصحاب الرؤية الإنسانية والتاريخية) لا يعني "المُسايرة" أو "التبرير" أو "القبول" وإنما يعني إدراك أننا أمام مرض ومريض , وكلاهُما يحتاج لعلاجٍ أي لطبيبٍ ولدواءٍ وليس لتدابيرٍ أمنيةٍ أو عنفٍ وقسرٍ وتعذيبٍ .
************
٢ ومصادر هذا الغضب عديدة لكن أهمها مايلي : أولاً : الشُعور المَدعوم بمفردات الواقع بضيق آفاق الحياة وهو يشمل يأس المُتعلمين وغير المُتعلمين من العثورِ على عملٍ لائقٍ يسمح بحياةٍ إنسانيةٍ معقولةٍ . ثانياً : التفاوت المُذهِل بين الذين "لديهم" والذين "ليس لديهم" . وأعتقد أن الغضبَ لا ينبع من التفاوت، وإنما من هول مساحاتِ ومسافاتِ التفاوت . ثالثاً : عدم وضوح أسباب وشرعية ثراء الأثرياء وقوة الأقوياء وشُهرة المشاهير . لقد كان الناسُ يعلمون أن محمد طلعت حرب رجلٌ ثريٌّ ، ولكنهم لم يكن ظنهم يتجه لكون ثروته قد تكونت بسُبلٍ مُريبةٍ . رابعاً : إختفاء العدالة في مُعظم مجالات الوظائف والعمل وأحياناً الأعمال التُجارية ، حيث تكون لقوةِ العضلاتِ السياسيةِ الداعمةِ للبعضِ (وغير المتوفرة للأكثرية) قوة "بُساط الريح" . خامساً: ندرة الشخصيات القدوة في مُعظم المجالات . سادساً: قُرب المسافة بين "سُلطان المال" وسُلطانين آخرين هما "السلطة التنفيذية" و"الإعلام" . سابعاً : ما يشيع عن حالات الفساد دون إمكانية التأكُد من حقيقتها أو دون رؤية أية عواقبٍ لتلك "القصص" التي تلوكها الألسنُ .
أخيراً ، إن دراسةَ هذه الأعمدةِ السبعة التي يرتكز عليها هيكلُ الغضبِ الذي يفُرّخ العُنف والرفض والعدوانية والإرهاب هى مسألةٌ سياسيةٌ وثقافيةٌ وإستراتيچيةٌ . أما إختزالُ الأمرِ في (التفسير الأمني) ثم (التعامل معه بالوسائلِ الأمنية) فهو ظُلمٌ للمُجتمعِ ولكلِ أطرافِ المسألةِ بما في ذلك هيئات الأمن ذاتها التي يُطلَب منها التعامل الأمني مع ظواهر مُتعددة الجذور السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية . الفصل الرابع وهم الأحزاب الدينية
١
هناك أكثر من سببٍ منطقيّ وعقلانيّ ووجيهٍ لكي تتجه الأمةُ (أي الأمة المصرية) من خلال التعديلاتِ الدستوريةِ المرتقبة للنصِ الصريحِ على عدمِ جواز تأسيسِ الأحزابِ السياسيةِ على أُسسٍ دينيةٍ . فهناَك أولاً إعتقاد الكثيرين أن ما يضفي كثيرون عليه هالةً من التقديسِ وأعني "الفقه الإسلامي" هو – أي التقديس – أمرٌ لا أساس أو مبرر أو تسويغ له . فالفقه الإسلامي عملٌ بشريٌّ محضْ . ولعله من المفيد أَن أُشير هنا لأكثر التعريفاتِ إستقراراً وإنتشاراً للفقه الإسلامي وهو التعريف الذي يقول : (إن علمَ أصولِ الفقه هو علمُ إستنباطِ الأحكامِ العمليةِ من أدلتها الشرعية) . ولا نحتاج لأن نصرف كثير جهدٍ في إثباتِ أن أية "عمليةِ إستنباطٍ" هى عملٌ بشري بحتميةِ اللغةِ والمنطقِ . كذلك فإن تعاقبَ الفقهاءِ السنيين الأربعة الكبار (وأتحدث هنا عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل) وقد عاشوا وماتوا خلال أقل من قرنين وتعاصر منهم الثاني والثالث على الأقل ... إنما يؤكد أننا بصددِ عملٍ بشري ، وإلاَّ فكيف يجرؤ "مالك" على وضعِ مذهبٍ فقهيّ مختلفٍ عن مذهبِ أبي حنيفة ، لو كان العملُ الذي قام به أبو حنيفة أي شيء عدا كونه عمـلاً بشريـاً ؟ ... ناهيك عن أن ثالث فقهاء السنة الأربعة الكبار كان له مذهبان : مذهبه للعراق ومذهبه لمصرَ ... وهو أمر له دلالات بالغة الوضوح ، وأهمها أننا بصدد عملٍ بشريٍّ إنسانيٍّ محضٍ (من ألفه إلى يائه) .
وبالتالي , فإن المباديء التي يعتقد البعضُ أنها مباديء الإسلام في نظم الحكم ما هي إلاَّ "إجتهاد" ... وهذا الإجتهاد هو ما ُسمى بالأحكام السلطانية ... ويعرف المتخصصون أن الحكام (سواء حكام حقبة بني أمية أو حكام الحقبة العباسية) كانوا وراء معظم ما كُتب عن الأحكام السلطانية ليضمنوا أن ما سيكتب سيأتي مواتياً لرغباتهم وفهمهم هم . وهو أمر تكرر في مجتمعات أخرى (وأشير هنا لعلاقة آراء وكتابات المفكر السياسي البريطاني هوبز بالعرش البريطاني أو بالتحديد بأهواء العرش البريطاني في مسألة تكييف العلاقة بين الحاكم والمحكومين) . وهكذا , فإن وجودَ أحزابٍ سياسيةٍ على أُسسٍ دينيةٍ هو أمرٌ غير منطقي , حيث أن المبادىء التي يُقال أنها "مذهب الإسلام في شئون الحكم" لا تعكس إلا فهم بشر مثلنا قد يخطئون وقد يصيبون – والأمر كله عمل بشري . وخلاصة القول هنا , أن الإسلامَ لم يقم بوضعِ نظامٍ شاملٍ كاملٍ لقواعدِ ونظم الحكم تصلح لأن تكون بديلاً عن القواعد الدستورية التفصيلية المعاصرة , وذلك لأن هذه ليست هي مهمة أو غاية الإسلام . فالذي يعيب على الإسلام خلوه من النظام السياسي كمن يعيب على الإسلام أنه لم يقدم نظرية متكاملة في علم النفس أو في علم الإجتماع ... أو في علوم الإدارة (!!) . والواقع ، أن الإسلام جاء بمجموعةٍ عامةٍ من القواعد الكلية التي من الأفضل والأنفع الإستهداء بها عند وضع القواعد التفصيلية . أما هذه القواعد التفصيلية ( مثال : كل ما جاء بكتاب "الأحكام السلطانية " للماوردي وبعشرات الكتب المماثلة في الموضوع والعنوان) فإن ذلك عملٌ بشريٌّ محض يعكس إجتهاداً إنسانياً يترجم هو أيضاً القدرات العلمية والعقلية والمكونات الثقافية ودوافع كاتبها ؛ كما يعكس حقائقَ الزمانِ والمكانِ .
وما أُريدُ أن أُركز عليه في هذا الفصل هو أن هناك منطقاً لم يسلط عليه كثيرون الضوء من قبل وهو جدير بنسف وجهةِ النظر التي تدعو لتأسيسِ أحزابٍ سياسيةٍ على أُسسٍ دينيـةٍ ... فلو بدأنا من أن مجملَ القواعدِ التي يسميها البعضُ "نظم الحكم في الإسلام" ما هى إلا إستنباطات لرجال عاشوا منذ أكثر من ألف سنة ، وأعملوا فكرهم وعقولهم وحاولوا تقديم القواعد التي يظنون أنها ستؤدي (في زمانهم ومكانهم وعلى قدر فهمهم وعلمهم وظروفهم) لإقامةِ نظامِ حكمٍ يعبر عن القيمِ الأساسية التي يدعو لها الإسلامُ ويتوخى شيوعها وذيوعها في المجتمعات الإسلامية – إذا بدأنا من هذا المنطلق ، فإننا نكون قد إتفقنا على أن ما يسمى بنظم الحكم في الإسلام هو تعبير عام (غير دقيق) عما كتبه فقهاءٌ مسلمون منذ أكثر من ألف سنة في محاولة (جادة ومحترمة) منهم لإيجادِ نظمِ حكمٍ في مجتمعاتهم تتماشى وتنسجم وتتوافق مع مباديء وقيم الإسلام .
************
٢
ومعنى هذا ، أننا حتى لو سلمنا بأن مؤلفي كل ما وصلنا من كتابات المسلمين الأقدمين عن قواعد ونظم الحكم هى كتابات قيمة وتستلهم "روح الإسلام" (وهذا أقصى ما يستطيع أي صاحب عقل أن يصل إليه) فإن على الجميع أن يؤمنوا بأنه نظراً لتقاعس المسلمين (لمدة تبلغ الآن قرابة الألف سنة) عن التجديد والإضافة لكتابات الفقهاء الأقدمين في مجال الأحكام السلطانية (وهو ما يعكس من المصطلحات المعاصرة نظم وقواعد الحكم الدستورية والسياسية) ... فإن أي حديثٍ عن الإقتباس من هذه المؤلفات – كما وضعت منذ ألف سنة - قبل حدوث نهضةٍ فقهيةٍ إسلاميةٍ معاصرةٍ تدلي بدلوها في هذا المجال (مجال الأحكام السلطانية بالتعبير القديم الذي يجب أن يتبدل بمصطلح يعبر عن حقائق الزمن) إنما سيكون مثل من يفتح كتاباً وضع في القرن العاشر الميلادي في الطب والصيدلة ويريد أن يؤسس عليها نظاماً ومؤسسات طبية معاصرة !! ... فإن ذلك سيؤدي – لا محالة – لموت كل المرضى !! وكما قلت في مواضعٍ أُخرى , فكما أن الإسلامَ تكلم عن الدواب والأنعام كوسائل إنتقال (ولا عيب في ذلك) فقد تكلم عن الشورى (وليس عن الديموقراطية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان) وأيضاً لا عيب في ذلك , وإنما العيب أن يتمسك إنسانٌ بالدوابِ كوسيلةِ إنتقالٍ (كما أراد الوهابيون بقيادة فيصل الدويش في معركتهم مع الملك عبد العزيز في عشرينيات القرن العشرين عندما رفضوا كلَ مظاهرِ المدنيةِ والحداثةِ مثل السيارة والتليفون والراديو) . وفي إعتقادي أن الذي يتمسك بمصطلح الشورى (وهو مصطلح بسيط يعكس حقائق العصر والجغرافيا ودرجة التقدم) يكون كمن يتمسك بأن وسائل المواصلات يجب أن تكون هى الدواب والأنعام (لأن الإسلام تكلم عن الدواب ولم يتكلم عن السيارة والقطار والطائرة) .ولكن البعض قد يقول "ولماذا لا نستطيع نحن كمسلمين تأسيس أحزاب سياسيةٍ على أُسسٍ دينيةٍ بينما توجد العديد من الأحزاب السياسية التي توصف بالمسيحية في أوروبا ولعل أشهرها الحزب الديموقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه السيدة مركيل التي تحكم ألمانيا اليوم ؟ ... وأمامي وأنا أكتب هذه الكلمات دساتير كل الدول التي بها أحزابٌ مسيحية وأيضاً مباديء هذه الأحزاب (وأهمها الحزب الديموقراطي المسيحي الألماني) ولا توجد كلمة واحدة لا بتلك الدساتير ولا بتلك المباديء تشير إلى أن هذه الأحزاب ستحكم بمباديء دينية أو بمباديء غير قواعد الدستور ... بل وأنها (رغم تسميتها بالمسيحية) لا تحمل من هذه الصفة إلا الإسم . فهى أحزاب تمثل أجنحة محافظة تستلهم القيم من المسيحية ولكنها حاكمة ومحكومة ومنضبطة بقواعد الدستور والقوانين الوضعية . ولا أظن أن أنصار حركة مثل الإخوان المسلمين في مصرَ وغيرها يمكن أن يعلنوا أن هدفهم من تحويل حركة الإخوان المسلمين لحزبٍ سياسيّ هو أن يصلوا لشكلٍ مماثلٍ للحزبِ الديموقراطي المسيحي ؟ (!!) .
