|
بين بيان التصحيح وأحداث المدينة: مفارقات وخطاب مشترك
نذير الماجد
الحوار المتمدن-العدد: 2580 - 2009 / 3 / 9 - 09:46
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قبل أشهر قليلة وتحديدا في نوفمبر/ تشرين الثاني أقدمت مجموعة من الكتاب والنشطاء على مجابهة ساخنة أدت إلى إحداث اهتزازات في مياه الجمود والتمامية الفكرية المستفحلة في واقعنا المثقل بتركة طائفية مذهبية مقترنة بنرجسية عالية، وإن كان هذا التوصيف لا يخلو من المبالغة فعلى الأقل هكذا كان الطموح، ومن الطبيعي أن لا تكون تلقيات هذه المجابهة ايجابية ، لأن أي ترحيب أو ايجابية في التعاطي مع هذه المشاكسة لم يكن ليخطر على بال أحد بمن فيهم هؤلاء الكتاب والناشطين أنفسهم، ولكن أن تكون التلقيات عبارة عن ردود أفعال لا تخلو من شراسة تصل حد الرجم والتصفية المعنوية وكل تبعات اللعن والطرد من رحمة الجماعة فإن ذلك يستدعي وقفة تأمل لتجلية الواقع وكشف الأقنعة التي يختبئ خلفها كل فكر أرثوذكسي.
ما الفرق بين مفردات كاللعن أو التضليل أو التكفير أو التشهير والنفي من حظيرة الجماعة ما دامت كلها تأتي في سياق الإقصاء والذي يكشف عن استبداد جاثم في الوعي قبل أن يتحول إلى ممارسة تتوالد باستمرار، ففي بيئة تختنق فيها كل دعوة للتسامح والتعددية يصبح الاستبداد حلقة مفرغة لا فكاك منها ولا خلاص، لأنها بيئة تفرخ الاستبداد والهيمنة السلطوية للاعتقادات السائدة، والتي تهمش كل صيحة يشتم منها رائحة التجديد، الفكر هنا مغلق دوغمائي، حتى وإن فرض الواقع جملة تغيرات تستدعي تغيرا وتحولا مماثلا في الفكر والقناعة فإن بيئة كهذه يعشش فيها الاستبداد وأحادية الرأي ستقوض أي محاولة مشروعة للتغيير.
إن أي تصحيح غير جذري لا يستهدف البنى الفكرية المغذية لبيئة اجتماعية كهذه سيكون مصيره الإخفاق والفشل، كل محاولة إصلاحية تكتفي بإحداث بعض الرتوش هنا أو هناك عبر تخريجات أو مراوغات تدور في فلك السياسي دون الفكري والاجتماعي لن تكون إلا بمثابة مسكنات آنية سرعان ما ينتهي مفعولها لنعود لنفس الإشكالية ونعود لنفس الاستبداد بعد أن اتخذ لبوسا وأقنعة جديدة.
من هنا سندرك مدى التخبط الذي تقع في أتونه بعض الاتجاهات والرؤى حينما تحاول أن تعزو التأخر والتخلف الاجتماعي الرابض خلفهما الاستبداد إلى السلطات السياسية، فهي المطالبة وفقا لهذا التصور بإحداث التغيير لأنها هي المسئولة عن حالة العطالة وكل الأعطاب والأزمات التي يزخر بها واقعنا الاجتماعي. هذه الاتجاهات علاوة على اتصافها بحالة من الإتكالية تجعلها تلقي باللائمة على السلطة السياسية التي تقوم هنا بدور الآخر "الأجنبي" واستغراقها في خمول واسترخاء لذيذ، لا تقوم بأدنى محاولة لتعرية الذات، وكأن الذات مصونة لا يشوبها ما يشوب السلطة من استبداد وقمع، أو كأن آليات القمع حكرا على الفئة المسيطرة، في حين أن الاستبداد حالة سيكولوجية تتصف بها الثقافة التي لازلت سائدة والتي لم تخضع حتى الآن لأي معالجة نقدية، فالاستبداد نتاج ثقافي وليس مجرد طارئ سياسي يزول بزوال هذه السلطة أو تلك، وما المصير البائس لتلك الإصلاحات القشرية التي انطلقت من قرار سياسي إلا أبسط دليل يؤكد فشل كل الحلول الاختزالية، من هنا نجد أن إحداث أي تغيير جذري للواقع الاجتماعي لا يمكن أن يتم إلا إذا سبقته مساعي جادة للتنوير في سبيل زحزحة البنى الفكرية للاستبداد. وبالتالي يصبح المجتمع مهيأ للتغيير والتنمية المنشودة، شريطة أن لا تعرقل السلطات السياسية هذا النمو فحينئذ ستكون هي المسئولة والمتهمة.
