|
الطيب صالح.. شرق غرب
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2576 - 2009 / 3 / 5 - 08:12
المحور:
سيرة ذاتية
سمعت لأول مرة باسم الطيب صالح من صديق سوداني جمعتني به زمالة دامت ثلاث سنوات اسمه حيدر الأبجر، وذلك عام 1972 حينما كنت أعد أطروحتي للحصول على الدكتوراه. وعندما قرأت روايته التي ذاع صيتها «موسم الهجرة إلى الشمال» هتفت مع نفسي إنه روائي استثنائي، بلغته الشفافة وأسلوبه المبسط والعميق في الآن وصوره المتنوعة وشخصياته ذات الوجوه المتعددة والمركبة أحيانا وبموضوعاته ذات الحس الإنساني. في الكومنسكي كولي (سكن طلبة الدكتوراه في مدينة براغ الذهبية) كنا نشترك أنا وزميلي في شقة صغيرة أو ما يشبه ذلك بغرفتين متجاورتين، اجتمع فيها عدد من الشخصيات السودانية، أذكر منها: قاسم أمين (القائد العمالي- عمك كاسم كما كنا نطلق عليه)، وإبراهيم زكريا (العضو القيادي في الحركة الشيوعية السودانية)، وحسن أبا سعيد المترجم والإعلامي في الإذاعة التشيكية، وفتحي الفضل سكرتير اتحاد الطلاب العالمي، وفتحية نقد (زوجة إبراهيم نقد الأمين العام للحزب الشيوعي)، والدكتور عبدالوهاب سنادة، وشيرين ميرزو المخرجة التلفزيونية السورية لاحقا، وأنا العراقي، وكان الطيب صالح هو محور حديثنا، ولعله الحاضر دائما لدى كل حديث عن الأدب بين السودانيين، جادل البعض في «عرس الزين» والآخرون في «دومة ود حامد»، لكن غالبيتهم الساحقة كانت مع رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» التي بدأت ألتهمها وأخذتني طيلة تلك الليلة الثلجية العاصفة، إذ لم يكن بإمكاني أن أفارقها، فقد كانت لصيقة بالروح وحميمة لدرجة التعلق! ورغم أن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» هي روايته الثانية، فإنه تم اختيارها كإحدى أفضل الروايات العربية، وإحدى أفضل الروايات من بين 100 رواية عالمية، وترجمت إلى اللغات المختلفة، وذاع صيتها، وكتبت العديد من الدراسات والأطروحات حولها. وقد يحق لمن يقول لو لم يكتب الطيب صالح سوى هذه الرواية فإنه يستحق أن يخاطب باعتباره عبقري الرواية العربية، ولعل هذا الأمر يذكرني بالجواهري الكبير الذي قيل عنه لو لم يكتب سوى قصيدة «يا دجلة الخير» لاستحق أيضا لقب شاعر العرب الأكبر، فما بالك ولديه 20 ألف بيت من الشعر مثلما للطيب صالح روايات لا تقل عن «موسم الهجرة إلى الشمال»؟ لقد كشف الطيب صالح من خلال منجزه الروائي -لا في موسم الهجرة إلى الشمال فحسب بل في عالمه السردي- عن خصوصية تركت آثارها على الرواية العربية، وقد فتحت روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» طورا جديدا من العلاقة بين الشرق والغرب، من خلال رؤية مغايرة للاستشراق الغربي، ومن خلال تجربة عملية وخبرة عميقة في الحياة وفي الحالة السردية. ولعل هذه الرواية بشكلها الفني يمكن أن تكون مادة أولية لدراسة الاستشراق من منظور مختلف، وهو ما فعله إدوارد سعيد عندما فكك الرؤية الغربية للاستشراق من خلال كتابه «الاستشراق» الذي صدر عام 1978. لم يضع الطيب صالح نفسه في خندق مُعاد للغرب بسبب الحقبة الكولونيالية كرد فعل، بل كان فنانا عرف بساطة