|
الإعلام ومراسلو الخوذات والدروع
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 2576 - 2009 / 3 / 5 - 08:10
المحور:
الصحافة والاعلام
ما أزال أذكر صورةَ أحد مقدمي البرامج التلفزيونية السالفين ، في قناة الجزيرة الفضائية ، عندما كان يبدأ برنامجه المثير بقوله: "مخابرات الإف بي آي" تُطارد "الكي جي بي" والكي جي بي تطارد السي آي إي ، والكي جي بي والسي آي إيه تطارد الموساد ، أما المراسل المغوار مقدم البرنامج فهو يطاردهم جميعا !! وأستعيد هذه الصورة وأنا أبتسم عندما أشاهد صور بعض المراسلين ، وهم يعتمرون (خوذة الحرب) الصحفية، و(الدرع) الواقي من الرصاص ، وأتخيلهم وهم ينصبون (منصات) التصوير التلفزيونية ، ويوجهون فوهة (مدفع) التصوير نحو الهدف، ويضغطون على الزناد بأصابعهم إشارة لبدء (هجوم) المراسلين على الأهداف الإعلامية . إنهم طائفة المراسلين التي أفرزها إعلام اليوم، وغدت كما طائفة الساموراي اليابانية ، أو الطائفة الكاشتريا الهندية، أو على شاكلة جنود الإنكشارية الأتراك أو المماليك البرجيين والبحريين، أو أنها تماثل طبقة الفرسان الأوروبية ، أو هي قريبة الشبه بفرق الجيوش العربية المكلفة بحماية ولاة الأمر، كفرقة المغاوير، والسرايا والصفوة . مرة أخرى فإن ما سبق ليس سوى إفرازٍ من إفرازات ألفيتنا الثالثة العجيبة ، التي نجحت في إلحاق الإعلام بمفهومه الشامل، ليصبح تابعا من توابع جيوش الحرب والقتال والنزال،بل هو قد أصبح بالفعل سرية وكتيبة من كتائب الجيوش، يقوم بتسويق القتل والدمار، في صورة مستحضرٍ جديدٍ للتسلية والإثارة، وبيع مستحضرات الألفية الثالثة الإعلانية.إذن فإن الإعلام أصبح خادما مطيعا للدعاية والإعلان ! إن خطورة إلحاق الإعلام بأسلحة الحرب والنزال، لم تُعالج حتى الآن معالجة إعلامية ، ولم تحظَ بما تستحقه من دراسة، فقد ألحقتْ بالإعلام ضررا فادحا. وأول الآثار السلبية الناجمة عن إلحاق شق كبير من عمل الإعلام بالحرب والقتال والنزال، هو تجاوز أهم أسسه ومفاهيمه التي تنص على أنه، أي الإعلام رسالة سامية، تؤدَّى باستخدام فن الإقناع والتأثير، وليس بإنجاز غزوة إعلامية بقوة السلاح، وعتاد الحرب. ومن هذه الآثار أيضا، أن الإعلام أصبح جنديا منفذا في لواء الإعلام العسكري العالمي، وهذه الخاصية، لا تُفقده الحرية فقط، بل إنها تزلزل نظرية الديموقراطية، التي يسعى إلى تحقيقها كهدفٍ رئيس . ومن أبرز الآثار السلبية المترتبة على جعل الإعلام إعلاما عسكريا حربيا كذلك، غيابُ المصداقية في هذا النمط من الإعلام العسكري، ولتفسير ذلك فإنني أشير إلى أبرز النتائج السيئة المترتبة على ظهور هذا النمط الإعلامي الجديد، إعلام الخوذة والدرع. فمن أبرز مساوئ إعلام الخوذات والدروع العسكرية هو صراع الإعلاميين العسكريين، أو عُمداء المراسلين في وسائل الإعلام على الأخبار الخام في العالم ، ولهذا الصراع، أو كما يحلو لمن يخففون الأمر أن يُسموه التنافس أو المنافسة،آثارٌ خطيرة على جوهر رسالة الإعلام، حين يصبح الهدف الرئيس عند المراسل الجندي، هو الحصول على الخبر الخام أولا، وإرساله إلى ضابط الركن في المقر الرئيس ، لينال بذلك مكافأته المالية والمعنوية، ويمكن لمن يتابع وسائل الإعلام أن يرى هذه الظاهرة بوضوح، وهو يشاهد تعبير: (بث حصري)أو يسمع المذيع وهو يقول: (تنفرد وسيلةُ إعلامنا). المهم إذن هو الفوز بالترتيب الأول في مسابقة نقل براميل الأخبار الخام المتفجرة على أكتاف سلاح المراسلين، ولم تعد الغاية، هي تحليل وتوعية وتعريف وتثقيف السامعين والمشاهدين، بل أصبحت الغاية هي إيصال الخبر قبل الآخرين فقط لا غير . فانتقلت الغاية الرئيسة من الإعلام الموجِّه بتشديد الجيم وكسرها، إلى الإعلام( المُفجِّر) الساعي إلى غاية جديدة ، لم تشر إليها الكتب الأكاديمية الإعلامية التقليدية ، وهي اقتحام المراسل الموقعة الحربية أو كما تسمى اليوم( الخبطة الإعلامية) ومن آثار ظاهرة (العسكرة الإعلامية) أن أصبح الهمُّ الرئيس لكثير من المراسلين الحربيين، هو لفتُ نظر مسئوليهم ، وإقناعهم بنشاطهم الدائم، وتنقيبهم المستمر في الأرض التي يعملون فوقها،لغرض الحصول على خبرٍ خام. لذلك فإنهم حين يعدمون وجود أخبار مثيرة ، يقومون