وتبقى جزئية هامة وهى إعتقادي الجازم أن الأحزابَ السياسية التي تسمي نفسها بأحزابٍ إسلاميةٍ هى (أحزاب سياسية محض) ، بلا فارق بينها وبين غيرها : فكلهم كيانات سياسية صرف تحاول الوصول للحكم (وهو أمر مشروع) إلا أن البعض يلعب على أوتار عاطفية عندما يسمي نفسه بالإسلامي ... وما هم إلا محض حركة سلفية تعيش على فهم وإستنباطات بشر عاشوا منذ أكثر من ألف سنة وتعاملوا مع مسائل عصرهم وزمناهم وحاولوا إيجاد الحلول لها ... وهى حلول كانت إبنة الزمان والمكان ... ولا أدل على ذلك من وضع محمد بن إدريس (الإمام الشافعي) لمذهب جديد عندما جاء لمصر (لأن مذهبه الأسبق كان مناسباً لبيئة أخرى هى العراق) ... والكارثة أن يأتي بشر يتميزون بالكسلِ والعطالةِ الفكرية إذ أنهم لم يجتهدوا لا هم ولا آباؤهم ولا أجدادهم لمدة ألف سنة ، ولكنهم يريدون أن يعيشوا عالةً على فهمِ بشرٍ آخرين حاولوا وإجتهدوا منذ عشرة قرون . وفي إعتقادي أن الحركاتِ التي تسمى بحركات الإسلام السياسي (ومنها حركات الإخوان المسلمين) تعاني (دون أن تدرك) من إشكاليات فكرية هائلة وذات آثار بالغة القوة (والسلبية) . فالإسلامُ تتطرق لمباديء عليا عن العدلِ والإنصافِ والمساواةِ وفضائل العلم والذين يعلمون (في مقابل : الذين لا يعلمون) بما يمكن أن نسميه "مباديء كلية" (أو ماكرو) . ولكنه (ولكي يبقى صالحاً لأزمنة وأمكنة غير أزمنة وأمكنة فجر الإسلام) لم يأتي بأحكام تفصيلية ... أي على مستوى الجزيئات ودقائق التفاصيل والآليات (أي على مستوى الميكرو) . وفي ظل هذا الوضع (الذي لا يقبل بتوصيفنا هذا له أتباعُ حركاتِ الإسلامِ السياسي) فإنهم يبحثون – بجهد جهيد – عن نظام متكامل (عدا المبـاديء الكليـة) ... ونظراً لعدم وجود هذه النظام المتكامل فإنهم يتمسكون بذات المواضيع (مثل : حرمة فوائد البنوك والنظام العقابي وغيرهم) . والأسلم (والأكثر جلباً للصلح المفقود بينهم وبين "الإنسانية") أن يعترفوا بأن الإسلام جاء كدينٍ سامي وليس ككتابِ إقتصادٍ أو سياسةٍ أو إجتماعٍ أو علمِ نفسٍ أو كيمياءِ أو طبْ . ولكن كيف لهم أن يلعبوا لعبة السياسة بعد أن يعترفوا بهذا الإعتراف الذي ندعوهم إليه ؟ ... إنهم إن فعلوا تخلوا عن أقوى مواد الدعاية السياسية التي بأيديهم كما أنهم سيكونون مطالبين بتقديم برنامج سياسي وإقتصادي وإجتماعي عدا مسألة "تطبيق أوامر الله" و"الإسلام هو الحل" و"البركة" ... وما لا يوجد لديهم سواه من شعارات عامة مجردة ما يهبط بها الإنسانُ المدقق لمستوى الحياة ومعمل العلم والتجربة والفحص والتدقيق حتى يجد أنها بالونات هائلة ليس بداخلها إلا الهواء : وهو هواء سياسي محض لادين فيه بأي شكل أو أي قدر . ************
٣ وتبقى مسألة "البركة" ... فكثير من المسلمين الطيبين البسطاء يعتقدون أن وجود أشخاص على رأس المجتمع يحكمون بإسم الإسلام هو أمر كفيل بتحقيق الخير والبركة. ولهؤلاء أكرر : أن المسلمين الأوائل (الصحابة من المهاجرين والأنصار) قد هزموا في معركة (موقعة) أُحد وفي وسطهم النبي. ولو كان النصر (أو النجاح أو التقدم أو الخير) يتحقق بالبركة ، لأنتصر المسلمون يوم أحد وبين ظهرانيهم البركة كلها (الرسول) . ولكن هزيمة المسلمين (الصحابة من المهاجرين والأنصار ووسطهم النبي) جاءت لتؤكد أن الله كما خلق الخلق ، فقد خلق قواعد وقوانين سير الكون (ومنها قوانين الطبيعة) ... ومن بين هذه القوانين : أن من يحارب بدون مؤهلات النصر العلمية والمادية الصرف لابد وأن يهزم (بهذه القوانين إنتصر المسلمون بقيادة طارق بن زياد عند غزوهم الأندلس وبذات القوانين إنهزم المسلمون بعد عدة عقود في معركة "بو" في جنوب فرنسا ... ولا دخل للبركة في النصر الأول ... ولا دخل للبركة في الهزيمة الثانية) ... وهكذا ، فإن من يظن أنه سيحكم بإسم الإسلام وأن البركة ستحل (لأنه يحكم بإسم الإسلام) فسوف يأخذ لنتائج (في كل المجالات) مثل نتيجة معركة (موقعة) أُحد ... فالنصر والتقدم والحكم الناجح يحث – فقط – بالعلم وحُسن الإدارة وهى كلها أقانيم إنسانية لا دين ولا ملة ولا جنسية لها . وهى أقانيم لا يوجد دليل واحد أن من يريدون أن يحكموا مجتمعاتهم بإسم الدين يتحلون بها ... بل هناك أدلة وأدلة (مستقاه كلها من خلفياتهم ومحصولهم المعرفي وصلتهم بعالمية العلم والمعرفة وقيم التقدم) على أنهم لا ... ولا يمكن أن يحوزوها . الفصل الخامس كشف اللثام
١
يُرَدد كثيرون في واقعِنا المصري مُلاحَظَتين يكادُ يكون من المُستحيل نفي وجودِ أيٍ منهما وهما : أولاً إنتشار معالمِ التدينِ في واقعِنا مقارنةً بحالِنا منذُ قرنٍ من الزمانِ . والمُلاحظةُ الثانيةُ هى إنتشارُ التوترِ وعُنف السلوك وعدوانيتهِ وتراجُع دماثة الأخلاق في التعامُلِ بين أفرادِ المُجتمعِ . ومن البديهي أن هناك تناقُضاً واضحاً بين طبيعةِ المُلاحظتين . فإذا كانت غُلبةُ معالمِ التدين على الناسِ والسلوك والمُفرداتِ والمُناخِ الثقافي العامِ لم تمنع تردي مستويات الخُلق والسلوك والمُعاملات بين الناسِ ، فإن ذلك يعني بداهةً أن التدينَ (أو بالتحديد "هذا الفهم للتدينِ") ليس في صالحِ المُجتمعِ . ولا يدحض ذلك ، أن هناك العديدِ من الأمثلةِ الأخلاقيةِ الرائعةِ بين المُتدينين (بهذا الشكل من التدين) ؛ ولكنني أتكلمُ عن ظاهرةٍ عامةٍ وليس عن حالاتٍ فرديةٍ . والمخرجُ من هذا التناقُضِ هو في الإعتقاد بأن ما يُسمى بالتدينِ ليس تديناً ، وهذا ما أعتقده يقيناً وعلى أساسٍ من طولِ مُتابعةٍ ودراسةٍ وتحليلٍ . فالذي إنتشر في واقعِنا هو الزي النسائي المُسمى بالزي الإسلامي واللحى وخواتم الزواج البيضاء فى أصابع الرجال وعلامة السجود على جباه الرجال والعديد من المؤثراتِ المكتوبةِ والصوتيةِ والسمعيةِ التي تحملُ زخماً من "ذهنيةِ الطقوس" . وإذا كان من حق البعض أن يعتبر أن ذلك تديناً ، فإن من حق البعض الآخر (مثل كاتب هذه السطور) أن يزعُم أنه لا علاقة لكل تلك المعالمِ والصخبِ والمظاهرِ بالتدين . فالتدينُ يتعلق بالخُلُق الرفيع وأن يكون الإنسانُ مُفيداً للمُجتمعِ وللآخرين ومُتسماً بصفاتٍ أخلاقيةٍ راقيةٍ مثل العطاء والتسامُح والعون للآخرين والإخلاصِ في العملِ وإتقانهِ أما المعالمُ آنف ذكرها فظواهرٌ ترجع عندي لأسبابٍ سياسيةٍ وإقتصاديةٍ وإجتماعيةٍ وتعليميةٍ وثقافيةٍ ونفسيةٍ من الميسورِ رصدها . وبحسبِ منطقِ المدرسةِ الوضعيةِ في الفلسفةِ (أوجست كونت) فإنه ليس من حقِ البعض أن يقول أنه "بمزيدٍ من هذا التدين سوف تستقيمُ الصورة" ، لأن التجربةَ العملية تؤكد أنه بمزيدٍ من "هذا التدين" قد تزداد الصورةُ إستغراقاً في ذاتِ الملامحِ من تدني الأخلاقِ العامة وذيوعِ العُنف والغضب في شتى صورِ السلوكِ . والحقيقةُ أن منبعَ "هذا التدين" يأتي من عدةِ مصادرٍ : فأكثرُ من نصفِ قرنٍ من عدمِ المُشاركةِ السياسيةِ أو من المشاركةِ السياسيةِ الصوريةِ هي من مصادرِ "هذا التدين" الصوري (والطقوسي المظهري) وأكثر من نصفِ قرنٍ من التردي الإقتصادي وتآكل الطبقة الوسطى هو من منابعِ "هذا التدين" ... وخروجُ المنظومةِ التعليميةِ المصريةِ عن سياقِ العصر وهبوطُها لمستوياتٍ متدنيةٍ من الإنعزالِ عن التقدمِ والإتسامِ بكل عيوبنا الثقافيةِ وتحرُكنا الحثيث تجاه التقوقعِ والتعصُبِ وعدمِ تفعيلِ العقلِ النقدي كانت ولا تزال من أهم منابع "هذا التدين" ... كما أن أكثر من نصفِ قرنٍ من الأوليجارشيات المتنوعة (أي تحكُم أقلياتٍ مُختَلفةٍ في قيادة المُجتمع سياسياً وإقتصادياً) هي كذلك من منابع "هذا التدين" ... ويُضاف لكل ما سبق أن ما حاقَ بغير قليلٍ من مكونات المؤسسةِ الدينيةِ من تراجُعٍ في النوعيةِ والمستويات وكذا غزوها برياحٍ فكريةٍ هَبَّت عليها وعلينا من الشرق كانت (بنفس الدرجة) من منابعِ "هذا التدين" ، ويمكن أن يضاف أن خلو الساحة من إمكانية الإنتماء لأي شيء غير "هذا التدين" قد أتت "لهذا التدين" بأعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمـع- فالإنتماءُ "لهذا التدين" هو الملاذ السيكولوچي لمن ليست أمامه جهةٍ أُخرى لينتمي لها (أمل أو طبقة أو طموح أو حزب أو واقع أفضل أو نموذج ثقافي مُعين) . كلُ إنسانٍ في الكونِ (بإستثناء ثُلةٍ صغيرةٍ من الناسِ تنتمي لأفكارِها هى ولمبادئهـا ولنسقهـا القيـمي) في حاجةٍ لإنتماءٍ ما . ويأخذُ هذا الإنتماءُ في المُجتمعاتِ المُتقدمةِ ذات المستويات الحياتية الأرقى والأرفع أشكالاً عدة . فهُناك من ينتمي لنجاحاتهِ الخاصة وهُناك من ينتمي لحزبٍ سياسي وهُناك من ينتمي لطبقةٍ مُعينة بثقافتها ونسقها القيمي وهناك من ينتمي لتيارٍ فكري أو ثقافي مُعين . ومن خلالِ هذا الإنتماء يُحقق الإنسان إرضاءاً وإكتفاءاً لازمين لكل إنسان من بني البشر. ويُمكن إستعمال هذا التفسير لفهم إنتماءِ المصريين للحركةِ الوطنية التي قادها سعدُ زغلول منذُ قُرابة تسعين سنة ، كما يُمكن أن تُفَسِر لنا علاقة مُعظَم الشعب المصري بالمشروع الناصري منذُ عقودٍ قليلةٍ . ففي الحالتين كانت هُناك "جبهةٌ" قابلةٌ لجذبِ قطاعاتٍ واسعةٍ من المُجتمعِ لها وللإرتباطِ بها ، بصرفِ النظرِ عن مدى نجاح كل منهما في الوفاءِ بعهودهِ وتحقيقِ شعاراتهِ . عند إختفاء هذه "الجبهات" التي تجذبُ إهتمام وطاقة وولاء وإرتباط مُعظم أبناء وبنات المُجتمع ، فإن الساحة تكون مفتوحة على مصراعِيها لإنتماءٍ آخرٍ هو من جهةٍ الأكثر جاذبية ومن جهةٍ ثانية الأكثر إراحة ومن جهةٍ ثالثة فإن إتسامَه بالعمومياتِ وعدم الدقة في التحديدِ يُناسب المتوسط العام للتكوينِ الثقافيِ لأبناءِ وبناتِ المُجتمع . فبينما يتطلب الإنتماءُ (مثلاً) للعقيدة الماركسية درجة وعي وثقافة وذكاء أعلى من المستوى المتوسط فإن الإنجذابَ لجبهةِ الشعاراتِ الدينية لا يتطلب ذلك . وخُلاصةُ الرسالة هُنا أن جاذبيةَ الشعاراتِ الدينيةِ (والتي هى في إعتقادي سياسية محض وليست دينية) إنما ترجع لتآكلِ وخفوتِ أدوارِ جبهاتٍ أُخرى تعملُ عملها في مُجتمعاتٍ غير مُجتمعنا كما أنها كانت أكثر فاعلية في مراحلٍ أُخرى من مراحلِ تجربتنا المُعاصرة خلالَ القرنين الأخيرين . ومن الجديرِ بالتوضيح أن التدينَ الطقوسي (وأكبر الأمثلةِ عليه ما هو معروض في كتابات رجالٍ مثل إبن تيمية وإبن قيم الجوزية وفي كتابات وتطبيقات محمد بن عبد الوهاب والتجارُب المُستقاةِ من مدرستهِ) يشتغلُ على "خارج الإنسان" وليس على "داخل الإنسان" . فهو يشبه نظام المرور الصارم الذي يقولُ للناسِ ما الذي يمكن أن يفعلوه وما الذي ينبغي ألا يقترفوه ، وهى مدرسة في التفكير قد تُناسب الجماعات البدائية ذات الحظ النحيل من التعليمِ والثقافةِ والإدراك ، ولكنها لا تُناسب المُجتمعات المُعاصرة المُتحضرة والمُتمدنة . وتبدو الجماعات المحكومة بهذا النظام الصارم (مُنضبطةً) "من الخارج" ، ولكنها "من الداخل" تكونُ عامرةٌ بالأخطاءِ والإنحلالِ . فهى تُعامل الناس كحيوناتِ السيرك المُدربة بالعصا والعُنف. أما التدينُ بالمعنى الذي يفهمه على سبيل المثال المُسلمون من المتصوفة والمسيحيون والبوذيون ، فإنه يشتغل على "الداخل" ويهتم بتغليب الطبيعة الخيرة في النفس البشرية على جوانب الطبيعة السيئةِ والعنيفةِ والشريرةِ والعدوانيةِ في ذات النفس البشرية . وليس من المُصادفة أن تكونَ المُجتمعات الأكثر صرامة بين المُجتمعات الإسلامية في الضبطِ والربطِ الديني "من الخارج" هى أكثر هذه المُجتمعات إنشغالاً (كلما أُتيحَت الفُرصة) بالجنس والنساء واللهو والعبث ، وكُلها مما يحاول النظام ضبطهُ "من الخارج" ، ولكن نظراً لفشله في التعامُل مع "الداخل" فإنه يخلقُ حالةً من الثُنائيةِ والإزدواجية وإنفصال ما يُقال في العَلَن عما يُفعَل خفيةً بشكلٍ قد لا يكون له مثيل مُشابه في العالم بأسرهِ .
