|
السودان والمحكمة الجنائية وهدر القانون
برهان غليون
الحوار المتمدن-العدد: 2584 - 2009 / 3 / 13 - 09:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
باستثناء الأطراف السياسية المناوئة للحكومة المركزية في دارفور وغيرها من مناطق السودان، يكاد الرأي العام العربي وحكوماته يجمعون كافة على أن مذكرة التوقيف التي وجهتها محكمة الجناية الدولية في 5 مارس آذار 2009 ضد الرئيس السوادني عمر البشير تشكل استمرارا للاستراتيجية الغربية ذاتها التي تهدف إلى حصار العالم العربي وتركيعه، والتي كان العراق أحد ضحاياها الأكثر نموذجية. وبالرغم من أن قطاعات واسعة من الرأي العام العربي لم تعد تشك في ما حدث في دارفور من مجازر، ولا تمانع في أن تعترف بقسط من المسؤولية في حصولها، أو على الأقل في عدم الحؤول بسرعة وفعالية دون استمرارها، على حكومة الخرطوم، إلا أنهم يعتقدون أن هناك مبالغة في تصوير حجم الجريمة، كما يستبعدون أن يكون الدفاع عن الضحايا هو الهدف الحقيقي للمحكمة. والدليل على ذلك أن ما طبق على السودان لا يطبق بالمثل على بلدان أخرى غير عربية، وبشكل خاص لا يطبق على مجرمي الحرب الاسرائيليين الذين لا تزال أياديهم ملطخة بدم الأبرياء والمدنيين العرب في لبنان وغزة وعموم فلسطين. وأي تشكيك في صدقية القضاء الدولي وشفافيته يمكن أن يكون أقوى من اتهامه بازدواج المعايير وبالخضوع لإرادة القوى الكبرى وممالأتها أو العمل على هامش مبادرتها وتبعا لأجندتها السياسية؟ لا ينبع هذا الرفض لقرار المحكمة الدولية إذن من الاعتقاد ببراءة البشير من المسؤولية في الجرائم الخطيرة التي حصلت في دارفور، ولكن من الشك في أن يكون الانتقام للضحايا هو دافع القوى الراعية للمحكمة الدولية. فالمسؤولية قد تكون واقعة، لكن البشير لا يستهدف من اجلها ولكن كحلقة من حلقات الممانعة العربية، ولرفضه التسليم للغرب، وتطبيقه مباديء الشريعة الاسلامية، وسعيه إلى الحفاظ على وحدة السودان وهويته العربية. فقد نجح البشير بعد استلامه الحكم عام 1989 في أن يحرر السودان من الحرب التي دامت أكثر من عشرين عاما في الجنوب، ويؤمن شروط استغلال الثروة النفطية، ويؤسس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن ما تسعى إليه الولايات المتحدة والغرب عموما، وإسرائيل خاصة، هو إثارة القلاقل والفوضى في السودان من اجل زعزعة حكم البشير ونظامه، ودفع السودان إلى الانقسام وشق أجزاء كبيرة منه عن الكتلة العربية. ومن اجل ذلك لم تكف القوى الغربية خلال العقدين الماضيين عن شحن الأجواء وتغذية التناقضات واستغلال المصاعب والمشاكل الداخلية للسودان وتضخيمها. قد لا يكون هذا التحليل الذي يركز على الطابع السياسي للمحكمة أو بالأحرى للمحاكمة خاطئا كليا. فليس هناك في نظري حكم قانوني خال من المحتوى السياسي، والقانون جزء من السياسة ونظامها. وليس من قبيل الصدفة أن تكون المحكمة الدولية محكمة غربية. كما انه ليس من قبيل الصدفة أيضا أن لا تكون هناك، لا في السودان ولا في أكثر الدول النامية، وفي مقدمها الدول العربية، محكمة أصلا، لا دولية ولا وطنية. وأن تكون المحاكمة تقليدا ضعيفا في هذه الدول لدرجة لم يشعر البشير ولا غيره من الحاكمين في السودان أن ما جرى من جرائم في دارفور يستحق تحقيقا قانونيا وإقامة محكمة ورد الحقوق إلى أصحابها. ولا أن مثل هذا العمل، أي تطبيق القانون، هو المسؤولية الأولى للحكومة والدولة. حتى يحصل مثل ذلك ينبغي أن تنغرس فكرة القانون أولا في أذهان المسؤولين والرأي العام معا، وأن يتطور الشعور بأن العنف غير المشروع، أي المنفصل عن القانون، ليس الطريق الأقصر لتحقيق المآرب السياسية. ولا يولد معنى القانون، وليس رسمه وشكله، ما لم يترسخ في وعي النخب السائدة والحاكمة أن الإنسان هو غاية السياسة والاجتماع معا، وان العمل على تحسين شروط معيشته والارتقاء بشروط تكوينه وتأهيله وتربيته، والحفاظ على حياته، هو مبدأ أي عمل عمومي ومبرره وأصل مشروعية الدولة والسياسة ذاتها. فالدول والشعوب التي تدرك معنى القانون وخطورته هي وحدها التي تستطيع أن تستفيد منه وأن توظف تقدمها القانوني هذا في سياساتها, أي أن تجير القانون عندما تستطيع ذلك لأهدافها السياسية. أما الدول والشعوب التي لا تعرف معنى القانون، فهي تعتقد بأن القوة المجردة عن القانون والمباديء هي وحدها القادرة على الفعل والإنجاز، فتجد نفسها ضحية سياسة القوة والعنف التي خبرتها. والقصد أن أصل استخدام المحاكم الدولية اليوم وسيلة