|
أزمة -مقالة الرأي-!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2581 - 2009 / 3 / 10 - 10:03
المحور:
الصحافة والاعلام
"المقالة"، أي "المقالة الصحافية"، أي "مقالة الرأي"، المكتوبة بـ "لغة الضاد"، والتي تُنْشَر في صحيفة يومية أو أسبوعية..، هي الآن، على وجه الخصوص، في أزمة، فعَرْضها يزيد، والطلب عليها يقل، فيُصاب "سعرها المجازي" بما يُصاب به سعر كل بضاعة زاد عرضها، وقل الطلب عليها؛ وهذا ما يعكسه الانكماش المستمر والمتزايد في حجم القراء، الذين، على كثرة ما يُكتب، يقولون للكُتَّاب، كل يوم، اكتبوا حتى نقرأ!
إنَّه "قانون الحاجة" يفعل فعله في عالم "مقالة الرأي"، فما يحتاج إليه القارئ، باحثاً عمَّا يلبيه في "مقالة الرأي"، يَعْظُم ولا يتضاءل؛ ولكنه ما أن يقرأ "مقالة الرأي" حتى يستبد به شعور أنَّ حاجته لم تُلبَّ، ولم تُشبع، وأنَّها، بالتالي، قد نَمَت واشتدت، وكأنه الظمآن الذي شرب من ماء بحرٍ متوهما أنْ يرتوي، فإذا به يزداد عطشا، وكأنها، أي "مقالة الرأي"، سراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً.
تَكْثُر أسباب عجز "مقالة الرأي" عن تلبية وإشباع ما يحتاج إليه القارئ، أي معظم القراء، في عوالم الفكر والسياسة والثقافة؛ ولكن أهمها يبقى هو أنَّ تلك المقالة، أي معظم "مقالات الرأي"، تُنتَج وتُصنَّع لتلبية حاجات الأقوياء النافذين في عالم السلطة والمال، أي الحاجات التي يكفي أن يسعى الكاتب في تلبيتها حتى يعجز عن تلبية الحاجات المضادة.. حاجات الغالبية العظمى من الناس والمواطنين والقراء.
وهذا ليس بالأمر الذي يدهشني أو يحيرني، فـ "مقالة الرأي"، في تاريخها، إنَّما هي اتجاه فكري أو سياسي أو ثقافي يَكْتَشف الأقوياء النافذون في عالم السلطة والمال أهميته وضرورته لهم، ولمصالحهم الفئوية الضيقة، فيتوفرون على تغذيته، ومدِّه بأسباب البقاء والنمو، فيسود كما يسودون، أي سيادة مصطنعة زائفة، مدججة بالسلاح، مثخنة بجراح "الاغتراب"، الذي تقوم عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ما يدهشني ويحيرني إنَّما هو "الرداءة"، فذوو المصالح الفئوية الضيقة، وهم الأقوياء النافذون في عالم السلطة والمال، لا يستطيعون أن ينتجوا ويُصنِّعوا من الكُتَّاب إلاَّ "الكاتب الرديء"، أي الكاتب الذي بحسب المعايير المهنية والفكرية لا يمكنه إلاَّ أن يكون رديئا في مقالته، وفي الرأي الذي يُضمِّنه إياها، وكأنَّ الرديء من الكُتَّاب، ومن "مقالات الرأي" التي يكتبون وينشرون، هو حاجة ومصلحة وضرورة!
هؤلاء لا يمشون مشيا، ولا يقطعون المسافة خطوة خطوة، ولا يصعدون السلَّم درجة درجة؛ إنهم يقفزون قفزا، فما أن ينهوا الصف الأول، أو الصف الثاني، من "مرحلة الدراسة الابتدائية"، في عالم الصحافة والكتابة والفكر، حتى ينالوا درجة الدكتوراه، وتنهمر عليهم "العروض"، وتُفتح في وجوههم كل الأبواب الموصدة، وتذلل من طريقهم إلى "المجد" و"الشهرة" كل العقبات، وتأتيهم "هوليوود الإعلامية" حتى غرف نومهم، فتلتمع نجومهم حتى في عزِّ الظهيرة، ويغادرون الكهوف والأكواخ إلى ما يشبه القصور، التي ينقشون في واجهاتها عبارة "هذا من فضل ربي"، فهُمْ من نَسْج وخَلْق قانون "مَلِّكُهُ تَمْلُكُهُ"؛ وهذا القانون إنَّما هو لجهة نتائجه كمحاولة، غير موفقة حتما، لاستنبات أجنحة للحمير، حتى تطير!