************
٢
ويعتقد البعضُ في الدولِ التي إستشرى فيها "التطرفُ" الذي يستمد شعاراته من الدين الإسلامي أن "فكراً معيناً" هو الذي يولِّد هذا التيار ، وأن الظروفَ المعيشيةِ ليست هي منبع هذا التيار . ويعتقد هؤلاء أنهم على حقٍٍ عندما يضربون الأمثال بمجتمعاتٍ فقيرةٍ إلاَّ أن "تيارَ التطرفِ" (والذي يسمي نفسه بالإسلامي) لم يتعاظم فيها . وفي المقابل ، فإن البعض يعتقد أن الظروفَ المعيشيةِ هي "المفرخةُ" الأساسية لفكرِ وتيارِ وحركةِ التطرفِ . ويعتقد أصحابُ هذه النظرة أن الظروفَ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ هي المسئولُ الأول عن المناخِ الذي يُنبت تيار التطرف .
وعادةً ما تكون حكوماتُ العالمِ الثالثِ (حيث يوجد التيار الأصولي المسمى بالحركة الإسلامية) من أنصارِ وجهةِ النظرِ التي ترى أن "التطرفَ" فكرةٌ خبيثةٌ يروج لها البعضُ بدوافعٍ ولأغراضٍ سياسيةٍ وأنها لم تنتج عن الظروفِ المعيشية . وعادةً ما يكون المثقفون بوجهٍ عام وأولئك الذين يعطون العناصر الاجتماعية الوزن الأكبر من أنصارِ وجهةِ النظرِ التي ترجع التطرفَ للظروفِ المعيشيةِ .
وإذا كنت قد أوليت موضوع الأصولية الإسلامية آلاف الساعات من وقتي وقراءاتي ومتابعتي بما في ذلك المتابعةِ التي يصح أن توصف بأنها "متابعةٌ ميدانيةٌ" – فإنني أَعطي نفسي الحقَ في الاجتهادِ في هذه المسألةِ وأقول أن الحركةَ الأصوليةِ الإسلامية نتجت وإستشرت بفعل العاملين الذين يعتقد فريقٌ من المحللين أن أحدهما هو المسئول الأوحد بينما يعتقد فريقٌ آخر أن ثانيهما هو المسئول الأوحد . فالحقيقة – في اعتقادي – أننا يجب أن نميِّز بين "وجود فكر الأصولية الإسلامية" وبين "انتشار تيار الأصولية الإسلامية" إِنتشاراً واسعاً في مجتمعٍ من المجتمعاتِ .
أَما "وجود فكر الأصولية الإسلامية" فيرجع لوجودِ المفكرين الذين يؤمنون بالمرجعيةِ الدينية (الإسلامية في هذه الحالة) كأساسٍ لتنظيمِ المجتمعِ بكل ما تعنيه عبارةُ "تنظيمِ المجتمعِ" من معانٍ ودلالاتٍ . ومما لا شك فيه أنه من الطبيعي أن يوجد في أي مجتمعٍ توجد به أغلبيةٌ سكانيةٌ مسلمة "فكرٌ" يرى أن إصلاحَ حالِ المجتمع وتنظيم شئونه ينبغي أن يكون على أساسٍ من المرجعية الدينية . ولكن من الطبيعي أيضاً أن يكون هذا الفكرُ مجردَ "تيارٍ واحدٍ" ضمن تياراتٍ فكريةٍ أخرى في المجتمع ومن الطبيعي أيضاً أن يكون تياراً محدوداً إلى جوارِ التياراتِ الأخرى التي تنتمي للحاضرِ والمستقبلِ . أما "انتشار تيار الأصولية الإسلامية" بين أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ مجتمعٍ معينٍ فأمرٌ لا يرجع إلاَّ للظروف المعيشية أي للعواملِ الاقتصاديةِ / الاجتماعيةِ والتي يكون تخلفُها داعياً لأصحابِ الفكرِ المسمى بالإسلامي لكي يروجوا لنظريتهم بصفتها "المنقذ" من براثنِ الواقعِ بما يتسم به من ظروفٍ معيشيةٍ مترديةٍ .
وفي إعتقادي أنه من الطبيعي أَن تُكرر حكوماتٌ عديدةٍ في دولِ العالمِ الثالثِ أن التطرفَ ليس إلا ورماً فكرياً خبيثاً وأنه لا يرجع للظروفِ المعيشيةِ ، لأنها ليست بوسعها إلا أن تقول ذلك ، لأن إعترافها بأن الظروفَ المعيشيةِ هي التي ولدت وأنتجت ودعمت انتشار هذا التيار سوف يجعلها تعترف في نفسِ الوقتِ بفشلها في إدارةِ المجتمع ذلك الفشل المتمثل في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والذي في ظله أمكن لفكرِ الأصوليةِ (المحدود والمتواضع على المستوى النظري والفكري) أن يقيض له الذيوعَ والشيوعَ بين أعدادٍ كبيرةٍ من أبناءِ وبناتِ المجتمع .
وفي إعتقادي ، أن وجودَ الفكرِ الأصولي في حد ذاته ليس بذي خطرٍ كبيرٍ . فالفكرُ الأصولي الإسلامي يفتقد لأيةِ قدرةٍ على الانتشارِ وجذبِ الأتباعِ والمؤمنين به بمعزلٍ عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إذ أنه (بكل المعايير) فكر بسيط تجاوزه الزمنُ والعلمُ . وأنا لا أقصد هنا "الدين" وإنما "فكر الأصوليين" وهو عمل بشري لا قدسية له ولا يملك أصحابُه أن يقولوا أنه هو "الدين ذاته" وإنما هو "فهمهم الخاص للدين" .
وفي إعتقادي أن الخطورة تكمن كلها في الظروف المعيشية . ففي ظلِ ظروفٍ معيشيةٍ مترديةٍ تخلفت فيها الدولةُ عن تقديمِ أساسياتِ الحياةِ من الرعايةِ الصحيةِ والتعليمِ وسلسلةِ الخدماتِ الأساسيةِ لوجودِ حياةٍ كريمةٍ ، في ظلِ ظروفٍ من هذا النوع يتقدم الأصوليون بسلسلةٍ من الخدماتِ في هذه المجالات ومعها "فكرهم الأصولي" وكأن ما يقدمونه من خدماتٍ هو جزءٌ لا يتجزأ من فكرهم الأصولي – والحقيقة أنه لا توجد أية صلة بين ما يقدمونه من خدمات طبية وتعليمية ومجتمعية وبين فكرهم الأصولي – وإنما هي مكيافيلية سياسية في المقام الأول تلك التي جعلتهم ينتهزون فرصة تردي الظروف المعيشية ويقدمون سلسلة من الخدمات مع تقديم موازي لفكرهم الأصولي .
وفي إعتقادي أن مواجهةَ حركاتِ التطرفِ بالأدواتِ والوسائلِ الأمنيةِ (رغم ضروريتها وأهميتها) لا تقدم أيَ حلٍ للمشكلةِ من أساسِها . فالوسائلُ الأمنية هنا تشبه من يقطع فروعَ الشجرةِ مع بقاءِ الجذعِ والجذورِ . وقد يكون قطعُ الفروعِ في أوقاتٍ ومراحلٍ معينةٍ ضرورياً لأبعدِ الحدودِ حتى لا يفقد المجتمعُ ذاته ويسقط في يد الأصوليين الذين لا فرصة معهم لإقامةِ مجتمعٍ مدني أو عصري أو متقدمٍ من أية وجهةٍ نظرٍ ناهيك عن فقدان الأمل نهائياً في الحرية والديموقراطية وحقوق الآخرين .
ولكن من المؤكد أن التعامل بالوسائلِ الأمنيةِ فقط يسمح بنكساتٍ لا يمكن تجنبها بشكلٍ مطلقٍٍ . وأعتقدُ اعتقاداً جازماً أن وضعَ الدولةِ لخطةٍ محكمةٍ لكي تقوم بكلِ الخدماتِ التي ينتظرها أبناءُ وبناتُ المجتمعِ منها هو الوسيلةُ الوحيدةُ لحصرِ تيارِ الأصوليةِ في حدودِ الاهتماماتِ الفكريةِ (المتواضعة للغاية) لعددٍ قليلٍ من أبناء المجتمع . وأعني هنا أن سحبَ البساطِ من تحتِ أقدامِ الأصوليين عن طريقِِ قيامِ الدولةِ بما يقدمه الأصوليون من خدمات يجعل ثمانية أو تسعة من كلِ عشرةِ أشخاصٍ ممن كان من المحتمل انجذابهم لدعوةِ تيارِ الأصوليين ينصرفون عن هذا التيار وشعاراته الجذابة والتي لا تستند على أي فكرٍ عميقٍٍ أو تجاربٍ ناجحةٍ . وسيبقى واحدٌ أو اثنان تنطلي عليهما تلك الأفكارُ البسيطة والتي لا أساس لها من المنطق أو التجربة ، وهو أمر طبيعي ، فالخطورة في جذب الأعداد الكبيرة (بفعل الظروف المعيشية) وليس في وجود جيوب صغيرة من المؤمنين بفكر لا يملك بدون الظروف المعيشية المتردية أن يجذب إلا أعداداً صغيرة من أصحاب الاستعداد الشخصي للميل لأفكارٍ انفعاليةٍ تميل للشطط دون أن يكون لها حظ من العلم أو المنطق أو التجربة الناجحة .
************
٣ في "مرايا نجيب محفوظ" التي صدرت منذ أكثر من ثلاثين سنة صوراً رُسمت بعبقريةٍ أدبية لشخصياتٍ بعضها عرفناهُ من النص وبعضها عرفناهُ من صاحب النص. ومن الشخصيات التي عرفناها من المصدرين شخصيةً قصد بها المؤلف "سيد قطب" الذي عرفهُ الأستاذ نجيب محفوظ جيداً خلال النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي كما كان سيد قطب مع سلامة موسى هما أول من قدما نجيب محفوظ عبد العزيز للقراء منذ أكثر من ستين سنة. وقد صور الأستاذ نجيب محفوظ بعبقريةٍ بذور التعصب في الشخصية التي رسمها (ولا أقول كتبها). وقد كان سيد قطب من مريدي العقاد وتلاميذه-ولكنها كانت علاقةٌ غريبة؛ إذ على خلاف معظم تلاميذ العقاد لم يحظ سيد قطب بكلمة ثناء واحدة بقلم العقاد عن كتاباته في تلك الفترة والتي لم تكن تخرج عن "النقد الأدبي" و"الشعر". ويعرفُ الذين كانوا مقربين من العقاد وسيد قطب أن الأخير شعر بمرارة كبيرة عندما تجاهل العقاد ديوانه الشعري الذي أصدره سيد قطب في أربعينيات القرن العشرين. وفي زيارةٍ من زياراتي لواحدةٍ من كبريات الجامعات الأمريكية إلتقيتُ بباحثٍ تخصص في دراسةِ أعمال سيد قطب السابقة لرحلته للولايات المتحدة الأمريكية في أوائل خمسينيات القرن الماضي والتي إستمرت لقرابة السنتين. وقد إطلعت على عملٍ أرشيفيٍّ جيد كان من أبرز ما لفت إنتباهي فيه خلو أعمال سيد قطب في تلك المرحلة (والتي هي بشكلٍ تقريبيٍّ الفترة من 1930 إلى 1950) من أي كتاباتٍ تشبه كتاباتِه بعد عودته لمصر من رحلته الأمريكية. كان سيد قطب خلال تلك السنوات العشرين ناقداً وشاعراً دون أن يتمكن من الوصول للصف الأول أو حتى الثاني في هذين المجالين. وعندما يطالعُ الإنسان (في جلسةٍ واحدة) الشخصية التي صورها نجيب محفوظ في المرايا وكذلك ديوان سيد قطب الذي صدر في أربعينيات القرن الماضي فإنه يلمس بوضوح "شعوراً كبيراً بالمرارة". سافر سيد قطب إلى الولايات المتحدة ورجع لمصر بعد سنتين. بعد عودة سيد قطب لمصر حدثت حركة 23 يوليو 1952. وما بين هذا التاريخ الأخير وتاريخ القبض عليه وإعتقاله في سنة 1954 كان سيد قطب مقرباً من قادة الضباط الأحرار بل ويُقال أن مكتباً كان مخصصاً له في مقر مجلس قيادة الثورة بالجزيرة. ومعروف أن سيد قطب شعر بمرارةٍ كبيرةٍ عندما لم يضمه الضباطُ الأحرار لقائمة الشخصيات المدنية التي أصبح أعضاؤها وزراءً في وزارات ما بعد 23 يوليو 1952. بعد حادثة المنشية أُلقِي القبض على سيد قطب وأمضى أكثر من عشر سنوات في المعتقل كتب خلالها معظم كتاباته المعروفة ومن أشهرها "وأصغرها حجماً" معالم في الطريق. بعد قرابة سنة من خروجه من المعتقل في منتصف ستينيات القرن الماضي إِعْتُقِلَ سيد قطب للمرة الثانية وحوكم وتم إعدامه. وأنا ممن يخالفون سيد قطب في كل آرائه ومع ذلك فأنا بكل عقلي وقلبي وضميري ممن يستبشعون فظاعةِ ووحشيةِ وإجراميةِ ما حدث في حقه منذ إعتقاله (سنة 1965) وحتى إعدامه سنة 1966. ولكن هذا لا يمنعني من التساؤل: ما الذي حدث للرجل الذي كان ناقداً أدبياً وشاعراً أثناء وجوده في الولايات المتحدة الأمريكية وجعله يعود من تلك الرحلة شخصاً غير الذي ترك مصر قبل سنتين؟. كيف ولماذا نبتت تلك المرارة الشديدة على الآخرين؟؟ وكيف إنتقلت روح إبن تيميه فيما يتعلق بغير المسلمين لكيان ووجدان سيد قطب فنقلها بعد ذلك لآلاف بل وعشرات الآلاف من الأتباع؟؟ إن المذاهب الإسلامية السنية كلها بإستثناء الفرع الحنبلي الذي بدأ بأحمد بن حنبل ومر بإبن تيميه وبإبن قيم الجوزية ووصل إلى محمد بن عبد الوهاب في نجدٍ منذ قرنين ونصف من الزمان ثم إلى سيد قطب وهو في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر قليلاً من خمسين سنة… إن كل المذاهب السنية بإستثناء هذا الفرع وكذلك كل المذاهب غير السنية وأهمها مذاهب الشيعة الأساسية (كالإمامية) وكذلك كل الطرق الصوفية لا تعرف تلك الروح المليئة بالمرارة والكراهية لغير المسلمين والتي نراها عند إبن تيميه والخط الموصول منه إلى أسامة بن لادن. إن البعض يظن أن ما يحدث اليوم في السعودية هو شيءٌ جديد في طبيعته. وهذا تصور غير سليم. فكما ذكر آنفاً، خلال سنوات الدولة السعودية الأولى (في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين) وُجِدَت أمثلة تضاهي ما نراه اليوم من كراهية عمياء لغير المسلمين ولكل مظاهر الحياة العصرية وأنماط التذكير الجديدة. وخلال السنوات الأولى للدولة السعودية الثالثة (أي الحالية) حارب أولئك الذين يتسمون بتلك الروح تجاه غير المسلمين وتجاه مظاهر الحياة العصرية الرجل الذي أنشأ الدولة السعودية الثالثة وهو الملك عبد العزيز آل سعود. وفي المراجع العلمية المتخصصة عن تاريخ الدولة السعودية الثالثة أشياء ومواقف للإخوان (إخوان نجد) يقفُ لها شعرُ الرأس. فقد كانوا يعارضون الملك عبد العزيز في أشياءٍ عديدة مثل إدخال الراديو (الإذاعة) وركوب السيارة العصرية وإستعمال الهاتف بل إنه عندما غادر الملك عبد العزيز الرياض في منتصف عشرينيات القرن الماضي على ناقةٍ وعاد لها بعد ضمه لمكة لمملكته الوليدة وكانت عودته في سيارة عصرية-إنتقد الإخوان (إخوان نجد) هذه البدعة التي تمثلت في ركوب عبد العزيز لسيارةٍ أمريكية… ومنذ سنوات غير بعيدة أفتى الشيخ عبد العزيز بن باز بكفر من يقول أن الأرض كروية… وبين يدي الآن مئات الفتاوى (مثل فتوى عدم كروية الأرض وحرمانية قيادة المرأة للسيارة)… وأنتقي منها فتوى مذهلة هي الفتوى رقم 21409 بتاريخ 29 ربيع الأول 1421 (هـ) والتي تحرم إهداء الزهور للمرض لأن ذلك (محض تقليد وتشبه بالكفار).. وكذلك (خشية ما يجر إليه ذلك من الإعتقاد بأن هذه الزهور من أسباب الشفاء) وبناء عليه (لا يجوز التعامل بالزهور بيعاً أو شراءً أو إهداءً)!!!. إن واجب كل مسلم يريد لهذا الثوب الأبيض أن يكون نقياً أن يدرك أن هذا التيار المليء بالمرارة والكراهية لغير المسلمين ولمعالم العصر المادية والمعنوية هو تيار إستثنائي وإن كان قوياً وعنيفاً ومؤثراً. إنني لشديد التطلع لأن أرى مؤرخين محترفين يدرسون ويتتبعون هذا التيار من إبن تيميه إلى أسامة بن لادن ومساهمة سيد قطب في هذا التيار مع إبرازٍ واضح لكونِ هذا التيار مخالف لكل أدبيات المذاهب السنية والشيعية الأخرى. كذلك آمل أن يفرغ باحثٌ متخصص لدراسة السنتين اللتين أمضاهما سيد قطب في الولايات المتحدة وعاد بعدهما رجلاً مختلفاً تماماً. وآخر ما أتمناه أن يحدث ذلك بقلمٍ غير صحفيٍّ أو سياسيٍّ وإنما بقلمٍ وعقلٍ أكاديميٍّ لا يبحث عن الإدانة والإتهام وإنما عن ضالة المفكر الحقيقي وهي الحقيقة… إننا هنا نهدف لعمل فكري لا لعمل إجرامي كالذي تم في حق سيد قطب في سنة 1966.