للضغط على الدول هو تجاهل هذه الدول الاخيرة للقانون، بل استهتارها به وخروجها عليه، وتركها ساحته فارغة للقوى الكبرى التي تطرح نفسها عندئذ، كما هو واضح في زمننا، راعية للقانون وحامية للحقوق والحريات، الخاصة بالأقليات أو حتى الشعوب، والذي تنكره وتدوس عليه الدول التي أصبحت تسميها بالمارقة أو الفاشلة أو الساقطة. وفي العقود الأربع الأخيرة، عملت ظروف متضافرة، خارجية وداخلية، زعزعت استقرار المجتمعات على تحطيم التقاليد والأصول المرعية في كل مكان، وتشويه المرجعيات السياسية والأخلاقية والدينية لدرجة لم تعد فيها للحياة الإنسانية في بلادنا العربية، على امتدادها، معنى. وصار القتل والسجن الطويل والتعذيب والاعتقال والتمثيل بالجسد والنفس معا، أمرا شائعا وطبيعيا، لا يثير أي قلق أو تأنيب ضمير ولا يدفع إلى أي مراجعة فكرية أو أخلاقية. وشيئا فشيئا صار العنف هو العملة الوحيدة الاجتماعية القابلة للصرف. واستسلمنا جميعا للاعتقاد بأن النجاح والتفوق والاكتمال وتحقيق الذات مرتبط بإظهار الاستعداد الأقصى لاستخدام العنف من دون رادع سياسي أو أخلاقي. وطبقنا بنجاح مبدأ الغاية تبرر الواسطة، ففقدنا معنى القوة الأخلاقية ونبالة الدفاع عن القيم الإنسانية. خطأ البشير لا يكمن في أن العمليات التي خاضها جيشه قد تسببت في مقتل عشرات الألوف من البشر الأبرياء وتعذيب الكثير منهم واغتصاب نسائهم أو بناتهم وتهجير ملايين البشر من منازلهم وتحويلهم إلى لاجئين، يعتاشون مما تتصدق عليهم به الجمعيات الخيرية الدولية. هذا ما يحصل في كثير من عمليات التمرد أو الثورة أو الاحتجاج في العديد من بقاع الأرض. خطؤه أنه لم يكترث لما حصل، ولم يشعر أن ما حصل كان من الخطورة بحيث يستدعي التأمل والتفكير والتحقيق وشيئا من العدالة، حتى لو جاء ذلك لأهداف سياسية. وبذلك قدم نفسه ونظامه وبلده لفصيل الضواري الذين يتصيدون في الماء العكر بالفعل، وإذا لم يكن كذلك فهم يعكرونه بأنفسهم، ضحية على طبق من ذهب. وما كان في حاجة، لو تمثل هو نفسه شيئا من فكرة العدالة والإنسانية والحق وقدسية الحياة البشرية، وأنشأ محكمة سودانية لمعاقبة الجناة وتعويض الضحايا، إلى التمرد على "الشرعية الدولية" والذهاب إلى دارفور لإعلان المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام نفسه تحت حذائه، كما قال. ما لم نستبطن روح الإنسانية، ونفهم معنى الحق والقانون، ونطبقهما بالفعل، سنبقى لا محالة ضحايا قانون الآخرين، أي الاستخدام الشكلي والسياسي للقانون. لكن عندما نقول ذلك لا نحل للأسف أي مشكلة. فالمفارقة كامنة في جوهر الوضعية السياسية المسيطرة في البلاد العربية، إذ كيف يمكن لنظم قائمة على تعليق القانون، بل هدر القانون، أن تكون مصدرحماية قانونية.
#برهان_غليون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاستقرار الاجتماعي والأزمة العالمية
-
شقاء الوعي العربي
-
الأزمة الفلسطينية وضرورة مراجعة الذات
-
إسرائيل في طريق مسدود
-
إلى جورج ميتشيل: عن صناعة العدوان
-
امتحان غزة: لا يمكن للجبن أن يكون سياسة عربية
-
تبا لأوربة وتبا لشراكتها المتوسطية
-
غزة والمسؤوليات العربية والفلسطينية
-
في ما بعد الجماعة الدينية والأمة السياسية
-
في موت السياسة وغياب القانون
-
معادلة القوة وحوار الأديان
-
آن الأوان لطي صفحة العنف السياسي
-
برهان غليون..... العرب يدفعون ثمن انبهارهم بالثروة النفطية
-
عودة الديمقراطية الاشتراكية
-
الأزمة المالية العالمية ونهاية الليبرالية
-
في مديح التعددية الإتنية والدينية
-
-الربيع العربي- على خطى نيكولا سركوزي في دمشق
-
عطالة التاريخ
-
زمن الفتنة
-
إعادة اكتشاف المعرفة
المزيد.....
-
أثناء إحاطة مباشرة.. مسؤولة روسية تتلقى اتصالًا يأمرها بعدم
...
-
الأردن يدعو لتطبيق قرار محكمة الجنايات
-
تحذير من هجمات إسرائيلية مباشرة على العراق
-
بوتين: استخدام العدو لأسلحة بعيدة المدى لا يمكن أن يؤثرعلى م
...
-
موسكو تدعو لإدانة أعمال إجرامية لكييف كاستهداف المنشآت النوو
...
-
بوتين: الولايات المتحدة دمرت نظام الأمن الدولي وتدفع نحو صرا
...
-
شاهد.. لقاء أطول فتاة في العالم بأقصر فتاة في العالم
-
الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخ باليستي قرب البحر الميت أ
...
-
بوتين: واشنطن ارتكبت خطأ بتدمير معاهدة الحد من الصواريخ المت
...
-
بوتين: روسيا مستعدة لأي تطورات ودائما سيكون هناك رد
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|