مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 2583 - 2009 / 3 / 12 - 10:51
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
إشارة الاستفهام في العنوان تعني أن المجالس المفترضة ليست عمالية فقط , بل أنها قاعدية , جماهيرية , و لا تقتصر على فئة أو مجموعة إنسانية دون غيرها رغم أنه ستكون في بداياتها مؤسسات قاعدية للمنتجين خاصة , و في نفس الوقت فإنها لن تكون مؤسسات بيروقراطية , و لا تمثيلية , لأن الفلسفة التي تقوم عليها تختلف تماما عن الفلسفة التي تأسست وفقا لها البرلمانات البرجوازية – الإقطاعية أو المؤسسات البيروقراطية التي تجمعها صفات الفوقية و استبداد أقلية بحكم الأغلبية الساحقة , تريد هذه المجالس أن تؤسس الحياة السياسية على قواعد الحرية و العدالة و المساواة التي تمثل جوهر الوجود الإنساني أو جوهر الوجود الإنساني الفعال الإيجابي , سواء اعتبر العقلانيون هذه القيم نتاجا للعقل أم لا طالما أنها الشروط الضرورية لتحقق كل فرد , هذا إن لم يكن حتى لمجرد أن يحيا ضمن شروط إنسانية أو جديرة بالبشر , إن هدف هذه المجالس القاعدية المؤسسة على حرية الجماهير الفعلية و خلاصها من أي اضطهاد أو طغيان خارجي هو أن يقرر كل إنسان , في إطار انتماءاته و ممارسته المباشرة للحياة , للعمل , للاستهلاك , و للإنتاج , و لتبادل الأفكار و إنتاجها و نقاشها , قراراته لنفسه و للجماعات التي ينضوي في إطارها على قدم المساواة مع الآخرين , إن فلسفة الديمقراطية المباشرة تختلف تماما عن فلسفة الديمقراطية التمثيلية التي تحقق في واقع الأمر الهيمنة السياسية للقوى السائدة اجتماعيا بالفعل , التي تموه هيمنة الطبقات السائدة , البرجوازية و الإقطاع , على الجماهير , و التي تعلن حرية نهب البشر الآخرين على أنها الحرية الوحيدة التي يجب على كل البشرية , خاصة المنتجين و كل المستغلين , أن تنحني لها , مدعية أن هذا الطغيان يستند إلى عقد اجتماعي لا يعرفه و لم يقرره كل من يفرض عليهم , هذا العقد هو نفسه الذي أنجب واقعا يحارب فيه الجميع ضد الجميع , لا كما يدعي البرجوازيون أنه جاء كحل لحرب الجميع ضد الجميع , إن المجتمع البرجوازي , قبل الاحتكاري على الأقل , برفعه المنافسة إلى مصاف شرسة مهلكة , ليس فقط بين الرأسماليين بل بين العمال و ضحايا الرأسمالية الآخرين , هو من خلق حالة الحرب الجماعية تلك و انعدام التضامن الاجتماعي التي كانت من شروط استمرار المجتمعات قبل الرأسمالية , أما المجتمع البرجوازي المعاصر , ما بعد الاحتكاري , و الذي تحول تكنولوجيا و ليس فكريا بل الذي ترافق فيه هذا التطور التكنولوجي مع تشكيل و تعميم أوهام جديدة بل و يشترط حالة من الغباء الاستهلاكي و من الضحالة الفكرية التي تصبح أكثر ضرورية كلما تقدم تكنولوجيا و كلما اشتدت وسائل الضبط المعاصرة تطورا و استدعاءا للغباء العام كشرط لهيمنتها , فإنه مجتمع عالي الضبط و التحكم , مجتمع خاضع و مغيب أكثر من ذي قبل , إنه مجتمع الاستعراض الذي تختزل فيه الحياة إلى وهم إلى استعراض تسويقي مستمر , و يحول فيه كل البشر , خارج الطبقة الرأسمالية و خارج البيروقراطية التابعة أو المتحالفة لها , إلى مجرد متفرجين , أغبياء , مجرد مراقبين سلبيين خاضعين سلبا لهيمنة الطبقتين الأخريتين , أو ديكتاتورية البروليتاريا حيث تتولى طليعة نخبوية متخصصة حكم الشغيلة و تقرير مصيرهم...