الفصل السادس رؤية أم كابوس؟
• محمود فهمي النقراشي وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك هم الرؤساء التنفيذيون لمصر خلال معظم منذ أواخر أربعينات القرن العشرين. وقد أطلق المتأسلمون النار عليهم جميعاً فقتلوا النقراشي والسادات وفشلوا في قتل الآخرين.
• ظن الأمريكيون أنهم يمكن لهم إحتواء أحد أهم زعماء المتأسلمين في مصر وهو عمر عبد الرحمن فأعطوه تأشيرة دخول الولايات المتحدة. وما أن إستقرت له الحال حتى دبر حادث برج التجارة العالمي الأول. فإعتقلوه وأودعوه السجن.
• يقاتل المتأسلمون في الكويت من أجل عدم إعطاء المرأة الكويتية حقوقها السياسية. وبلغت قوة معارضتهم حد الإنتصار على أمير الكويت.
أتذكر هذه الحقائق الكبرى الثلاث وعشرات غيرها كلما تحدث إنسانٌ عن حتمية إنخراط المتأسلمين في الحياة السياسية في مصرَ؛ كما يرتجف قلبي من هول مواقف المتأسلمين من المرأة والأقباط إذ أن مكانتهم عند هؤلاء أعلى قليلاً من مكانة أسرى الحرب والرقيق.
و أحاولُ أحياناً أن أتخيل سيناريو نجاح المتأسلمين في تحقيق كل أهدافهم. فأفترض أن أسامة بن لادن (أو غيره) تم لهم ما يريدون. وأعتقد أنهم يريدون ما يلي.
• خروج الغرب (والولايات المتحدة الأمريكية بالذات) من بلدان المسلمين. • إنهاء حكم الملوك والرؤساء الحاليين لكونهم (من منظور أسامة بن لادن وأمثاله) عملاء للشيطان الأكبر (الولايات المتحدة). • وصول أسامة بن لادن (أو واحد مثله) للحكم في بلدان المسلمين وإعلان الخلافة وإلغاء القوانين الوضعية وتطبيق الشريعة الإسلامية.
أغلق عيني أحياناً وأستمر في تصور هذا السيناريو... ثم أتساءل: وماذا بعد؟.. هنا تكمن مخاطر التفكير. إذ أننا لن نكون إلا أمام إحتمالين. أما الإحتمال الأول، فتقوم في ظلِه عزلةٌ كاملةٌ بين "عالم المسلمين" و"عالم غير المسلمين". وتمتد هذه العزلةُ لسائر الجوانب العلمية والإقتصادية والعسكرية والثقافية. وعندما أستمر في تصوُّر هذا السيناريو وتداعياته، أجد المجتمعات الإسلامية قد تحولت إلى وديان مليئة بالبشر، قليلة الحظ من العلم وتوظيفاته في سائ مجالات تحسين نوعية الحياة على الأرض (وهذا الأمر غير هام، لأن الحياة في الدنيا ليست هدف المسلم، فما الحياة الدنيا إلا دقائق ومعبر للآخرة بنعيمها أو جحيمها). وستكون تلك المجتمعات مكتظة بالسكان (لأن الشريعة وفق فهم القائمين على تلك المجتمعات تحض الناس على التكاثر لكي يتباهى بهم الرسول (ص) يوم القيامة)… وستكون الأحوالُ المعيشية لهؤلاء الذين قاطعوا العلم الغربي الكافر سيئة للغاية من كافةِ الجوانبِ الإقتصادية والحياتية والصحية والعلمية… ولكن هذا أمر غير مهم – إذ أن "الدنيا" ليست هي غاية المسلم المؤمن الذي يعتبر نفسه في هذه الحياة فوق قنطرة يعبرها في زمن وجيز (هو العمر البشري على الأرض) إما للجنة (بالأنهار والثمار وحور العين) وإما لجهنم (بلظاها ولهيبها). وأحياناً يصل بي التخيّل لأحوال مجتمعات المسلمين (وفق هذا السيناريو) لأن أرى صوراً تتحرك أمام عيني لبؤس أسطوري ومشاكل عظمى من كافة الأنواع وفي كافة المجالات. وفي ظل هذا السيناريو يقوم المسلمون أحياناً بغزوات لعالم الكفار فتأتي أسلحة الكفار المتطورة وتسوي بعالم المسلمين الأرض تاركة صوراً فظيعة من جديلة التخلف والدمار (وذلك أمر طبيعي – فالمسلمون لا يصنعون سلامهم وإنما يشترونه من عدوهم الأكثر تقدماً في سائر مجالات اعلم والصناعة). وأكاد أسمع خطباء المساجد في عالم المسلمين (وفق هذا السيناريو) وهم يؤكدون لمستمعيهم أن ما يمرون به إختبار من الله وأن النصر المعجزي آت لا محالة، وسوف تدور الدائرة وينتصر المسلمون على دول الكفر ومجتمعاته في يوم لا ريب فيه. وسوف ينهي أئمة المساجد خطبهم بالدعاء أن ينزل الله عقابه الأكبر والخراب الكلي على أهل الكفر من النصارى وأتباعهم اليهود... وسيكون الدعاء مليئاً بالجناس والطباق والقوافي الرنانة بدون شك.
أما السيناريو الثاني، فيفترض أن قادة الإسلام السياسي بعد تحقيق الأهداف المذكورة في مستهل هذا الفصل سوف لا يؤسسون عزلة بين عالم المسلمين وعالم غير المسلمين. ولكنهم سيقومون بالتعامل مع الكفار عملاً بالمبدأ الفقهي المعروف (الضرورات تبيح المحظورات). وسوف يأخذ هذا التعامل أشكالاً عدة في المجالات الإقتصادية والعلمية والإجتماعية والصناعية والخدمية والزراعية. فعلى المسلم (وفق منظور هذا السيناريو) أن يطلب العلم ولو في الصين. ووفق هذا السيناريو، فإن المسلمين سينخرطون في تعاملات واسعة مع غير المسلمين. وعندما أُغلق عيني وأستعمل معرفتي المتواضعة بالتاريخ والسياسة والإدارة الحديثة، فإنني أجد نفسي أضحك: لأن هذا السيناريو سيقود المجتمعات الإسلامية للوضع الذي كانت عليه (في تعاملاتها مع غير المسلمين) منذ قرن من الزمان: أي طرف يتعلم من طرف... وطرف يشتري من طرف... وطرف يحاول اللحاق بطرف. وهكذا تأخذني الحيرة، فسواء كان السيناريو الأول هو الذي ستسير عليه الأمور أو أنها ستسير وفق السيناريو الثاني: فإن السؤال الكبير يبقى بدون تغيير: ولما كل هذا العناء والدم والقتل والدمار والجروح والتشوهات والآلام والقلق والبؤس؟.. وأجدني أضحك بمرارةٍ لا حد لها وأنا أجيب على تساؤلي: من أجل الحكم أيها السادة!.. الفارق الوحيد بين كل السيناريوهات هو: بيد من يكون الحكم. ووفق سيناريو الإسلام السياسي الأول سيكون الحكم بيد الإسلاميين. وكذلك الحال وفق السيناريو الثاني. أما إذا بقت الأمور على ما هي عليه اليوم، فالإجابة واضحة. إما وفق السيناريو الرابع (أي تطور المجتمعات الإسلامية وتقدمها وذيوع الديموقراطية فيها) فإن الحكم سيكون بيد الشعوب (أو بيد ممثليهم وفق تفويض حقيقي)… وهذا ما لا يشغل أكثر المنشغلين بالسياسة على كافة الجوانب.
الفصل السابع إستخدهم القوة (العنف)
١
كثيرٌ من العواصفِ التي تضرب منطقتنا تدل على أن فكر الحركات التي تمارس السياسة تحت إسم (الإسلام السياسي) لا يزال فكراً إنقلابياً (فكر تنظيمات "تحت" لا "فوق" الأرض) وليس فكر مؤسسات سياسية عصرية تفهم وتحترم القانون ... بل إنني أستكثر كلمة "فكر" على هذه الحركات ، فعلامات عديدة حولنا تدل على أن "عضلات هذه الحركات" هى عضلات قوة منفلتة من عقال الدساتير والقوانين والعقل والحكمة.
في لبنان ، حكومة منتخبة وبرلمان يمثل الشعب ... ومع ذلك فأكبر حركات المعارضة (وهى حركة يختلط فيها الدين بالسياسة) لا تقبل الإحتكام لممثلي الأمة المنتخبين ، وإنما تحتكم لحناجر مدوية بوسعها (للأسف) العودة بلبنان قروناً للوراء ... ويشارك في هذه اللعبة التي تدوس فيها "عضلات القوة العمياء" على كل مبادئ الديموقراطية والدساتير والقوانين أحزاب تمثل عدة مصالح خارجية أهمها إيران المتعطشة لدور القوى العظمى في منطقة الشرق الأوسط بدوافع من بينها علاقة كراهية تاريخية طويلة وعميقة بين الفرس والعرب . فحزب مسلح (دون غيره) يقلب المائدة (الشارع) على رؤوس الجميع ضارباً عرض الحائط بأن هناك برلمان منتخب يجب أن يكون هو المرجع وليس جحافل المتظاهرين الذين يتم توجيههم من خارج الوطن ... وبالذات من قبل نظام ثيوقراطي يموّل خراب لبنان .
وفي مناطق الحكم الفلسطيني تأتي حركة ثيوقراطية من رحم القرون الوسطى لتضرب عرض الحائط بإلتزامات الحكومات السابقة وتريد لحركة الأحداث أن تبدأ من يوم وصولها للحكم فقط . وعندما يدعو أبومازن (بحكمة ... وإن كانت متأخرة بعض الشئ) للعودة للشعب مصدر السلطات ، فإن حكومة الثيوقراطيين الذين لا يفهمون الديموقراطية (إلا بصفتها أداة للوصول للحكم) ترفض الإحتكام للشعب ، فهى كحركة ثيوقراطية غير ناضجة ديموقراطياً تفهم أن الديموقراطية كانت أداة لوصولها للحكم ... أما بقاءها في الحكم لأبد الآبدين فهو أمر منطقي لأنهم في الحقيقة ثلة من البشر لا علاقة لها بالديموقراطية وإنما هى فرقة إنقلابية تتداخل اللوثة الدينية (وليس الدين) في رأسها مع معطيات أخرى أهمها الثيوقراطية والعنف والعضلات التي لا يحكمها عقل وإنما غرائز سياسية ونعرات دينية وقومية وطائفية .
