|
في الحاجة إلى القراءة العلمية للظاهرة الدينية : حول المقاربة الماركسية للدين
إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي
(Driss Jandari)
الحوار المتمدن-العدد: 2577 - 2009 / 3 / 6 - 10:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حضر الدين في المنظومة الفكرية الماركسية ؛ باعتباره مكونا من مكونات البنية الفوقية ؛ التي لا تشكل إلا انعكاسا للبنية التحتية ؛ و لذلك فإن الفكر الماركسي لم يعر الظاهرة الدينية الاهتمام الكافي ؛ بل إنه حسم معها منذ البداية ؛ من منظور سياسي ضيق ؛ باعتبارها لا تتجاوز أفيونا ؛ يخدر الشعوب المغلوب على أمرها . و لعل هذا هو ما يسعى (جون بول ويليمز) في كتابه " الأديان في علم الاجتماع " إلى تأكيده بقوله : " إن اعتبار الدين حقيقة خاصة بالبنية الفوقية ؛ تتمتع باستقلالية ضئيلة ؛ بالنسبة إلى القاعدة المادية في الحياة الاجتماعية ؛ حال دون رؤية ماركس للشؤون الدينية ؛ كنظام ديني مستقل (..) مما أدى به إلى تقليص الأمور الدينية ؛ إلى تأثيراتها السياسية ؛ الاجتماعية البارزة ؛ في مكان أو في آخر " (1) و لعل هذا الاقتصار على قراءة الظاهرة الدينية؛ من منظور الممارسة السياسية فقط؛ هو ما أوقع الفكر الماركسي في مأزق الخلط بين الدين و التدين؛ الشيء الذي حال بينه و بين القراءة العلمية الرصينة؛ لهذه الظاهرة الإنسانية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ البشري ؛ و هذا ما أثر سلبا على النتائج المستخلصة من خلال هذه القراءة . و يوضح المفكر السوري المتخصص في الميطولوجيا و تاريخ الأديان (فراس السواح) ؛ هذا التناقض الحاصل ما بين الدين و المؤسسة الدينية في الفكر الماركسي على الشكل التالي: " يختلط مفهوم الدين اليوم بفكرتنا عن المؤسسة الدينية و موقفنا منها ؛ إلى درجة تبعث على التشويش ؛ و تؤدي إلى نتائج مفجعة في بعض الأحيان ؛ و لعل أوضح مثال على ما أسوقه هنا ؛ هو تلك الجملة التي وردت في كتاب للفيلسوف الاجتماعي (كارل ماركس) 1818-1883 ؛ و التي تقول بأن الدين أفيون الشعوب (..) و الحقيقة أن ما قصده ذلك الفيلسوف ؛ ينصب في معظمه على المؤسسة الدينية لا على الدين ؛ على تفسير المؤسسة الدينية للدين ؛ لا على تدين الناس ؛ على تسييس الدين و استخدامه أداة ضغط و تسلط ؛ سواء من قبل السلطة الزمنية ؛ أو من قبل أية شريحة أو فئة ؛ تجعل من نفسها قيما على دين الناس ؛ و مرجعا أعلى لتفسيره ؛ و العمل بموجبه " (2) هكذا يبدو أن الظاهرة الدينية أعقد بكثير من الممارسة الدينية؛ التي رسختها المؤسسة الدينية؛ لتحقيق أهدافها الخاصة؛ سواء ارتبط ذلك بالإخضاع؛ أو الاستغلال... الذي يمارس باسم الدين. و النقد الحقيقي يجب أن يتوجه إلى هذه المؤسسة؛ التي تأخذ الدين رهينة؛ لتحيق مآربها. و لا يمكن لهذا النقد أن يحقق أهدافه المرجوة؛ إلا إذا أطلق سراح الدين من إسار هذه المؤسسة ؛ و ذلك عبر قراءته كظاهرة إنسانية ؛ من منظور علمي ؛ يستحضر قوة هذه الظاهرة و تجذرها في التاريخ الإنساني . أما بخصوص القراءة الإيديولوجية للظاهرة الدينية ؛ فإنها لن تحقق أي هدف ؛ بل على العكس من ذلك ؛ فهي تقدم خدمة مجانية للمؤسسة الدينية ؛ التي تحتمي وراء الدين ؛ و تتخذه وسيلة لترسيخ قيم العبودية و الاستبداد و التخلف . و لعل هذا هو ما فطن إليه المفكر الماركسي الإيطالي (أنطونيو غرا مشي) 1891- 1937 ؛ حينما تجاوز نقد الدين إلى نقد المؤسسة الدينية ؛ فقد تعامل مع الكنيسة الكاثوليكية الإيطالية على أنها جهاز الدولة الإيديولوجي ؛ و لذلك فقد عمل على تحليل البنية الداخلية في الكتلة الدينية و العلاقات بين رجال الدين و العامة و التيارات المختلفة ؛ التي تخترق الكاثوليكية . و هذا ما دفع جان بول وليام إلى الإشادة بهذا التحول ؛ حينما يعتبر أن غرا مشي قدم تحليلا أعمق من تحليل ماركس و إنجلز ؛ مع الإخلاص في خطوطه العريضة للرسم البياني الماركسي " (3) إن ما يجب أن يتسرب إلى الفكر الماركسي؛ حتى يتمكن من القيام بوظيفته في مواجهة احتكار المؤسسة الدينية للدين؛ هو تلك الروح العلمية؛ التي تحلل الظواهر- و منها الظاهرة الدينية - و تستخلص النتائج ؛ بعيدا عن التأثيرات الخارجية التي يمكن أن تؤثر سلبا على التحليل العلمي الموضوعي ؛ و تنزاح به ليخدم أجندة سياسية معينة ؛ مع التضحية بالموضوع المدروس . و لعل بوادر تحقق هذه المهمة الصعبة باتت تظهر في الأفق؛ بحيث يعترف الكثير من الكتاب الماركسيين بحدود ماركس و أخطائه في ما يختص بالدين. تؤكد مشال برتران في فرنسا ؛ أن مؤسسي الماركسية أخطأوا في توقع نهاية الدين الوشيكة ؛ و كتبت : في حال لم تكن قواعد الشعور الديني كلها ذات جذور اجتماعية ؛ فإن فرضية بقاء الدين ( كنوع من أنواع الوعي ) ليست مستبعدة . (4) لكن ما علاقة التيارات الماركسية العربية بهذه التحولات؛ التي وصلت إلى حدود التشكيك في المقاربة الماركسية للدين؛ باعتبارها مقاربة؛ تعاملت مع المؤسسة الدينية و ليس مع الدين؛ الشيء الذي أثر على نتائجها سلبا في الأخير ؟ هل تبدو هذه التيارات قادرة على تجاوز المقاربة الإيديولوجية للظاهرة الدينية ؛ و استبدالها بمقاربة علمية ؛ تتعامل مع الدين كظاهرة قابلة للدراسة و التحليل ؟ إن الرهان المطروح على الفكر الماركسي العربي؛ بجميع تياراته يرتبط في العمق؛ بإعادة النظر في الكثير من المسلمات النظرية؛ التي تحكمت في قراءته للظاهرة الدينية ؛ و إعادة النظر هذه تتطلب اطلاعا فكريا على مختلف الاتجاهات و التجارب الفكرية في العالم ؛ مع محاولة الاستفادة منها ؛ و على الخصوص ؛ تلك الاتجاهات الفكرية التي استلهمت الروح الماركسية و طورتها ؛ سواء مع بيير بورديو في فرنسا ؛ أو مع ماكس فيبر في ألمانيا ؛ أو مع أنطونيو غرا مشي في إيطاليا ... و كلها تجارب فكرية عملت على تطوير المقاربة الماركسية في اتجاهات سياسية و فكرية مختلفة ؛ باعتبار الفكر الماركسي إطارا فلسفيا ؛ قادرا على دراسة مختلف القضايا الإنسانية ؛ دراسة علمية عميقة ؛ لكن هذا الفكر يظل في حاجة إلى التطوير و التجديد ؛ على ضوء التطور الذي يعرفه الفكر الإنساني عامة .
الهوامش : 1- جان بول ويليم – الأديان في علم الاجتماع – ترجمة : بسمة بدران – المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع – ط: 1 – 2001 – ص: 15 . 2- فراس السواح – دين الإنسان : بحث في ماهية الدين و منشأ الدافع الديني – منشورات دار علاء الدين – ط: 4 – 2002 – ص: 40. 3- جان بول ويليم – المرجع السابق – ص: 19 . 4- نفسه – ص: 20 .
#إدريس_جنداري (هاشتاغ)
Driss_Jandari#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الحاجة إلى القراءة العلمية للظاهرة الدينية الإسلامية : ال
...
-
في الحاجة إلى القراءة العلمية للظاهرة الدينية - نقد مسلمة ال
...
-
القراءة العلمية للظاهرة الدينية مدخل نحو التأسيس للعلمانية
-
ما بين العلمانية و العلمانوية : في الحاجة إلى القراءة العلمي
...
-
في الحاجة إلى النقد المزدوج : ما بين التطرف اليساروي العلمان
...
-
في الحاجة إلى نبذ ثقافة الشيخ و المريد : تعقيبا على مريدي وف
...
-
بعد الحلقة الأخيرة من سلسلتها : وفاء سلطان امرأة عابرة في كل
...
-
الظاهرة الحمساوية و الظاهرة الليبرمانية : لا بد من تدارك الخ
...
-
العراق الجديد : الفينيق ينبعث من رماده
-
طابور الهزائم : تاريخ من الشعوذة و السحر
-
ما بين خالد مشعل و محمود عباس : صراع التصريحات في وضع فلسطين
...
-
بعدما فشلت في الخارج صواريخ القسام تسعى إلى قلب المعادلة في
...
-
الدرس الذي يجب أن يستوعبه العرب :العثمانيون الجدد أصحاب مصال
...
-
بداية انكشاف أسطورة النصر الإلهي الحمساوي
-
الأصولية الدينية: الإعجاز في خدمة الأجندة السياسية
-
القضايا العربية و الرهان الخاطئ على إدارة أوباما
-
حزب الله لم يكن يتوقع قوة الهجوم و حماس لم تكن تتوقع استمرار
...
-
نخبة محور الممانعة : العمى الإيديولوجي في خدمة تاريخ من الهز
...
-
أحداث غزة و معجزة النصر الإلهي : الأصولية الدينية و التسويق
...
-
ما بعد أحداث غزة: في الحاجة إلى استلهام روح فكر التحرر الوطن
...
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|