لقد ارتكبت الحكومات العراقية المتعاقبة خطأ الانجراف للعديد من التحالفات والتوازنات البعيدة عن أسس البناء الوطني الاستراتيجي. وأخطاء أخرى تمثلت في السعي الى ابعاد نخب الشعب وخاصة مثقفيه عن أي دور ايجابي في الحياة النيابية الحرة، والدعوة الى فرض بعض الاجراءات المقيدة للحريات العامة، وفي مقدمتها تكبيل حرية الصحافة ، واصطفاء الأحزاب المعارضة حسب قياسات الدولة. ونتيجة لتلك الأخطاء حدثت الكثير من ردود الأفعال الغاضبة التي بلغت في بعض مستوياتها مظاهر الانقلاب أو الانتفاضة وخاصة خلال الفترة المحصورة بين عام1936- 1958 حيث انقلاب 14 تموز الذي أطاح بالنظام الملكي وأقام نظاما جمهوريا ترتب معه ومن خلاله:
- استبدال المنهج الديمقراطي المحدود باسلوب العنف المتشدد في الدفاع عن ما أطلق عليه بالثورة ومكتسباتها.
- ترسيخ سلطة الفرد الواحد التي انهت بالتدريج محاولات تفعيل رأي الأغلبية البرلمانية السائدة وقبول مبدأ الرأي الآخر . ونتيجة لذلك انسحبت ممارسات تلك الثورة نحو الدكتاتورية بأشكال متفاوتة لغالبية الحكومات العسكرية المتعاقبة، ولحين استلام البعث العراقي للسلطة عام 1968 بانقلاب مريب لتبدأ معه مرحلة التحول الحقيقي نحو الدكتاتورية بأبشع صورها، حيث الشدة، والتعسف، والتعطيل التام لجهود نصف قرن من مساعي التطبيق النسبي للديمقراطية بعد أن ألقت في السجون كل قيادات الأحزاب والقوى السياسية غير البعثية، وحتى بعض شرائح البعث المعتدلة، ومزقت قواعدها وجماهيرها، وأوقفت العمل بمعظم مواد الدستور المؤقت للاستئثار بكامل السلطة خارج دائرة النقد، والمراقبة والحساب. وشرعت بتشكيل العديد من الأجهزة الأمنية لترويض الشعب على الابتعاد عن مجرد التفكير بالديمقرطية، وسنت القوانين الساندة لحزب البعث للانتقال به كبديل ومرجعية عن كافة مؤسسات الدولة تحت عنوان الحزب القائد، ثم الحزب الواحد، وضاعفت سعيها لتقديس الفرد الحاكم بطرق فرضت على المعنيين في مختلف مفاصل الدولة والمجتمع سلوك النفاق والمداهنة، والسكوت على الخطأ، وأوكلت للجيش بعد أن مسخت كل المعاني والقيم التي نشأ وتربى عليها وحولته الى مجموعة جيوش فوضوية متعامدة في المهنية، متقاتلة في مهمات حماية رأس النظام والدفاع عنه، اضافة لبقية الأجهزة الرسمية والحزبية. أوكلت لها جميعا مهمة المراقبة وقمع الحريات، وتقييد الوعي وتكميم الأفواه وشد العيون المتطلعة لرؤية أبسط مفردات الممارسة الديمقراطية. لكن قيادة البعث وكعادتهم في تزييف الحقائق اعتمدوا سياسة الانتقاء لبعض المفاهيم الديمقراطية في محاولة لاقناع العراقيين والعالم، وبموجبها تم تشكيل المجلس الوطني العراقي عام1980، استنادا للمادة42 من الدستور المؤقت. وفق طريقة انتخابية لا علاقة لها بأبسط مقومات الممارسة الديمقراطية، سواء من حيث الترشيح، أو طريقة التصويت، أو عدد الأصوات، وحتى تحديد أسماء الفائزين سلفا من المقربين المحسوبين على السلطة. بمعنى أن هذا المجلس ما هو الا صيغة أراد النظام من خلالها تعطيل والغاء التطبيق الحقيقي للديمقراطية، وتشويه النظرة الى التعددية الحزبية، وهو عبارة عن واجهة للحزب الحاكم، وحجة يناور من بها ومن خلالها لدرء المسئولية، وفي التعامل مع القرارات الصعبة أو المهمة التي لا يتحمل النظام تبعات الفشل في اصدارها.