ثم تأتي ثالثة الأثافي ، وهى الأحداث المؤسفة لصبية الإخوان المسلمين أمام الأزهر (منذ سنوات قليلة) والتي أظهرت أن حركة الإسلام السياسي لا تزال بعيدة كل البعد عن النضج – فنحن أمام خلطة من اللوثة الدينية (وليس الدين) والفهم البسيط البدائي للديموقراطية وميل جارف للعنف (إن أمكن) أو لإستعمال العضلات التي لا يحكمها عقل ولا توجهها رؤية عصرية للعمل السياسي .
ورغم الحزن الدفين الذي سببته لكل محب لهذا الوطن ولكل راغب في تقدمه وإستقراره وإزدهاره هذه الأحداث بالغة الخطر والضرر والنذير ، فإن لكل مصيبة (أياً كانت) وجهاً قد يكون أقل جهامة ، وهو (في حالتنا هذه) أن يعلم الناسُ في كل ربوع مصرﹶ حجم الخطر الذي يمثله وصول صبية أصحاب عقول بسيطة ومحصول معرفي هزيل وعضلات منفلته من عقال كل عقل وحكمة لحكم دولة عريقة مثل مصرﹶ .
ويخيل لي أن ما حدث (وأعني أحداث الصبية عند الأزهر) قد أضر بالكثير من الجهات بما في ذلك أعضاء مجلس الشعب الذين ينتمون فكرياً (أو تنظيمياً) لحركة الإخوان المسلمين . فكيف يقبل الشعب المصري بحركة سياسية يقول صبية تابعون لها (بشكل أو بآخر) بتصرفهم الشاذ عند الأزهر أنها حركة لها (أو قد يكون لها) ميلشيات منظمة ... وأنها (في زمن العلم والإدارة) حركة صبية تحركهم غرائز (لا أفكار) سياسية وعضلات (لا فكر) منفلت من عقال كل عقل وحكمة .
وفي إعتقادي ، أن الحركات السياسية الإسلامية لم تمر بعد بمرحلة غربلة وفرز كما يجب أن يحدث ، كما أنها لم تشهد داخلها تطورات فكرية يعتد بها . بل وأجزم ، أن "العقل المسلم" قد عرف خلال المائة سنة التي تفصل ما بين تاريخ وفاة أول الفقهاء السنة الأربعة الكبار "أبي حنيفة النعمان" وما بين تاريخ وفاة رابع الفقهاء السنة الأربعة الكبار "أحمد بن حنبل" (مات الأول حول منتصف القرن الثاني الهجري ومات الثاني بعد أكثر قليلاً من قرن ) . أقول أن العقل المسلم عرف خلال السنوات التي تفصل بين أول ورابع الفقهاء السنة الكبار من المتّغيرات الجذرية أضعاف ما حصل للعقل المسلم بوجه عام وللعقل الفقهي المسلم والعقل السياسي المسلم خلال القرون العشرة التي مرت منذ وفاة أحمد بن حنبل (في القرن الثالث الهجري) وحتى هذه اللحظة . هذا الجمود (بالغ الضرر) الذي نتج عن ظاهرتين مدمرتين هما ما عرف بقفل باب الإجتهاد وإدارة الأغلبية المسلمة لظهرها لأبي الوليد بن رشد الذي كان بوسع المسلمين (إن سمحوا لأنفسهم بالإستفادة من دور إبن رشد العقلي الفذ) ألاّ يكونوا (كما هم الآن) في هذه الدرجة المنخفضة على سلم الترقي والتقدم والنهضة .
************
٢ وفي إعتقادي أن هناك عشرات المعضلات التي تقف ما بين تيارات الإسلام السياسي والنضج السياسي . إلاّ أن أكبر حجر عثرة يحول بين هذه التيارات (ومن بينها تيار الإخوان المسلمين) وبين النضج السياسي العصري هو تمسكهم بفكرة الحاكمية كما صاغها مفكرون إسلاميون مثل أبي الأعلى المودودي وسيد قطب . فالفكرة (حتى لو بدت للبعض ذات بريق وزينة) هى "محض خرافة" . فمؤدي الفكرة أن البشر لا يحكمون البشر وإنما الحاكم هو الله . وهذا لعب خطير باللغة ينتهي – نظراً لعدم وجود إحتكام مباشر للذات الإلهية بالمعنى الحرفي لكلمة "إحتكام مباشر" – لوجود طبقة رجال دين تحكم بإسم الله ووفقاً لفهمها هى لمقاصد الله (!!) . وفي ظني أن أبا الأعلى المودودي وسيد قطب إنتها لهذه "الصيغة الأدبية" التي لا تقبل التطبيق عملياً بسبب صدمة الأول أمام ثقافة هندية عارمة وصدمة الثاني أمام حضارة أمريكية أزعجته أيما إزعاج عندما سافر لقضاء أقل من عامين بالولايات المتحدة الأمريكية منذ أقل قليلاً من ستين سنة . وبدلاً من "التعامل مع العصر" إختار كلاهما "الهروب من العصر" .
************
٣
والخلاصةُ أن أول عقبة على تيارات الإسلام السياسي (التي تريد أن تعيش في هذا العصر وأن تكون في سلام مع الإنسانية) تجاوزها لفكرة الحاكمية كما يؤمن بها جل أتباع تيارات الإسلام السياسي المعاصرة . ويتبع إسقاط هذه الفكرة غير القابلة للتطبيق بدون عودة للوراء لأكثر من ألف سنة وبدون عداء سافر مع الإنسانية والحضارات والثقافات الأخرى، حتمية عمل بعض قادة تيارات الإسلام السياسي على إنضاج درجة أعلى وأرقى من الإيمان بالديموقراطية . فالديموقراطية ليست هى (الشورى) . وإن لم يكن هناك تناقض بينهما : فالشورى جزء من كل هو الديموقراطية . والذي يقول أن في ذلك تطاول على الإسلام ، فإن ردي عليه أن الإسلام تكلم عن الشورى (وليس عن الديموقراطية) كما تكلم عن الدواب (ولم يتكلم عن السيارات والطائرات) ... ولا يعيب هذا الإسلام في شئ ... فليس من هدف الدعوة الإسلامية التبشير بمنجزات العصور التي لم تأت بعد كالديموقراطية والطائرات وحقوق الإنسان وإستعمالات الليزر ومستحدثات الطب الحديث ونظم الإدارة المدنية وتكنولوجيا المعلومات .
على بعض قيادات تيارات الإسلام السياسي أن تعمل على تنشئة جيل جديد يؤمن بأن الأمة هى مصدر السلطات وأن الدستور هو قانون القوانين وأن الزمن لا يسمح بأن تقاد المجتمعات بواسطة رجال الدين (لا سيما في ظل دين لا يعرف طبقة رجال الدين) وإنما بأحدث محصولات العلم والإدارة والفكر وتكنولوجيا المعلومات .
ودون إنشقاق بعض قيادات تيارات الإسلام السياسي عن صفوف الجمود الذي لازم العقل المسلم لأكثر من ألف سنة وتحديهم لمفاهيم مثل الحاكمية والتراث الطويل من النظرة الدونية للمرأة والموقف القبلي من الآخرين الذي يصل عند الحنابلة وعند إبن تيمية بالذات لإعتبار المسيحيين واليهود كفاراً (وهو عبث وتخلف ووضع للمسلمين في حالة مواجهة مع الإنسانية لا يمكن إلا أن يخسروها) وتنشئتهم لأجيال تؤمن أن الأمة هى مصدر السلطات وأن المجتمعات تدار بالعلم والإدارة – بدون ذلك فإننا لا يجب أن نتعجب من وجود صبية يحاولون أن يكونون ميليشيا تحكمنا بالعاطفة الجياشة والحناجر الصارخة وعضلات منفلتة من عقال كل عقل وحكمة .
الفصل الثامن الحضّانة
١ أوجع قلبي وعقلي وضميري أن أرى ملكَ السعوديةِ يقدم لبابا الڤاتيكان سيفاً . فما كان أشد حاجتنا لأن نبعد أنفسَنا عن السيوفِ ونبعد إسمَ الإسلامِ والمسلمين ورموزهما عن السيفِ كشكلٍ وكفكرةٍ وكدلالةٍ. لذلك فما أن أوجعت صورةُ ملكِ السعودية قلبي وعقلي وضميري وهو يهدي السيفَ لبابا الڤاتيكان حتى أمسكت بقلمٍ وكتبت الكلمةَ التي لم يُلقها ملكُ السعودية وكان الجدير به أن يفعل لو كان مستشاروه يعرفون العقل الغربي ثقافة الغرب .
كلمة الملك التي كان ينبغي أن تُلقى : قداسة البابا ... حضرات الكاردينالات ... بإسم السعوديةِ التي أَشرفُ بتمثيلِها وبإسمِ الإسلامِ والمسلمين الذين أشرف بالإنتماء لهم ، أُلقي عليكم تحيةَ السلامِ ... علماً بأن حروفَ كلمتي "السلام" و"الإسلام" متطابقتان في اللغةِ العربيةِ . بإسمي وبإسم من أُمثلُ أدعوكم لكي نبدأ عصراً جديداً يقوم على الإحترامِ المتبادلِ وعدمِ قيامِ أي منا بجرحِ مشاعرِ الطرفِ الآخر ، ناهيك عن الإعتداءِ المادي والمعنوي عليه بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ . إنني أدعوكم وأدعو الجانبَ الذي أُمثله أن نتعاهد على أن أصحابَ كل دينٍ وإن كان من حقِهم دعوة الآخرين لدينِهم فإن ذلك ينبغي ألا يتم بالعنفِ أو القسرِ أو الإجبارِ أو الإعناتِ أو السيفِ وإنما بالمنطقِ والحجةِ وتبيانِ مزايا الدين الذي ننتمي له . إنني من الآن أُعلن أن "الجهادَ" لا يعني إلا الدفاع عن النفس ومواجهة العدوان ، ولكنه لا يعني أبداً الذهاب للآخرين بالقسوةِ والعنفِ والسيفِ لإدخالهم عنوةً في ديننا . فما أبئس أي دينٍ لا يستطيع الإستحواذ على عقولِ وقلوبِ وإعجابِ الناسِ إلا بالعنفِ والقسرِ وعملِ السيوفِ . كذلك فإنني أدعو كلَ الأطرافِ للإهتمامِ بنوعيةِ أتباعِ كل دينٍ أكثر من الإهتمامِ بأعدادِهم ... وإن لدينا في مسألةِ تحسينِ نوعيةِ المؤمنين بديننا العظيم الكثير لنقوم به .
إنني أدعوكم والجانب الذي أمثله لئلا يسخر أيٌّ منا من الآخر أو يسفه مُعتقداته أو يَزعم أن كُتبَه المقدسة مُحرفةٌ . إنني أدعوكم والجانب الذي أمثله لعهدٍ جديدٍ من حريةِ الإعتقادِ وحريةِ العبادةِ وحريةِ إنشاءِ دور العبادة في أي مكانٍ وفي أي زمانٍ . وإذا كان نبيُّ الإسلامِ قد رحب بأن يصلي مَسيحيو نجران بمسجدهِ الذي هو اليوم المسجد النبوي بالمدينةِ المنورةِ , فإنني أُعلن أمامكم أننا سنبدأ عهداً جديداً في التعامل مع غيرِ المسلمين بصفتهم إخواننا في الإنسانيةِ ، وسأدعو كل المسلمين في العالمِ لأن يعرفوا أن مصطلحاتٍ مثل دار الحرب ودار السلام وأهل الذمة كانت متصلةً بظروفِ تاريخيةٍ في أزمنةٍ قديمةٍ وأننا نهدف اليوم لعالمٍ لا ينقسم إلى دار حربٍ ودار سلامٍ وأن مساجدَنا مفتوحةٌ للترحيبِ بالجميع وأن ديننا متينٌ لا يحبس أحداً في دائرةِ الإعتقاد به قسراً وعنوةً . إنني يا صاحب القداسة إخترت لك هديتين رمزيتين أحدهما نخلة ذهبية رمز تاريخنا وبيئتنا ومخطوط قديم للإنجيل يعود لقرون طويلة بعيدة خلت . وقد رفضت إقتراحاً بأن أهديكم سيفاً ؛ فلا السيف من رموزِكم التاريخيةِ ولا هو مما نحب أن يكون مسلطاً فوق علاقتنا المستقبلية . إن بلادي ستعمل جاهدةً في المستقبلِ على أن تكون إقامةُ غير المسلمين بها متسمةً بكل معاني كرم الضيافة ورحابة الصدر والتسامح بما في ذلك حقهم في الصلاةِ وعبادةِ الله في كنائسٍ أو معابدٍ حسب دينهم وطائفتهم . إن إرتفاعَ مناراتِ الكنائسِ أو قباب المعابد فوق أرض بلادي لن يجرح شعورنا كما أن إرتفاع مآذن المساجد في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا لم يجرح مشاعر غير المسلمين بتلك البلاد . كذلك أعدكم بأن ندرس في وقتٍ قصيرٍ عدم تطبيق قوانينا المستمدة من ديننا على أُناس لا يؤمنون بهذا الدين . لنبدأ معاً عهداً جديداً من قبول الآخر والتسامح ونسبية الإعتقاد ؛ أي ألا يتصرف أيُّ إنسانٍ على وجهِ الأرضِ على أساسِ أن دينَه هو الصوابُ المطلق وأن أديانَ الآخرين هى الخطأ المطلق ، ولنترك لله الحكم على أمورٍ ليس بوسعنا (وليس من مهامنا) الإنشغال بها . إنني أدعوكم وكل الذين أمثلهم لعهدٍ جديدٍ من التسامح وقبول الآخر والإحترام المتبادل وعدم إفتراض خطأ الآخر وترك ما لله لله . كما أنني أغتنم فرصة هذا اللقاء للدعوةِ لتكوينِ لجنةٍ من أفاضلِ علماء الأديان السماوية والعقائد الأخرى لمراجعةِ كافةِ برامج ومقررات ومناهج التعليم في شتى بقاع العالم لتحقيق الأهداف التالية : • لتنقية هذه البرامج التعليمية من أية مادةٍ تسيء لعقائد الآخرين . • لتنقية هذه البرامج التعليمية من أية مادةٍ تبذر بذور الشوفينية الدينية والشعور بالتعالي على الآخرين . • لتنقية هذه البرامج التعليمية من أية مادةٍ تقزم التسامح وقبول الآخر وتستأصل الإعجاب بالتعددية والإختلاف كأهم معالم الحياة الإنسانية وأسباب ثرائها وجمالها .