شيء من التاريخ *
هذه المجالس العمالية كانت في الحقيقة واحدا من إبداعات الجماهير الثائرة في نهاية المطاف , و لم تكن نتاج تفكير مجرد لمنظرين ما , في كومونة باريس كانت السلطة أولا بيد اللجنة المركزية للحرس الوطني التي ضمت مندوبين عن البروليتاريا الباريسية المسلحة , ثم انتقلت إلى يد الكومونة المنتخبة من الجماهير , لكن الظهور الأول للمجالس العمالية كان في ثورة 1905 في روسيا , عندما أرسل 200000 عامل ممثليهم إلى سوفييت سانت بطرسبرغ في غمار تلك الثورة* , جمع سوفييت سانت بطرسبرغ هذا عمال أكثر من 150 شركة إضافة إلى مندوبين من 16 اتحاد آخر انضموا إليه , و تشكلت نواته الأولى في الثالث عشر من أكتوبر تشرين الأول من ذلك العام , و بحلول السابع عشر كان السوفييت قد تشكل بالفعل...تألفت اللجنة التنفيذية لذلك السوفييت من 31 عضو من أصل 562 مندوب , بينهم 21 عاملا انتخبوا مباشرة و 9 ممثلين عن الأحزاب الثورية الثلاثة ( البلاشفة , المناشفة , الاشتراكيين الثوريين ) , لكن هؤلاء الممثلين غير المنتخبين كانوا مجرد مستشارين و غير مخولين بالتصويت , رغم أنهم تمتعوا بنفوذ هائل داخل اللجنة التنفيذية للسوفييت....نشأ السوفييت عمليا من مبادرة العمال الراديكاليين في زمن ثورة 1905 ضد سلطة القيصر , من رحم الإضراب العام لشهر أكتوبر تشرين الأول 1905 الذي بدأه عمال الطباعة في موسكو في 19 سبتمبر أيلول , بدأ الإضراب أولا في مطبعة سياتين , ثم لحقهم خمسين عامل طباعة آخر , و في 25 سبتمبر أيلول شكل عمال الطباعة مجلسا...في الثالث من أكتوبر تشرين الأول قررت جمعية مندوبي عمال الطباعة و الميكانيكيين و النجارين و التبغ تأسيس مجلس عام ( سوفييت ) لعمال موسكو , و اكتسبت هذه الحركة زخما هائلا مع قيام عمال السكك الحديدية في السابع من تشرين الأول أكتوبر بإيقاف حركة السكك الحديدية...أما في إيطاليا فقد كانت هناك مؤسسات عمالية متعاونة مع أرباب العمل تألفت عام 1906 سميت "لجان داخلية" , لكن انتخابات 1919 لهذه اللجان التي جرت في ظل تصاعد الغليان الثوري في البلاد , حولت هذه اللجان إلى مجالس عمالية ثورية , عمت حركة تأسيس المجالس تورينو في آذار نيسان مارس أبريل 1920 , حيث كانت الأكثرية المحلية للحزب الاشتراكي الإيطالي ( من ضمنها غرامشي ) تتميز بالثورية إلى جانب نفوذ و تأثير أناركيي بيدمونت , فيم رفضت أكثرية الحزب الاشتراكي و النقابات هذه الحركة , في 15 مارس آذار بدأت المجالس إضرابا مشتركا مع حركة احتلال للمصانع و أعادت استئناف الإنتاج فيها تحت إشراف تلك المجالس , و بحلول 14 أبريل نيسان أصبح الإضراب عاما في بيدمونت ثم انتشر في كل شمال إيطاليا , و تعين على الحكومة أن تستخدم السفن الحربية لإنزال القوات في جنوة في طريقها إلى تورينو...