لو أحصينا خسائر العراق وطنا وشعبا في الثلاثين سنة الماضية. ولوتحسسنا معالم البؤس والحرمان، ومفردات الظلم التي عانى منها العراقيون في تلك العقود الأخيرة. ولو مررنا على عجالة باستذكار القرارات الطائشة التي غيرت مجرى التأريخ العراقي، وحددناها أمثلة ومادة للحوار مع أنفسنا ومع الآخرين وصغناها أسئلة تفرض دقة وصدق وحيادية الاجابة، لكانت على سبيل المثال:
· هل يمكن لحرب طاحنة مع ايران تستمر ثمان سنوات، يدفع العراقيون خلالها ما يقارب المليون بين قتيل وجريح ومعوق وأسير ومفقود، في ظل برلمان ديمقرطي يتمتع وحده بسلطة اعلان الحرب، وفرض القرار الصائب على السلطة التنفيذية؟
· هل يعقل أن تقوم قوات الحرس الجمهوري بغزو دولة جارة واستباحتها بقرار فردي جائر لا يعلم به حتى وزير الدفاع في حينه الفريق أول الركن عبد الجبار شنشل الذي علم بالخبر من راديو السيارة العسكرية التي كانت تقله صباح يوم الهجوم الى مستشفى الرشيد العسكري، ولا رئيس أركان الجيش الفريق أول نزار الخزرجي لو كان هنالك مجلس وزراء يتمتع بحرية النقاش وتقديم المشورة، ودراسة النوايا. ووجود رئاسة أركان تأخذ على عاتقها مسئولية متابعة تنفيذ القرار الذي يفترض أن يكتسب شرعية تصويت البرلمان المنتخب ؟
· هل يجوز القبول بالدخول بمعركة انتحارية بكل المستويات ضد 33 دولة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، لو كانت هنالك بؤرة ديمقراطية يترشح من خلالها القرار الصائب في حالات النفير العام والطوارئ ؟
· هل يعقل أن يترك العراق وشعبه يعاني من كل أنواع الحرمان والمجاعة والتخلف نتيجة امتناع حكومته عن الاستجابة لقرارات الأمم المتحدة لسنوات، ثم يعود فجأة ويقبل بعد أن أفقد البلد سنوات من امكانية البناء، لو كان هنالك هامش من الممارسة الديمقراطية؟
· هل انفصال كردستان العراق، واضطراب الجنوب، وعدم استقرار الوسط، يمكن أن يتم لو أتيحت الفرصة لأبنائه لمناقشة مصيرهم في ظل أجواء ديمقراطية.
· هل استشراء الفساد، والمحسوبية، والطائفية، والرشوة والاستغلال، وغيرها من معالم الهدم والتخريب، يمكن أن تكون عرفا في المجتمع العراقي، لو كانت هنالك حلقات متابعة ومحاسبة تقودها نخب مخلصة متخصصة، تحميها وترعاها من بطش السلطة مؤسسات ديمقراطية منتخبة فاعلة؟
· هل يمكن أن يخطف مواطن من الشارع، ويعدم آخر دون محاكمة، ويقتل وطني في وضح النهار، ويسجن أشراف دون ذنب، ويسفر أحرار بلا وجه حق، ويهجر مظلومون من بلدهم، و........، لو كان هنالك رأي آخر، وحرية سياسية، وصحافة حرة؟
· هل يعقل أن يترك العراق ربع سكانه، ويهجره علماؤه ومفكروه لينتشروا بين دول العالم طلبا للحماية والرعاية ولقمة العيش، لو كانوا يشعرون بالأمن والأمان والقدرة على العطاء والانتاج، وتأمين الحياة المستقرة لهم ولعوائلهم في بلدهم؟
· هل يجوز أن يعيش غالبية العراقيين تحت مستوى الفقر، وهم يستقرون على أضخم احتياطي نفطي في العالم، لو كان هنال توزيعا عادلا للثروة؟
ألف سؤال وسؤال تجتره عقول العراقيين في كل لحظة معاناة وألم تستنجد بمجيب يبدد عليهم ظلمة الخوف والحيرة، وهم يعلمون قبل غيرهم أن كل ما حصل ويحصل مرده وببساطة الى:
· طبيعة الحكم الفردي، والدكتاتوري التسلطي الذي استحوذ على مقدرات الحزب والدولة.
· وجود سلطة ذات طبيعة هرمية قرارها يصنع فوقيا، وواجبها التنفيذ دون مناقشة.
· استمرار الحكم لأكثر من ثلاثين عاما متواصلة من قبل حزب واحد، تؤطره ذات الآلية القمعية، وبوجود معظم وجوه القيادة النفعية الشكلية التي لا هم لها سوى تنفيذ الأوامر العليا آليا.
· افتقار الدولة لدستور دائم يقيد السلطات المطلقة للأجهزة التنفيذية، والابقاء على صيغة الدستور المؤقت الذي تلائم آلية تطبيقاته رغبات الحاكم صاحب السلطة في التغير.
· الغاء كافة الممارسات الديمقراطية، والابقاء على حزب البعث يمثل كل العراق، وتمارس فيه ومن خلاله الديمقراطية الحزبية على الطريق العسكرية.
· انشاء شبكة اخطبوطية من الأجهزة الأمنية المختلفة ذا السلطات الواسعة التي ترتبط جميعا بديوان الرئاسة، من خلال مجلس الأمن القومي الذي يشرف علية ويديره قصي صدام حسين، والتي في مجملها ذات طبيعة اجرائية باتجاهين" خنق الصوت الوطني، وفرض الولاء الشخص لصدام وليس لسواه".