وإسمح لي يا قداسة البابا – الآن – أن أهديك النخلة الذهبية ومخطوط كتاب العهد الجديد التي تعود لزمن إنتشار المسيحية في منطقة نجران ، وهى اليوم واحدة من محافظات أو ولايات المملكة العربية السعودية . *** *** *** إنتهى خطابُ الملكِ الذي لم يلقه وكان من الجدير به (في إعتقادي) أن يلقيه .
************
٢ "سوسيولوجيا قبائل الجزيرة العربية" هي كلمةُ السرِ بالنسبةِ للشخصيةِ والذهنيةِ العربيةِ . وحتى نتمثل الملامح التاريخية لهذه الشخصية ولتلك الذهنية فإن علينا محاولة تخيل شكل ووضع الحياة في القسم الشرقي/ الداخلي من الجزيرة العربية خلال القرون العشرين الماضية . ولكن لماذا شرق (وليس غرب) الجزيرة العربية؟ ... سأتطرق لذلك بعد كلمة بانورامية عن المعالم التاريخية للشخصية والذهنية المتعلقة بأبناء قبائل شرق الجزيرة العربية وبالتحديد "قبائل الداخل" وليس قبائل الساحل. بعد محاضرةٍ لي كان جمهورُها هم أساتذة قسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون العريقة قال لي أحد الأساتذة: "من الأمور المستقرة لدينا في الأوساط الأكاديمية في الولايات المتحدة أن كراهية العرب للغرب إنما هي نتيجة لدخول الغرب في حياة شعوب المنطقة والذي بدأ بإستعمار الجزائر (1830) ومصر (1882) والمغرب (1912)… إلى آخر تلك التواريخ المعروفة… أما أنت فواضح أن رؤيتك في هذا الشأن مختلفةٌ تماماً". قلتُ: "أن ما ذكرته يخلط أشياءً كثيرة ببعضها ويضعها في سلةٍ واحدةٍ؛ وأنا أعتقد أن ذلك خطأٌ. فكراهية شعوب المنطقة للإستعمار ظاهرة (صحية) قائمة بذاتها. ولكن الحقيقة أن عدداً من شعوبِ المنطقةِ لم تكن كراهيته للإستعمار سبباً لكراهيته للتقدم الغربي. بل أكاد أُجزم أن المجتمعات ذات الخلفية الحضارية الثرية (مثل مصر وسوريا الكبرى والعراق) كانت الأمور فيها واضحة جداً: كراهية للإستعمار… وإعجاب بالتقدم.. وفهم صائب لأن "التقدم" لا يعني "التغريب". وهذا موقف يدل على "ضمير شعبي بالغ الرقي"… والبديل هو أن "يقعوا في حب الإستعمار والتقدم"" وهو ظاهرة مهينة ولا تدل إلا على "موت أشياء كثيرة". ولكن علينا ألاَّ ننظر إلى كل مجتمعات المنطقة وكأنها كياناتٌ متماثلة. فما قلته الآن ينطبق على مجتمعات المنطقة ذات التاريخ المضفر بالحضارة وهو ما يضم إلى جوار ما ذكرت مجتمعات أخرى في المغرب العربي… كما يضم (بدرجة أقل) مجتمعات الجزيرة العربية الساحلية، إذ أن الجغرافيا/السياسية جعلتها أكثر قبولاً "للعالم الخارجي" من مجتمعات الجزيرة العربية القابعة (بشكل بدوي) داخل الجزيرة العربية في ظل ظروف جغرافية/سياسية من العسير أن تسمح إلا بذهنية محلية متشددة وقبلية ورافضة للآخر (أياً كان هذا الآخر). وتاريخ عداء هذه المجتمعات الصحراوية للآخر المختلف في ذهنيته ودينه معروف. وليس ذلك بسبب المذهب الحنبلي (بصيغته التي جاءت عبر إبن تيميه) وإنما العكس هو الصحيح: فهذا المذهب وتلك الصيغة لم تجد من يقبلهما في دنيا المسلمين الشاسعة إلا في هذه المنطقة. ولقرابة ألف سنة لم يكن لأفكار وفتاوى إبن تيميه (العامرة بالتشدد وكراهيته لغير المسلمين) إي ذيوع في مصر وسوريا الكبرى والمغرب العربي. وكيف يقبل أبناء الحضارات القديمة فكراً بهذه العزلة عن الإنسانية؟!
٢.1 كانت القبائلُ العربية التي عاشت خلال القرون العشرين الماضية في شرق الجزيرة العربية (وأكررُ قبائل الداخل وليس قبائل الساحل) تعيش عيشة رعوية أي غير حضارية وكان إنتقالُها يتعلق أساساً بالماء والكلأ . وهو ما شكل خلفية عدة أمور : ففكرة العربي المنتمي لقبائل الداخل في الجزء الشرقي للجزيرة العربية عن الولاء والموضوعية والحياد هي أفكار لا يمكن النظر إليها بمعزل عن سوسيولجيا القبيلة البدوية العربية التي كانت تنتقل بحثاً عن الماء والكلأ في داخل القسم الشرقي من الجزيرة العربية . الولاء هو لشيخ القبيلة وبالتالي فإن الموضوعية مستبعدة والحياد صنو الخيانة !! . وكما قال الناقد المصري الكبير جلال العشري في كتابٍ أفرده كليةً لإبداع العرب, فإن الشكل الوحيد للإبداع الذي تألق فيه العربُ هو الشعر. فهم لم ينتجوا إلا الشعر وذلك لأسباب ليس هذا موضع تناولها وإنما الواقع أن العرب لم ينتجوا مسرحاً أو قصصاً أو روايات أو ملاحم أو موسيقى أو أي شكل من أشكال الإبداع التي عرفها اليونانيون ومن قبلهم المصريون والسوماريون . وأظن أنني لا أبتعد عن الحقيقة إذ أقول أن الشعرَ العربي الذي أنتجه شعراءٌ من مناطق الداخل في القسم الشرقي من الجزيرة العربية هو مرآةٌ تعكس المجموعة القيمية لإنسان قبائل تلك المنطقة ومبادئه وإنشغالاته ومعالم تفكيره وسلوكه . وكل ما يعكسه الشعرُ العربي لشعراء الداخل من المنطقة الشرقية للجزيرة العربية لم يتغير على مر الزمان . فقصيدةٌ بالفصحى منذ أكثر من عشرة قرون لشاعر من نجد تعكس كل المجموعة القيمية والنظرة للحياة وللآخر التي بقصيدة بالعامية (أي بما يسمى بالشعر النبطي) لشاعر من نجد يعيش الآن في هذا الزمان . فمعظم قصائد القديم والحديث من شعر هذه المنطقة يدق الطبول لنغمة الفخر والخيلاء ورفع الرأس فوق باقي الرؤوس والإنفة (ومنها أسماء "نايف ونوف ونواف") ناهيك عن أنهم يهزمون ولا يهزمون ولا ينحنون ولا يسألون وأنهم على الجميع يتفوقون (!!!) . تلك هي خلاصة الرسالة التي تحاول آلاف القصائد التي قالها شعراءٌ من نجد أو من الإحساء أو من القصيم أو من الهفوف أن يعبروا عنها منذ أن أصبحت اللغةُ العربية على ما هي عليه الآن (نسبياً) وحتى هذه اللحظة . وهذه النظرة للحياة التي يعكسها شعر هذه المنطقة هو ترجمة نهائية لسوسيولوجيا قبائل هذه المنطقة .
وهذه الذهنية (ذهنية القبلية العربية في المناطق الداخلية في شرق الجزيرة العربية) هى الذهنية التي جلست على مقعد القيادة في الحياة العقلية أو الذهنية في المجتمعات العربية والإسلامية بعد إخفاقات المرحلة الليبرالية وحقبة الإشتراكية المندمجة بالقومية العربية .إلا أن تأثر المجتمعات الإسلامية والعربية بتلك الذهنية القبلية العربية الصحراوية التي نبتت بين كثبان الرمال في المناطق الشرقية الداخلية بشرق الجزيرة العربية إنما تتفاوت وتختلف من مجتمع لآخر بحسب خلفياته التاريخية والحضارية والثقافية وبسبب ظروفه السياسية والسوسيوإقتصادية . فبينما كان التركيز شديداً في داخل الجزيرة العربية فإنه كان أقل نسبياً في مدن سواحل الجزيرة العربية كما كان التأثير أضعف نسبياً بمجتمعات ذات نصيب أوفر من الجزيرة العربية من التاريخ والحضارة والثقافة مثل المغرب ومصر وسوريا والعراق والهند . ولكن تبقى هذه الذهنية العربية البدوية الصحراوية الداخلية والتي يعبر عنها الشعرُ الذي أنتجته هذه المناطقُ هو أهم مفاتيح أو أدوات فهم الكثير من أشكال وطرق التفكير والأحكام الذائعة اليوم في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية. إن ذهنية القبيلة البدوية العربية الصحراوية الداخلية تحمل مفاهيماً تتناقض بالكلية مع مفاهيم الدولة العصرية . فالولاء لشيخ القبيلة شخصانياً بطبيعته بينما الولاء للدولة العصرية موضوعي أو أقرب للموضوعية . وفي القبيلة يكون الإلتزام برغبات وأقوال وتعليمات شيخ القبيلة هو البديل (الشخصاني مرة أخرى) لإلتزام المواطن العصري بالقواعد الدستورية والقانونية الرسمية في دولته . وحسب سوسيولوجيا ذهنية القبيلة (بمواصفات القبيلة المذكورة أكثر من مرة في هذا الفصل) فإن "الآخر" يكون إما عدواً أو على الأقل "عدو يلزم الحياد" , أما في نظم الدولة المعاصرة فإن الآخر هو وجه طبيعي من أوجه تعددية الحياة ولا يوجد ربط ما بين "الآخر" وأي شكل من أشكال الرفض أو العداء . وفي بيئة قبلية من هذا النوع فإن الحديث عن أمور أو قيم مثل التعددية وقبول الآخر وممارسة النقد الذاتي وقبول النقد والإيمان الراسخ بعالمية وإنسانية المعرفة يكون أمراً مستحيـلاً – وهى كلها من ثمار الدولة العصرية المتحضرة والمتقدمة . بل أن مفهوم "الإنسانية" يكون منتفياً في المجتمع القبلي . وإذا إستعرنا من مفكر عظيم مثل إبن خلدون نظريته في التفرقة بين الحضر والبدو ، فإنه يكون من الممكن أن نقول أن الذهنية الإسلامية المعاصرة (وليس الإسلام) هى الإسلام كما فهمته وقدمته وروجت له خلال النصف قرن الأخير الذهنية العربية القبلية البدوية الصحراوية الداخلية . وإذا كانت جل المراكز والمدارس الإسلامية التي أنشئت في أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا وآسيا غير الإسلامية وأيضاً في أفريقيا غير الإسلامية قد أنشئت بمبادرة وتمويل من جهات لا تمثل إلا هذه الذهنية (العربية القبلية البدوية الصحراوية الداخلية) فإنه لا يكون من العسير معرفة لماذا يبدو للعالم اليوم أن هناك صداماً كبيراً بين البشرية والإسلام – والحقيقة أن الصدام هو بين البشرية وبين الإسلام الذي قدمته ومولته وروجت له هذه الذهنية والتي يمكن تسميتها بالذهنية النجدية . و يرجع تركيزي على المناطق الداخلية بشرق الجزيرة العربية لكونها هى التي أثمرت الذهنية الوهابية. إن فكر المذهب الوهابي هو من مكونات البناء العلوي أو الفوقي (الأفكار) التي أنتجها بناء تحتي معين (هو الحقائق الجيوسياسية والإقتصادية لصحراء نجد)… وهؤلاء لا يعرفون أنه لا يوجد مكان آخر على وجه الأرض يحتمل أفكاراً كهذه، لأن معادلة ماركس التي أخذها عن فويرباخ وهيجل لا تزال صائبة: وهي أن هناك علاقة مؤكدة بين (الأفكار) والبناء التحتي للمجتمع (إقتصاد+جغرافيا).
************ ٣ عاد السعوديون بشكلٍ مستترٍ للتأثير في الحياةِ السياسيةِ في شرقِ الجزيرة العربية بعد سنواتٍ مما فعله بهم إبراهيم باشا (إذ ألقى القبض على كبيرهم وأرسل به إلى مصر ومن مصر إلى أسطنبول حيث لقي حتفه). عاد السعوديون (خفية) لممارسة شئون السياسة مقاسمة مع آل الرشيد – السعوديون في الرياض وآل الرشيد في حائل حتى اصطدم الفريقان (آل سعود وآل الرشيد) وإنهزم السعوديون بزعامةِ عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز مؤسس العهد السعودي الثالث بعد ذلك – وكانت هزيمة السعوديين في سنة 1891 ؛ ورحل الأمير المهزوم (عبد الرحمن) بأقطاب البيت السعودي إلى الكويت حيث كانوا في ضيافة الشيخ مبارك الصباح والذي لعب دوراً كبيراً في توجيه الشاب الصغير (عبد العزيز) ابن عبد الرحمن آل سعود – وكان عبد العزيز قد ولد في سنة 1876 وإختمرت فكرة العودة للرياض في ذهنه بتأثيرٍ من عواملٍ عديدةٍ من بينها جلساته مع أمير الكويت الشيخ مبارك الصباح.