القرية السودانية وأحبها مثلما عرف المدن الكبرى وتعقيداتها، وبين هذه وتلك حمل ثقافة متنوعة مزيجا بين الثقافة التقليدية والعربية-الإسلامية والثقافة الحديثة، بما فيها المدارس الغربية. وكان أسلوب الطيب صالح مزيجا من البلاغة واللغة الفخمة والسرد الحديث، بحيث تشربت بساطته بعمق بنائه الكلاسيكي. وقد حاول دراسة الجوانب النفسية «السيكولوجية» للفرد والمجتمع واستخدامها في أعماله السردية، بحيث حفر بمعول جيولوجي ماهر للتنقيب في آثار الشخصية البشرية والنفسية الإنسانية، وهي جوانب استخدمها العديد من الروائيين أمثال ألبير كامو وصنع الله إبراهيم ومحمد خضير وآخرين. وقد كانت أعمال الطيب صالح خلاصة لثقافة أمة، ولثقافة شعوب وقارات مهمشة، بكل تقاليدها وفولكلورها وأحلامها وانكساراتها. وهو ما أثارته رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» من أسئلة نوعية أكثر من إشكاليات قائمة. لقد جسدت شخصية «مصطفى سعيد» موضوع التوتر الثقافي بين الشرق والغرب، بحيث جاءت تراكما لما سبق بعمق أكثر، لاسيما إزاء نظرته للاستشراق الغربي. وفي رحلته الممتعة «موسم الهجرة إلى الشمال» تلك التي كتبها عام 1966، تعرفنا على بنت مجذوب المرأة المزواجة وود البشير «الزوج الأخير» الذي وصفه بأنه «الكحيان..التعبان»، لكن بنت مجذوب حلفت بالطلاق -وهي مجالسة الرجال- بأنه أفضل أزواجها. ولعل بعض شخصياته موجودة في روايته الأولى «عرس الزين» التي كتبها عام 1964 أي قبل عامين من روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، فشخصياته القروية ظلت تتمتع بهذه القدرة على الظهور، ولعل محجوب لم يترك موقعه في الروايتين، كما أن ابن ود الريس يأخذ مكان والده، وظلت بنت مجذوب نموذجا فريدا للأدب المكشوف، وكانت مناخات قرية كرفكول في شمالي السودان حيث ولد عام 1929 تعبق برائحتها وصورها وذكرياتها التي ظلت تلاحق الروائي الكبير. لقد انتقل بطل الطيب صالح «مصطفى سعيد» في «موسم الهجرة إلى الشمال» إلى لندن وعاش فيها سبع سنوات تعرف فيها على الأدب الإنجليزي قبل أن يعود إلى قريته السودانية المستكينة الخاملة، وقد تكون حكاياته وسردياته تلك تعويضا عن حالة الكسل والخمول التي عاشها في القرية المسترخية، ومع الضجيج الإيديولوجي والتباعد الحضاري بين قيم الشرق وقيم الغرب، ظل الطيب صالح مسكونا لدرجة المبشر والداعية أحيانا بالمشترك الإنساني، ويكاد يجد نفسه موزعا بين قيم القرية وحداثة المدنية؛ ولذلك سعى لمصالحة بين الشرق والغرب من خلال رواية موسم الهجرة، لاسيما ونحن نتحدث عن حالة إنسانية ومشترك بشري يجمع بين الشرق والغرب. كانت قراءاتي الأولى للطيب صالح قد بدأت قبل أن أتعرف عليه، وكنت مفتونا بأسلوبه الأخاذ، وعندما تعرفت عليه مع الشاعر بلند الحيدري في عام 1991 في لندن اكتشفت أي شفافية وحساسية إنسانية وحب للناس وتسامح وقدرة عجيبة على الصبر يحملها هذا السوداني الجميل. وبقيت ألتقي الطيب صالح بين الحين والآخر ونتبادل بعض الإصدارات، ولكن علاقتي تعززت به من خلال مجلس الشيخ عبدالعزيز التويجري الذي كان يجمعنا، سواء في لندن عندما يزورها، ومرة كما أتذكر في جنيف، ومرات في الرياض عند تلبيتنا دعوات مهرجان الجنادرية الثقافي، وفي كل دعوة على العشاء كنت أكتفي بالتمر البرحي مع اللبن أحيانا، وسألني مرة: أهي الأكلة المفضلة لديكم أم من كثرة اغترابك تحن إليها؟ قلت له: ربما الاثنان معا، فقد تكتشف العراقي إذا وضعت التمر أمامه، فستندلق يده دون إرادة أحيانا ليتذوقه قبل جميع المأكولات، حتى وإن كان يتغدى ويتعشى به! كان المجلس يضم نخبة من المثقفين من مختلف المشارب والاتجاهات الفكرية والثقافية والسياسية، ومن مدارس فنية وأدبية مختلفة ومتنوعة، فإضافة إلى الطيب صالح، كان شفيق الحوت ونجم عبدالكريم ويحيى السماوي وبلال الحسن وعرفان نظام الدين وسعد البزاز والهاشمي الحامدي والأرناؤوط وحسن صبرا وآخرون. في العام الماضي كان الحزن مخيما على الجميع، حضرنا في بيت الشيخ عبدالعزيز التويجري، وكان الرجل قد غاب، رحل عن دنيانا. كنت أفكر مع نفسي ربما يكون بعضنا مرشحا، وجاءني صوت الطيب صالح: «البركة في الشيخ عبدالمحسن وإخوته وإلا كاد الجمع يتبخر».. قلت مع نفسي: سيطير بعضنا، يتلاشى من شهاب، أجابني وكأنه كان يقرأ أفكاري وقال بحزن وكأنه يودع المهرجان أو يودعنا وبحسرة كان يردد: ما أخطأتك النائبا ت إذا أصابت من تحب فأية خسارة تلك عصفت بنا؟ كأنه كان يتحدث عن بطل في روايته الأولى «عرس الزين»: «وكانت الدائرة تتسع وتضيق، والأصوات تغطس وتطفو، والطبول ترعد وتزمجر، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة، وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب». الطيب صالح «عبقري الرواية العربية» كما أطلق عليه، غادرنا بعد رحلة طويلة من العمل الأدبي والثقافي والإعلامي، حيث مارس العمل التربوي (حين عمل مدرسا)، والثقافي (الوظيفي) حين كان ممثلا لليونسكو في قطر 1984-1989، والإعلامي في هيئة الإذاعة البريطانية، إضافة إلى مقالاته في مجلة «المجلة» وروايات من أشهرها: عرس الزين، وموسم الهجرة إلى الشمال، ودومة ود حامد، وضو البيت، ومريود، وغيرها. صحيفة العرب القطرية العدد 7568 الإثنين 2 مارس 2009 م ـ الموافق 5 ربيع الأول 1430 هـ
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا بدّ من بغداد ولو طال السفر
-
ما الذي تبقّى من “اليسار الإسرائيلي”؟
-
حصاد غزة والبروتوكول الأمريكي - “الإسرائيلي”
-
أطياف روزا الحمراء : ماركسية واغتراب!
-
محاكمة منتظر الزيدي ولحظة الحسم
-
عبدالحسين شعبان: خمسة خيارات لمقاضاة مسؤولي إسرائيل
-
بروموثيوس و متحفية الماركسية!!
-
ثلاثة مخاطر أساسية تهدد الإعلاميين! (2-2)
-
السفير مختار لماني والمواطنة العراقية!
-
قمة الكويت والمجتمع المدني
-
الأكاديميون العراقيون: أليس في الصمت شيء من التواطؤ؟
-
ثلاثة مخاطر أساسية تهدد الإعلاميين!
-
غزة من شارون إلى أولمرت: حسابات الحقل والبيدر!
-
عملية «الرصاص المنصهر»: غزة و«الثأر المبرر»!
-
الانتخابات العراقية: الدستور والطائفية!!
-
غوانتانامو والعدّ العكسي!
-
غزة: أمتان ... بل عالمان!
-
مواطنة بلا ضفاف!!
-
الإعلامي والحقوقي ومن يعتمر القبعتين
-
مغزى كلام بوش
المزيد.....
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|