· مؤسسة عسكرية عملاقة تعمل بذات الارتباط والتوجيه، تتدخل في الوقت الذي تعجز في الأجهزة الأمنية والحزبية من قمع الشارع العراقي.
ان كل ما تطرقنا اليه لا يمثل سوى لمحات من سجل أسود حافل بكل ما يندى له جبين الانسانية. وهنا يأتي السؤال الأكثر الحاحا عن طبيعة وكيفية التصور المستقبلي للعراق الجديد؟
اذا كان الدمار الشامل الذي عم العراق في العقود الأخيرة يعود بمجمله لحكم الفرد الواحد، ودكتاتورية الحزب الواحد، وغياب الديمقراطية، وتطويع مؤسسات الدولة، فان ايقاف تداعيات هذا الدمار، ومحاولة ترميم بعض آثاره قبل الانتقال الى مرحلة البناء الحقيقي التي يفترض أن تبدء محطته الاولى اعتبارا من انتهاء المرحلة الانتقالية، والبدء بصنع الواقع الجديد عبر تطبيقات ديمقراطية بأقل الخسائر وأفضل السبل. وباعتقادي يجب على النظام القادم الشروع بما يلي كأسبقية أولى، سواء على صعيد اللبنات الأولى للبناء أو تهيئة ألارضية الديمقراطية لبرلمان حقيقي، ودستور دائم، ومؤسسات وطنية فاعلة، وقوانين محلية ضابطة عادلة تتضمن:
· هامش واسع من الحرية يلبي حاجة العراقيين بغية التخلص من رواسب وتبعات الماضي، وآثار الحروب والدمار، وبما يساعدهم في الانتقال الى الأمام بخطوات متوازنة.
· مساحة من اللامركزية تتناسب وطبيعة العراق السكانية، والاجتماعية، والبيئية، والثقافية، والقومية، والدينية والطائفية، مع قدر كاف من العدالة والمسواة.
· تأمين أعلى قدر من مستلزمات رفاهية الفرد، واطلاق طاقاته، ومنحه فرص التعرف على سبل المعرفة بعيدا عن تحديد الفكر والابداع، والابتعاد عن اثارة التذمر، والتكبيل بالمحرمات غير المنطقية.
· عودة الحقوق المسلوبة، والكرامة المهدورة، والسيادة المستباحة، واطلاق الواجبات والحقوق في اطار الشرعية الدستورية للمواطنة الحقة وسيادة القانون ، على أن تتعزز كافة التطبيقات الديمقراطية بدستور دائم للبلاد يأخذ بالاعتبار ما يلي:
*- صيغة انتخابات رئيس الجمهورية، وفترة ولايته، وتحديدات التجديد بما لا يتجاوز المرة الواحدة، وتحت أية ظروف ، وتقييد صلاحياته في السلم والحرب.
*- وضع المجلس النيابي، من حيث التمثيل والمناطق الادارية، ودورته الزمنية، واستقلاليته وصلاحياته في التشريع، والمحاسبة.
*- تحديد صلاحيات السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بما يؤمن أكبر قدر من الفصل بين السلطات، واعتماد نظام المجالس البلدية المنتخبة لادارة التنظيمات الادارية، بدءا من مركز المحافظة نزولا الى الناحية، وتحديد المهام والصلاحيات بما يتناسب وآلية عمل المركز العام .
*- وضع خاص بمنطقة كردستان العراق وبما يتناسب وحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، وباقرار ارادته في النظام الفيدرالي الذي أقره برلمانه المنتخب، بطريقة تعينهم على المساهمة في بناء العراق الديمقراطي .
*- اقرار حقوق الأقليات العراقية الأخرى من غير العرب والأكراد بكامل حقوقهم في المواطنة سواء على صعيد الحقوق السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية وغيرها، كذلك الزامهم بذات الواجبات المفروضة على المواطن.
*- حق العراقيين جميعا في التعبير، وممارسة العمل السياسي، وحقهم في تأسيس الأحزاب السياسية، والنقابات والجمعيات الاجتماعية، والمؤسسات الانسانية، والرياضية، والمنتديات الفكرية التي تتيح لهم حرية العمل وطرح وجهات النظر، وفي تأسيس مطبوعاتهم التي تعكس طبيعة مواقفهم وبرامج عملهم.
مما تقدم يبدو لي وبالرغم من شدة الاختصار أن الديمقراطية في عالم اليوم أصبحت الدافع الرئيسي والمقياس الأول للرقي، والتقدم، والتحضر، وممارسة الحقوق والواجبات، والاستقرار والرضا، وأضحت المطالبة بتطبيقاتها ضرورة ملحة تفرزها مأساة الواقع القائم اليوم في ظل نظام صدام حسين، وتفرض أيضا استعداد عال لمتطلبات مرحلة وطنية عراقية، انسانية، ديمقراطية قادمة انشاء الله.
[email protected]