و لقد طور محمد بن عبد الوهاب الخطوط العامة لدعوته (ولا أقول لمذهبه الفقهي-فالرجل كان داعية ولم يكن فقيهاً) قبل سنة 1798 والتي شهدت أول إحتكاك في الأزمنة الحديثة مع الغرب (وأعني قدوم نابليون وحملته لمصر). وقد شهدت سنوات الدولة السعودية الأولى (التي سحقها إبراهيم باشا في سنة 1818) وكذلك الدولة السعودية الثانية (والتي إنتهت في 1891) مئات النماذج التي تدل في الأساس على رفض التحديث وكل مظاهر المدنية وكراهية غير المسلمين، بل وكراهية المسلمين الذين يخالفونهم في فهمهم للإسلام. فالمسلم (المصري أو السوري) الذي لا يرى غضاضةً في الغناء، كان عند الدولة السعودية الأولى والثانية (مقلد للكفار). وعندما حارب الإخوان (إخوان نجد) الملك عبد العزيز من أجل مظاهر المدنية (كالراديو والتليفزيون والسيارة) ووجود أجانب بجزيرة العرب وذلك خلال عشرينيات القرن العشرين-فقد كان ذلك مجرد تعبير عن معالم أساسية في ذهنية أفراد ومذهب فقهي لا مكان لهما إلا في زمان غير هذا الزمان ولا مكان لهما في أي مكان إلا إذا كان مماثلاً لمكانهم في ملامحه وعناصره الجغرافية. منذُ أكثر قليلاً من مئتين وخمسين سنة (بالتحديد في سنة 1744) عندما تعاهد رجُلان هُما مُحمد بن سعود ومُحمد بن عبد الوهاب على أمرٍ خلاصته أن يحكم الأولُ وفق مباديءِ وقواعدِ دعوةِ الثاني. وعقب البيعة قال مُحمد بن عبد الوهاب كلمات قليلة كانت بالغة الصدق في التعبيرِ عن جوهرِ حركتهِ التي تُعرَف بالوهابية . قال مُحمد بن عبد الوهاب (موجهاً حديثه لمُحمد بن سعود) "الدم الدم ، الهدم الهدم" . وعلينا أن نُقَدِر صدق الرجل كل التقدير إذ لخص دعوتهُ في أربع كلمات كانت ولا تزال دستور الوهابية . كانت هذه البيعةُ هى أساس الدولة السعودية الوهابية الأولى . ومن يُراجع مؤلفات مُحمد بن عبد الوهاب اليوم (وقد طالعتُ بعناية كتبهِ وهى 19 مؤلفاً) يجدها تُدخله في مجال الدعوة أكثر من أن تُدخله في مجال الفقه . المُهم : إستمرت الدولةُ السعودية الأولى من سنة 1744 حتى قامَ إبراهيم باشا (إبن مُحمد علي الكبير) بالقضاءِ المبرمِ عليها بعد 75 سنة عندما قام بمهاجمة الدولة السعودية وحطمَ عاصمتها (الدرعية) وألقى القبض على أميرها (عبدُ الله بن سعود) وأرسله إلى القاهرة ومنها إلى عاصمة الدولة العثمانية حيث تم إعدامه وكانت سماتُ الدولة السعودية الأولى هى محاربة ما تعتقد أنه البِدَع مثل بناء القبور والموسيقى والغناء والتشبه بغير المسلمين في أي مظهرٍ من المظاهر مع كراهية واضحة لهم والإعتقاد بنجاستهم (بل والبصق عليهم كما كان الإخوان يفعلون مع المُستشارين الأوروبيين للملك عبد العزيز في أوائلِ القرن العشرين) وعدم جواز وجود غير المُسلمين على تُراب الجزيرة العربية مع عداء مُستأصل لكل مظاهر الحداثة حتى لو كنا بصدد أمر بسيط مثل كيفية التعامُل مع الشارب واللحية !! . كذلك إتسم فُقهاء الدولة السعودية الأولى بسمةٍ لم تَغِب عن الوهابيين قط وهى إعتبار المذهب الحنبلي (بما أَضافه إليه إبن تيمية وإبن قيم الجوزية) هو الفهم الوحيد الصحيح للإسلام ، رغم أن فقه إبن حنبل هو أضعف مدارس الفقه السُنية الأربعة (الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية).
************ ٤
بعد قضاء إبراهيم باشا على الدولة السعودية/الوهابية الأولى ، عاد السعوديون (وفي ذيلهم الوهابيون) إلى المُشاركة في قيادة مجتمعات شرق الجزيرة العربية ولكن هذه المرة للمُشاركة مع آل الرشيد (الذين كانت حائل عاصمة مُلكَهم) . وقد إستمر هذا التحالف بين آل الرشيد وما يُمكن أن نُسميه الدولة السعودية الثانية حتى قام آل الرشيد بالتخلص من مُشاركة آل سعود لهم (بل وطردهم إياهم لمنفاهم بالكويت) في سنة 1891 . وفي سنة 1901 قام الشاب العامر بمؤهلات القيادة وأدوات صُنع التاريخ (عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود المولود سنة 1875) بالإستيلاء على مدينة الرياض بعد عمليةٍ ليليةٍ بالغةِ الجسارة . وخلال السنوات من 1902 إلى 1925 حفلت حياةُ هذا الأمير السعودي العامر بمواهب القيادة والحُكم بجهود خارقة إنتهت بأن يصبح (بعد إستيلاءه على مكة والمدينة المنورة سنة 1925) الحاكم الوحيد لنجدٍ ومناطق أخرى هى التي تُعرَف اليوم بالمملكة العربية السعودية (وهو إسم لم يُستعمل إلا بعد سبع سنوات من صيرورة عبد العزيز آل سعود سلطاناً لنجدٍ ومَلِكاً للحجاز في سنة 1925) . وخلال رحلة تاريخية نادرة المثال ما بين سنة 1902 وسنة 1925 لم تظهر فقط علامات القيادة الكُبرى من خلال تصرفات وسياسات وأفعال وأقوال عبد العزيز (آل سعود) وإنما دلت كل التفاصيل على فهمه الكامل لطبيعة القوى الكُبرى ما بين الدولة العثمانية والإمبراطورية البريطانية ثم الإمبراطورية التي ستبرُز بعد ذلك وأعني الإمبراطورية الأمريكية . وقد لعب عبد العزيز (آل سعود) أدواره بمهارة بالغة وإستعمل كل ما كان من شأنهِ إفادتهِ ودفعهِ نحو هدفه الذي تكون في ذهنيته أيام المنفى الكويتي وخلال تلك السنوات التي قضاها (وأسرته) في ضيافةِ ورعايةِ آل الصباح بالكويت بوجه عام وفي حضانةِ ورعايةِ أمير الكويت الشيخ مبارك (1895/1915) بوجه خاص . وكما إستعمل الأمريكيون الإسلاميين إبان حقبة الحرب الباردة ليساعدوا الولايات المتحدة في عملية تقويض إمبراطورية الإتحاد السوفيتي (ولا سيما بعد غزو السوفيت لأفغانستان سنة 1979) . فقد إستعمل الأمير عبد العزيز (آل سعود) وإعتباراً من سنة 1912 ما يُشابه أو يُقابل الإسلاميين (الجهاديين) الذين إستعملتهم الولايات المُتحدة في أفغانستان ضد السوفيت وأعني حركة الإخوان أو إخوان نجد . ورغم وجود عشرات المؤلفات لدي عن علاقة الأمير عبد العزيز (آل سعود) بحركة الإخوان منذُ بدأ الحلف السياسي بينهما في سنة 1912 وحتى إنتهى ذلك الحلف بقتال دموي تمكن فيه السعوديون (بقيادة السُلطان/الملك عبد العزيز آل سعود) من القضاء على الإخوان (بقيادة فيصل الدويش) سنة 1930 ، إلا أنني أكتفي بالقليل عن هذه العلاقة هنا . كان الإخوان أو إخوان نجد من أصحاب الغلو البالغ في فهمهم للدين . فكل مظاهر المدنية الحديثة عندهم هى رجز من عمل الشيطان . ونظراً لأن حلفهم مع إبن سعود كان في فترة تقدم البشرية العلمي الكبير ، فقد حاربوا مظاهر هذا التقدم وإعتبروا خطوط التلغراف والسيارات والتليفون ثم بعد ذلك الراديو كُلها من أعمال الشيطان وإعتبروا من يقبل بها كافراً . وللتدليل على غلوهم الذي يدخُل في دائرة الجنون أن واحداً منهم تقدم وفي يدهِ مقص تجاه السُلطان (عبد العزيز آل سعود) وقام بتقصير ثوبهِ أمام الجميع فيما يُشبه الإعلان أن مباديء الوهابية أقوى من السُلطة السعودية . ومعروف أن تقصير الثوب عند الوهابيين من الضروريات وأن مخالفة ذلك كُفر (!!) . ولا شك عندي أن الأمير عبد العزيز (ثُم بعد ذلك : السُلطان ثم الملك عبد العزيز آل سعود) قد إستعمل الإخوان عندما كان في حاجةٍ لهم ، إذ كانوا مُقاتلين بالغي الشجاعة شأنهم شأن كل راغب في الموت. وخلال إستعماله لهم (من سنة 1912 إلى إرتفاع رايته فوق معظم الجزيرة العربية سنة 1925) كانت تحدُث صِدامات كبيرة عديدة بينه وبينهم ، لدرجة أنهم أعلنوا غضبهم الشديد عليه عندما إنتقل من إستعمال الإبل لإستعمال السيارة الحديثة . وقال بعضهم عنه "أنه في سنة 1925 خرج من الرياض على ظهر ناقة وعاد إليها في سيارة كاديلاك" (وهو مايعني عند الوهابيين بداية مروقه وخروجه عن صحيح الدين !!) . ولكن ما أن دانت شبه الجزيرة للسُلطان الذي جنى ثمرة عبقريته وكفاحه بعد إنتصاره على الهاشميين وإستيلاءه على مناطق مُلكهم (سنة 1925) حتى بدأ الصدام الكبير بينه وبين الإخوان والذي إكتمل بالحرب التي إنتهت بإنتصار عبد العزيز آل سعود على الإخوان وأسرِه لقائدهم فيصل الدويش الذي ما لبث أن مات في أسرِه بعد بضعة سنين .
************
٥ ولكن : هل خلت دولة السعوديين (الثالثة) بعد أن إستتب لها الأمر وتمكنت من هزيمة أعدائها (من آل الرشيد للهاشميين لفيصل الدويش) من فكر حركة إخوان نجد الذي يقرب من حدود الجنون والأمراض النفسية إذ يُقاتلون من أجل إيقاف إستعمال السيارات والتلغراف والراديو ومن أجل تقصير الثوب وحف الشارب وإطلاق اللحية ؟ ... الحقيقة أن الدول السعودية (الأولى والثانية والثالثة الحالية) لم تكن في أي يوم خالية من رياح السموم التي يبثها أصحاب ذهنية إخوان نجد . وحتى اليوم فإن أي فقيه سعودي عندما يتكلم يكون جلياً أن الإسلام عنده هو الإسلام كما فهمه إبن حنبل وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية رغم كون هؤلاء فُقهاء صغار القامة إلى أبعدِ حدٍ عندما يُقارنون بفقهاء مثل أبي حنيفة النُعمان ومالك بن أنس وجعفر الصادق وإبن رُشد (المُعَلِم الثاني بعد المُعَلِم الأول أرسطو) . فبينما يُمكن القول بأن "العمل الفقهي" كان على أشده عند فقهاء مثل أبي حنيفة وإبن رشد ، فإن "العمل التجميعي" الخالي من إعمال العقل أو أدوات علم أصول الفقه التي جوهرها العقل (مثل الإستحسان عند أبي حنيفة والتأويل عند إبن رشد) كانت سمة المذهب الحنبلي وهو ما أدى إلى توسعهِ (بالغ الإفتئات على العقل) في قبول آلاف الأحاديث وهو ما خلق مناخاً عاماً أساسه الإتباع والتقليد والتبعية وليس إعمال العقل، وهو ما أدى بالمجتمعات الإسلامية لما وصلت إليه اليوم عندما أصبحت خارج التاريخ وخارج مسيرة العلم وخارج مسيرة الإضافة لعناصر الحياة الإنسانية على الأرض . فقد قاد هذا التيار الفقهي العقول المُسلمة لتصبح "عقول تلقي الإجابات" وليست "عقول إثارة الأسئلة" ، ناهيك عن ذبول القُدرة على إعمال العقل النقدي الذي هو أساس التقدم البشري .
رغم أن إبن حنبل هو أكثر فقهاء المسلمين عبودية للنص (أو للنقل) وإهمالاً للعقل (قبل أحمد بن حنبل عشرات الآلاف من الأحاديث على خلاف فقيه مثل أبي حنيفة) أما إبن تيمية فهو ثمرة طبيعية لزمانه : زمان تهاوي الدولة الإسلامية وسقوطها تحت سنابك خيول المغول والتتار – وهو لا يلام على فكره الذي كان مناسباً للحظتة التاريخية وإنما يلام من أسسوا فقههم على رؤياه في زمان غير زمانه ومكان غير مكانه.
٥.1 إن مقاومة تعليم البنات في المملكة ومقاومة البث التليفزيوني وعدم التصريح للنساء بقيادة السيارات وتأثيم الموسيقى والغناء ، هى وأيضاً العمل الإجرامي الكبير المُتَمَثِل في الإستيلاء على الحرم المكي مع بداية القرن الهجري الخامس عشر هى كلها دلائل بقاء نفوذ ذهنية الإخوان في المملكة . إن عدم تدريس مادة الرسم والفلسفة في المدارس ليست إلا من ثِمار هذه الذهنية . ومعارضة تعيين إمرأة في مجلس الشورى أو في مجلس الوزراء هى أيضاً من ثِمار بقاء هذه الذهنية . وكذلك طوفان الفتاوى العامرة بمعالم هذا الجنون (مثل فتوى إبن الباز بعدم كروية الأرض وفتوى تحريم إرسال الزهور للمريض) وهى أمور تحتاج لحسم إداري باتر يُلازمه علاج نفسي .