اقرأ لهم، فإذا تجشَّمت ذلك، فلا بد لك من أن تقف على كثير من الأمراض النفسية التي يعانون؛ فهذا يحدِّثك، في مقالته، التي هي "مقالة رأي"، عن زيارته السياحية الأخيرة لدولة غربية، والتي قام بها تلبية لدعوة من..؛ وذاك يسعى في إقناعك بأنه لا ينطق إلاَّ عن دراية ومعرفة بما يجهله غيره، فهذا الوزير، أو الأعظم من وزير، استضافه، فأسرَّ إليه حديثا بعدما اسرَّ إليه المودة، فصنَّع لنا مما سمع مقالة فيها من المعلومة الجديدة الجيدة ما يخرجنا من الظلمات إلى النور؛ وذلك يحاول، في مقالته، أن يُثْبِتَ للمستثمرين فيه مالا ووقتا وجهدا أنهم كانوا على حق وصواب، فها هو، على ما يظن ويتوهم، يحامي عنهم، وعن مصالحهم، بما يؤكِّد أنَّه يفوق محامي الشيطان حذقا ومهارة!
مأساة هؤلاء إنَّما تكمن في كونهم أكثر الناس اقتناعا بكذب ما يقولون، وسخف وتهافت الرأي الذي عنه يعبرون، والذي عبره يتوفرون على "صناعة الرأي العام"، أي على خلق "رأي عام" على مثال رأي ذوي المصالح الفئوية الضيقة.
قد نَصِف هؤلاء بأنهم "انتهازيون"؛ ولكن "مرض الانتهازية" لا يصيب عقل الكاتب، وإنَّما قلمه ولسانه، وما يخرج منهما من رأي وقول، فكبير الانتهازيين يعلم علم اليقين أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، ويؤمن بذلك إيمانا لا يتزعزع، ولا تنال أموال قارون من قوته ومتانته؛ ولكنه مضطر، أي تضطره مصالحه الشخصية التافهة، إلى أن يمارِس "صناعة الرأي العام" بما يفضي إلى جعل الناس مؤمنين بأن الشمس هي التي تدور حول الأرض!
وحتى يتصالح هذا الكاتب الرديء مع نفسه لا بد من نشر وإشاعة ثقافة يظهر في مرآتها على أنه خير مَنْ يعرف مِنْ أين تؤكل الكتف، والألعبان، والذكاء إذ اتَّقد، والحنكة والخبرة، والزئبيقة، والطموح إلى العلا، فمن يتهيَّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر!
إنَّه، وبفضل تلك المرآة الثقافية التي تُريه صورته كما يُحِب، يرى العبقرية في كل ما يخرج من قلمه، الذي ليس بمثله تعلَّم الإنسان ما لم يعلم، ومن لسانه الذي قاء إذ قال، فيستبد به الشعور بالعظمة ولو نظرت الدنيا قاطبة إليه على انَّه أبله!
لقد امتلأت بهم، وبمقالاتهم، المسماة "مقالات الرأي"، صحافتنا حتى أفرغوها، وفرغت، من القراء، فهل من وجود لكاتب إذا ما كف القارئ عن الوجود؟!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-العدالة الدولية- بين إقليمي غزة ودارفور!
-
حلٌّ تتوفَّر على إبداعه -حكومة نتنياهو ليبرمان-!
-
رواتب الوزراء والنواب في الأردن تعلو ولا يُعلى عليها!
-
أزمة العلاقة بين -السياسة- و-المبادئ-.. فلسطينياً!
-
-إعادة إعمار- من طريق -الهدم السياسي-!
-
-تحرير- المصالحة بين الفلسطينيين!
-
أهي بداية تعافٍ في السياسة العربية؟!
-
على نتنياهو أولا أن يلتزم ما التزمه عباس!
-
أوباما يطلب -الترياق- ولو في السويد!
-
تهويد -مبدأ كلينتون- بدءاً من حي سلوان!
-
جريمة الإنكار وإنكار الجريمة!
-
نتنياهو يملك وليبرمان يحكم!
-
-العبثية- في وجهيها!
-
الفلسطينيون بين ليبرمان وأشباهه من العرب!
-
خُبْث اولمرت!
-
الرسالة الجوابية الفلسطينية!
-
-المبادرة العربية- تتمخَّض عن ليبرمان!
-
إذا ما -فازت- استطلاعات الرأي!
-
الأهم من -إعادة بناء- المنظَّمة!
-
أين -الرباعية الدولية- من هذا الحزب الإسرائيلي؟!
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|