بالتنقيب عن غرائب الأمور في المجتمعات، فيعرضون الإغراءات على العاصين والمتمردين والشاذين والمرعبين، ويقومون باستضافتهم بحثا عن الخبطة، وهكذا يمنحون هؤلاء الشاذين والإرهابيين فرصة عمرهم ليظهروا كأبطال، وليسوا كمتمردين إرهابيين، مشعوذين وهنا تكمن الخطورة حين تتحول وسائل الإعلام الحربية إلى وسائل دعائية مجانية للشاذين والشاذات. فهناك مراسلٌ صحفيٌّ قاصر، لم يتمكن خلال شهرٍ من عمله كمراسل من تحقيق (غزوة) صحفية واحدة، فعمد إلى أسلوب الخبطة حينما استشار قناته وطلب إذنها ليقوم بغزو مقرّ أحد المشعوذين، ممن يعالجون الأمراض بجلسة واحدة، بترهات وأحجبة ، وشاع بين الناس أن المشعوذ وليٌّ من الأولياء، يعرف تفاصيل حياة كل زائر من زائريه،حين ينظر في عينيه، ثم يعالجه في الجلسة نفسها من الأمراض النفسية والجسمية بدءا بالصداع وانتهاء بأعتي أنواع السرطانات، ونظرا لأن المراسل الحربي للقناة كان لا يملك غطاء ثقافيا واعيا، يقيه من هجمات المشعوذين، لأن القناة اختارته لبهاء طلعته، ولسرعة نطقه للألفاظ التي تصل إلى مائة وخمسين كلمة عامية في الدقيقة الواحدة،لذلك فقد كان مصابا بالرعب حين التقى بالمشعوذ، وتمكن المشعوذ من أسر قناته كلها وتوجيهها لتكون بوقا لجلب ضحايا وزبائن جُدد لهذا المشعوذ. ومن أبرز مساوئ الإعلام الحربي، إعلام الخوذة والدرع الواقي من الرصاص، أنه أصبح يبثُّ بثا حيا ومباشرا،أحداثا خطيرة،مرعبة مفزعة، تحتاج وفق الإعلام المسؤول إلى من يُشذبها إعلاميا قبل أن تصل إلى مائدة المشاهدين. كما أن نقلها المباشر يزيد في إشعال التوتر، ويدفع الناس إلى الهلع ما يُسهم في توتير المكان، وهذا يناقض جوهر الرسالة الإعلامية، التي تدعو لتحكيم العقل والروية، فيلتقط المراسلون الحربيون الصور المرعبة التي تعتبر محظورة البث في لوائح وأنظمة وسائل الإعلام، وتبثها وسائل إعلامهم بدون مراعاة للمشاهدين،وبدون تحذيرهم من مشاهدتها، وإبعاد أطفالهم عنها. واعتمادا على النظرية الإعلامية الجديدة، نظرية إعلام الخوذة العسكرية والدرع الواقي من الرصاص ،فقد أصبحتْ أوطان كثيرة لا تعترف بأي جهد صحفي آخر يخلو من البطولة العسكرية ، فأبطال الصحافة والإعلام في كثير من الدول العربية ليسوا سوى فئتين : الأولى هم المراسلون ممن يُعلقون ويصفون ويوجهون فوهات الكاميرات نحو الأحداث، والثانية، هم طائفة المصورين، وهم يستحقون التكريم فقط لأنهم ينصبون مدافع إطلاق صواريخ الكاميرات نحو أهداف المراسلين. فالبطولة الإعلامية عند كثيرين أصبحت اليوم تتلخص في جهد وحيد، وهو مقدار ما يُعرِّض الصحفيُ الحربي نفسَه للهلاك، وكأن الإعلامي في الألفية الثالثة أصبح نمطا جديدا من أنماط المصارعين في الحلبة الرومانية، فله أجره الوفير نظير جولته الحربية ، بمقدار ما يتعرض للطعن والأذى ،أما الغنيمة الكبرى فهي من نصيب مالكي فضائية حلبة المصارعة الرومانية من أباطرة الأثرياء. أما المفكرون وقادة الرأي وموجهو الجماهير ومثقفوه الحقيقيون، فأمامهم خياران: إما أن يلبسوا الخوذة والدرع، أو أن يعيشوا مكشوفي الرأس والجيب أيضا !. 5/3/2009
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التمثيل النسبي للنساء في الأحزاب العربية امتهان لهن
-
قرنفل غزة الحزين
-
الإعلام العشوائي وفضائيات مصارعة الديكة
-
حق اللجوء الإبداعي إلى دول السوفت وير
-
غزة التي أدمنت الدمار
-
إسرائيل وعقدة شمشون في غزة
-
آخر صلوات بوش أمام الشمعدان
-
قمع المرأة للمرأة
-
قصتان من غزة بمناسبة العيد السعيد
-
الحوار المتمدن شعلة الحرية
-
ظرفاء الإنترنت ومقامات بديع الزمان
-
أولمرت وموسم السياحة الحزبية في إسرائيل
-
إدمان الولاء للحاكم
-
مصطلحات إعلامية إسرائيلية ساحرة !
-
مسكين باراك أوباما
-
مجزرة الأسهم في قلعة النيكي والنازداك
-
فاتنات السياسة
-
تجارة الرقيق في الألفية الثالثة
-
مرتبات القطط السمينة والأزمة المالية العالمية
-
تسفي ليفني في الدين اليهودي
المزيد.....
-
ماذا نعرف عن صاروخ -أوريشنيك- الذي استخدمته روسيا لأول مرة ف
...
-
زنازين في الطريق إلى القصر الرئاسي بالسنغال
-
-خطوة مهمة-.. بايدن يشيد باتفاق كوب29
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|