في يدي فتوى سعودية بأن شراء الزهور وإرسالها للمريض حرام لأنه تقليد جاءنا من بلدان الكفر. إنه مثال واحد (وقد يبدو للبعض بسيطاً)… ولكنه ليس كذلك. إنه يكشف ذهنية كانت ولا تزال تكره كل ما يجيء من الخارج! ولكنها أيضاً متناقضة: فنص فتوى الزهور تقول أن إرسال الزهور للمرض "حرام" لأن ذلك (ليس من هدى المسلمين على مر القرون)!!! وكأن ركوب الطائرة والسيارة وإستعمال الكمبيوتر… بل وإستعمال الأسلحة الحديثة-في قتلهم لأعدائهم كان (ليس من هدي المسلمين على مر القرون)!! إن أي مسلم (خارج عالم إبن تيميه) لا يمكنه إلا الشعور بالغثيان من تضمين فتوى الزهور (الفتوى 21409 بتاريخ 29/3/1421هـ) كلمات مثل: (وإنما هذه عادة وافدة من بلاد الكفر نقلها بعض المتأثرين بهم من ضعفاء الإيمان) وليتصور معي القراء "ذهنية" تعادي الزهور… رمز الخير والجمال والصداقة والبراءة والمحبة في كل الثقافات… بل أن لغات عديدة تستبدل عشرات الكلمات الرائعة الجميلة بكلمات مثل (الورد) و(الزهرة) و(الفل) و(الياسمين)… إلا أن ذهنية القبيلة الرحّالة لا تريد لنا إلا أن نصبح "ثقافة أعداء الزهور"!
ويتساءل الإنسان: إذا كانت هذه هي الذهنية العامة والنظرة لغير المسلمين-أفليس من الطبيعي أن يفرز المجتمع (على فترات) أفراداً يحملون السلاح ويطلقون النار على مظاهر المدنية وعلى الأجانب (الكفار) الذين "ينجسون" تراب جزيرة العرب؟ (رغم أنهم يطلقون النار من أسلحة من إبتكار الكفار!!). لأن هذه المنطقة (مناطق الداخل في شرق الجزيرة العربية) هى التي صاغت الطرح الإسلامي أو الفهم الإسلامي الذي يسميه الدارسون بالفهم الوهابي للإسلام والذي أنفقت المملكة العربية السعودية على ترويجه ونشره خلال نصف القرن الأخير مئات المليارات بعد أن تأثر بشكل أو بآخر بثلاث مؤثرات خارجية هى : فكر أبي الأعلى المودودي وفكر سيد قطب والمدرسة السرورية التي جاء بها الإخوان المسلمون السوريون , ولكنها مؤشرات لم تغير جوهر الفهم الوهابي للإسلام وإنما دعمته وقوته نظراً لبساطة فكر محمد بن عبد الوهاب مقارنة بأياً من المدرسة المودودية أو القطبية أو السرورية . وخلصت في محاضرتي، بأن كراهية الإستعمار ظاهرة قائمة بذاتها-وهي ظاهرة لا يمكن إلا أن توصف بكل الصفات الطيبة-ونقيضها لا يوصف إلا بكل الصفات المشينة والمهينة. أما شعوب المنطقة ذات الخلفية الحضارية، فهم من جهة لا يكرهون الحداثة والتقدم والأجانب ولكنهم يكرهون أن يكون معنى التقدم هو "التغريب"… وهذا أيضاً موقف ليس فقط إيجابياً بل حكيماً وكريماً. أما كراهة مذهب معين ومجتمعات معينة لكل ما هو من الخارج، فحقيقة لا شك فيها-وهي التي جعلت محمد علي يرسل جيشه بقيادة إبنه إلى جزيرة العرب ليحارب هؤلاء "المهووسين" ويأتي (في 1818) بكبيرهم (مأسوراً) ليحاكم ويقضي نحبه… بل أن هذا هو ما جعل مؤسس الدولة السعودية الثالثة يدخل معهم في حرب (في عشرينات القرن العشرين) لهوسهم السيكوباتي بمحاربة كل مظاهر المدنية.
ومن أخطر الأمور التي حدثت خلال العقود الخمسة الأخيرة أن الذهنية النجدية لم تقم فقط بإحتكار إنشاء المراكز والمدارس الإسلامية في شتى بقاع العالم , ولكن أخطبوطها مد أذرعه إلى الكثير من وسائل الإعلام في داخل وخارج المجتمعات العربية والإسلامية كما أنه في نفس الوقت قد مد أذرعه إلى مؤسسات دينية أخرى عريقة في بلدان مثل مصر وتونس والمغرب وسوريا فمحا عنها صفاتها الأصلية وأحل محلها الكثير من معالمه الذهنية . فبعد أن كنا نعرف من خطبة الجمعة في مصر أن المتحدث إما شافعي أو حنفي وكما كنا نعرف من خطبة الجمعة في المغرب أو تونس أن المتحدث مالكي , فقد صرنا نسمع قرع طبول حسب نوتة موسيقية واحدة هي النوتة الحمبلية بتوزيع موسيقي لإبن تيمية ولمحمد إبن عبد الوهاب .
٥.2 ولكن من اللازم (من باب الأمانة العلمية) أن نُفَرِق بين الوهابية وذهنية الإخوان وبين العائلة السعودية . فالحقيقة أن كُتب مُحمد بن عبد الوهاب الـ 19 لا تحُض على شيء مما فعله ولا زال يفعله أصحاب ذهنية إخوان نجد . كما أن العائلة السعودية كانت – في ظروف تاريخية معينة – في مُشاركة مع الوهابيين وفي مرحلة أخرى مع الإخوان ولكنها ليست بالضرورة صاحبةِ هذا الفكر .
وأنني (كدارس للتاريخ السعودي خلال القرون الثلاثة الأخيرة) أعتقد أن البيت السعودي في لحظة مفصلية اليوم مع كل من التيار الوهابي وبقايا ذهنية إخوان نجد . وأعتقد أنه منذُ أن إكتشف البيت السعودي أن السوادَ الأعظم من مُجرِمي حادث 9 سبتمبر 2001 كانوا شباباً سعودياً ، فقد أصبح لزاماً عليهم إدراك أن مسئولية كبرى قد أُلقيَت على عاتقهم بوقفة مع التيار الوهابي والإخواني (بمعنى إخوان نجد وليس إخوان مصر) تُماثل وقفة والد كبار أُمراء البيت السعودي الحاليين أي وقفة عبد العزيز آل سعود مع إخوان نجد وفيصل الدويش خلال النصف الثاني من العقد الثالث من القرن العشرين ، وهى الوقفة التي إنتهت بحرب هزم فيها الملك عبد العزيز آل سعود الإخوان بقيادة فيصل الدويش رغم دور الإخوان غير المنكور في نجاح مسيرة الأمير الشاب (الملك عبد العزيز آل سعود) .
**************
٦ والمطلوب اليوم من السعوديين المتعلمين والمثقفين أن يدركوا بوضوح أن مشكلتهم هي في المقام الأول والأخير مع "ذهنية" لم يعد لها مكان في أي أرض أو وقت. وليس من اللائق أن يتعايشوا مع فتاوى تحريم قيادة المرأة للسيارة.. وغيره. ولا أعرف هل هناك نص قرآني يمنع السعودية من تكوين هيئة فتوى جديدة تنتقى من مذاهب أرقى بكثير من مذهب إبن تيميه وإبن حنبل؟… إن قيمة "إبن تيميه" بين الفقهاء وبالمقارنة برجل مثل أبي حنيفة أو إبن رشد هي كقيمة "الناقة" بالمقارنة بالسيارة الروز رويس كوسيلة مواصلات! إن البيت السعودي الذي لم يتورط فكرياً في أفكار الوهابية وإخوان نجد مُطالبٌ اليوم (في إعتقادي) بما يلي : أولاً - القيام بمواجهة مع التيار الذي يُمثله كل الغُلاة في السعودية مواجهة تُشبه مواجهة والدهم للإخوان منذُ ثمانية عقود . ثانياً - إقصاء أصحاب الذهنية الوهابية والإخوانية (بالمعنى النجدي) عن دوائر التأثير في مؤسسة التعليم . ثالثاً - إقصاء أصحاب الذهنية الوهابية والإخوانية (بالمعنى النجدي) عن دوائر التأثير في وزارة الأوقاف والدعوة والحج . رابعاً - إلغاء كل نُظم المطوعين وجماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر لمُنافاة ذلك كلياً لمفهوم الدولة الحديثة . خامساً - تقليص الميزانية الهائلة التي تنفقها المملكة على رجال الدين (نحو 3 مليار دولار أمريكي) وتوجيه هذه الأموال لمجالات التعليم والصحة (فإن أصحاب الثوب القصير والشارب المحفوف واللحية المُطلقة ليس بوسعهم أداء أي دور في أية دولة حديثة إلا إذا كان المقصود بالدور هو الدور الهدام) . سادساً - تشجيع أساتذة الفقه المُعتدلين على وضع برنامج محدد زمنياً لإدخال مرجعيات حنفية ومالكية وشافعية بدلاً من المرجعيات الحنبلية حتى تصل السعودية لطورٍ لا يكون الفهم الحنبلي فيه هو الفهم الوحيد لسائر الأمور الدينية (وأُكرر أن إبن حنبل وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية هُم كانوا بلا شك من أصحاب أقصر القامات الفقهية بين الفُقهاء). سابعاً - التجاسُر على كسر وهزيمة العناد الإخواني (بالمعنى النجدي) في العديد من المسائل مثل تعيين المرأة وزيرة وتعيين المرأة بمجلس الشورى والسماح للمرأة بقيادة السيارة والسماح للأساتذة الرجال بالتدريس للطالبات وللمُعَلِمات من النساء بالتدريس للطُلاب الذكور في ظل مناخ عصري وليس في ظل المناخ الحالي الذي لا مثيل له على وجه الأرض . ثامناً - نظراً لأن مئات المراكز الإسلامية التي أنشأتها السعودية في معظم بلدان العالم قد تحولت لأوكار للتعصب والتشدد والغلو (ومفارخ للعُنف والدموية والإرهاب) ، فلابد من وضع خطة بديلة لتحويل هذه المراكز لنقاط خدمة مُجتمعية وليس لجهات دعوة ظلامية كما هو الحال بشأن مُعظمها اليوم ، وهو ما أساء للإسلام والمُسلمين أكبر إساءة خلال العقود القليلة الماضية . إنني أُعبِر عن هذا الرأي لا من باب العداوة للسعودية وإنما من باب الحرص عليها . فأنا على يقين أن عدم قيام أبناء الملك العظيم عبد العزيز آل سعود بمثل ما قام به والدهم مع إخوان نجد وفيصل الدويش منذُ ثمانين سنة سيؤدي بالمملكة السعودية لمواجهه بالغة الضراوة مع المُجتمعات المُتقدمة . لذلك فإنني أؤمن بأن إنهيار النظام السعودي سواءً لمصلحة تيار الغلو أو لمصلحة تيار التجزئة والتقسيم هو أمر بالغ الخطورة الإستراتيجية على كل دول الخليج والشرق الأوسط .
************
إن تأسيس حزب سياسي على أساس ديني في مصر هو بمثابة إضرام النار في خزان وقود. فتأسيس حزب سياسي على أساسٍ ديني إسلامي أو تأسيس حزب سياسي على أساس ديني قبطي كلاهما بمثابة فتح بوابات الجحيم وإستدعاء مُلِح لعدم الإستقرار السياسي وإنعدام التنمية الإقتصادية وخروجنا من العصر تعليمياً وثقافياً. ناهيك عن حقيقة أنه لا يوجد (واقعياً) شيء أسمه حزب ديني وإنما حزب لرجال الدين. ومع ذلك فإن كاتب هذه السطور يعتبر كل الممارسات غير القانونية التي وقعت في حق المتأسلمين هي جرمٌ كبير في حق الإنسانية. فمشكلتنا مع المتأسلمين لا تحل إلا بالحوار. بمعنى أن الدخول في حوار ممتد مع المتأسلمين هو الطريقة الوحيدة لتحويلهم (على المدى الطويل) لحزب سياسي مدني يقبل ركائز الديموقراطية وهي قبول الآخر وإنتقال السلطة منهم وإليهم والإحترام العصري الكامل للديانات الأخرى وللمرأة والتخلي عما يظنونه من الإسلام وهو في الحقيقة من آثار البداوة والعصور الوسطى وجيوبوليتيكا ذهنية البدو الرحل في الصحراء. ومن حق المجتمع المدني أن يحمي نفسه من أي فريق قبل إكتمال نضجه حسب معايير العصر. فكما أن إصلاح مصر أجدى ألف مرة من سقوطها في أيدي عدد من البدائل ، فإن إصلاح السعودية أجدى ألف مرة من بدائل سَتُخَرِب المنطقة بأسرها ، وأعني إستمرار الإستقرار في المملكة وكل جيرانها . ولكن هذا الإستقرار في إعتقادي مستحيلٌ بدون عملية تاريخية تُشبه ما قام به الملك عبد العزيز آل سعود مع غُلاةٍ مُماثلين خلال السنوات ما بين 1925 و 1930 . فيا عُقلاء السعودية أستختارون نهج الملك عبد العزيز في مواجهة إخوان نجد منذُ ثمانية عقود أم سَتُفَضِلون الإستمرار في مُعاشرة "فيصل الدويش" المُتجدد حتى يُثقَب قعر السفينة فتغرق بمن فيها ؟
#طارق_حجي (هاشتاغ)
Tarek_Heggy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل من تفسير ؟
-
لو كنت كرديا من سوريا ... : سلسلة - لو كنت ..... - الحلقة ال
...
-
مرة أخرى: مسيحيو مصر (عرض لمرض مجتمع).
-
بمثل هذا الموقع (الحوار المتمدن) -قد- نستطيع بدء نهضة ثقافية
...
-
من ذكريات زيارة حديثة لكردستان الرائعة
-
قرار تقسيم فلسطين نوفمبر 1947 : من دفاتري القديمة
-
تراجيديا المرأة فى مجتعنا - بمناسبة اليوم العالمي للمرأة...
-
الشرق والغرب : الفهم المفقود.
-
رسالة للحكام العرب - بمناسبة اليوم العالمي للمرأة
-
نصيحة مجانية للرئيس إبن الرئيس ...
-
المرأة : نصف البشرية المعطل فى مجتمعاتنا الظلامية
-
بين ثقافة السلام وثقافة الحرب .
-
الصراع العربي الإسرائيلي في مفترق طرق .
-
العقلية العربية المعاصرة : عقلية خارج مسيرة التمدن !
-
هوامش على دفتر الإصلاح.
-
الثقافة .. أولاً وأخيراً .
-
.هلع العاجزين عن التغيير
-
عن التسامح المنشود.
-
موسوعة المصطلحات الدينية اليهودية
-
لماذا لا يستقيل أحد في مصر؟
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|