لاشك أن حلقات الاستبداد التي تتفاقم من القاعدة حتى قمة الهرم تختبئ خلف أوجه متباينة لا تربأ عن إقحام الديني والمتعالي والمقدس في مجابهات فكرية ذات طابع جدلي وإشكالي، لكن المفارقة أن تلجأ إلى الاضطهاد جماعة هي نفسها تعاني منه، من هنا ندرك الطابع "الحلقي" لبنية الاستبداد، والذي يسمح بإعادة إنتاجه وتوالده باستمرار حتى وإن اختلفت أشكال السلطة، ولذلك ليس ثمة فرق بين الاضطهاد عند الأكثرية وبينه عند الأقلية، بين استبداد الفرد واستبداد الجماعة، يقول أحد الفلاسفة ما معناه: قمع كل الجماعة لشخص واحد مختلف يساوي في بشاعته قمع شخص واحد لجماعة بأكملها، وهذا يعني أن استبداد الجماعة ضد الفرد هو نفسه استبداد الفرد ضد الجماعة والذي يأتي على شكل طغيان سلطوي أو ديكتاتورية، وبالتالي تشترك كل أشكال الاضظهاد في ذات الآلية الجهنمية للقمع، أي أنها تحمل نفس الخطاب سواء كان دينيا أو سياسيا.
وبناء عليه يمكن التأسيس لرؤية وقراءة مغايرة لحدثين اثنين لهما من الدلالة ما يكفي لتعرية الواقع الاستبدادي ومفارقاته:
أولا: الحدث الذي ألمحت إليه في البداية، أي تلك المشاكسة الفكرية والتداعيات التي نجمت عنها، فمن نافلة القول أن هذه المشاكسة التي ظهرت على شكل "بيان" قد أثارت موجة من السخط والتذمر والاستباحة لكل من تجرأ في المشاركة فيه أو مساندته، إنها لم تكن فقط بمثابة شطحات أو تأملات أو محاولة للتفكير ولكن بصوت مرتفع بل هي أكثر شططا لتصل حد الإدانة باقتراف إحدى المحظورات التي تستوجب عقاب الردة، وهذا ما صرح به رجل دين يمثل أحد أبرز وجوه الأصولية الدينية في مجتمعنا حين واجه أحد الخائضين في هذه المعمعة بارتداده الصريح، ولكم أن تتصورا كيف سيعامل هؤلاء من يختلف معهم فيما لو كانت السلطة بيدهم.
هذا الغضب الهستيري الذي جاء عقب تلك الهرطقات هو حالة طبيعية تتسم بها الأصولية التي لا يمكن أن تعيش إلا في بيئة يغيب عنها التسامح، والمجتمع الذي تسود فيه هذه الأصولية لا يمكن أن يحظى بالتسامح، فلابد لكي يسود التسامح من إشاعة فكرة القبول بالتعددية، والتعددية تستدعي فكرة مسبقة تتيح مقاربة الأشياء مقاربة نسبية، أي أن النسبية هي التي تقود إلى التعددية التي بدونها يغيب التسامح ويحل التعصب والتزمت والتمامية وكل خصائص الفكر الوثوقي الدوغمائي، لا يمكن إذاً تجاوز هذا الواقع المشحون بالاستبداد إلا بعد طي هذه المراحل وإلا فالأحادية هي التي ستشكل كل العلاقات الاجتماعية.