بينما دعم الاتحاد الأناركي الإيطالي برنامج المجالس الناشئة في لقائه في الأول من يوليو تموز 1920 , نجح الحزب الاشتراكي و النقابات في تخريب الإضراب عن طريقه عزله و الامتناع عن دعمه و الطلب إلى البروليتاريا الإيطالية في كل مكان الاكتفاء بالصبر و انتظار المفاوضات مع الحكومة و أرباب العمل و الامتناع عن المشاركة في الإضراب , و عندما حاصر 20 ألف جندي تورينو رفضت جريدة الحزب الاشتراكي "أفانتي" نشر نداء فرع اشتراكيي تورينو , أنهي الإضراب في 24 أبريل نيسان , و تراجعت إمكانيات تطوره على مستوى إيطاليا....دعا بيان أصدره أعضاء المجالس في تورينو في 27 مارس آذار 1920 "إلى عمال و فلاحي كل إيطاليا" لتطوير تنظيم جديد كضد مباشر لمؤسسات حكم السادة , تنظيم يجب أن يظهر في مكان العمل و بين العمال أنفسهم , و اعتبر البيان هذا الشكل الجديد من التنظيم بداية الحرية الحقيقية للعمال , لكي يصبح العمال سادة أنفسهم و آلاتهم و حياتهم , فيم وصف غرامشي نفسه هذه المجالس على أنها بداية تاريخية لعملية ستؤدي إلى بناء "دولة العمال"...و شهدت الثورات الألمانية 1918 – 1920 و الهنغارية 1956 و الإسبانية 1936 أيضا تأسيس مجالس مشابهة بشكل عفوي و مباشر من جماهير العمال كمؤسسات حكم حرة بديلة عن مؤسسات السلطات القائمة , أما في الثورات الروسية لعامي 1905 و 1917 فقد لعبت المجالس ( السوفييتات ) دورا مركزيا في قيام مؤسسات حكم عمالية موازية لمؤسسات سلطة القيصر أول الأمر ثم سلطة الطبقات البرجوازية السائدة , و قد مثل سحق انتفاضة عمال و جنود كرونشتادت ( آخر معاقل السوفييتات ) عام 1921 انتصارا نهائيا لسلطة الحزب - النخبة على سلطة السوفييتات العمالية , أصبحت اللجنة المركزية للحزب هي المكان الذي تتخذ فيه القرارات , و لم تعد السوفييتات إلا مؤسسات شكلية خاضعة لسطوة النخبة الطليعية الحزبية , انتهى هذا الوضع إلى تأسيس نظام رأسمالية الدولة , التي حلت فيه البيروقراطية الحزبية و الدولتية و العسكرية مكان البرجوازية كطبقة مستغلة للجماهير و طبقة حاكمة تقرر مصير الجماهير "نيابة عنها"...
لماذا هي مختلفة ؟
كي تكون المجالس بالفعل مؤسسات مختلفة جذريا عن الأشكال البرلمانية السائدة التي تستخدم كواسطة و كتبرير لسلطة الطبقات السائدة , أو كمؤسسات خاضعة للبيروقراطية الفاسدة , يجب أن تكون خاضعة مباشرة للناس الذين يجب أن يمارسوا تأثيرا مباشرا و حقيقيا عليها , بحيث لا تتوقف مشاركتهم عند حدود مشاركتهم التافهة كل عدة سنوات في احتفاليات غبية سخيفة يعقدها أصحاب الأموال أو زعماء تقليديون أو زعماء الإقطاع السياسي كما في العراق و لبنان و الكويت في شرقنا , دون أن يكون لمعاناتهم أي معنى أو علاقة بكل ما يجري و لو حتى صوريا...يجب ألا يتحول المندوبين المنتخبين إليها إلى نواة بيروقراطية جديدة , بحيث تنعزل تدريجيا عن جمهور المنتجين و تصبح طبقة مالكة و حاكمة جديدة , يجب ألا يكتسب أي من المندوبين إليها أية امتيازات خاصة عن جمهور العمال الذين انتخبوهم , و يجب ألا يكون هناك أساسا أي مندوبين دائمين , و لا أن يكون أي من هؤلاء المندوبين فوق محاسبة العمال الذين انتخبوهم , يجب باستمرار العودة إلى المؤسسات القاعدية , و إلى الجمعيات العامة للعمال وسائر المنتجين و المستهلكين , لاتخاذ القرارات الهامة , يجب أن تكون هذه المجالس مؤسسات دائمة للحوار و تبادل الآراء بشكله الأكثر حرية و الذي لا يستثني أيا من أعضائه , و لتفعيل مبادرة القواعد و تعزيز استقلاليتها و ممارستها لإدارة شؤونها بشكل ديمقراطي مباشر يشارك فيه كل أفرادها على قدم المساواة , و يجب أن يكون اتجاه انتقال السلطة من الأسفل إلى الأعلى , لا العكس , يجب أن تكون كل الهيئات الأعلى مسؤولة بالفعل و خاضعة للهيئات الأدنى لا العكس وفق المثال "الديمقراطي المركزي" , لا يستطيع أحد , هنا كما في أي موضوع آخر , أن يلوي عنق الحياة لصالح أفكاره المجردة المنعزلة , ستبقى هذه المجالس ابنة الجماهير و نتاج إبداع الحياة نفسها , و ليست مجرد نماذج جاهزة يجب تطبيقها و فرضها كمخرج لأزمة المؤسسات الحاكمة القائمة , تحت أي شعار كان , هذه المجالس ليست إلا بداية لعصر جديد مختلف جذريا من الحرية الفعلية التي تتزايد و تتصاعد إلى مستويات أعلى فأعلى يجري معها عكس مجمل العمليات الاصطناعية التي قامت على طغيان المؤسسات السلطوية الفوقية و مؤسسات الملكية الخاصة منذ بدء التاريخ الإنساني الواعي لتكريس الانقسامات الطبقية و الاجتماعية و الفوارق بين البشر لحساب من يملك و يحكم , ستكون هذه المجالس بداية لفتح مجالات غير محدودة لتحقق الإنسان , كل فرد , من خلال تطور أكثر فأكثر حرية , لا تعوقه أية مؤسسات فوقية مكرسة لحماية و رعاية مصالح الأقلية الحاكمة و المالكة , أو أية تابوهات معادية للإنسان و لحريته...و مع أزمة الرأسمالية المعاصرة , و التي سبقها انهيار غير مأسوف عليه للستالينية بما تمثله من تطلع نخبة ارستقراطية البروليتاريا لتحول واقع سيطرتها على الحركة العمالية إلى أشكال دموية وحشية من رأسمالية الدولة ( أو اشتراكية الدولة لا فرق ) , و مع قيام السياسيين النيو- ليبراليين بتدمير كل مؤسسات نخبة أرستقراطية البروليتاريا التي كانت تاريخيا وراء إنقاذ الرأسمالية في كل أزمة مرت بها , أو ما هو أسوأ , استبدالها ببيروقراطية سلطوية شمولية , من نقابات و أحزاب يسار أو وسط تدعو إلى مساومات تاريخية مع واقع الاستبداد و الاستغلال و تحبط أي عمل ثوري جماهيري ديمقراطي حر خارج إطار البنية السياسية للسلطة البرجوازية , يصبح من الضروري إحياء تراث الثورات الماضية , بخصوص استبدال المؤسسات القائمة الخاضعة لهيمنة الطبقات المستغلة السائدة بمؤسسات المجالس القاعدية الجماهيرية القائمة على الديمقراطية المباشرة للجماهير , كبديل عن الرأسمالية القائمة المأزومة , كبديل عن هراء الاستعراض الذي تفرضه على كل ضحاياها , كمشاركة فعلية في الحياة , في اتخاذ القرارات و رسم مصير كل فرد و البشرية جمعاء بعيدا عن دور المتفرج الذي حدده واقع الاستعراض البرجوازي السلعي المفروض على كل البشرية اليوم........
مازن كم الماز
• كل هذه المعلومات التاريخية مأخوذة من
Preliminaries on Councils and Councilist organizations , by Rene Riesel ( 1969 )
From http://www.prole.info
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