ثانيا: الأحداث الساخنة التي جرت في باحة الحرم النبوي في المدينة المنورة، واستطالاتها في مناطق ومدن أخرى يقطنها مواطنون ينتمون إلى الطائفة الشيعية، وتحديدا في القطيف والأحساء، هذه الأحداث علاوة على أنها تمثل امتدادا طبيعيا لحالة الغليان الدائمة والمستمرة منذ أكثر من ألف عام، وإضافة إلى أنها كشفت عن واقع مأزوم متصدع باصطفافات طائفية حادة، فإنها كشفت من جديد بشاعة الذهنية النرجسية الاستئصالية وغياب أي صيغة للتعايش، كما أنها كشفت عن التهميش الذي تتعرض له فئة من المواطنين كان ينبغي أن تتجه الإرادة السياسية منذ زمن بعيد لاتخاذ قرار حاسم بإدماجها داخل إطار وطني جامع عبر المشاركة السياسية الفعالة، وليس بمزيد من الإقصاء والتهميش، لكن الأهم أنها كشفت عن "الطبيعة الحلقية" للاستبداد، فالاستبداد الذي يبدأ بقمع حالات فردية شاذة أو مارقة خرجت عن نطاق الطائفة -وليس بالضرورة المذهب- يتسع في هذه الحالة، ولكن دون أن ينتهي، بقمع طائفة بأكملها لها تاريخ عريق وارتباط وثيق بالأرض.
التكفير هنا يتحول إلى مروق وارتداد أو هرطقة هناك، فيما المعاناة تبقى هي نفسها في كلتا الحالتين، والتجاهل والالغاء هو نفسه طالما تعذرت كل محاولة لفرض الاعتراف، لأن حقيقة ما يجري ببساطة هو عدم حصول أي اعتراف بالآخر وحقه في العيش وفي ممارسة ما يعتقد وما يؤمن به، من هنا يلوح للكثيرين أن هذه الأحداث ينبغي أن لا تمر مرور الكرام، ينبغي عدم تمريرها هكذا ببساطة دون أي محاولة لاستجلاء الدروس والعبر للحيلولة دون تكرارها.
المطلوب بكل وضوح هو التوصل لحل نهائي للمسألة الشيعية، ليس بوصفها تمثل الحق الزلال بل لأنها الطرف الأكثر تعرضا للاضطهاد والتهميش، ولكن الطموح لا يقف عند هذا الحد بل يجب أن تعمم المطالبة لتشمل كل الجماعات والطوائف بما فيها رعايا الطوائف الأخرى من الأجانب والمقيمين، فبإجراء هذه الخطوة وحسب يصبح الوطن خيمة للجميع.
الدفاع عن هذه الجماعات والفئات المضطهدة ليس دفاعا عنها ذاتها وحسب بل هو دفاع عن الحرية والرأي والتعددية والتعايش وحق الاختلاف وكل المفاهيم التي لا يمكن تحويلها إلى واقع معاش إلا مع وجود مجتمع مدني محايد لا ينحاز أيديولوجيا أو دينيا، ما نصبو إليه هو أن نتمكن من بناء مجتمع كهذا لا يمايز بين تيار وآخر، أو بين مذهب اجتماعي وآخر، هذا هو الهدف الذي يجب أن يشكل هما أقصى، وما عدا ذلك أي كل اعتقاد أو إيمان فهو شأن شخصي بوسع كل مواطن أن يمنح نفسه السعة الكاملة في بلورته وتشكيله. التحدي الوطني إذن هو أن يعاد فهم المعتقد كشأن خاص لا يختلف كثيرا عن أي شأن خاص آخر لا يثير حساسية الحيز العام وليس له أي تأثير سلبي في العلاقات الاجتماعية كالملبس أو الذوق أو غيره من حالات خاصة بالفرد وحده!
#نذير_الماجد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنقذوا السعودية قبل أن تحترق
-
كل فلنتاين وأنتم بخير
-
في السعودية.. نعم للمسيرات السلمية!
-
المثقف ودوره الطليعي
-
مجزرة المال السعودي!
-
لماذا بيان تصحيح المسار الشيعي؟
-
لماذا البيان؟
-
لكي لا تُهدر أموال الخمس!
-
الاختلاط ضرورة حضارية 2-2
-
كفوا عن الإتجار بالدين..يا رجال الدين
-
الأزمة العالمية وشطحات الخطاب الديني
-
الاختلاط ضرورة حضارية 1-2
-
شاكر النابلسي و مغازلة الأصولية!
-
خطوات على طريق الأنسنة 2-2
-
خطوات على طريق الأنسنة 1-2
-
يا صعاليك العالم اتحدوا !!
-
توضيح حول تحريم السيستاني للمسلسلات التركية
-
السيستاني والمسلسلات التركية
-
لا تحجبوا أكسجين الوعي!
-
مشاكسات على هامش الفقه!
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|